وأما عدة الطلاق فلا يمكن تعليلها بذلك لأنها إنما تجب بعد المسيس بالاتفاق ولا ببراءة الرحم لأنه يحصل بحيضة كالاستبراء وإن كان براءة الرحم بعض مقاصدها ولا يقال هي تعبد لما تقدم وإنما يتبين حكمها إذا عرف ما فيها من الحقوق ففيها حق الله وهو امتثال أمره وطلب مرضاته وحق للزوج المطلق وهو اتساع زمن الرجعة له وحق للزوجة وهو استحقاقها للنفقة والسكنى ما دامت في العدة وحق للولد وهو الاحتياط في ثبوت نسبه وأن لا يختلط بغيره وحق للزوج الثاني وهو أن لا يسقي ماءه زرع غيره ورتب الشارع على كل واحد من هذه الحقوق ما يناسبه من الأحكام فرتب على رعاية حقه هو لزوم المنزل وأنما لا تخرج ولا تخرج هذا موجب القرآن ومنصوص إمام أهل الحديث وإمام أهل الرأي ورتب على حق المطلق تمكينه من الرجعة ما دامت في العدة وعلى حقها استحقاق النفقة والسكنى وعلى حق الولد ثبوت نسبه وإلحاقه بأبيه دون غيره وعلى حق الزوج الثاني دخوله على بصيرة ورحم بريء غير مشغول بولد لغيره فكان في جعلها ثلاثة قروء رعاية لهذه الحقوق
وتكميلا لها وقد دل القرآن على أن العدة حق للزوج عليها بقوله يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فهذا دليل على أن العدة للرجل على المرأة بعد المسيس وقال تعالى وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا فجعل الزوج أحق بردها في العدة فإذا كانت العدة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر طالت مدة التربص لينظر في أمرها هل يمسكها بمعروف أو يسرحها بإحسان كما جعل الله سبحانه للمولي تربص أربعة أشهر لينظر في أمره هل يفيء أو يطلق وكما جعل مدة تسيير الكفار أربعة أشهر لينظروا في أمرهم ويختاروا لأنفسهم
فإن قيل هذه العلة باطلة فإن المختلعة والمفسوخ نكاحها بسبب من الأسباب والمطلقة ثلاثا والموطوءة بشبهة والمزني بها تعتد بثلاثة أقراء ولا رجعة هناك فقد وجد الحكم بدون علته وهذا يبطل كونها علة
عدة المختلعة
قيل شرط النقض أن يكون الحكم في صورة ثابتا بنص أو إجماع وأما كونه قولا لبعض العلماء فلا يكفي في النقض به وقد اختلف الناس في عدة المختلعة فذهب إسحاق وأحمد في أصح الروايتين عنه دليلا أنها تعتد بحيضة واحدة وهو مذهب عثمان بن عفان وعبد الله بن عباس وقد حكى إجماع الصحابة ولا يعلم لهما مخالف وقد دلت عليه سنة رسول الله ص - الصحيحة دلالة صريحة وعذر من خالفها أنها لم تبلغه أو لم تصح عنده أو ظن الإجماع على خلاف موجبها وهذا القول هو الراجح في الأثر والنظر أما رجحانه أثرا فإن النبي ص - لم يأمر المختلعة قط أن تعتد بثلاث حيض بل قد روى أهل السنن عنه من حديث الربيع بنت معوذ أن ثابت بن قيس ضرب امرأته فكسر يدها وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي فأتى أخوها يشتكي إلى رسول الله ص - فأرسل رسول الله ص - إلى ثابت فقال خذ الذي لها عليك وخل سبيلها قال نعم فأمرها رسول الله ص
أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها وذكر أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها فأمرها النبي ص - أو أمرت أن تعتد بحيضة قال الترمذي الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة وهذه الأحاديث لها طرق يصدق بعضها بعضا وأعل الحديث بعلتين إحداهما إرساله والثانية أن الصحيح فيه أمرت بحذف الفاعل والعلتان غير مؤثرتين فإنه قد روي من وجوه متصلة ولا تعارض بين أمرت وأمرها رسول الله ص - إذ من المحال أن يكون الآمر لها بذلك غير رسول الله ص - في حياته وإذا كان الحديث قد روي بلفظ محتمل ولفظ صريح يفسر المحتمل ويبينه فكيف يجعل المحتمل معارضا للمفسر بل مقدما عليه ثم يكفي في ذلك فتاوى أصحاب رسول الله ص - قال أبو جعفر النحاس في كتاب الناسخ والمنسوخ هو إجماع من الصحابة وأما اقتضاء النظر له فإن المختلعة لم تبق لزوجها عليها عدة وقد ملكت نفسها وصارت أحق ببضعها فلها أن تتزوج بعد براءة رحمها فصارت العدة في حقها بمجرد براءة الرحم وقد رأينا الشريعة جاءت في هذا النوع بحيضة واحدة كما جاءت بذلك في المسبية والمملوكة بعقد معاوضة أو تبرع والمهاجرة من دار الحرب ولا ريب أنها جاءت بثلاثة أقراء في الرجعية والمختلعة فرع متردد بين هذين الأصلين فينبغي إلحاقها بأشبههما بها فنظرنا فإذا هي بذوات الحيضة أشبه
تقسيم النساء بالنسبة إلى العدة
ومما يبين حكمة الشريعة في ذلك أن الشارع قسم النساء إلى ثلاثة أقسام أحدها المفارقة قبل الدخول فلا عدة عليها ولا رجعة لزوجها فيها الثاني المفارقة بعد الدخول إذا كان لزوجها عليها رجعة فجعل عدتها ثلاثة قروء ولم يذكر سبحانه العدة بثلاثة قروء إلا في هذا القسم كما هو مصرح به في القرآن في قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن
أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا وكذلك في سورة الطلاق لما ذكر الاعتداد بالأشهر الثلاثة في حق من إذا بلغت أجلها خير زوجها بين إمساك بمعروف أو مفارقتها بإحسان وهي الرجعية قطعا فلم يذكر الأقراء أو بدلها في حق بائن البتة القسم الثالث من بانت عن زوجها وانقطع حقه عنها بسبي أو هجرة أو خلع فجعل عدتها حيضة للاستبراء ولم يجعلها ثلاثا إذ لا رجعة للزوج وهذا في غاية الظهور والمناسبة وأما الزانية والموطوءة بشبهة فموجب الدليل أنها تستبرأ بحيضة فقط ونص عليه أحمد في الزانية واختاره شيخنا في الموطوءة بشبهة وهو الراجح وقياسهما على المطلقة الرجعية من أبعد القياس وأفسده
الحكمة في عدة المطلقة ثلاثا
فإن قيل فهب أن هذا قد سلم لكم فيما ذكرتم من الصور فإنه لا يسلم معكم في المطلقة ثلاثا فإن الإجماع منعقد على اعتدادها بثلاثة قروء مع انقطاع حق زوجها من الرجعة والقصد مجرد استبراء رحمها
قيل نعم هذا السؤال وأرد وجوابه من وجهين أحدهما أنه قد اختلف في عدتها هل هي بثلاثة قروء أو بقرء واحد فالجمهور بل الذي لا يعرف الناس سواه أنها ثلاثة قروء وعلى هذا فيكون وجهه أن الطلقة الثالثة لما كانت من جنس الأوليين أعطيت حكمهما ليكون باب الطلاق كله بابا واحدا فلا يختلف حكمه والشارع إذا علق الحكم بوصف لمصلحة عامة لم يكن تخلف تلك المصلحة والحكمة في بعض الصور مانعا من ترتب الحكم بل هذه قاعدة الشريعة وتصرفها في مصادرها ومواردها الوجه الثاني أن الشارع حرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره عقوبة له ولعن المحلل والمحلل له لمناقضتهما ما قصده الله سبحانه من عقوبته وكان من تمام هذه العقوبة أن طول مدة تحريمها عليه فكان ذلك أبلغ فيما قصده الشارع من العقوبة فإنه إذا علم أنها لا تحل له حتى تعتد بثلاثة قروء ثم يتزوجها آخر بنكاح رغبة مقصود لا تحليل موجب للعنة ويفارقها و تعتد من فراقه ثلاثة قروء أخر طال عليه الانتظار وعيل صبره
فأمسك عن الطلاق الثلاث وهذا واقع على وفق الحكمة والمصلحة والزجر فكان التربص بثلاثة قروء في الرجعية نظرا للزوج ومراعاة لمصلحته لما لم يوقع الثالثة المحرمة لها وههنا كان تربصها عقوبة له وزجرا لما اوقع الطلاق المحرم لما أحل الله له وأكدت هذه العقوبة بتحريمها عليه إلا بعد زوج وإصابة وتربص ثان
وقيل بل عدتها حيضة واحدة وهي اختيار أبي الحسين بن اللبان فإن كان مسبوقا بالإجماع فالصواب اتباع الإجماع وأن لا يلتفت إلى قوله وإن لم يكن في المسألة إجماع فقوله قوي ظاهر والله أعلم
عدة المخيرة وحكمتها
فإن قيل لقد جاءت السنة بأن المخيرة تعتد ثلاث حيض كما رواه ابن ماجه من حديث عائشة قالت أمرت بريرة أن تعتد ثلاث حيض
قيل ما أصرحه من حديث لو ثبت ولكنه حديث منكر بإسناد مشهور وكيف يكون عند أم المؤمنين هذا الحديث وهي تقول الأقراء الأطهار فإن صح الحديث وجب القول به ولم تسع مخالفته ويكون حكمه حكم المطلقة ثلاثا في اعتدادها بثلاثة قروء ولا رجعة لزوجها عليها فإن الشارع يخصص بعض الأعيان والأفعال والأزمان والأماكن ببعض الأحكام وأن لم يظهر لنا موجب التخصيص فكيف وهو ظاهر في مسألة المخيرة فإنها لو جعلت عدتها حيضة واحدة لبادرت إلى التزوج بعدها وأيس منها زوجها فإذا جعلت ثلاث حيض طال زمن انتظارها وحبسها عن الأزواج ولعلها تتذكر زوجها فيها وترغب في رجعته ويزول ما عندها من الوحشة ولو قيل إن اعتداد المختلعة بثلاث حيض لهذا المعنى بعينه لكان حسنا على وفق حكمة الشارع ولكن هذا مفقود في المسببة والمهاجرة والزانية والموطوءة بشبهة
عدة الآيسة والصغيرة وحكمتها
فإن قيل فهب أن هذا كله قد سلم لكم فكيف يسلم لكم في الآيسة والصغيرة التي لا يوطأ مثلها
قيل هذا إنما يرد على من جعل علة العدة مجرد براءة الرحم فقط ولهذا أجابوا عن هذا السؤال بأن العدة ههنا شرعت تعبدا محضا غير معقول المعنى وأما من جعل هذا بعض مقاصد العدة وأن لها مقاصد أخر من تكميل شأن هذا العقد واحترامه وإظهار خطره وشرفه فجعل لهم تحريم بعد انقطاعه بموت أو فرقة فلا فرق في ذلك بين الآيسة وغيرها ولا بين الصغيرة والكبيرة مع أن المعنى الذي طولت له العدة في الحائض في الرجعية والمطلقة ثلاثا موجود في حق الآيسة والصغيرة وكان مقتضى الحكمة التي تضمنت النظر في مصلحة الزوج في الطلاق الرجعي وعقوبته وزجره في الطلاق المحرم التسوية بين النساء في ذلك وهذا ظاهر جدا وبالله التوفيق
فصل الحكمة في تحريم المرأة بعد الطلاق الثالث
وأما تحريم المرأة على الزوج بعد الطلاق الثلاث وإباحتها له بعد نكاحها للثاني فلا يعرف حكمته ألا من له معرفة بأسرار الشريعة وما اشتملت عليه من الحكم والمصالح الكلية فنقول وبالله التوفيق
لما كان إباحة فرج المرأة للرجل بعد تحريمه عليه ومنعه منه من أعظم نعم الله عليه وإحسانه إليه كان جديرا بشكر هذه النعمة ومراعاتها والقيام بحقوقها وعدم تعريضها للزوال وتنوعت الشرائع في ذلك بحسب المصالح التي علمها الله في كل زمان ولكل أمة فجاءت شريعة التوراة بإباحتها له بعد الطلاق ما لم تتزوج فإذا تزوجت حرمت عليه ولم يبق له سبيل إليها وفي ذلك من الحكمة والمصلحة ما لا يخفى فإن الزوج إذا علم أنه إذا طلق المرأة وصار أمرها بيدها وأن لها أن تنكح غيره وأنها إذا نكحت غيره حرمت عليه أبدا كان تمسكه بها أشد وحذره من مفارقتها أعظم وشريعة التوراة جاءت بحسب الأمة الموسوية فيها من الشدة والإصر ما يناسب حالها ثم جاءت شريعة الإنجيل
بالمنع من الطلاق بعد التزوج البتة فإذا تزوج بامرأة فليس له أن يطلقها ثم جاءت الشريعة الكاملة الفاضلة المحمدية التي هي أكمل شريعة نزلت من السماء على الإطلاق وأجلها وأفضلها وأعلاما وأقومها بمصالح العباد في المعاش والمعاد بأحسن من ذلك كله وأكمله وأوفقه للعقل والمصلحة فإن الله سبحانه أكمل لهذه الأمة دينها وأتم عليها نعمته وأباح لها من الطيبات ما لم يبحه لأمة غيرها فأباح للرجل أن ينكح من أطايب النساء أربعا وأن يتسرى من الإماء بما شاء وليس التسرى في شريعة أخرى غيرها ثم أكمل لعبده شرعه وأتم عليه نعمته بأن ملكه أن يفارق امرأته ويأخذ غيرها إذ لعل الأولى لا تصلح له ولا توافقه فلم يجعلها غلا في عنقه قيدا في رجله وإصرا على ظهره وشرع له فراقها على أكمل الوجوه لها وله بأن يفارقها واحدة ثم تتربص ثلاثة قروء والغالب أنها في ثلاثة أشهر فأن تاقت نفسه إليها وكان له فيها رغبة وصرف مقلب القلوب قلبه إلى محبتها وجد السبيل إلى ردها ممكنا والباب مفتوحا فراجع حبيبته واستقبل أمره وعاد إلى يده ما أخرجته يد الغضب ونزعات الشيطان منها ثم لا يؤمن غلبات الطباع نزاعات الشيطان من المعاودة فمكن من ذلك أيضا مرة ثانية ولعلها أن تذوق من مرارة الطلاق وخراب البيت ما يمنعها من معاودة ما يغضبه ويذوق هو من ألم فراقها ما يمنعه من التسرع إلى الطلاق فإذا جاءت الثالثة جاء مالا مرد له من أمر الله وقيل له قد اندفعت حاجتك بالمرة الأولى والثانية ولم يبق لك عليها بعد الثالثة سبيل فإذا علم أن الثالثة فراق بينه وبينها وأنها القاضية أمسك عن إيقاعها فإنه إذا علم أنها بعد الثالثة لا تحل له إلا بعد تربص ثلاثة قروء وتزوج بزوج راغب في نكاحها وإمساكها وأن الأول لا سبيل له إليها حتى يدخل بها الثاني دخولا كاملا يذوق فيه كل واحد منهما عسيلة صاحبه بحيث يمنعهما ذلك من تعجيل الفراق ثم يفارقها بموت أو طلاق أو خلع ثم تعتد من ذلك
عدة كاملة تبين له حينئذ يأسه بهذا الطلاق الذي هو من أبغض الحلال إلى الله وعلم كل واحد منهما أنه لا سبيل له إلى العود بعد الثالثة لا باختياره ولا باختيارها وأكد هذا المقصود بأن لعن الزوج الثاني إذا لم ينكح نكاح رغبة يقصد فيه الإمساك بل نكح نكاح تحليل ولعن الزوج الأول إذا ردها بهذا النكاح بل ينكحها الثاني كما نكحها الأول ويطلقها كما طلقها الأول وحينئذ فتباح للأول كما تباح لغيره من الأزواج
وأنت إذا وازنت بين هذا وبين الشريعتين المنسوختين ووازنت بينه وبين الشريعة المبدلة المبيحة ما لعن الله ورسوله فاعله تبين لك عظمة هذه الشريعة وجلالتها وهيمنتها على سائر الشرائع وأنها جاءت على أكمل الوجوه وأتمها وأحسنها وأنفعها للخلق وأن الشريعتين المنسوختين خير من الشريعة المبدلة فإن الله سبحانه شرعهما في وقت ولم يشرع المبدلة أصلا
وهذه الدقائق ونحوها مما يختص الله سبحانه بفهمه من يشاء فمن وصل إليها فليحمد الله ومن لم يصل إليها فليسلم لأحكم الحاكمين وأعلم العالمين وليعلم أن شريعته فوق عقول العقلاء ووفق فطر الألباء ... وقل للعيون الرمد لا تتقدمي ... إلى الشمس واستغشي ظلام اللياليا ... وسامح ولا تنكر عليها وخلها ... وإن أنكرت حقا فقل خل ذا ليا ...
غيره ... عاب التفقه قوم لا عقول لهم ... وما عليه إذا عابوه من ضرر ... ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة ... أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر ...
فصل غسل أعضاء الوضوء دون الموضع الذي خرجت منه الريح يوافق القياس
وأما إيجابه لغسل المواضع التي لم تخرج منها الريح وإسقاطه غسل الموضع الذي خرجت منه فما أوفقه للحكمة وما أشده مطابقة للفطرة فإن حاصل
السؤال لم كان الوضوء في هذه الأعضاء الظاهرة دون باطن المقعدة مع أن باطن المقعدة أولى بالوضوء من الوجه واليدين والرجلين
وهذا سؤال معكوس من قلب منكوس فإن من محاسن الشريعة أن كان الوضوء في الأعضاء الظاهرة المكشوفة وكان أحقها به إمامها ومقدمها في الذكر والفعل وهو الوجه الذي نظافته ووضاءته عنوان على نظافة القلب وبعده اليدان وهما آلة البطش والتناول والأخذ فهما أحق الأعضاء بالنظافة والنزاهة بعد الوجه ولما كان الرأس مجمع الحواس وأعلى البدن وأشرفه كان أحق بالنظافة لكن لو شرع غسله في الوضوء لعظمت المشقة واشتدت البلية فشرع مسح جميعه وأقامه مقام غسله تخفيفا ورحمة كما أقام المسح على الخفين مقام غسل الرجلين
ولعل قائلا يقول وما يجزىء مسح الرأس والرجلين من الغسل والنظافة ولم يعلم هذا القائل أن إمساس العضو بالماء إمتثالا لأمر الله وطاعة له وتعبدا يؤثر في نظافته وطهارته مالا يؤثر غسله بالماء والسدر بدون هذه النية والتحاكم في هذا إلى الذوق السليم والطبع المستقيم كما أن معك الوجه بالتراب امتثالا للأمر وطاعة وعبودية تكسبه وضاءة ونظافة وبهجة تبدو على صفحاته للناظرين ولما كانت الرجلان تمس الأرض غالبا وتباشر من الأدناس ما لا تباشره بقية الأعضاء كانت أحق بالغسل ولم يوفق للفهم عن الله ورسوله من اجتزأ بمسحهما من غير حائل
فهذا وجه اختصاص هذه الأعضاء بالوضوء من بين سائرها من حيث المحسوس وأما من حيث المعنى فهذه الأعضاء هي آلات الأفعال التي يباشر بها العبد ما يريد فعله وبها يعصي الله سبحانه ويطاع فاليد تبطش والرجل تمشي والعين تنظر والأذن تسمع واللسان يتكلم فكان في غسل هذه
الأعضاء امتثالا لأمر الله وإقامة لعبوديته ما يقتضي إزالة ما لحقها من درن المعصية ووسخها
وقد أشار صاحب الشرع ص - إلى هذا المعنى بعينه حيث قال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن عبسة قال قلت يا رسول الله حدثني عن الوضوء قال ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينثر إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء ثم يمسح برأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء فإن هو قام فصلي فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو أهله أو هو له أهل وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة أن النبي ص - قال إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئه نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئه كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئه مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب وفي مسند الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال سمعت النبي ص - يقول رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إلى الطهور وعليه عقد فيتوضأ فإذا وضأ يديه انحلت عقدة وإذا وضأ وجهه انحلت عقدة وإذا مسح رأسه انحلت عقدة وإذا وضأ رجليه انحلت عقدة فيقول الرب تعالى للذي وراء الحجاب انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه ما سألني عبدي هذا فهو له وفيه أيضا عن أبي أمامة يرفعه إيما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه نزلت خطيئته من كفيه مع أول قطرة فإذا تمضمض واستنشق واستنثر نزلت خطيئته من لسانه وشفتيه مع أول قطرة فإذا غسل وجهه نزلت
خطيئته من سمعه وبصره مع أول قطرة فإذا غسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سلم من كل ذنب هو له ومن كل خطيئة كهيئته يوم ولدته أمه فإذا قام إلى الصلاة رفع الله بها درجته وإن قعد قعد سالما وفيه أن مقصود المضمضة كمقصود غسل الوجه واليدين سواء وأن حاجة اللسان والشفتين إلى الغسل كحاجة بقية الأعضاء فمن أنكس قلبا وأفسد فطرة وأبطل قياسا ممن يقول إن غسل باطن المقعدة أولى من غسل هذه الأعضاء وإن الشارع فرق بين التماثلين هذا إلى ما في غسل هذه الأعضاء المقارن لنية التعبد لله من انشراح القلب وقوته واتساع الصدر وفرح النفس ونشاط الأعضاء فتميزت من سائر الأعضاء بما أوجب غسلها دون غيرها وبالله التوفيق
فصل قياس توبة التائب على توبة المحارب
وأما اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه دون غيره فيقال أين في نصوص الشارع هذا التفريق بل نصه على اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه إما من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره بطريق الأولى فإنه إذا دفعت توبته عنه حد حرابه مع شدة ضررها وتعديه فلأن تدفع التوبة ما دون حد احراب بطريق الأولى والأحرى وقد قال الله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقال النبي ص - التائب من الذنب كمن لا ذنب له والله تعالى جعل الحدود عقوبة لأرباب الجرائم ورفع العقوبة عن التائب شرعا وقدرا فليس في شرع الله ولا قدره عقوبة تائب البتة وفي الصحيحين من حديث أنس قال كنت مع النبي ص - فجاء رجل فقال يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي قال ولم يسأله عنه فحضرت الصلاة فصلى مع النبي ص - فلما قضى النبي ص - الصلاة
قام إليه الرجل فأعاد قوله قال أليس قد صليت معنا قال نعم قال فإن الله تعالى قد غفر لك ذنبك فهذا لما جاء تائبا بنفسه من غير أن يطلب غفر الله له ولم يقم عليه الحد الذي اعترف به وهو أحد القولين في المسألة وهو إحدى الروايتين عن أحمد وهو الصواب
فإن قيل فماعز جاء تائبا والغامدية جاءت تائبة وأقام عليهما الحد
قيل لا ريب أنهما جاءا تائبين ولا ريب أن الحد أقيم عليهما وبهما احتج أصحاب القول الآخر وسألت شيخنا عن ذلك فأجاب بما مضمونه بأن الحد مطهر وأن التوبة مطهره وهما اختارا التطهير بالحد على التطهير بمجرد التوبة وأبيا إلا أن يطهرا بالحد فأجابهما النبي ص - إلى ذلك وأرشد إلى اختيار التطهير بالتوبة على التطهير بالحد فقال في حق ما عز هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ولو تعين الحد بعد التوبة لما جاز تركه بل الإمام مخير بين أن يتركه كما قال لصاحب الحد الذي اعترف به اذهب فقد غفر الله لك وبين أن يقيمه كما أقامه على ماعز والغامدية لما اختارا إقامته وأبيا إلا التطهير به ولذلك رددهما النبي ص - مرارا وهما يأبيان إلا إقامته عليهما وهذا المسلك وسط بين مسلك من يقول لا تجوز إقامته بعد التوبة البتة وبين مسلك من يقول لا أثر للتوبة في إسقاطه البتة وإذا تأملت السنة رأيتها لا تدل إلا على هذا القول الوسط والله أعلم
فصل قبول رواية العبد وشهادته
وأما قوله وقبل شهادة العبد ص - بأنه قال كذا وكذا ولم يقبل شهادته على واحد من الناس بأنه قال كذا وكذا فمضمون السؤال أن رواية العبد مقبولة دون شهادته
والجواب أنه لا يلزم الشارع قول فقيه معين ولا مذهب معين وهذا المقام
لا ينتصر فيه إلا الله ورسوله فقط وهذا السؤال كذب على الشارع فإنه لم يأت عنه حرف واحد أنه قال لا تقبلوا شهادة العبد بل ردوها ولو كان عالما مفتيا فقيها من أولياء الله ومن أصدق الناس لهجة بل الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والميزان العادل قبول شهادة العبد فيما تقبل فيه شهادة الحر فإنه من رجال المؤمنين فيدخل في قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم كما دخل في قوله تعالى ما كان محمد أبا أحد من رجالكم وهو عدل بالنص والإجماع فيدخل في قوله تعالى وأشهدوا ذوي عدل منكم كما دخل في قوله ص - يحمل هذا العلم من كل حلف عدوله ويدخل في قوله وأقيموا الشهادة لله وفي قوله ولا تكتموا الشهادة وفي قوله يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله الآية كما دخل في جميع ما فها من الأوامر ويدخل في قوله ص - فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا وقال أنس بن مالك ما علمت أحدا رد شهادة العبد رواه الإمام أحمد عنه وهذا أصح من غالب الإجماعات التي يدعيها المتأخرون فالشهادة على الشارع بأنه أبطل شهادة العبد وردها شهادة بلا علم ولم يأمر الله برد شهادة صادق أبدا وإنما أمر بالتثبت في شهادة الفاسق
فصل صدقة السائمة وإسقاطها عن العوامل
وأما إيجاب الشارع الصدقة في السائمة وإسقاطها عن العوامل فقد اختلف في هذه المسألة للاختلاف في الحديث الوارد فيها وفي الباب حديثان أحدهما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يرفعه ليس في الإبل العوامل صدقة رواه الدارقطني من حديث غالب بن عبيد الله عن عمرو والثاني حديث علي بن أبي طالب مرفوعا ليس في البقر العوامل شيء رواه أبو داود ثنا النفيلي ثنا زهير ثنا أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة وعن الحارث عن علي
قال زهير أحسبه عن النبي ص - ليس على العوامل شيء قال أبو داود وروى حديث النفيلي شعبه وسفيان وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن على لم يرفعوه ورواه نعيم بن حماد ثنا أبو بكر ابن عياش عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن على موقوفا ليس في الإبل العوامل ولا في البقر العوامل صدقة ورواه الدارقطنى من حديث صقر بن حبيب سمعت أبا رجاء عن ابن عباس عن على موقوفا قال ابن حبان ليس هو من كلام رسول الله ص - وإنما يعرف بإسناد منقطع نقله الصقر عن أبي رجاء وهو يأتي بالمقلوبات وروى من حديث جابر وابن عباس مرفوعا وموقوفا والموقوف أشبه
وبعد فللعلماء في المسألة قولان فقال مالك في الموطأ النواضج والبقر السواني وبقر الحرث إني أرى أن يؤخذ من ذلك كله الزكاة إذا وجبت فيه الصدقة قال ابن عبد البر وهذا قول الليث بن سعد ولا أعلم أحدا قال به من فقهاء لأمصار وغيرهما
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه والأوزاعي وأبو ثور وأحمد وأبو عبيد وإسحاق وداود لا زكاة في البقر العوامل ولا الإبل العوامل وإنما الزكاة في السائمة منها وروى قولهم ذلك عن طائفة من الصحابة منهم علي وجابر ومعاذ بن جبل
وكتب عمر بن عبد العزيز أنه ليس في البقر العوامل صدقة وحجة هؤلاء مع الأثر النظر فإن ما كان من المال معدا لنفع صاحبه به كثياب بذلته وعبيد خدمته وداره التي يسكنها ودابته التي يركبها وكتبه التي ينتفع بها وينفع بها وينفع غيره فليس فيها زكاة ولهذا لم يكن في حلى المرأة التي تلبسه وتعيره زكاة فطرد هذا أنه لا زكاة في بقر حرثه وإبله التي يعمل فيها بالدولاب وغيره فهذا
محض القياس كما أنه موجب النصوص والفرق بينها وبين السائمة ظاهر فإن هذه مصروفة عن جهة النماء إلى العمل فهي كالثياب والعبيد والدار والله تعالى أعلم
فصل تحصين الحرة للرجل دون الأمة يوافق القياس وأما قوله وجعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن الرجل والأمة البارعة الجمال لا تحصنه فتعبير سيء عن معنى صحيح فإن حكمة الشارع اقتضت وجوب حد الزنا على من كملت عليه نعمة الله بالحلال فيتخطاه إلى الحرام ولهذا لم يوجب كمال الحد على من لم يحصن واعتبر للإحصان أكمل أحواله وهو أن يتزوج بالحرة التي يرغب الناس في مثلها دون الأمة التي لم يبح الله نكاحها إلا عند الضرورة فالنعمة بها ليست كاملة ودون التسري الذي هو في الرتبة دون النكاح فإن الأمة ولو كانت ما عسى أن تكون لا تبلغ رتبة الزوجة لا شرعا ولا عرفا ولا عادة بل قد جعل الله لكل منهما رتبة والأمة لا تراد لما تراد له الزوجة ولهذا كان له أن يملك من لا يجوز له نكاحها ولا قسم عليه في ملك يمينه فأمته تجري في الابتذال والامتهان والاستخدام مجرى دابته وغلامه بخلاف الحرائر وكان من محاسن الشريعة أن اعتبرت في كمال النعمة على من يجب عليه الحد أن يكون قد عقد على حرة ودخل بها إذ بذلك يقضي كمال وطره ويعطي شهوته حقها ويضعها مواضعها هذا هو الأصل ومنشأ الحكمة ولا يعتبر ذلك في كل فرد فرد من أفراد المحصنين ولا يضر تخلفه في كثير من المواضع إذ شأن الشرائع الكلية أن تراعي الأمور العامة المنضبطة ولا ينقضها تخلف الحكمة في أفراد الصور كما هذا شأن الخلق فهو موجب حكمة الله في خلقه وأمره في قضائه وشرعه وبالله التوفيق
فصل نقض الوضوء بمس ذكره دون غيره يوافق القياس
وأما قوله نقض الوضوء بمس الذكر دون سائر الأعضاء ودون مس العذرة والبول فلا ريب أنه قد صح عن النبي ص - الأمر بالوضوء من مس الذكر وروى عنه خلافه وأنه سئل عنه فقال للسائل هل هو إلا بضعة منك وقد قيل إن هذا الخبر لم يصح وقيل بل هو منسوخ وقيل بل هو محكم دال على عدم الوجوب وحديث الأمر دال على الاستحباب فهذه ثلاثة مسالك للناس في ذلك
وسؤال السائل ينبني على صحة حديث الأمر بالوضوء وأنه للوجوب ونحن نجيبه على هذا التقدير فنقول
هذا من كمال الشريعة وتمام محاسنها فإن مس الذكر مذكر بالوطء وهو في مظنة الانتشار غالبا والانتشار الصادر عن المس في مظنة خروج المذى ولا يشعر به فأقيمت هذه المظنة مقام الحقيقة لخفائها وكثرة وجودها كما أقيم النوم مقام الحدث وكما أقيم لمس المرأة بشهوة مقام الحدث وأيضا فإن مس الذكر يوجب انتشار حرارة الشهوة وثورانها في البدن والوضوء يطفىء تلك الحرارة وهذا مشاهد بالحس ولم يكن الوضوء من مسه لكونه نجسا ولا لكونه مجرى النجاسة حتى يورد السائل مس العذرة والبول ودعواه بمساواة مس الذكر للأنف من أكذب الدعاوي وأبطل القياس وبالله التوفيق
فصل إيجاب الحد بشرب قطرة من الخمر دون غيرها يوافق القياس
وأما قوله أوجب الحد في القطرة الواحدة من الخمر دون الأرطال الكثيرة من البول فهذا أيضا من كمال الشريعة ومطابقتها للعقول والفطر وقيامها
بالمصالح فإن ما جعل الله سبحانه في طباع الخلق النفرة عنه ومجانبته اكتفى بذلك عن الوازع عنه بالحد لأن الوازع الطبيعي كاف في المنع منه وأما ما يشتد تقاضي الطباع له فإنه غلظ العقوبة عليه بحسب شدة تقاضي الطبع له وسد الذريعة إليه من قرب وبعد وجعل ما حوله حمى ومنع من قربانه ولهذا عاقب في الزنا بأشنع القتلات وفي السرقة بإبانة اليد وفي الخمر بتوسيع الجلد ضربا بالسوط ومنع قليل الخمر وإن كان لا يسكر إذ قليله داع إلى كثيره ولهذا كان من أباح من نبيذ التمر المسكر القدر الذي لا يسكر خارجا عن محض القياس والحكمة وموجب النصوص وأيضا فالمفسدة التي في شرب الخمر والضرر المختص والمتعدى أضعاف الضرر والمفسدة التي في شرب البول وأكل القاذورات فإن ضررها مختص بمتناولها
فصل قصر عدد الزوجات على أربع دون ملك اليمين يوافق القياس
وأما قوله وقصر عدد المنكوحات على أربع وأباح ملك اليمين بغير حصر فهذا من تمام نعمته وكمال شريعته وموافقتها للحكمة والرحمة والمصلحة فإن النكاح يراد لوطء وقضاء الوطر ثم من الناس من يغلب عليه سلطان هذه الشهوة فلا تندفع حاجته بواحدة فأطلق له ثانية وثالثة ورابعة وكان هذا العدد موافقا لعدد طباعه وأركانه وعدد فصول سنته ولرجوعه إلى الواحدة بعد صبر ثلاث عنها والثلاث أول مراتب الجمع وقد علق الشارع بها عدة أحكام ورخص للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثا وأباح للمسافر أن يمسح على خفيه ثلاثا وجعل حد الضيافة المستحبة أو الموجبة ثلاثا وأباح للمرأة أن تحد على غير زوجها ثلاثا فرحم الضرة بأن جعل غاية انقطاع زوجها عنها ثلاثا ثم يعود فهذا محض الرحمة والحكمة والمصلحة وأما الإماء فلما كن بمنزلة سائر الأموال من الخيل والعبيد وغيرها لم يكن لقصر المالك على
أربعة منهن أو غيرها من العدد معنى فكما ليس في حكمة الله ورحمته أن يقصر السيد على أربعة عبيد أو أربع دواب وثياب ونحوها فليس في حكمته أن يقصره على أربع إماء وأيضا فللزوجة حق على الزوج اقتضاه عقد النكاح يجب على الزوج القيام به فإن شاركها غيرها وجب عليه العدل بينهما فقصر الأزواج على عدد يكون العدل فيه أقرب مما زاد عليه ومع هذا فلا يستطيعون العدل لو حرصوا عليه ولا حق لإمائه عليه في ذلك ولهذا لا يجب لهن قسم ولهذا قال تعالى فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم والله أعلم
فصل إباحة التعدد للرجل دون المرأة توافق القياس
وأما قوله وأنه أباح للرجل أن يتزوج بأربع زوجات ولم يبح للمرأة أن تتزوج بأكثر من زوج واحد فذلك من كمال حكمة الرب تعالى وإحسانه ورحمته بخلقه ورعايه مصالحهم ويتعالى سبحانه عن خلاف ذلك وينزه شرعه أن يأتي بغير هذا ولو أبيح للمرأة أن تكون عند زوجين فأكثر لفسد العالم وضاعت الأنساب وقتل الأزواج بعضهم بعضا وعظمت البلية واشتدت الفتنة وقامت سوق الحرب على ساق وكيف يستقيم حال امرأة فيها شركاء متشاكسون وكيف يستقيم حال الشركاء فيها فمجيء الشريعة بما جاءت به من خلاف هذا من أعظم الأدلة على حكمة الشارع ورحمته وعنايته بخلقه
فإن قيل فكيف روعي جانب الرجل وأطلق له أن يسيم طرفه ويقضي وطره وينتقل من واحدة إلى واحدة بحسب شهوته وحاجته وداعي المرأة داعيه وشهوتها شهوته
قيل لما كانت المرأة من عادتها أن تكون مخبأة من وراء الخدور
ومحجوبة في كن بيتها وكان مزاجها أبرد من مزاج الرجل وحركتها الظاهرة والباطنة أقل من حركته وكان الرجل قد أعطي من القوة والحرارة التي هي سلطان الشهوة أكثر مما أعطيته المرأة وبلي بما لم تبل به أطلق له من عدد المنكوحات ما لم يطلق للمرأة وهذا مما خص الله به الرجال وفضلهم به على النساء كما فضلهم عليهن بالرسالة والنبوة والخلافة والملك والإمارة وولاية الحكم والجهاد وغير ذلك وجعل الرجال قوامين على النساء ساعين في مصالحهن يدأبون في أسباب معيشتهن ويركبون الأخطار ويجوبون القفار ويعرضون أنفسهم لكل بلية ومحنة في مصالح الزوجات والرب تعالى شكور حليم فشكر لهم ذلك وجبرهم بأن مكنهم مما لم يمكن منه الزوجات وأنت إذا قايست بين تعب الرجال وشقائهم وكدهم ونصبهم في مصالح النساء وبين ما ابتلي به النساء من الغيرة وجدت حظ الرجال أن تحمل ذلك التعب والنصب والدأب أكثر من حظ النساء من تحمل الغيرة فهذا من كمال عدل الله وحكمته ورحمته فله الحمد كما هو أهله
وأما قول القائل إن شهوة المرأة تزيد على شهوة الرجل فليس كما قال والشهوة منبعها الحرارة وأين حرارة الأنثى من حرارة الذكر ولكن المرأة لفراغها وبطالتها وعدم معاناتها لما يشغلها عن أمر شهوتها وقضاء وطرها يغمرها سلطان الشهوة ويستولي عليها ولا يجد عندها ما يعارضه بل يصادف قلبا فارغا ونفسا خالية فيتمكن منها كل التمكن فيظن الظان أن شهوتها أضعاف شهوة الرجل وليس كذلك ومما يدل على هذا أن الرجل إذا جامع امرأته أمكنه أن يجامع غيرها في الحال وكان النبي ص - يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وطاف سليمان على تسعين امرأة في ليلة ومعلوم أن له عند كل امرأة شهوة وحرارة باعثة على الوطء والمرأة إذا قضى الرجل وطره فترت شهوتها وانكسرت نفسها ولم تطلب قضاءها من غيره في ذلك الحين فتطابقت حكمة القدر والشرع والخلق والأمر ولله الحمد
فصل جوز استمتاع السيد بأمته دون السيدة بعبدها يوافق القياس
وأما قوله أباح للرجل أن يستمتع من أمته بملك اليمين بالوطء وغيره ولم يبح للمرأة أن تستمتع من عبدها لا بوطء ولا غيره فهذا أيضا من كمال هذه الشريعة وحكمتها فإن السيد قاهر لمملوكه حاكم عليه مالك له والزوج قاهر لزوجته حاكم عليها وهي تحت سلطانه وحكمه شبه الأسير ولهذا منع العبد من نكاح سيدته للتنافي بين كونه مملوكها وبعلها وبين كونها سيدته وموطوءته وهذا أمر مشهور بالفطرة والعقول قبحه وشريعة أحكم الحاكمين منزهة عن أن تأتي به
فصل الفرق بين الطلقات في تحريم الزوجة يوافق القياس
وأما قوله وفرق بين الطلقات فجعل بعضها محرما للزوجة وبعضها غير محرم فقد تقدم من بيان حكمة ذلك ومصلحته ما فيه كفاية
فصل الوضوء من أكل لحوم الإبل دون غيره يوافق القياس
وأما قوله وفرق بين لحم الإبل وغيره من اللحوم في الوضوء فقد تقدم في الفصل الذي قبل هذا جواب هذا السؤال وأنه على وفق الحكمة ورعاية المصلحة
فصل الفرق بين الكلب الأسود وغيره في قطع الصلاة يوافق القياس
وأما قوله وفرق بين الكلب الأسود وغيره في قطع الصلاة فهذا سؤال أورده عبد الله بن الصامت على أبي ذر وأورده أبو ذر على النبي ص
وأجاب عنه بالفرق البين فقال الكلب الأسود شيطان وهذا إن أريد به أن الشيطان يظهر في صورة الكلب الأسود كثيرا كما هو الواقع فظاهر وليس بمستنكر أن يكون مرور عدو الله بين يدي المصلى قاطعا لصلاته ويكون مرورة قد جعل تلك الصلاة بغيضة إلى الله مكروهة له فيأمر المصلي بأن يستأنفها وإن كان المراد به أن الكلب الأسود شيطان الكلاب فإن كل جنس من أجناس الحيوانات فيها شياطين وهي ما عتا منها وتمرد كما أن شياطين الإنس عتاتهم ومتمردوهم والإبل شياطين الأنعام وعلى ذروة كل بعير شيطان فيكون مرور هذا النوع من الكلاب وهو من أخبثها وشرها مبغضا لتلك الصلاة إلى الله تعالى فيجب على المصلي أن يستأنفها وكيف يستبعد أن يقطع مرور العدو بين الإنسان وبين وليه حكم مناجاته له كما قطعها كلمة من كلام الآدميين أو قهقهة أو ريح أو ألقى عليه الغير نجاسة أو نومه الشيطان فيها
وفي الحديث الصحيح عن النبي ص - أنه قال إن شيطانا تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي
وبالجملة فللشارع في أحكام العبادات أسرار لا تهتدي العقول إلى إدراكها على وجه التفصيل وإن أدركتها جملة
فصل الفرق بين الريح والجشوة يوافق القياس
وأما قوله وفرق بين الريح الخارجة من الدبر وبين الجشوة فأوجب الوضوء من هذه دون هذه فهذا أيضا من محاسن هذه الشريعة وكمالها كما فرق بين البلغم الخارج من الفم وبين العذرة في ذلك ومن سوى بين الريح والجشاء فهو كمن سوى بين البلغم والعذرة والجشاء من جنس العطاس الذي هو ريح تحتبس في الدماغ ثم تطلب لها منفذا فتخرج من الخياشيم فيحدث
العطاس وكذلك الجشاء ريح تحتبس فوق المعدة فتطلب الصعود بخلاف الريح التي تحتبس تحت المعدة ومن سوى بين الجشوة والضرطة في الوصف والحكم فهو فاسد العقل والحس
فصل الفرق بين الخيل والإبل في وجوب الزكاة يوافق القياس
وأما قوله أوجب الزكاة في خمس من الإبل وأسقطها عن آلاف من الخيل فلعمر الله أنه أوجب الزكاة في هذا الجنس دون هذا كما في سنن أبي داود من حديث عاصم بن ضمرة عن علي كرم الله وجهه قال قال رسول الله ص - قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهم وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيهما خمسة دراهم ورواه سفيان عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي وقال بقية حدثني أبو معاذ الأنصاري عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة يرفعه عفوت لكم عن صدقة الجبهة والكسعة والنخة قال بقية الجبهة الخيل والكسعة البغال والحمير والنخة المربيات في البيوت وفي كتاب عمرو بن حزم لا صدقة في الجبهة والكسعة والكسعة الحمير والجبهة الخيل
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي ص - ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة
والفرق بين الخيل والإبل أن الخيل تراد لغير ما تراد له الإبل فإن الإبل تراد للدر والنسل والأكل وحمل الأثقال والمتاجر والانتقال عليها من بلد إلى بلد وأما الخيل فإنما خلقت للكر والفر والطلب والهرب وإقامة الدين وجهاد أعدائه وللشارع قصد أكيد في اقتنائها وحفظها والقيام عليها وترغيب النفوس في ذلك بكل طريق ولذلك عفا عن أخذ الصدقة منها ليكون
ذلك أرغب للنفوس فيما يحبه الله ورسوله من اقتنائها ورباطها وقد قال الله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل فرباط الخيل من جنس آلات السلاح والحرب فلو كان عند الرجل منها ما عساه أن يكون ولم يكن للتجارة لم يكن عليه فيه زكاة بخلاف ما أعد للنفقة فإن الرجل إذا ملك منه نصابا ففيه الزكاة وقد أشار النبي ص - إلى هذا بعينه في قوله قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة أفلا تراه كيف فرق بين ما أعد للإنفاق وبين ما أعد لإعلاء كلمة الله ونصر دينه وجهاد أعدائه فهو من جنس السيوف والرماح والسهام وإسقاط الزكاة في هذا الجنس من محاسن الشريعة وكمالها
فصل الفرق بين مقادير الزكاة في الأنواع المختلفة يوافق القياس
وأما قوله أوجب في الذهب والفضة والتجارة ربع العشر وفي الزروع والثمار نصف العشر أو العشر وفي المعدن الخمس فهذا أيضا من كمال الشريعة ومراعاتها للمصالح فإن الشارع أوجب الزكاة مواساة للفقراء وطهرة للمال وعبودية للرب وتقربا إليه بإخراج محبوب العبد له وإيثار مرضاته ثم فرضها على أكمل الوجوه وأنفعها للمساكين وأرفقها بأرباب الأموال ولم يفرضها في كل مال بل فرضها في الأموال التي تحتمل المواساة ويكثر فيها الربح والدر والنسل ولم يفرضها فيما يحتاج العبد إليه من ماله ولا غنى له عنه كعبيده وإمائه ومركوبه وداره وثيابه وسلاحه بل فرضها في أربعة أجناس من المال المواشي والزروع والثمار والذهب والفضة وعروض التجارة فإن هذه أكثر أموال الناس الدائرة بينهم وعامة تصرفهم فيها وهي التي تحتمل المواساة دون ما أسقط الزكاة فيه ثم قسم كل جنس من هذه الأجناس
بحسب حاله وإعداده للنماء إلى ما فيه الزكاة إلى مالا زكاة فيه فقسم المواشي إلى قسمين سائمة ترعى بغير كلفة ولا مشقة ولا خسارة فالنعمة فيها كاملة والمنة بها وافرة والكلفة فيها يسيرة والنماء فيها كثير فخص هذا النوع بالزكاة وإلى معلوفة بالثمن أو عاملة في مصالح أربابها في دواليبهم وحروثهم وحمل أمتعتهم فلم يجعل في ذلك زكاة لكلفة المعلوفة وحاجة المالكين إلى العوامل فهي كثيابهم وعبيدهم وإمائهم وأمتعتهم
ثم قسم الزروع والثمار إلى قسمين قسم يجري مجرى السائمة من بهيمة الأنعام في سقيه من ماء السماء بغير كلفة ولا مشقة فأوجب فيه العشر وقسم يسقى بكلفة ومشقة ولكن كلفته دون كلفة المعلوفة بكثير إذ تلك تحتاج إلى العلف كل يوم فكان مرتبة بين مرتبه السائمة والمعلوفة فلم يوجب فيه زكاة ما شرب بنفسه ولم يسقط زكاته جملة واحدة فأوجب فيه نصف العشر
ثم قسم الذهب والفضة إلى قسمين أحدهما ما هو معد للثمنية والتجارة به والتكسب ففيه الزكاة كالنقدين والسبائك ونحوها وإلى ما هو معد للانتفاع دون الربح والتجارة كحلية المرأة وآلات السلاح التي يجوز استعمال مثلها فلا زكاة فيه
ثم قسم العروض إلى قسمين قسم أعد للتجارة ففيه الزكاة وقسم أعد للقنية والاستعمال فهو مصروف عن جهة النماء فلا زكاة فيه
ثم لما كان حصول النماء والربح بالتجارة من أشق الأشياء وأكثرها معاناة وعملا خففها بأن جعل فيها ربع العشر ولما كان الربح والنماء بالزروع والثمار التي تسقى بالكلفة أقل كلفة والعمل أيسر ولا يكون في كل السنة جعله ضعفه وهو نصف العشر ولما كان التعب والعمل فيما يشرب بنفسه أقل والمؤنة أيسر جعله ضعف ذلك وهو العشر واكتفى فيه بزكاة عامة خاصة فلو أقام عنده بعد ذلك عدة أحوال لغير التجارة لم يكن فيه زكاة لأنه قد انقطع نماؤه وزيادته بخلاف الماشية وبخلاف ما لو أعد للتجارة فإنه عرضة للنماء ثم لما كان الركاز
مالا مجموعا محصلا وكلفة تحصيله أقل من غيره ولم يحتج إلى أكثر من استخراجه كان الواجب فيه ضعف ذلك وهو الخمس
فانظر إلى تناسب هذه الشريعة الكاملة التي بهر العقول حسنها وكمالها وشهدت الفطر بحكمتها وأنه لم يطرق العالم شريعة أفضل منها ولو اجتمعت عقول العقلاء وفطر الألباء واقترحت شيئا يكون أحسن مقترح لم يصل اقتراحها إلى ما جاءت به
ولما لم يكن كل مال يحتمل المواساة قدر الشارع لما يحتمل المواساة نصبا مقدرة لا تجب الزكاة في أقل منها ثم لما كانت تلك النصب تنقسم إلى مالا يجحف المواساة ببعضه أوجب الزكاة منها وإلى ما يجحف المواساة ببعضه فجعل الواجب من غيره كما دون الخمس والعشرين من الإبل ثم لما كانت المواساة لا تحتمل كل يوم ولا كل شهر إذ فيه إجحاف بأرباب الأموال جعلها كل عام مرة كما جعل الصيام كذلك ولما كانت الصلاة لا يشق فعلها كل يوم وظفها كل يوم وليلة ولما كان الحج يشق تكرر وجوبه كل عام جعله وظيفة العمر
وإذا تأمل العاقل مقدار ما أوجبه الشارع في الزكاة وجده مما لا يضر المخرج فقده وينفع الفقير أخذه ورآه قد راعى فيه حال صاحب المال وجانبه حق الرعاية ونفع الآخذ به وقصد إلى كل جنس من أجناس الأموال فأوجب الزكاة في أعلاه وأشرفه فأوجب زكاة العين في الذهب والورق دون الحديد والرصاص والنحاس ونحوها وأوجب زكاة السائمة في الإبل والبقر والغنم دون الخيل والبغال والحمير ودون ما يقل اقتناؤه كالصيود على اختلاف أنواعها ودون الطير كله وأوجب زكاة الخارج من الأرض في أشرفه وهو الحبوب والثمار دون البقول والفواكه والمقاثي والمباطخ والأنوار
وغير خاف تميز ما أوجب فيه الزكاة عما لم يوجبها في جنسه ووصفه ونفعه وشدة الحاجة إليه وكثرة وجوده وأنه جار مجرى الأموال لما عداه من أجناس
الأموال بحيث لو فقد لأضر فقد بالناس وتعطل عليهم كثير من مصالحهم بخلاف ما لم يوجب فيه الزكاة فإنه جار مجرى الفضلات والتتمات التي لو فقدت لم يعظم الضرر بفقدها وكذلك راعى في المستحقين لها أمرين مهمين أحدهما حاجة الآخذ والثاني نفعه فجعل المستحقين لها نوعين نوعا يأخذ لحاجته ونوعا يأخذ لنفعه وحرمها على من عداهما
فصل قطع آلة السرقة دون غيرها يوافق القياس
وأما قوله وقطع يد السارق التي باشر بها الجناية ولم يقطع فرج الذاني وقد باشر به الجناية ولا لسان القاذف وقد باشر به القذف فجوابه أن هذا من أدل الدلائل على أن هذه الشريعة منزلة من عند أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين
ونحن نذكر فصلا نافعا في الحدود ومقاديرها وكمال ترتبها على أسبابها واقتضاء كل جناية لما رتب عليها دون غيرها وأنه ليس وراء ذلك للعقول اقتراح ورد أسئلة لم يوردها هذا السائل وننفصل عنها بحول الله وقوته أحسن انفصال والله المستعان وعليه التكلان
إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لما خلق العباد وخلق الموت والحياة وجعل ما على الأرض زينة لها ليبلو عباده ويختبرهم أيهم أحسن عملا لم يكن في حكمته بد من تهيئة أسباب الابتلاء في أنفسهم وخارجا عنها فجعل في أنفسهم العقول الصحيحة والأسماع والأبصار والإرادات والشهوات والقوى والطبائع والحب والبغض والميل والنفور والأخلاق المتضادة المقتضية لآثارها اقتضاء السبب لمسببه والتي في الخارج الأسباب التي تطلب النفوس حصولها فتنافس فيه وتكره حصوله فتدفعه عنها ثم أكد أسباب هذا الابتلاء بأن وكل بها قرناء من الأرواح الشريرة الظالمة الخبيثة وقرناء من الأرواح الخيرة العادلة الطيبة وجعل
دواعي القلب وميوله مترددة بينهما فهو إلى داعي الخير مرة وإلى داعي الشر مرة ليتم الابتلاء في دار الامتحان وتظهر حكمة الثواب والعقاب في دار الجزاء وكلاهما من الحق الذي خلق الله السماوات والأرض به ومن أجله وهما مقتضى ملك الرب وحمده فلا بد أن يظهر ملكه وحمده فيهما كما ظهر في خلق السموات والأرض وما بينهما وأوجب ذلك في حكمته ورحمته وعدله بحكم إيجابه على نفسه أن أرسل رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه ليتم ما اقتضته حكمته في خلقه وأمره وأقام سوق الجهاد لما حصل من المعاداة والمنافرة بين هذه الأخلاق والأعمال والإرادات كما حصل بين من قامت به فلم يكن بد من حصول مقتضى الطباع البشرية وما قارنها من الأسباب من التنافس والتحاسد والانقياد لدواعي الشهوة والغضب وتعدي ما حد له والتقصير عن كثير مما تعبد به وسهل ذلك عليها اغترارها بموارد المعصية مع الإعراض من مصادرها وإيثارها ما تتعجله من يسير اللذة في دنياها على ما تتأجله من عظيم اللذة في أخراها ونزولها على الحاضر المشاهد وتجافيها عن الغائب الموعود وذلك موجب ما جبلت عليه من جهلها وظلمها فاقتضت أسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وحكمته البالغة ونعمته السابغة ورحمته الشاملة وجوده الواسع أن لا يضرب عن عباده الذكر صفحا وأن لا يتركهم سدى ولا يخليهم ودواعي أنفسهم وطبائعهم بل ركب في فطرهم وعقولهم معرفة الخير والشر والنافع والضار والألم واللذة ومعرفة أسبابها ولم يكتف بمجرد ذلك حتى عرفهم به مفصلا على ألسنة رسله وقطع معاذيرهم بأن أقام على صدقهم من الأدلة والبراهين مالا يبقي معه لهم عليه حجة ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة وأن الله لسميع عليم وصرف لهم طرق الوعد والوعيد والترغيب والترهيب وضرب لهم الأمثال وأزال عنهم كل إشكال ومكنهم من القيام بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه غاية التمكين وأعانهم عليه بكل سبب وسلطهم على قهر طباعهم بما
يجرهم إلى إيثار العواقب على المبادى ورفض اليسير الفاني من اللذة إلى العظيم الباقي منها وأرشدهم إلى التفكر والتدبر وإيثار ما تقضي به عقولهم وأخلاقهم من هذين الأمرين وأكمل لهم دينهم وأتم عليهم نعمته بما أوصله إليهم على ألسنة رسله من أسباب العقوبة والمثوبة والبشارة والنذارة والرغبة والرهبة وتحقيق ذلك بالتعجيل لبعضه في دار المحنة ليكون علما وأمارة لتحقيق ما أخره عنهم في دار الجزاء والمثوبة ويكون العاجل مذكرا بالآجل والقليل المنقطع بالكثير المتصل والحاضر الفائت مؤذنا بالغائب الدائم فتبارك رب العالمين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وسبحانه وتعالى عما يظنه به من لم يقدره حق قدره ممن أنكر أسماءه وصفاته وأمره ونهيه ووعده ووعيده وظن به ظن السوء فأرداه ظنه فأصبح من الخاسرين
الحكمة في شرع الحدود
فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان الأعراض والأموال كالقتل والجراح والقذف والسرقة فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل ولا في الزنا الخصاء ولا في السرقة إعدام النفس وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان ويقتنع كل إنسان بما أتاه مالكه وخالقه فلا يطمع في استلاب غير حقه
تفاوت العقوبات بتفاوت الجنايات
ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك
ومن المعلوم أن النظرة المحرمة لا يصلح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسا ووصفا وقدرا لذهبت بهم الآراء كل مذهب وتشعبت بهم الطرق كل مشعب ولعظم الاختلاف واشتد الخطب فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك وأزال عنهم كلفته وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعا وقدرا ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النكال ثم بلغ من سعة رحمته وجوده أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة فرحمهم بهذه العقوبات أنواعا من الرحمة في الدنيا والآخرة وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أصول قتل وقطع وجلد ونفي تغريم مال وتعزير
موجب القتل
فأما القتل فجعله عقوبة أعظم الجنايات كالجناية على الأنفس فكانت عقوبته من جنسه وكالجناية على الدين بالطعن فيه والارتداد عنه وهذه الجناية أولى بالقتل وكف عدوان الجاني عليه من كل عقوبة إذ بقاؤه بين أظهر عباده مفسدة لهم ولا خير يرجى في بقائه ولا مصلحة فإذا حبس شره وأمسك لسانه وكف أذاه والتزم الذل والصغار وجريان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن في بقائه بين أظهر المسلمين ضرر عليهم والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين وجعله أيضا عقوبة الجناية على الفرج المحرمة لما فيها من المفاسد العظيمة واختلاط الأنساب والفساد العام
موجب القطع
وأما القطع فجعله عقوبة مثله عدلا وعقوبة السارق فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل فكان
أليق العقوبات به إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذ أموالهم ولما كان ضرر المحارب أشد من ضرر السارق وعدوانه أعظم ضم إلى قطع يده قطع رجله ليكف عدوانه و شر يده التي بطش بها ورجله التي سعى بها وشرع أن يكون ذلك من خلاف لئلا يفوت عليه منفعة الشق بكماله فكف ضرره وعدوانه ورحمه بأن أبقى له يدا من شق ورجلا من شق
موجب الجلد
وأما الجلد فجعله عقوبة الجناية على الأعراض وعلى العقول وعلى الأبضاع ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغا يوجب القتل ولا إبانة الطرف إلا الجناية على الأبضاع فإن مفسدتها قد انتهضت سببا لأشنع القتلات ولكن عارضها في البكر شدة الداعي وعدم المعوض فانتهض ذلك المعارض سببا لإسقاط القتل ولم يكن الجلد وحده كافيا في الزجر فغلظ بالنفي والتغريب ليذوق من ألم الغربة ومفارقة الوطن ومجانبة الأهل والخلطاء ما يزجره عن المعاودة وأما الجناية على العقول بالسكر فكانت مفسدتها لا تتعدى السكران غالبا ولهذا لم يحرم السكر في أول الإسلام كما حرمت الفواحش والظلم والعدوان في كل ملة وعلى لسان كل نبي وكانت عقوبة هذه الجناية غير مقدرة من الشارع بل ضرب فيها بالأيدي والنعال وأطراف الثياب والجريد وضرب فيها أربعين فلما استخف الناس بأمرها وتتابعوا في ارتكابها غلظها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أمرنا باتباع سنته وسنة من سنة رسول الله ص - فجعلها ثمانين بالسوط ونفي فيها وحلق الرأس وهذا كله من فقه السنة فإن النبي ص - أمر بقتل الشارب في المرة الرابعة ولم ينسخ ذلك ولم يجعله حدا لا بد منه فهو عقوبة ترجع إلى اجتهاد الإمام في المصلحة فزيادة أربعين والنفي والحلق أسهل من القتل
فصل موجب تغريم المال وأما تغريم المال وهو العقوبة المالية فشرعها في مواضع منها تحريق متاع الغال من الغنيمة ومنها حرمان سهمه ومنها إضعاف الغرم على سارق الثمار المعلقة ومنها إضعافه على كاتم الضالة الملتقطة ومنها أخذ شطر مال مانع الزكاة ومنها عزمه ص - على تحريق دور من لا يصلي في الجماعة لولا ما منعه من إنفاذه ما عزم عليه من كون الذرية والنساء فيها فتتعدى العقوبة إلى غير الجاني وذلك لا يجوز كما لا يجوز عقوبة الحامل ومنها عقوبة من أساء على الأمير في الغزو بحرمان سلب القتيل لمن قتله حيث شفع فيه هذا المسىء وأمر الأمير بإعطائه فحرم المشفوع له عقوبة للشافع الآمر
التغريم نوعان مقدر وغير مقدر
وهذا الجنس من العقوبات نوعان نوع مضبوط ونوع غير مضبوط
التغريم المقدر
فالمضبوط ما قابل المتلف إما لحق الله سبحانه كإتلاف الصيد في الإحرام أو لحق الآدمي كإتلاف ماله وقد نبه الله سبحانه على أن تضمين الصيد متضمن للعقوبة بقوله ليذوق وبال أمره ومنه مقابلة الجاني بنقيض قصده من الحرمان كعقوبة القاتل لمورثه بحرمان ميراثه وعقوبة المدبر إذا قتل سيده ببطلان تدبيره وعقوبة الموصي له ببطلان وصيته ومن هذا الباب عقوبة الزوجة الناشزة بسقوط نفقتها وكسوتها
التغريم غير المقدر
وأما النوع الثاني غير المقدر فهذا الذي يدخله اجتهاد الأئمة بحسب المصالح ولذلك لم تأت فيه الشريعة بأمر عام وقدر لا يزاد فيه ولا ينقص كالحدود ولهذا اختلف الفقهاء فيه هل حكمه منسوخ أو ثابت والصواب أنه يختلف
باختلاف المصالح ويرجع فيه إلى اجتهاد الأئمة في كل زمان ومكان بحسب المصلحة إذ لا دليل على النسخ وقد فعله الخلفاء الراشدون من بعدهم من الأئمة
موجب التعزير ومواضعه
وأما التعزير ففي كل معصية لا حد فيها ولا كفارة فإن المعاصي ثلاثة أنواع نوع فيه الحدود لا كفارة فيه ونوع فيه الكفارة ولا حد فيه ونوع لا حد فيه ولا كفارة فالأول كالسرقة والشرب والزنا والقذف والثاني كالوطء في نهار رمضان والوطء في الإحرام والثاني كوطء الأمة المشتركة بينه وبين غيره وقبلة الأجنبية والخلوة بها ودخول الحمام بغير مئزر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير ونحو ذلك فأما النوع الأول فالحد فيه مغن عن التعزير وأما النوع الثاني فهل يجب مع الكفارة فيه تعزير أم لا على قولين وهما في مذهب أحمد وأما النوع الثالث ففيه التعزير قولا واحدا لكن هل هو كالحد فلا يجوز للإمام تركه أو هو راجع إلى اجتهاد الإمام في إقامته وتركه كما يرجع إلى اجتهاده في قدره على قولين للعلماء الثاني قول الشافعي والأول قول الجمهور
وما كان من المعاصي محرم الجنس كالظلم والفواحش فإن الشارع لم يشرع له كفارة ولهذا لا كفارة في الزنا وشرب الخمر وقذف المحصنات والسرقة وطرد هذا أنه لا كفارة في قتل العمد ولا في اليمين الغموس كما يقوله أحمد وأبو حنيفة ومن وافقهما وليس ذلك تخفيفا عن مرتكبهما بل لأن الكفارة لا تعمل في هذا الجنس من المعاصي وإنما عملها فيما كان مباحا في الأصل وحرم لعارض كالوطء في الصيام والإحرام وطرد هذا وهو الصحيح وجوب الكفارة في وطء الحائض وهو موجب القياس لو لم تأت الشريعة به فكيف وقد جاءت به مرفوعة وموقوفة وعكس هذا الوطء في الدبر ولا كفارة فيه ولا يصح قياسه على الوطء في الحيض لأن هذا الجنس لم يبح قط ولا تعمل فيه الكفارة ولو وجبت فيه الكفارة لوجبت في الزنا واللواط بطريق الأولى فهذه قاعدة الشارع في الكفارات وهي في غاية المطابقة للحكمة والمصلحة
فصل إيقاع العقوبة بقيام الحجة
وكان من تمام حكمته ورحمته أنه لم يأخذ الجناة بغير حجة كما لم يعذبهم في الآخرة إلا بعد إقامة الحجة عليهم وجعل الحجة التي يأخذهم بها إما منهم وهي الإقرار أو ما يقوم مقامه من إقرار الحال وهو أبلغ وأصدق من إقرار اللسان فإن من قامت عليه شواهد الحال بالجناية كرائحة الخمر وقبئها وحبل من لا زوج لها ولا سيد ووجود المسروق في دار السارق وتحت ثيابه أولى بالعقوبة ممن قامت عليه شهادة إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب وهذا متفق عليه بين الصحابة وإن نازع فيه بعض الفقهاء وإما أن تكون الحجة من خارج عنهم وهي البينة واشترط فيها العدالة وعدم التهمة فلا أحسن في العقول والفطر من ذلك ولو طلب منها الاقتراح لم تقترح أحسن من ذلك ولا أوفق منه للمصلحة
الحكمة في عدم جعل العقوبة من جنس الذنب
فإن قيل كيف تدعون أن هذه العقوبات لاصقة يالعقول وموافقة للمصالح وأنتم تعلمون أنه لا شيء بعد الكفر بالله أفظع ولا أقبح من سفك الدماء فكيف تردعون عن سفك الدم بسفكه وهل مثال ذلك إلا إزالة نجاسة بنجاسة ثم لو كان ذلك مستحسنا لكان أولى أن يحرق ثوب من حرق ثوب غيره وأن يذبح حيوان من ذبح حيوان غيره وأن تخرب دار من خرب دار غيره وأن يجوز لمن شتم أن يشتم شاتمه وماالفرق في صريح العقل بين هذا وبين قتل من قتل غيره أو قطع من قطعه وإذا كان إراقة الدم الأول مفسدة وقطع الطرف كذلك فكيف زالت تلك المفسدة بإراقة الدم الثاني وقطع الطرف الثاني وهل هذا إلا مضاعفة للمفسدة وتكثير لها ولو كانت المفسدة الأولى تزول بهذه المفسدة الثانية لكان فيه ما فيه إذ كيف تزال مفسدة بمفسدة نظيرها من كل وجه فكيف والأولى لا سبيل إلى وزالتها وتقرير ذلك بما ذكرناه من عدم
إزالة مفسدة تحريق الثياب وذبح المواشي وخراب الدور وقطع الأشجار بمثلها ثم كيف حسن أن يعاقب السارق بقطع يده التي اكتسب بها السرقة ولم تحسن عقوبة الزاني بقطع فرجه الذي اكتسب به الزنا ولا القاذف بقطع لسانه الذي اكتسب به القذف ولا المزور على الإمام والمسلمين يقطع أنامله التي اكتسب بها التزوير ولا الناظر إلى ما لا يحل له بقلع عينه التي اكتسب بها الحرام فعلم أن الأمر في هذه العقوبات جنسا وقدرا وسببا ليس بقياس إنما هو محض المشيئة ولله التصرف في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
فالجواب وبالله التوفيق والتأييد من طريقين مجمل ومفصل
أما المجمل فهو أن من مشرع هذه العقوبات ورتبها على أسبابها جنسا وقدرا فهو عالم الغيب والشهادة وأحكم الحاكمين وأعلم العالمين ومن أحاط بكل شيء علما وعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون وأحاط علمه بوجوه المصالح دقيقها وجليلها وخفيها وظاهرها ما يمكن اطلاع البشر عليه وما لا يمكنهم وليست هذه التخصيصات والتقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة كما أن التخصيصات والتقديرات الواقعة في خلقه كذلك فهذا في خلقه وذاك في أمره ومصدرهما جميعا عن كمال علمه وحكمته ووضعه كل شى في موضعه الذي لا يليق به سواه ولا يتقاضى إلا إياه كما وضع قوة البصر والنور للباصر في العين وقوة السمع في الأذن وقوة الشم في الأنف وقوة النطق في اللسان والشفتين وقوة البطش في اليد وقوة المشي في الرجل وخص كل حيوان وغيره بما يليق به ويحسن أن يعطاه من أعضائه وهيئاته وصفاته وقدره فشمل إتقانه وإحكامه لكل ما شمله خلقه كما قال تعالى صنع الله الذي أتقن كل شيء وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان وأحكمه غاية الإحكام فلأن يكون أمره في غاية الإتقان والإحكام أولى وأحرى ومن لم يعرف ذلك مفصلا لم يسعه أن ينكره مجملا ولا يكون جهله بحكمة الله في خلقه وأمره وإتقانه كذلك وصدوره عن محض العلم والحكمة مسوغا له إنكاره
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق