وأما نقضكم الثاني بتمليك الرجل امرأته الطلاق وتضييعه ! على نفسه بما وسع الله عليه من جعله بيده فجراية من وجوه
أحدهما أنه بالتمليك لم يخرج الطلاق عن يده بل هو في يده كما هو هذا إن قيل إنه تمليك وإن قيل إنه توكيل فله عزلها متى شاء
الثاني ان هذه المسألة فيها نزاع معروف بين السلف والخلف فمنهم من قال لا يصح تملك المرأة الطلاق ولا توكيلها فيه ولا يقع الطلاق إلا ممن أخذ بالساق وهذا مذهب اهل الظاهر وهو مأثور عن بعض السلف فالنقض بهذه الصورة يستلزم إقامة الدليل عليها والأول لا يكون دليلا ومن هنا قال بعض أصحاب مالك إنه إذا علق اليمين بفعل الزوجة لم تطلق إذا حنث
قال لأن الله تعالى ملك الزوج الطلاق وجعله بيده رحمة منه ولم يجعله الى المرأة فلو وقع الطلاق بفعلها لكان إليها إن شاءت أن تفارقه وإن شاءت ان تقيم معه وهذا خلاف شرع الله وهذا حد الاقوال في مسألة تعليق الطلاق بالشروط كما تقدم
والثاني أنه لغو وباطل وهذا اختيار ابي عبدالرحمن ابن بنت الشافعي ومذهب اهل الظاهر
والثالث انه موجب لوقوع الطلاق عند وقوع الصفة سواء كان يمينا او تعليقا محضا وهذا المشهور عند الائمة الاربعة واتباعهم
والرابع أنه إن كان بصيغة التعليق لزم وإن كان بصيغة القسم والالتزام لم يلزم إلا ان ينويه وهذا احتيار ابي المحاسن الروياني وغيره
والخامس أن إن كان بصيغة التعليق وقع وإن كان بصيغة القسم والالتزام لم يقع وإن نواه وهذا اختيار القفال في فتاويه
والسادس أنه إن كان الشرط والجزاء مقصودين وقع وإن كانا غير مقصودين وإنما حلف به قاصدا منع الشرط والجزاء لم يقع ولا كفارة فيه وهذا اختيار بعض أصحاب احمد
والسابع كذلك إلا ان فيه الكفارة اذا مخرج مخرج اليمين وهذا اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية والذي قبله اختيار اخيه وقد تقدم حكاية قول من حكى إجماع الصحابة أنه إذا حنث فيه لم يلزمه الطلاق وحكينا لفظه والمقصود الجواب عن النقض بتمليك المرأة الطلاق او توكيلها فيه
وأما قولكم في النقض الثالث إن فقهاء الكوفة صححوا تعليق الطلاق بالنكاح وهو يسد باب النكاح فهذا القول مما أنكره عليهم سائر الفقهاء وقالوا هو سد لباب النكاح حتى قال الشافعي نفسه أنكره عليهم بذلك وبغيره من الادلة
ومن العجب أنكم قلتم في الرد عليهم لا يصح هذا التعليق لانه لم يصادف
محلا وهو لا يملك الطلاق المنجز فلا يملك المعلق إذ كلاهما مستدع لقيام محله ولا محل فهلا قبلتم منهم احتجاجهم عليكم في المسألة السريجية بمثل هذه الحجة وهي ان المحل غير قابل لطلقة مسبقوقة ! بثلاث وكان هذا الكلام لغوا وباطلا فلا ينعقد كما قلتم أنتم في تعليق النكاح بالطلاق إنه لغو وباطل فلا ينعقد
فصل تعليق عتق العبد على ملكه
وأما النقض الرابع بقوله كل عبد او امة املكه فهو حر فهذا للفقهاء فيه قولان وهما روايتان عن الامام احمد
إحداهما أنه لا يصح كتعليق الطلاق
والثاني أنه يصح والفرق بينه وبين تعليق الطلاق أن ملك العبد قد شرع طريقا الى زوال ملكه عنه بالعتق إما بنفس الملك كمن ملك ذا رحم محرم وإما باختيار الاعتاق كمن اشترى عبدا ليعتقه عن كفارته او ليتقرب به الى الله ولم يشرع الله النكاح طريقا الى زوال ملك البضع ووقوع الطلاق بل هذا يترتب عليه ضد مقصوده شرعا وعقلا وعرفا والعتق المترتب على الشراء ترتيب لمقصوده عليه شرعا وعرفا فأين أحدهما من الآخر
وكونه قد سد على نفسه باب ملك الرقيق فلا يخلو إما ان يعلق ذلك تعليقا مقصودا او تعليقا قسميا فإن كان مقصودا فهو قد قصد التقرب الى الله بذلك فهو كما لو التزم صوم الدهر وسد على نفسه باب الفطر وإن كان تعليقا قسميا فله سعة بما وسع الله عليه من الكفارة كما أفتى به الصحابة رضى الله عنهم وقد تقدم
فصل نقض دليل آخر للسريجيين
وأما النقض الخامس بمن معه الف دينار فاشترى بها جارية واولدها فهذا
أيضا نقض فاسد فإنه بمنزلة من أنفقها في شهواته وملاذه وقعد ملوما محسورا او تزوج بها امرأة وقضى وطره منها ونحو ذلك فأين هذا من سد باب الطلاق وبقاء المرأة كالغل في عنقه الى ان يموت احدهما
فصل الشرائع العامة لا تبنى على الصور النادرة
وقولكم قد يكون له في هذه اليمين مصلحة وغرض صحيح بأن يكون محبا لزوجته ويخشى وقوع الطلاق بالحلف او غيره فيسرحها جوابه ان الشرائع العامة لم تبن على الصور النادرة ولو كان لعموم المطلقين في هذا مصلحة لكانت حكمة احكم الحاكمين تمنع الرجال من الطلاق بالكلية وتجعل الزوج في ذلك بمنزلة المرأة لا تتمكن من فراق زوجها ولكن حكمته تعالى أولى وأليق من مراعاة هذه المصلحة الجزئية التي في مراعاتها تعطيل مصلحة اكبر منها واهم وقاعدة الشرع والقدر تحصيل أعلى المصلحتين وإن مات أدناهما ودفع أعلى المفسدتين وإن وقع أدناهما وهكذا ما نحن فيه سواء فإن مصلحة تمليك الرجال الطلاق أعلى وأكثر من مصلحة سده عليهم ومفسدة سده عليهم اكبر من مفسدة فتحه لهم المفضية الى ما ذكرتم وشرائع الرب تعالى كلها حكم ومصالح وعدل ورحمة وإنما العبث والجور والشدة في خلافها وبالله التوفيق
وانما أطلنا الكلام في هذه المسألة لانها من امهات الحيل وقواعدها والمقصود بيان بطلان الحيل فإنها لا تتمشى على قواعد الشريعة ولا أصول الائمة وكثير منها بل اكثرها من توليدات المنتسبين الى الائمة وتفريعهم والائمة براء منها
فصل إبطال الحيلة بالخلع لفعل المحلوف عليه
ومن الحيل الباطلة الحيلة على التخلص من الحنث بالخلع ثم يفعل المحلوف عليه في حال البينونة ثم يعود الى النكاح وهذه الحيلة باطلة شرعا وباطله على اصول ائمة الامصار أما بطلانها شرعا فإن هذا خلع لم يشرعه الله ولا رسوله وهو تعالى لم يمكن الزوج من فسخ النكاح متى شاء فإنه لازم وإنما مكنه من الطلاق ولم يجعل له فسخه الا عند التشاجر والتباغض إذا خافا ان لا يقيما حدود الله فشرع لهما التخلص بالافتداء وبذلك جاءت السنة ولم يقع في زمن رسول الله ص - ولا زمن أصحابه خلع حيلة ولا في زمن التابعين ولا تابعيهم ولا نص عليه احد من الائمة الاربعة وجعله طريقا للتخلص من الحنث وهذا من كمال فقههم رضى الله عنهم فإن الخلع انما جعله الشارع مقتضيا للبينونة ليحصل مقصود المرأة من الافتداء من زوجها وانما يكون ذلك مقصودها اذا قصدت ان تفارقه على وجه لا يكون له عليها سبيل فاذا حصل هذا ثم فعل المحلوف عليه وقع وليست زوجته فلا يحنث وهذا انما حصل تبعا للبينونة التابعة لقصدهما فإذا خالعها ليفعل المحلوف عليه لم يكن قصدهما البينونة بل حل اليمين وحل اليمين إنما يحصل تبعا للبينونة لا أنه المقصود بالخلع الذي شرعه الله ورسوله وأما خلع الحيلة فجاءت البينونة في لأجل حل اليمين وحل اليمين جاء لأجل البينونة فليس عقد الخلع بمقصود في نفسه للرجل ولا للمرأة والله تعالى لا يشرع عقدا ولا يقصد واحد من المتعاقدين حقيقته وانما يقصدان به ضد ما شرعه الله له فإنه شرع لتخلص المرأة من الزوج والمتحيل يفعله لبقاء النكاح فالشارع شرعه لقطع النكاح والمتحيل يفعله لدوام النكاح
فصل الائمة منزهون عن إحداث الحيل
والمتأخرون أحدثوا حيلا لم يصح القول بها عن احد من الائمة ونسبوها الى الائمة وهم مخطئون في نسبتها إليهم ولهم مع الائمة موقف بين يدى الله ومن عرف سيرة الشافعي وفضله ومكانه من الإسلام علم انه لم يكن معروفا بفعل الحيل ولا بالدلالة عليها ولا كان يشير على مسلم بها واكثر الحيل التي ذكرها المتأخرون المنتسبون الى مذهبه من تصرفاتهم تلقوها عن المشرقيين وادخلوها في مذهبه وإن كان رحمه الله تعالى يجري العقود على ظاهرها ولا ينظر الى قصد العاقد ونيته كما تقدم حكاية كلامه فحاشاه ثم حاشاه ان يأمر الناس بالكذب والخداع والمكر والاحتيال وما لا حقيقة له بل ما يتيقن ان باطنه خلاف ظاهره ولا يظن بمن دون الشافعي من اهل العلم والدين انه يأمر او يبيح ذلك فالفرق اذا واضح بين ان لا يعتبر القصد في العقد ويجريه على ظاهره وبين ان يسوغ عقدا قد علم بناؤه على المكر و الخداع وقد علم ان باطنه خلاف ظاهره
فو الله ما سوغ الشافعي ولا امام من الائمة هذا العقد قط ومن نسب ذلك اليهم فهم خصماؤه عند الله فالذى سوغه الائمة بمنزلة الحاكم يجري الاحكام على ظاهر عدالة الشهود وان كانوا في الباطن شهود زور والذي سوغه اصحاب الحيل بمنزلة الحاكم يعلم أنهم في الباطن شهود زور كذبة وان ما شهدوا به لا حقيقة له ثم يحكم بظاهر عدالتهم وهكذا في مسألة العينة انما جوز الشافعي ان يبيع السلعة ممن اشتراها منه جريا على ظاهر عقود المسلمين وسلامتها من المكر والخداع ولو قيل للشافعي ان المتعاقدين قد تواطئا على الف بالف ومائتين وترواضا على ذلك وجعلا السلعة محللا للربا لم يجون ذلك ولانكره غابة الانكار
ولقد كان الائمة من اصحاب الشافعي ينكرون على من يحكي عنه الافتاء بالحيل قال الامام ابو عبد الله بن بطة سألت ابا بكر الآجرى وانا وهو بمنزلة بمكة عن هذا الخلع الذي يفتى به الناس وهو ان يحلف رجل ان لايفعل شيئا ولا بدله من فعله فيقال له اخلع زوجتك وافعل ما حلفت عليه ثم راجعها واليمين بالطلاق ثلاثا وقلت له ان قوما يفتون هذا الرجل الذي يحلف بأيمان البيعة ويحنث ان لا شيء عليه ويذكرون ان الشافعي لم ير على من حلف بأيمان البيعة شيئا فجعل ابو بكر يعجب من سؤالي عن هاتين المسألتين في وقت واحد ثم قال لي منذ كتبت العلم وجلست للكلام فيه وللفتوى ما افتيت في هاتين المسألتين بحرف ولقد سألت ابا عبد الله الزبيري عن هاتين المسألتين كما سألتني عن التعجب ممن يقدم على الفتوى فيهما فأجابني فيهما بجواب كتبته عنه ثم قام فأخرج لي كتاب احكام الرجعة والنشوز من كتاب الشافعي واذا مكتوب على ظهره بخط ابي بكر سألت ابا عبد الله الزبيري فقلت له الرجل يحلف بالطلاق ثلاثا ان لايفعل شيئا ثم يريد ان يفعله وقلت له ان اصحاب الشافعي يفتون فيها بالخلع يخالع ثم يفعل فقال الزبيري ما اعرف هذا من قول الشافعي ولا بلغني ان له في هذا قولا معروفا ولا ارى من يذكر هذا عنه الا محيلا والزبيري احد الائمة الكبار من الشافعية فإذا كان هذا قوله وتنزيهه للشافعي عن خلع اليمين فكيف بحيل الربا الصريح وحيل التحليل وحيل اسقاط الزكاة والحقوق وغيرها من الحيل المحرمة
فصل لا قول مع قول الله وقول الرسول
ولابد من أمرين أحدهما أعظم من الآخر وهو النصيحة لله ولرسوله وكتابه ودينه وتنزيهه عن الأقوال الباطلة المناقضة لما بعث الله به رسوله من الهدى والبينات التي هي خلاف الحكمة والمصلحة والرحمة
والعدل وبيان نفيها عن الدين وإخراجها منه وإن أدخلها فيه من أدخلها بنوع تأويل
والثاني معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفى عليهم فيها ما جاء به الرسول فقالوا بمبلغ علمهم والحق في خلافها لا يوجب اطراح أقوالهم جملة وتنقصهم والوقيعة فيهم فهذان طرفان جائران عن القصد وقصد السبيل بينهما فلا نؤثم ولا نعصم ولانسلك بهم مسلك الرافضة في علي ولا مسلكهم في الشيخين بل نسلك مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصحابة فإنهم لا يؤثمونهم ولا يعصمونهم ولا يقبلون كل أقوالهم ولا يهدرونها فكيف ينكرون علينا في الأئمة الأربعة مسلكا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح الله صدره للأسلام وإنما يتنافيان عند أحد رجلين جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث الله بها رسوله ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده فلا يجوز أن يتبع فيها ولايجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين
قال عبد الله المبارك كنت بالكوفة فناظروني في النبيذ المختلف فيه فقلت لهم تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي ص - بالرخصة فإن لم يبين الرد عليه عن ذلك الرجل بسند صحت عنه فاحتجوا فما جاءوا عن أحد برخصة إلا جئناهم بسند فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله ابن مسعود وليس احتجاجهم عنه في شدة النبيذ بشيء يصح عنه إنما يصح
عنه أنه لم ينتبذ له في الجر الأخضر قال ابن المبارك فقلت للمحتج عنه في الرخصة يا أحمق عد أن ابن مسعود لو كان ههنا جالسا فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي ص - وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر وتخشى فقال قائل ياأبا عبد الرحمن فالنخعى والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام فقلت لهم دعوا عند المناظرة تسمية الرجال فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن تكون منه زلة أفيجوز لأحد أن يحتج بها فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة قالوا كانوا خيارا قلت فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد قالوا حرام فقلت إن هؤلاء رأوه حلالا أفماتوا وهم يأكلون الحرام فبهتوا وانقطعت حجتهم قال ابن المبارك ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان قال رآني أبي وأنا أنشد الشعر فقال يا بني لا تنشد الشعر فقلت يا ابت كان الحسن ينشد الشعر وكان ابن سيرين ينشد فقال أي بني إن أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله
قال شيخ الإسلام وهذا الذي ذكره ابن المبارك متفق عليه بين العلماء فإنه ما من أحد من أعيان الأئمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا وله أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة
قلت وقد قال أبو عمر بن عبد البر في أول استذكاره
قال شيخ الإسلام وهذا باب واسع لا يحصى مع أن ذلك لا يغض من أقدارهم ولا يسوغ اتباعهم فيها قال تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول قال مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم ليس أحد من
خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي ص - وقال سليمان التيمي إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله قال ابن عبد البر هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا وقد روى عن النبي ص - وأصحابه في هذا المعنى ما ينبغي تأمله فروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله ص - يقول إنى لأخاف على أمتي من بعدى من اعمال ثلاثة قالوا وما هي يا رسول الله قال إنى أخاف عليهم من زلة العالم ومن حكم الجائر ومن هوى متبع
وقال زياد بن حدير قال عمر ثلاث يهدمن الدين زلة عالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون
وقال الحسن قال ابو الدرداء إن مما أخشى عليكم زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق وعلى القرآن منار كأعلام الطريق
وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كل يوم قلما يخطئه ان يقول ذلك الله حكم قسط هلك المرتابون إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والاسود والاحمر فيوشك أحدهم ان يقول قد قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى ابتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن كل بدعة ضلالة وإياكم وزيغة الحكيم فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة وإن المنافق قد يقول كلمة الحق فتلقوا الحق عمن جاء به فإن على الحق نورا قالوا كيف زيغة الحكيم قال هي كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه فاحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه فانه يوشك ان يفيء ويراجع الحق وان العلم والايمان مكانهما الى يوم القيامة فمن ابتغاهما وجدهما
وقال سلمان الفارسي كيف أنتم عند ثلاث زلة عالم وجدال منافق
بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وتقولون نصنع مثل ما يصنع فلان وإن أخطأ فلا تقطعوا إياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان وأما مجادلة منافق بالقرآن فإن للقرآن منارا كمنار الطريق فما عرفتم منه فخذوا وما لم تعرفوا افكلوه إلى الله تعالى وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم
وعن ابن عباس ويل للأتباع من عثرات العالم قيل كيف ذلك قال يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله ص - فيترك قوله ثم يمضي الأتباع ذكر ابو عمر هذه الآثار كلها وغيره
فإذا كنا قد حذر نازلة العالم وقيل لنا إنها من أخوف ما يخاف علينا وأمرنا مع ذلك أن لا نرجع عنه فالواجب على من شرح الله صدره للإسلام إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة أن لا يحكيها لمن يتقلدها بل يسكت عن ذكرها إن تيقن صحتها وإلا توقف في قبولها فكثيرا ما يحكى عن الائمة ما لا حقيقة له وكثير من المسائل يخرجها بعض الاتباع على قاعدة متبوعه مع ان ذلك الامام لو رأى انها تفضى الى ذلك لما التزمها وايضا فلازم المذهب ليس بمذهب وإن كان لازم النص حقا لان الشارع لا يجوز عليه التناقض فلازم قوله حق وأما من عداه فلا يمتنع عليه ان يقول الشيء ويخفى عليه لازمه ولو علم ان هذا لازمه لما قاله فلا يجوز ان يقال هذا مذهبه ويقول ما لم يقله وكل من له علم بالشريعة وقدرها وبفضل الائمة ومقاديرهم وعلمهم وورعهم ونصيحتهم للدين تيقن انهم لو شاهدوا امر هذه الحيل وما أفضت اليه من التلاعب بالدين لقطعوا بتحريمها
ومما يوضح ذلك ان الذين أفتوا من العلماء ببعض مسائل الحيل واخذوا ذلك من بعض قواعدهم لو بلغهم ما جاء في ذلك عن النبي ص - وأصحابه
لرجعوا عن ذلك يقينا فإنهم كانوا في غاية الانصاف وكان احدهم يرجع عن رأيه بدون ذلك وقد صرح بذلك غير واحد منهم وإن كانوا كلهم مجمعين على ذلك قال الشافعي إذا صح الحديث عن رسول الله ص - فاضربوا بقولى الحائط وهذا وإن كان لسان الشافعي فإنه لسان الجماعة كلهم ومن الاصول التي أتفق عليها الائمة ان اقوال أصحاب رسول الله ص - المنتشرة لا تترك إلا بمثلها
يوضح ذلك ان القول بتحريم الحيل قطعي ليس من مسالك الاجتهاد إذ لو كان من مسالك الاجتهاد لم يتكلم الصحابة والتابعون والائمة في ارباب الحيل بذلك الكلام الغليظ الذي ذكرنا منه اليسير من الكثير وقد اتفق السلف على انها بدعة محدثة فلا يجوز تقليد من يفتي بها ويجب نقض حكمه ولا يجوز الدلالة للمقلد على من يفتى بها وقد نص الإمام احمد على ذلك كله ولا خلاف في ذلك بين الائمة كما ان المكيين والكوفيين لا يجوز تقليدهم في مسألة المتعة والصرف والنبيذ ولا يجوز تقليد بعض المدنيين في مسألة الحشوش وإتيان النساء في أدبارهن بل عند فقهاء الحديث ان من شرب النبيذ المختلف فيه حد وهذا فوق الانكار باللسان بل عند فقهاء أهل المدينة يفسق ولا تقبل شهادته وهذا يرد قول من قال لا إنكار في المسائل المختلف فيها وهذا خلاف إجماع الائمة و لا يعلم إمام من أئمة الاسلام قال ذلك وقد نص الامام احمد على ان من تزوج ابنته من الزنا يقتل والشافعي واحمد ومالك لا يرون خلاف ابي حنيفة فيمن تزوج امه وابنته انه يدرأ عنه الحد بشبهة دارئه للحد بل عند الامام احمد رضى الله عنه يقتل وعند الشافعي ومالك بحد حد الزنا في هذا مع أن القائلين المتعة والصرف معهم سنة وان كانت منسوخة وارباب الحيل ليس معهم وسنة ولا اثر عن صاحب ولا قياس صحيح
خطأ من يقول لا إنكار في مسائل الخلاف
وقولهم إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الانكار إما ان يتوجه الى القول والفتوى او العمل أما الاول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا شائعا وجب إنكاره اتفاقا إن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة او اجماع وجب إنكاره بحسب درجات الانكار وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقص حكم الحاكم إذا خالف كتابا او سنة وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهدا أو مقلدا
وإنما دخل هذا اللبس من جهة ان القائل يعتقد ان مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم
والصواب ما عليه الائمة ان مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به الاجتهاد لتعارض الادلة او لخفاء الادلة فيها وليس في قول العالم إن هذه المسألة قطعية او يقينية ولا يسوغ فيها الاجتهاد طعن على من خالفها ولا نسبة له الى تعمد خلاف الصواب والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنا صحة احد القولين فيها كثير مثل كون الحامل تعتد بوضع الحمل وان اصابة الزوج الثاني شرط في حلها للاول وان الغسل يجب بمجرد الايلاج وان لم ينزل وان ربا الفضل حرام وان المتعة حرام وان النبيذ المسكر حرام وان المسلم لا يقتل بكافر وان المسح على الخفين جائز حضرا وسفرا وان السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق
وأن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة وان الشفعة ثابتة في الارض والعقار وان الوقف صحيح لازم وأن دية الاصابع سواء وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم وان الخاتم من حديد يجوز أن يكون صداقا وأن التيمم الى الكوعين بضربة واحدة جائز وان صيام الولي عن الميت يجزيء عنه وان الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة وان المحرم له استدامة الطيب دون ابتدائه وان السنة ان يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله وان خيار المجلس ثابت في البيع وان المصراة يرد معها عوض اللبن صاعا من تمر وأن صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة وان القضاء جائز بشاهد ويمين الى أضعاف أضعاف ذلك من المسائل ولهذا صرح الائمة بنقض حكم من حكم بخلاف كثير من هذه المسائل من غير طعن منهم على من قال بها
وعلى كل حال فلا عذر عند الله يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من هذا الباب وغيره من الاحاديث والاثار التي لا معارض لها إذا نبذها وراء ظهره وقلد من نهاه عن تقليده وقال له لا يحل لك ان تقول بقولى إذا خالف السنة وإذا صح الحديث فلا تعبأ بقولى وحتى لو لم يقل له ذلك كان هذا هو الواجب عليه وجوبا لا فسحة له فيه وحتى لو قال له خلاف ذلك لم يسعه إلا اتباع الحجة ولو لم يكن في هذا الباب شئ من الاحاديث والآثار البتة فإن المؤمن يعلم بالاضطرار ان رسول الله ص - لم يكن يعلم اصحابه هذه الحيل ولا يدلهم عليها ولو بلغه عن أحد فعل شيئا منها لأنكر عليه ولم يكن أحد من أصحابه يفتى بها ولا يعلمها وذلك مما يقطع به كل من له أدنى اطلاع على أحوال القوم وسيرتهم وفتاويهم وهذا القدر لا يحتاج الى دليل اكثر من معرفة حقيقة الدين الذي بعث الله به رسوله
فصل بيان تفصيلي لتحريم التحيل
فلنرجع الى المقصود وهو بيان بطلان هذه الحيل على التفصيل وانها لا تتمشى لا على قواعد الشرع ومصالحه وحكمه على اصول الائمة
حيلة باطلة في تصحيح الوقف على النفس
قال شيخنا ومن الحيل الجديدة التي لا أعلم بين فقهاء الطوائف خلافا في تحريمها أن يريد الرجل ان يقف على نفسه بعد موته على جهات متصلة فيقول له أرباب الحيل أقر أن هذا المكان الذي بيدك وقف عليك من غيرك ويعلمونه الشروط التي يريد إنشاءها فيجعلها إقرارا فيعملونه الكذب في الاقرار ويشهدون على الكذب وهم يعلمون ويحكمون بصحته ولا يستريب مسلم في ان هذا حرام فإن الاقرار شهادة من الانسان على نفسه فكيف يلقن شهادة الزور ويشهد عليه بصحتها ثم ان كان وقف الانسان على نفسه باطلا في دين الله فقد علمتموه حقيقة الباطل فإن الله تعالى قد علم ان هذا لم يكن وقفا قبل الاقرار ولا صار وقفا بالاقرار الكاذب فيصير المال حراما على من يتناوله الى يوم القيامة وإن كان وقف الانسان على نفسه صحيحا فقد أغنى الله تعالى عن تكلف الكذب
قلت ولو قيل إنه مسألة خلاف يسوغ فيها الاجتهاد فإذا وقفه على نفسه كان لصحته مساغ لما فيه من الاختلاف لساغ واما الاقرار بوقفه من غير إنشاء متقدم فكذب بحت ولا يجعله ذلك وقفا اتفاقا إذا أخذ الاقرار على حقيقته ومعلوم قطعا ان تقليد الانسان لمن يفتى بهذا القول ويذهب اليه اقرب الى الشرع والعقل من توصيله اليه بالكذب والزور والاقرار الباطل فتقليد عالم من علماء المسلمين اعذر عند الله من تلقين الكذب والشهادة عليه
فصل حيلة أخرى في الوقف على النفس
ولهم حيلة أخرى وهي ان الذي يريد الوقف يملكه لبعض من يثق به ثم يقفه المملك عليه بحسب اقتراحه وهذا لا شك في قبحه وبطلانه فإن التمليك المشروع المعقول ان يرضى المملك بنقل الملك الى المملك بحيث يتصرف فيه بما يحب من وجوه التصرفات وهنا قد علم الله تعالى والحفظة الموكلون بالعبد ومن يشاهدهم من بني آدم من هذا المملك انه لم يرض بنقل الملك الى هذا ولا خطر له على بال ولو سأله درهما واحدا فلعله كان لم يسمح به عليه ولم يرض بتصرفه فيه إلا بوقفه على المملك خاصة بل قد ملكه إياه بشرط ان يتبرع عليه به وقفا إما بشرط مذكور وإما بشرط معهود متواطأ عليه وهذا تمليك فاسد قطعا وليس بهبة ولا صدقة ولا هدية ولا وصية ولا إباحة وليس هذا بمنزلة العمري والرقبي المشروط فيها العود الى المعمر فإن هناك ملكه التصرف فيه وشرط العود وهنا لم يملكه شيئا وإنما تكلم بلفظ التمليك غير قاصد معناه والموهوب له يصدقه أنهما لم يقصدا حقيقة الملك بل هو استهزاء بآيات الله وتلاعب بحدوده وسنذكر ان شاء الله في الفصل الذي بعد هذا الطريق الشرعية المغنية عن هذه الحيلة الباطلة
فصل حيلة باطلة في مخالفة شرط الواقف
ومن الحيل الباطلة تحيلهم على إيجار الوقف مائة سنة مثلا وقد شرط الواقف ألا يؤجر أكثر من سنتين أو ثلاثا فيؤجر المدة الطويلة في عقود متفرقة في مجلس واحد وهذه الحيلة باطلة قطعا فإنه إنما قصد بذلك دفع المفاسد المترتبة على طول مدة الاجارة فإنها مفاسد كثيرة جدا وكم قد ملك من الوقوف بهذه الطرق وخرج عن الوقفية بطول المدة واستيلاء المستأجر فيها على الوقف هو
وذريته وورثته سنينا بعد سنين وكم فات البطون اللواحق من منفعة الوقف بالايجار الطويل وكم أوجر الوقف بدون إجارة مثله لطول المدة وقبض الاجرة وكم زادت أجرة الارض او العقار اضعاف ما كانت ولم يتمكن الموقوف عليه من استيفائها وبالجملة فمفاسد هذه الاجارة تفوت العد والواقف إنما قصد دفعها وخشى منها بالاجارة الطويلة فصرح بأنه لا يؤجر اكثر من تلك المدة التي شرطها فإيجاره أكثر منها سواء كان في عقد او عقود مخالفة صريحة لشرطه مع ما فيها من المفسدة بل المفاسد العظيمة
ويالله العجب هل تزول هذه المفاسد بتعدد العقود في مجلس واحد وأي غرض للعاقل ان يمنع الاجارة لأكثر من تلك المدة ثم يجوزها في ساعة واحدة في عقود متفرقة وإذا اجره في عقود متفرقة اكثر من ثلاث سنين ايصح أن يقال وفي بشرط الواقف ولم يخالفه هذا من أبطل الباطل وأقبح الحيل وهو مخالف لشرط الواقف ومصلحة الموقوف عليه وتعرض لابطال هذه الصدقة وان لا يستمر نفعها والا يصل الى من بعد الطبقة الاولى وما قاربها فلا يحل لمفت ان يفتى بذلك ولا لحاكم ان يحكم به ومتى حكم به نقض حكمه اللهم إلا ان يكون فيه مصلحة الوقف بأن يخرب ويتعطل نفعه فتدعو الحاجة الى إيجاره مدة طويلة يعمر فيها بتلك الاجرة فهنا يتعين مخالفة شرط الواقف تصحيحا لوقفه واستمرارا لصدقته وقد يكون هذا خيرا من بيعه والاستبدال به وقد يكون البيع او الاستبدال خيرا من الاجارة والله يعلم المفسد من المصلح
والذي يقضى منه العجب التحيل على مخالفة شرط الواقف وقصده الذي يقطع بأنه قصده مع ظهور المفسدة والوقوف مع ظاهر شرطه ولفظه المخالف القصده والكتاب والسنة ومصلحة الموقوف عليه بحيث يكون مرضاة الله ورسوله ومصلحة الواقف وزيادة اجره ومصلحة الموقوف عليه وحصول الرفق به
مع كون العمل احب الى الله ورسوله لا يغير شرط الواقف ويجرى مع ظاهر لفظه وإن ظهر قصده بخلافه وهل هذا إلا من قلة الفقه بل من عدمه فإذا تحيلتم على إبطال مقصود الواقف حيث يتضمن المفاسد العظيمة فهلا تحيلتم على مقصوده ومقصود الشارع حيث يتضمن المصالح الراجحة بتخصيص لفظه او تقييده أو تقديم شرط الله عليه فإن شرط الله أحق وأوثق بل يقولون ههنا نصوص الواقف كنصوص الشارع وهذه جملة من أبطل الكلام وليس لنصوص الشارع نظير من كلام غيره أبدا بل نصوص الواقف يتطرق اليها التناقض والاختلاف ويجب إبطالها اذا خالفت نصوص الشارع وإلغاؤها ولا حرمة لها حينئذ البتة ويجوز بل يترجح مخالفتها الى ما هو أحب الى الله ورسوله منها وانفع للواقف والموقوف عليه ويجوز اعتبارها والعدول عنها مع تساوي الامرين ولا يتعين الوقوف معها وسنذكر إن شاء الله فيما بعد ونبين ما يحل الإفتاء به وما يحل من شروط الواقفين إذ القصد بيان بطلان هذه الحيلة شرعا وعرفا ولغة
فصل حيلة باطلة لإبرار من حلف لا يفعل شيئا ومثله لا يفعله بنفسه عادة
ومن الحيل الباطلة ما لو حلف ان لا يفعل شيئا ومثله لا يفعله بنفسه اصلا كما لو حلف السلطان ان لا يبيع كذا ولا يحرث هذه الارض ولا يزرعها ولا يخرج هذا من بلده ونحو ذلك فالحيلة ان يامر غيره ان يفعل ذلك ويبر في يمينه إذا لم يفعله بنفسه وهذا من أبرد الحيل وأسمجها وأقبحها وفعل ذلك هو الحنث الذي حلف عليه بعينه ولا يشك في انه حانث ولا احد من العقلاء وقد علم الله ورسوله والحفظة بل والحالف نفسه أنه إنما حلف على نفي الامر والتمكين من ذلك لا على مباشرته والحيل إذا افضت الى مثل هذا سمجت غاية السماجة ويلزم أرباب الحيل والظاهر انهم يقولون
إنه إذا حلف ان لا يكتب لفلان توقيعا ولا عهدا ثم امر كتابه ان يكتبوه له فإنه لا يحنث سواء كان أميا او كاتبا وكذلك إذا حلف ان لا يحفر هذا البئر ولا يكرى هذا النهر فامر غيره بحفره وإكرائه انه لا يحنث
فصل حيلة باطلة لمن حلف ألا يفعل شيئا ففعل بعضه
ومن الحيل الباطلة لو حلف لا يأكل هذا الرغيف أو لا يسكن في الدار هذه السنة أو لا يأكل هذا الطعام قالوا يأكل الرغيف ويدع منه لقمة واحدة ويسكن السنة كلها إلا يوما واحدا ويأكل الطعام كله إلا القد اليسير منه ولو انه لقمة
وهذه حيلة باطلة باردة ومتى فعل ذلك فقد أتى بحقيقة الحنث وفعل نفس ما حلف عليه وهذه الحيلة لا تتأتى على قول من يقول يحنث بفعل بعض المحلوف عليه ولا على قول من يقول لا يحنث لانه لم يرد مثل هذه الصورة قطعا وإنما اراد به اذا اكل لقمة مثلا من الطعام الذي حلف انه لا يأكله أو حبة من القطف الذي حلف على تركه ولم يرد انه يأكل القطف إلا حبة واحدة منه وعالم لا يقول هذا
ثم يلزم هذا المتحيل ان يجوز المكلف فعل كل ما نهى الشارع عن جملته فيفعله إلا القدر اليسير منه فإن البر والحنث في الايمان نظير الطاعة والمعصية في الامر والنهي ولذلك لا يبر إلا بفعل المحلوف عليه جميعه لا بفعل بعضه كما لا يكون مطيعا إلا بفعله جميعه ويحنث بفعل بعضه كما يعصى بفعل بعضه فيلزم هذا القائل ان يجوز للمحرم في الاحرام حلق تسعة اعشار رأسه بل وتسعة اعشار العشر الباقي لان الله تعالى إنما نهاه عن حلق رأسه كله لا عن بعضه كما يفتى لمن حلف لا يحلق رأسه ان يحلقه إلا القدر اليسير منه
وتأمل لو فعل المريض هذا فيما نهاه الطبيب عن تناوله هل يعد قابلا منه او لو فعل مملوك الرجل او زوجته او ولده ذلك فيما نهاهم عنه هل يكونون مطيعين له ام مخالفين واذا تحيل احدهم على نقض غرض الآمر وإبطاله بأدنى الحيل هل كان يقبل ذلك منه ويحمده عليه او يعذره وهل يعذر احدا من الناس يعامله بهذه الحيل فكيف يعامل هو بهذا من لاتخفى عليه خافية
فصل حيلة باطلة في اسقاط حق الحضانة للأم
ومن الحيل الباطلة المحرمة ما لو اراد الأب إسقاط حضانة الأم ان يسافر الى غير بلدها فيتبعه الولد
وهذه الحيلة مناقضة لما قصده الشارع فإنه جعل الأم احق بالولد من الأب مع قرب الدار وإمكان اللقاء كل وقت لو قضى به للأب وقضى ان لا توله والدة على ولدها واخبر ان من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين احبته يوم القيامة ومنع ان تباع الأم دون ولدها والولد دونها وإن كانا في بلد واحد فكيف يجوز مع هذا التحيل على التفريق بينها وبين ولدها تفريقا تعز معه رؤيته ولقاؤه ويعز عليها الصبر عنه وفقده وهذا من امحل المحال بل قضاء الله ورسوله احق ان الولد للأم سافر الأب او اقام والنبي ص - قال للأم انت احق به ما لم تنكحي فكيف يقال انت احق به ما لم يسافر الأب واين هذا في كتاب الله او في سنة رسول الله ص - او فتاوي اصحابه او القياس الصحيح فلا نص ولا قياس ولا مصلحة
فصل حيلة باطلة في نفاذ تصرفات المريض
ومن الحيل المحرمة اذا اراد حرمان امرأته من الميراث او كانت تركته كلها عبيدا وإماء فأراد جعل تدبيرهم من رأس المال ان يقول في الصورة الأولى اذا مت من مرضي هذا فأنت طالق قبل مرضي بساعة ثلاثا ويقول في الصورة الثانية اذا مت في مرضي هذا فأنتم عتقاء قبله بساعة وحينئذ فيقع الطلاق والعتق في الصحة
وهذه حيلة باطلة فإن التعليق إنما وقع منه في حال مرض موته ولم يقارنه اثره وهو في هذه الحال لو نجز العتق والطلاق لكان العتق من الثلث والطلاق غير مانع للميراث مع مقارنة اثره له وقوة المنجز وضعف المعلق وايضا فالشرط هو موته في مرضه والجزاء المعلق عليه هو العتق والطلاق والجزاء يستحيل ان يسبق شرطه إذ في ذلك اخراج الشرط عن حقيقته وحكمه وقد تقدم تقرير ذلك في الحيلة السريجية
فصل حيلة باطلة لتأخير قبض رأس مال السلم
ومن الحيل الباطلة المحرمة إذا كان مع احدهما دينار رديء ومع الآخر نصف دينار جيد فأراد بيع أحدهما بالآخر قال أرباب الحيل الحيلة ان يبيعه دينارا بدينار في الذمة ثم يأخذ البائع الدينار الذي يريد شراءه بالنصف فيريد الآخر دينارا عوضه فيدفع اليه نصف الدينار وفاء ثم يستقرضه منه فيبقى له في ذمته نصف دينار ثم يعيده اليه وفاء عن قرضه فيبرأ منه ويفوز كل منهما بما كان مع الآخر
ومثل هذه الحيلة لو اراد ان يجعل بعض رأس مال السلم دينارا يوفيه اياه في وقت آخر بأن يكون معه نصف دينار ويريد ان يسلم اليه دينارا في كر حنطة فالحيلة ان يسلم اليه دينارا غير معين ثم يوفيه نصف الدينار
ثم يعود فيستقرضه منه ثم يوفيه إياه عما له عليه من الدين فيتفرقان وقد بقى له في ذمته نصف دينار
وهذه الحيلة من أقبح الحيل فإنهما لا يخرجان بها عن بيع دينار بنصف دينار ولا عن تأخير رأس مال السلم عن مجلس العقد ولكن توصلا الى ذلك بالقرض الذي جعلا صورته مبيحة لصريح الربا ولتأخير قبض رأس مال السلم وهذا غير القرض الذي جاءت به الشريعة وهو قرض لم يشرعه الله وإنما اتخذه المتعاقدان تلاعبا بحدود الله وأحكامه واتخاذا لآياته هزوا واذا كان القرض الذي يجر النفع ربا عند صاحب الشرع فكيف بالقرض الذي يجر صريح الربا وتأخير قبض رأس مال السلم
فصل حيل باطلة لإسقاط حق الشفعة
ومن الحيل الباطلة المحرمة التحيل على اسقاط ما جعله الله حقا للشريك على شريكه من استحقاق الشفعة دفعا للضرر والتحيل لإبطالها مناقض لهذا الغرض وإبطال لهذا الحكم بطريق التحيل وقد ذكروا وجوها من الحيل
منها ان يتفقا على مقدار الثمن ثم عند العقد يصبره صبرة غير موزونة فلا يعرف الشفيع ما يدفع فإذا فعلا ذلك فللشفيع ان يستحلف المشتري انه لا يعرف قدر الثمن فإن نكل قضى عليه بنكوله وان حلف فللشفيع اخذ الشقص بقيمته
ومنها ان يهب الشقص للمشتري ثم يهبه المشتري ما يرضيه وهذا لا يسقط الشفعة وهذا بيع وإن لم يتلفظا به فله ان يأخذ الشقص بنظير الموهوب
ومنها ان يشتري الشقص ويضم اليه سكينا او منديلا بألف درهم فيصير حصة الشقص من الثمن مجهولة وهذا لايسقط الشفعة بل يأخذ الشفيع الشقص بقيمته كما لو استحق احد العوضين واراد المشتري اخذ الآخر فإنه يأخذه بحصته من الثمن إن انقسم الثمن عليهما بالأجزاء وإلا فبقيمته وهذا الشقص مستحق شرعا فإن الشارع جعل الشفيع احق به من المشتري بثمنه فلا يسقط حقه منه بالحيلة والمكر والخداع
ومنها ان يشتري الشقص بألف دينار ثم يصارفه عن كل دينار بدرهمين فإذا اراد اخذه أخذه بالثمن الذي وقع عليه العقد وهذه الحيلة لاتسقط الشفعة واذا أراد أخذه أخذه بالثمن الذي استقر عليه العقد وتواطأ عليه البائع والمشتري فإنه هو الذي انعقد به العقد ولا عبرة بما أظهراه من الكذب والزور والبهتان الذي لا حقيقة له ولهذا لو استحق المبيع فإن المشتري لا يرجع على البائع بألف دينار وإنما يرجع بالثمن الذي تواطأ عليه واستقر عليه العقد فالذي يرجع به عند الاستحقاق هو الذي يدفعه الشفيع عند الأخذ هذا محض العدل الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه ولا تحتمل الشريعة سواه
ومنها أن يشتري بائع الشقص من المشتري عبدا قيمته مائة درهم بألف درهم في ذمته ثم يبيعه الشقص بالألف وهذه الحيلة لا تبطل الشفعة ويأخذ الشفيع الشقص بالثمن الذي يرجع به المشتري على البائع إذا استحق المبيع وهو قيمة العبد
ومنها أن يشتري الشقص بألف وهو يساوي مائة ثم يبرئه البائع من تسعمائة وهذا لا يسقط الشفعة ويأخذه الشفيع بما بقي من الثمن بعد الإسقاط وهو الذي يرجع به إذا استحق البيع
ومنها أن يشتري جزءا من الشقص بالثمن كله ثم يهب له بقية الشقص وهذا لا يسقطها ويأخذ الشفيع الشقص كله بالثمن فإن هذه الهبة لا حقيقة لها والموهوب هو المبيع بعينه ولا تغير حقائق العقود وأحكامها التي شرعت فيها بتغير العبارة
وليس للمكلف ان يغير حكم العقد بتغيير عبارته فقط مع قيام حقيقته وهذا لو أراد من البائع ان يهبه جزءا من ألف جزء من الشقص بغير عوض لما سمحت نفسه بذلك ألبتة فكيف يهبه ما يساوي مائة الف بلا عوض وكيف يشتري منه الآخر مائة درهم بمائة الف وهل هذا إلا سفه يقدح في صحة العقد
قال الامام احمد في رواية اسماعيل بن سعيد وقد سأله عن الحيلة في إبطال الشفعة فقال لا يجوز شيء من الحيل في ذلك ولا في ابطال حق مسلم
وقال عبدالله بن عمر رضى الله عنهما في هذه الحيل وأشباهها من يخدع الله يخدعه والحيلة خديعة
وقد قال النبي ص - لا تحل الخديعة لمسلم والله تعالى ذم المخادعين والمتحيل مخادع لان الشفعة شرعت لدفع الضرر فلو شرع التحيل لابطالها لكان عودا على مقصود الشريعة بالابطال وللحق الضرر الذي قصد إبطاله
فصل حيلة باطلة لتفويت حق القسمة
ومن الحيل الباطلة التحيل على إبطال القسمة في الارض القابله لها بأن يقف الشريك منها سهما من الف سهم مثلا على من يريد فيصير الشريك شريكا في الوقف والقسمة بيع فتبطل
وهذه حيلة فاسدة باردة لا تبطل حق الشريك من القسمة وتجوز القسمة ولو وقف حصته كلها فإن القسمة إفراز حق وإن تضمنت معاوضة وهي غير البيع حقيقة واسما وحكما وعرفا ولا يسمى القاسم بائعا لا لغة ولا شرعا ولا عرفا ولا يقال للشريكين اذا تقاسما تبايعا ولا يقال لواحد منهما إنه قد باع ملكه ولا يدخل المتقاسمان تحت نص واحد من النصوص المتناولة للبيع ولا يقال لناظر الوقف إذا أفرز الوقف وقسمه من غيره إنه قد باع الوقف وللآخر إنه قد اشترى الوقف وكيف ينعقد البيع بلفظ القسمة ولو كانت بيعا لوجبت فيها الشفعة ولو كانت بيعا لما أجبر الشريك عليها إذا طلبها شريكه فإن أحدا لا يجبر على بيع ماله ويلزم بإخراج القرعة بخلاف البيع ويتقدر أحد النصيبين فيها بقدر النصيب الآخر إذا تساويا وبالجملة فهى منفردة عن البيع باسمها وحقيقتها وحكمها
فصل حيلة باطلة لتصحيح المزارعة لمن يعتقد فسادها
ومن الحيل الباطلة التحيل على تصحيح المزارعة لمن يعتقد فسادها بأن يدفع الارض الى المزارع ويؤجره نصفها مشاعا مدة معلومة يزرعها ببذره على ان يزرع للمؤجر النصف الآخر ببذره تلك المدة ويحفظه ويسقيه ويحصده ويذريه فإذا فعلا ذلك أخرج البذر منهما نصفين نصفا من المالك ونصفا من المزارع ثم خلطاه فتكون الغلة بينهما نصفين فإن اراد صاحب الارض ان يعود اليه ثلثا الغلة آجره ثلث الارض مدة معلومة على ان يزرع له مدة الاجارة ثلثي الارض ويخرجان البذر منهما أثلاثا ويخلطانه وإن أراد المزارع أن يكون له ثلثا البذر استأجر ثلثى الارض برزع الثلث الآخر كما تقدم
فتأمل هذه الطويلة الباردة المتعبة وترك الطريق المشروعه التي فعلها
رسول الله ص - حتى كأنها رأى عين واتفق عليها الصحابة وصح فعلها عن الخلفاء الراشدين صحة لا يشك فيها كما حكاه البخاري في صحيحه فما مثل هذا العدول عن طريقة القوم الى هذه الحيلة الطويلة السمجة إلا بمنزلة من أراد الحج من المدينة على الطريق التي حج فيها رسول الله ص - واصحابه فقيل له هذه الطريق مسدودة وإذا اردت أن تحج فاذهب الى الشام ثم منها الى العراق ثم حج على درب العراق وقد وصلت
فيالله العجب كيف تسد عليه الطريق القريبة السهلة القليلة الخطر التي سلكها رسول الله ص - واصحابه ويدل على الطريق الطويلة الصعبة المشقة الخطرة التي لم يسلكها رسول الله ص - ولا أحد من اصحابه ... فلله العظيم عظيم حمد ... كما أهدى لنا نعما غزارا ...
وهذا شأن جميع الحيل إذا كانت صحيحة جائزة واما إذا كانت باطلة محرمة فتلك لها شأن آخر وهي طريق الى مقصد آخر غير الكعبة البيت الحرام وبالله التوفيق
فصل حيلة باطلة في إسقاط حق الاب في الرجوع في الهبة وحق الزوج في الرجوع في نصف الصداق
ومن الحيل الباطلة التي لا تسقط الحق اذا اراد الابن منع الاب الرجوع فيما وهبه إياه أن يبيعه لغيره ثم يستقيله إياه وكذلك المرأة إذا أرادت منع الزوج من الرجوع في نصف الصداق باعته ثم استقالته
وهذا لا يمنع الرجوع فإن المحذور إبطال حق الغير من العين وهذا لا يبطل للغير حقا والزائل العائد كالذي لم يزل ولا سيما إذا كان زواله إنما جعل ذريعة وصورة الى ابطال حق الغير فإنه لا يبطل بذلك
يوضحه ان الحق كان متعلقا بالعين تعلقا قدم الشارع مستحقه على المالك لقوته ولا يكون صورة إخراجه عن يد المالك إخراجا لا حقيقة له اقوى من الاستحقاق الذي اثبت الشارع به انتزاعه من يد المالك بل لو كان الاخراج حقيقة ثم عاد لعاد حق الاول من الاخذ لوجود مقتضيه وزوال مانعه والحكم إذا كان له مقتض فمنع مانع من إعماله ثم زال المانع اقتضى المقتضى عمله
فصل حيلة باطلة لتجويز الوصية للوارث
ومن الحيل الباطلة المحرمة إذا أراد ان يخص بعض ورثته ببعض الميراث وقد علم ان الوصية لا تجوز وان عطيته في مرضه وصية فالحيلة ان يقول كنت وهبت له كذا وكذا في صحتى أو يقر له بدين فيتقدم به
وهذا باطل والاقرار للوارث في مرض الموت لا يصح للتهمة عند الجمهور بل مالك يرده للأجنبي إذا ظهرت التهمة وقوله هو الصحيح وأما إقراره أنه كان وهبه إياه في صحته فلا يقبل أيضا كما لا يقبل إقراره له بالدين ولا فرق بين إقراره له بالدين أو بالعين وأيضا المريض لا يملك إنشاء عقد التبرع المذكور فلا يملك الإقرار به لاتحاد المعنى الموجب لبطلان الإنشاء فإنه بعينه قائم في الإقرار وبهذا يزول النقض بالصور التي يملك فيها الإقرار دون الإنشاء فإن المعنى الذي منع من الإنشاء هناك لم يوجد في الإقرار فتأمل هذا الفرق
فصل حيلة باطلة في محاباة وارث
ومن الحيل الباطلة المحرمة إذا أراد أن يحابى وارثه في مرضه أن يبيع أجنبيا شفيعه وارثه شقصا بدون ثمنه ليأخذه وارثه بالشفعة
فمتى قصد ذلك حرمت المحاباة المذكورة وكان للورثة إبطالها إذا كانت حيلة على محاباة الوارث وهذا كما يبطل الإقرار له لأنه قد يتخذ حيلة لتخصيصه
وقال اصحابنا له الاخذ بالشفعة وهذا لا يستقيم على أصول المذهب إلا اذا لم يكن حيلة فأما إذا كان حيلة فأصول المذهب تقتضي ما ذكرناه ومن اعتبر سد الذرائع فأصله يقتضى عدم الاخذ بها وان لم يقصد الحيلة فإن قصد التحيل امتنع الاخذ لذلك وإن لم يقصده امتنع سدا للذريعة
فصل حيلة باطلة لإسقاط أرش الجنايات
ومن الحيل الباطلة إذا أوضح رأسه في موضعين وجب عليه عشرة أبعرة من الابل فإذا أراد جعلها خمسة فليوضحه ثالثة تخرق ما بينهما
وهذه الحيلة مع أنها محرمة فإنها لا تسقط ما وجب عليه فإن العشر لا يجب عليه إلا بالاندمال فإذا فعل ذلك بعد الاندمال فهى موضحة ثالثة وعليه ديتها فإن كان قبل الاندمال ولم يستقر ارش الموضحتين الاوليين حتى صار الكل واحدة من جان واحد فهو كما لو سرت الجناية حتى خرقت ما بينهما فإنها تصير واحدة
وهكذا لو قطع أصبعا بعد أصبع من امرأة حتى قطع اربعا فإنه يجب عشرون ولو اقتصر على الثلاث وجب ثلاثون وهذا بخلاف ما لو قطع الرابعة بعد الاندمال فإنه يجب فيها عشر كما لو تعدد الجاني فإنه يجب على كل واحد ارش جنايته قبل الاندمال وبعده وكذلك لو قطع أطراف رجل وجب عليه ديات فان اندملت ثم قتله بعد ذلك فعليه مع تلك الديات دية النفس ولو قتله قبل الاندمال فدية واحدة كما لو قطعه عضوا عضوا حتى مات
فصل حيل باطلة لاسقاط حد السرقة
ومن الحيل الباطلة الحيل التي فتحت للسراق واللصوص التي لو صحت لم تقطع يد سارق أبدا ولعم الفساد وتتابع السراق في السرقة
فمنها ان ينقب احدهما السطح ولا يدخل ثم يدخل عبده او شريكه فيخرج المتاع من السطح
ومنها ان ينزل احدهما من السطح فيفتح الباب من داخل ويدخل الآخر فيخرج المتاع
ومنها ان يدعى انه ملكه وان رب البيت عبده فبمجرد ما يدعى ذلك يسقط عنه القطع ولو كان رب البيت معروف النسب والناس تعرف ان المال ماله وأبلغ من هذا انه لو أدعى العبد السارق ان المسروق لسيده وكذبه السيد قالوا فلا قطع عليه بل يسقط عنه القطع بهذه الدعوى
ومنها أن يبلع الجوهرة أو الدنانير ويخرج بها
ومنها أن يغير هيئة المسروق بالحرز ثم يخرج به
ومنها ان يدعى ان رب الدار أدخله داره وفتح له باب داره فيسقط عنه القطع وإن كذبه الى أمثال ذلك من الاقوال التي حقيقتها أنه لا يجب القطع على سارق ألبتة
وكل هذه حيل باطلة لا تسقط القطع ولا تثير أدنى شبهة ومحال أن تأتي شريعة بإسقاط عقوبة هذه الجريمة بها بل ولا سياسة عادلة فإن الشرائع مبنية على مصالح العباد وفي هذه الحيل أعظم الفساد ولو ان ملكا من الملوك وضع عقوبة على جريمة من الجرائم لمصلحة رعيته ثم أسقطها بأمثال هذه الحيل عد متلاعبا
فصل حيل باطلة لاسقاط حد الزنا
ومن الحيل الباطلة الحيلة التي تتصمن إسقاط حد الزنا بالكلية وترفع هذه الشريعة من الارض بأن يستأجر المرأة لتطوي له ثيابه او تحول له متاعا من جانب الدار الى جانب آخر او يستأجرها لنفس الزنا ثم يزني بها فلا يجب عليه الحد
وأعظم من هذا كله انه إذا اراد ان يزني بأمه او اخته او ابنته او خالته او عمته ولا يجب عليه الحد فليعقد عليها عقد النكاح بشهادة فاسقين ثم يطؤها ولا حد عليه
وأعظم من ذلك ان الرجل المحصن إذا اراد ان يزني ولا يحد فليرتد ثم يسلم فإنه إذا زني بعد ذلك فلا حد عليه أبدا حتى يستأنف نكاحا او وطئا جديدا
وأعظم من هذا كله انه اذا زنى بأمه وخاف من إقامة الحد عليه فليقتلها فإذا فعل ذلك سقط عنه الحد وإذا شهد عليه الشهود بالزنا ولم يمكنه القدح فيهم فليصدقهم فإذا صدقهم سقط عنه الحد
ولا يخفى امر هذه الحيل ونسبتها الى دين الاسلام وهل هي نسبة موافقة او هي نسبة مناقضة
فصل حيلة باطلة لإبرار يمين
ومن الحيل الباطلة انه إذا حلف لا يأكل من هذا القمح فالحيلة ان يطحنه ويعجنه ويأكله خبزا وطرد هذه الحيلة الباردة انه اذا حلف لا يأكل هذه الشاة فليذبحها وليطبخها ثم يأكلها وإذا حلف انه لا ياكل من هذه النخلة فليجد ثمرها ثم يأكلها فإن طردوا ذلك فمن الفضائح الشنيعة وإن فرقوا
تناقضوا فإن قالوا الحنطة يمكن أكلها صحاحا بخلاف الشاة والنخلة فإنه لا يمكن فيها ذلك قيل والعادة ان الحنطة لا يأكلها صحاحا إلا الدواب والطير وإنما تؤكل خبزا فكلاهما سواء عند الحالف وكل عاقل
فصل حيلة أشنع من الحيلة اليهودية
ومن الحيل الباطلة المحرمة المضاهية للحيلة اليهودية ما لو حلف انه لا يأكل هذا الشحم فالحيلة ان يذيبه ثم يأكله
وهذا كله تصديق لقول رسول الله ص - لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة قالوا اليهود والنصارى قال فمن وتصديق قوله لتأخذن امتي ما أخذ الامم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذارع حتى لو كان منهم من أتى امه علانية لكان فيهم من يفعله
وهذه الحيلة في الشحوم هي حيلة اليهود بعينها بل أبلغ منها فإن اولئك لم يأكلوا الشحم بعد إذابته وإنما أكلوا ثمنه
فصل حيلة باطلة لتجويز نكاح الامة مع الطول
ومن الحيل الباطلة المحرمة لمن أراد ان يتزوج بأمة وهو قادر على نكاح حرة ان يملك ماله لولده ثم يعقد على الامة ثم يسترد المال منه
وهذه الحيلة لا ترفع المفسدة التي حرم لاجلها نكاح الامة ولا تخففها ولا تجعله عادما للطول فلا تدخل في قوله ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات المؤمنات وهذه الحيلة حيلة على استباحة نفس ما حرم الله تعالى
فصل حيلة باطلة لتجويز تعلية بناء الكافر على بناء المسلم
ومنها لو على كافر بناءه على مسلم منع من ذلك فالحيلة على جوازه ان يعليها مسلم ما شاء ثم يشتريها الكافر منه فيسكنها
وهذه الحيلة وإن ذكرها بعض الاصحاب فهى مما أدخلت في المذهب غلطا محضا ولا توافق اصوله ولا فروعه فالصواب المقطوع به عدم تمكينه من سكناها فإن المفسدة لم تكن في نفس البناء وإنما كانت في ترفعة على المسلمين ومعلوم قطعا ان هذه المفسدة في الموضعين واحدة
فصل حيلة باطلة لاسقاط الضمان عن الغاصب
ومن الحيل الباطلة اذا غصبه طعاما ثم اراد ان يبرأ منه ولا يعلمه به فليدعه الى داره ثم يقدم له ذلك الطعام فإذا أكله بريء الغاصب
وهذه الحيلة باطلة فإنه لم يملكه إياه ولا مكنه من التصرف فيه فلم يكن بذلك رادا لعين ماله اليه
فإن قيل فما تقولون لو أهداه اليه فقبله وتصرف فيه وهو لا يعلم انه ماله
قيل ان خاف من إعلامه به ضررا يلحقه منه برئ بذلك وان لم يخف ضررا وإنما أراد المنة عليه ونحو ذلك لم يبرأ ولا سيما إن كافأه على الهدية فقبل فهذا لا يبرأ قطعا
فصل حيل باطلة في الايمان
ومن الحيل الباطلة بلا شك الحيل التي يفتى بها من حلف لا يفعل الشيء ثم حلف ليفعلنه فيتحيل له حتى يفعله بلا حنث وذكروا لها صورا
احدها أن يحلف لا يأكل هذا الطعام ثم يحلف هو أو غيره ليأكلنه فالحيلة أن يأكله إلا لقمة منه فلا يحنث
ومنها لو حلف ان لا يأكل هذا الجبن ثم حلف ليأكلنه قالوا فالحيلة ان يأكله بالخبز ويبر ولا يحنث
ومنها لو حلف لا يلبس هذا الثوب ثم حلف هو أو غيره ليلبسنه فالحيلة ان يقطع منه شيئا يسيرا ثم يلبسه فلا يحنث
وطرد قوله ان ينسل منه خيطا ثم يلبسه
ولا يخفى امر هذه الحيلة وبطلانها وانها من اقبح الخداع واسمجه ولا يتمشى على قواعد الفقه ولا فروعه ولا اصول الائمة فإنه إن كان بترك البعض لا يعد آكلا ولا لابسا فإنه لا يبرأ بالحلف ليفعلن فإنه إن عد فاعلا وجب ان يحنث في جانب النفي وإن لم يعد فاعلا وجب ان يحنث في جانب الثبوت فأما ان يعد فاعلا بالنسبة الى الثبوت وغير فاعل بالنسبة الى النفي فتلاعب
فصل حيلة باطلة مشتقة من الحيلة السريجية
ومنها الحيل التي تبطل الظهار والايلاء والطلاق والعتق بالكلية وهي مشتقة من الحيلة السريجية كقوله إن تظاهرت منك أو آليت منك فأنت طالق قبله ثلاثا فلا يمكنه بعد ذلك ظهار ولا إيلاء وكذلك يقول إن أعتقتك فأنت حر قبل الاعتاق وكذلك لو قال إن بعتك فأنت حر قبل البيع وقد تقدم بطلان هذه الحيل كلها
فصل حيلة باطلة لحسبان الدين من الزكاة
ومن الحيل الباطلة المحرمة ان يكون له على رجل مال وقد افلس غريمه وايس من اخذ منه وأراد ان يحسبه من الزكاة فالحيلة ان يعطيه من الزكاة
بقدر ما عليه فيصير مالكا للوفاء فيطالبه حينئذ بالوفاء فإذا أوفاه بريء وسقطت الزكاة عن الدافع
وهذه حيلة باطلة سواء شرط عليه الوفاء او منعه من التصرف فيما دفعه اليه او ملكه إياه بنية ان يستوفيه من دينه فكل هذا لا يسقط عنه الزكاة ولا يعد مخرجا لها لا شرعا ولا عرفا كما لو أسقط دينه وحسبه من الزكاة
قال مهنا سألت أبا عبدالله عن رجل له على رجل دين برهن وليس عنده قضاؤه ولهذا الرجل زكاة مال قال يفرقه على المساكين فيدفع اليه رهنه ويقول له الدين الذي لي عليك هو لك ويحسبه من زكاة ماله قال لا يجزئه ذلك فقلت له فيدفع إليه زكاته فإن رده إليه قضى مما أخذه من ماله قال نعم وقال في موضع آخر وقيل له فإن أعطاه ثم رده إليه قال إذا كان بحيلة فلا يعجبني قيل له فإن استقرض الذي عليه الدين دراهم فقضاه إياها ثم ردها عليه وحسبها من الزكاة قال إذا أراد بهذا إحياء ماله فلا يجوز ومطلق كلامه ينصرف إلى هذا المقيد فيحصل من مذهبه أن دفع الزكاة إلى الغريم جائز سواء دفعها ابتداء أو استوفى حقه ثم دفع ما استوفاه إليه إلا أنه متى قصد بالدفع إحياء ماله واستيفاء دينه لم يجز لأن الزكاة حق لله وللمستحق فلا يجوز صرفها إلى الدافع ويفوز بنفعها العاجل
ومما يوضح ذلك أن الشارع منعه من أخذها من المستحق بعوضها فقال لا تشترها ولا تعد في صدقتك فجعله بشرائها منه بثمنها عائدا فكيف إذا دفعها إليه بنية أخذها منه قال جابر بن عبدالله إذا جاء المصدق فادفع إليه صدقتك ولا تشترها فإنهم كانوا يقولون ابتعها فأقول إنما هي لله وقال ابن عمر لا تشتر طهور مالك
وللمنع من شرائه علتان إحداهما أنه يتخذ ذريعة وحيلة إلى استرجاع
شيء منها لأن الفقير يستحي منه فلا يماسكه في ثمنها وربما أرخصها ليطمع أن يدفع إليه صدقة أخرى وربما علم أو توهم أنه إن لم يبعه إياها استرجعها منه فيقول ظفري بهذا الثمن خير من الحرمان
العلة الثانية قطع طمع نفسه عن العود في شيء أخرجه لله بكل طريق فإن النفس متى طمعت في عوده بوجه ما فآمالها ! بعد متعلقة به فلم تطب به نفسا لله وهي متعلقة به فقطع عليها طمعها في العود ولو بالثمن ليتمحض الإخراج لله وهذا شأن النفوس الشريفة ذوات الأقدار والهمم أنها إذا أعطت عطاء لم تسمح بالعود فيه بوجه لا بشراء ولا بغيره وتعد ذلك دناءة ولهذا مثل النبي ص - العائد في هبته بالكلب يعود في قيئه لخسته ودناءة نفسه وشحه بما قاءه أن يفوته
فمن محاسن الشريعة منع المتصدق من شراء صدقته ولهذا منع من سكنى بلاده التي هاجر منها لله وإن صارت بعد ذلك دار إسلام كما منع النبي ص - المهاجرين بعد الفتح من الاقامة بمكة فوق ثلاثة أيام لانهم خرجوا عن ديارهم لله فلا ينبغى ان يعودوا في شيء تركوه لله وان زال المعنى الذي تركوها لاجله
فإن قيل فأنتم تجوزون له أن يقضى بها دين المدين إذا كان المستحق له غيره فما الفرق بين ان يكون الدين له او لغيره ويحصل للغريم براءة ذمته وراحة من ثقل الدين في الدنيا ومن حمله في الآخرة فمنفعته ببراءة ذمته خير له من منفعة الأكل والشرب واللباس فقد انتفع هو بخلاصه من رق الدين وانتنفع رب المال بتوصله الى أخذ حقه وصار هذا كما لو أقرضه مالا ليعمل فيه ويوفيه دينه من كسبه
قيل هذه المسألة فيها روايتان منصوصتان عن الامام احمد رحمه الله إحداهما انه لا يجوز له ان يقضى دينه من زكاته بل يدفع اليه الزكاة ويؤديها هو عن نفسه والثانية يجوز له ان يقضى دينه من الزكاة قال ابو الحارث قلت للإمام احمد
رجل عليه ألف وكان على رجل زكاة ماله الف فأداها عن هذا الذي عليه الدين يجوز هذا من زكاته قال نعم ما أرى بذلك بأسا وعلى هذا فالفرق ظاهر لان الدافع لم ينتفع ههنا بما دفعه الى الغريم ولم يرجع اليه بخلاف ما اذا دفعه اليه ليستوفيه منه فإنه قد أحيا ماله بماله ووجه القول بالمنع انه قد يتخذ ذريعة الى انتفاعه بالقضاء مثل ان يكون الدين لولده او لامرأته أو لمن يلزمه نفقته فيستغنى عن الانفاق عليه فلهذا قال الامام احمد احب الى ان يدفعه إليه حتى يقضى هو عن نفسه قيل هو محتاج يخاف ان يدفع اليه فيأكله ولا يقضى دينه قال فقل له يوكله حتى يقضيه والمقصود انه متى فعل ذلك حيلة لم تسقط عنه الزكاة بما دفعة فإنه لا يحل له مطالبة المعسر وقد أسقط الله عنه المطالبة فإذا توصل الى وجوبها بما يدفعه اليه فقد دفع اليه شيئا ثم اخذه فلم يخرج منه شيء فإنه لو أراد الآخذ التصرف في المأخود وسد خلته منه لما مكنه فهذا هو الذي لا تسقط عنه الزكاة فأما لو أعطاه عطاء قطع طمعه من عوده اليه وملكه ظاهرا وباطنا ثم دفع اليه الآخذ دينه من الزكاة فهذا جائز كما لو أخذ الزكاة من غيره ثم دفعها اليه والله اعلم
فصل حيلة باطلة لتجويز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها
ومن الحيل الباطلة التحيل على نفس ما نهى عنه الشارع من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها والحب قبل اشتداده بأن يبيعه ولا يذكر تبقيته ثم يخليه الى وقت كماله فيصح البيع ويأخذه وقت إدراكه وهذا هو نفس ما نهى عنه الشارع إن لم يكن فعله بأدنى الحيل ووجه هذه الحيلة ان موجب العقد القطع فيصح وينصرف الى موجبه كما لو باعها بشرط القطع ثم القطع حق لهما لا يعدوهما فإذا اتفقا على تركه جاز ووجه بطلان هذه الحيلة ان هذا هو الذي نهى عنه رسول الله ص - بعينه للمفسدة التي يفضى اليها من التشاجر والتشاحن
فإن الثمار تصيبها العاهات كثيرا فيفضى بيعها قبل كمالها الى اكل مال المشتري بالباطل كما علل به صاحب الشرع ومن المعلوم قطعا ان هذه الحيلة لا ترفع المفسدة ولا تزيل بعضها وايضا فإن الله وملائكته والناس قد علموا ان من اشترى الثمار وهي شيص لم يمكن احدا ان يأكل منها فإنه لا يشتريها للقطع ولو اشتراها لهذا الغرض لكان سفها وبيعه مردود وكذلك الجوز والخوخ والاجاص وما أشبهها من الثمار التي لا ينتفع بها قبل إدراكها لا يشتريها احد إلا بشرط التبقية وان سكت عن ذكر الشرط بلسانه فهو قائم بقلبه وقلب البائع وفي هذا تعطيل للنص وللحكمة التي نهى الشارع لأجلها أما تعطيل الحكمة فظاهر وأما تعطيل النص فإنه إنما يحمله على ما إذا باعها بشرط التبقية لفظا فلو سكت عن التلفظ بذلك وهو مراده ومراد البائع جاز وهذا تعطيل لما دل عليه النص وإسقاط لحكمته
فصل حيلة اخرى باطلة في الايمان
ومن الحيل الباطلة انه إذا حلف لا يبيعه هذه الجارية ثم أراد ان يبيعها منه فليبعه منها تسعمائة وتسعة وتسعين سهما ثم يهبه السهم الباقي وقد تقدم نظير هذه الحيلة الباطلة وكذلك لو حلف لا يبيعه ولا يهبه إياها ففعل ذلك لم يحنث
ولو وقعت هذه الحيلة في جارية قد وطئها الحالف اليوم فأراد المالك ان يطأها بلا استبراء فله حيلتان على إسقاط الاستبراء إحداهما أن يعتقها ثم يتزوجها والثانية ان يملكها لرجل ثم يزوجه إياها فإذا قضى وطره منها ثم أراد بيعها أو وطأها بملك فليشترها من المملك فينفسخ نكاحه فإن شاء باعها وإن شاء أقام على وطئها
وتقدم أن نظير هذه الحيلة لو حلف ان لا يلبس هذا الثوب فلينسل
منه خيطا ثم يلبسه أو لا يأكل هذا الرغيف فليخرج منه لبابة ثم يأكله
قال غير واحد من السلف لو فعل المحلوف عليه على وجهه لكان أخف وأسهل من هذا الخداع ولو قابل العبد أمر الله ونهيه بهذه المقابلة لعد عاصيا مخادعا بل لو قابل احد الرعية امر الملك ونهيه او العبد امر سيده ونهيه او المريض امر الطبيب ونهيه بهذه المقابلة لما عذره احد قط ولعده كل احد عاصيا وإذا تدبر العالم في الشريعة امر هذه الحيل لم يخف عليه نسبتها اليها ومحلها منها والله المستعان
فصل حيلة أخرى باطلة في الايمان
ومن الحيل الباطلة لو حلف لا يبيع هذه السلعة بمائة دينار او زاد عليها فلم يجد من يشتريها بذلك فليبعها بتسعة وتسعين دينارا أو مائة جزء من دينار او اقل من ذلك أو يبيعها بدراهم تساوي ذلك أو يبيعها بتسعين دينارا ومنديلا او ثوبا او نحو ذلك
وكل هذه حيل باطلة فإنها تتضمن نفس مخالفته لما نواه وقصده وعقد قلبه عليه وإذا كانت يمين الحالف على ما يصدقه عليه صاحبه كما قال النبي ص - فيمينه على ما يعلمه الله من قلبه كائنا ما كان فليقل ما شاء وليتحيل ما شاء فليست يمينه إلا على ما علمه الله من قلبه قال الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم فأخبر تعالى انه إنما يعتبر في الايمان قصد القلب وكسبه لا مجرد اللفظ الذي لم يقصده او لم يقصد معناه على التفسيرين في اللغو فكيف اذا كان قاصدا لضد ما يتحيل عليه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق