فصل الحيلة على الصلح على الانكار
فالحيلة على الصلح على الانكار عند من يمنعه ان يجيء رجل اجنبي فيقول للمدعى انا اعلم ان ما في يد المدعى عليه لك وهو يعلم انك صادق في دعواك وانا وكيله فصالحني على كذا فينقلب حينئذ صلحا على الانكار ثم ينظر فإن كان فعل ذلك بإذن المدعى عليه رجع بما دفعه الى المدعى وان كان بغير إذنه لم يرجع عليه وان دفع المدعى عليه المال الى الاجنبي وقال صالح عنى بذلك جاز ايضا
فصل الحيلة على الصلح على الاقرار
والحيلة في جواز الصلح على الاقرار عند من يمنعه ان يبيعه سلعة ويحابيه فيها بالقدر الذي اتفقا على إسقاطه بالصلح
فصل الحيلة في الصلح عن الحال ببعضه مؤجلا
والحيلة في الصلح عن الحال ببعضه مؤجلا حتى يلزمه التأجيل ان يبرئه من الحال ويقر انه لا يستحق عليه إلا المؤجل والحيلة في الصلح عن المؤجل ببعضه حالا ان يتفاسخا العقد الاول ثم يجعلانه بذلك القدر الحال فإذا اشترى منه سلعة او استأجر منه دابة او خالعته على عوض مؤجل فسخا العقد ثم جعلا عوضه ذلك القدر الحال فإن لم يكن فيه الفسخ كالدية وغيرها فالحيلة في جواز ذلك ان يعاوض على الدين بسلعة او بشيء غير جنسه وذلك جائز لان غاية ما فيه بيع الدين ممن هو في ذمته فان أتلف له مثليا ! لزمه مثله دينا عليه فإن صالح عليه بأكثر من جنسه لم يجز لانه ربا وإن كان المتلف متقوما لزمه قيمته فإن صالح عليه بأكثر من قيمته فإن كان من جنسها
لم يجز ذلك وان كان من غير جنسها جاز إذ هو بيع للقيمة وهي دين بذلك العوض وهو جائز
المثال السابع والعشرون إذا وكله في شراء جارية بألف فاشتراها الوكيل وقال أذنت لي في شرائها بألفين وقد فعلت فالقول قول الوكيل ولا يلزمه الالفان ولا يملك الجارية والوكيل مقر انها للموكل فإنه لا يحل له وطؤها والالف الزائدة دين عليه ولا يمكن الوكيل بيعها ولا التصرف فيها لانه معترف انها ملك للموكل وان الالف الاخرى في ذمته والوكيل ضامن لها فالحيلة في ملك الوكيل لها ان يقول له الموكل ان كنت أذنت لك في شرائها بالفين فقد بعتكها بالالفين فيقول قد اشتريتها منك فيملكها حينئذ ويتصرف فيها وهذا قول المزنى واكثر اصحاب الشافعي ولا يضر تعليق البيع بصورة الشرط فإنه لا يملك صحته إلا على هذا الشرط فهو كما لو قال إن كانت ملكى فقد بعتكها بالفين ولا يلتفت الى نصف فقيه يقول هذا تعليق للبيع بالشرط فيبطل كما لو قال إن قدم زيد فقد بعتك كذا بكذا بل هذا نظير قوله إن كنت جائز التصرف فقد بعتك كذا وان اعطيتني ثمن هذا المبيع فقد بعتكه ونحو ذلك
المثال الثامن والعشرون إذا اودعه وديعة واشهد عليها فتلفت من غير تفريطه لم يضمن فإن ادعى عليه قبض الوديعة فأنكر فأقام البينة عليه ضمن فإن ادعى التلف بعد ذلك لم يقبل منه لانه معترف انه غير امين له وقد قامت البينة على قبضه ماله فيضمنه ولا ينفعه تكذيب البينة فالحيلة في سقوط الضمان ان يقول مالك عندي شيء فإن حلفه حلف حلفا صادقا فإن أقام البينة بالوديعة فليصدق البينة ويقول صدقت فيما شهدت به ويدعى التلف بغير تفريط فإن كذب البينة لزمه الضمان ولا ينفعه دعوى التلف
المثال التاسع والعشرون إذا رهن عنده رهنا ولم يثق بأمانته وخاف ان يدعى هلاكه ويذهب به فالحيلة في ان يجعله مضمونا عليه ان يعيره إياه أولا فإذا قبضه رهنه منه بعد ذلك فإذا تلف كان في ضمانه لان طريان الرهن على العارية لا يبطل حكمها لان المرتهن يجوز له الانتفاع بها بعد الرهن كما كان ينتفع بها قبله ولو بطل لم يجز له الانتفاع
المثال الثلاثون اختلف الناس في العارية هل توجب الضمان اذا لم يفرط المستعير على أربعة أقوال احدها يوجب الضمان مطلقا وهو قول الشافعي واحمد في المشهور عنه الثاني لا يوجب الضمان ويد المستعير يد امانه وهو قول ابي حنيفة الثالث انه ان كان التلف بأمر ظاهر كالحريق وأخذ السيل وموت الحيوان وخراب الدار لم يضمن وان كان بأمر لا يطلع عليه كدعوى سرقة الجوهرة والمنديل والسكين ونحو ذلك ضمن وهو قول مالك الرابع أنه إن شرط نفى ضمانها لم يضمن وإن أطلق ضمن وهذا إحدى الروايتين عن احمد والقول بعدم الضمان قوى متجه وان كنا لا نقبل قوله في دعوى التلف لانه ليس بأمينه لكن إذا صدقه المالك في التلف بأمر لا ينسب فيه الى تفريط فعدم التضمين اقوى
فالحيلة في سقوط الضمان ان يشترط نفيه فإن خاف أن لا يفى له بالشرط فله حيلة أخرى وهي ان يشهد عليه انه متى ادعى عليه بسبب هذه العين ما يوجب الضمان فدعواك باطلة فإن لم تصعد معه هذه الحيلة او خاف من ورثته بعده الدعوى فله حيلة ثالثة وهي ان يستأجر العين منه بأقل شيء للمدة التي يريد الانتفاع بها أو يستأجرها منه بأجره مثلها ويشهد عليه أنه قبض الاجرة او ابرأه منها فإن تلفت بعد ذلك لم يضمنها وليست هذه الحيلة مما تحلل حراما او تحرم حلالا
المثال الحادي والثلاثون اختلف الناس في تأجيل القرض والعارية إذا أجلها
فقال الشافعي واحمد في ظاهر مذهبه وابو حنيفة لا يتأجل شيء من ذلك بالتأجيل وله المطالبة به متى شاء وقال مالك يتأجل بالتأجيل فإن اطلق ولم يؤجل ضرب له أجل مثله وهذا هو الصحيح لأدلة كثيرة مذكورة في موضعها
وعلى هذا القول فالمستقرض والمستعير آمن من غدر المقرض غنى عن الحيلة للزوم الاجل وعلى القول الاول فالحيلة في لزوم التأجيل ان يشهد عليه انه لا يستحق ما عليه من الدين الى مدة كذا وكذا ولا يستحق المطالبة بتسليم العين الى مدة كذا وكذا فإن أراد حيلة غير هذه فليستأجر منه العين الى تلك المدة ثم يبرئه من الاجرة كما تقدم واما القرض فالحيلة في تأجيله ان يشتري من المقرض شيئا ما بمبلغ القرض ثم يكتبه مؤجلا من ثمن مبيع قبضه المشتري فإنه لا يتمكن من المطالبة به قبل الاجل وهذه حيلة على امر جائز لا يبطل بها حق فلا تكره
المثل الثاني والثلاثون إذا رهنه رهنا بدين وقال إن وفيتك الدين الى كذا وكذا وإلا فالرهن لك بما عليه صح ذلك وفعله الامام احمد وقال اصحابنا لا يصح وهو المشهور من مذاهب الائمة الثلاثة واحتجوا بقوله لا يغلق الرهن ولا حجة لهم فيه فإن هذا كان موجبه في الجاهلية ان المرتهن يتملك الرهن بغير إذن المالك إذا لم يوفه فهذا هو غلق الرهن الذي ابطله النبي ص - وأما بيعه للمرتهن بما عليه عند الحلول فلم يبطله كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح ولا مفسدة ظاهرة وغاية ما فيه انه بيع علق على شرط ونعم فكان ماذا وقد تدعو الحاجة والمصلحة الى هذا من المرتهنين ولا يحرم عليهما ما لم يحرمه الله ورسوله ولا ريب ان هذا خير للراهن والمرتهن من تكليفه الرفع الى الحاكم وإثباته الرهن واستئذانه في بيعه والتعب الطويل الذي لا مصلحة فيه سوى الخسارة والمشقة فإذا اتفقا على
أنه له بالدين عند الحلول كان اصلح لهما وأنفع وابعد من الضرر والمشقة والخسارة فالحيلة في جواز ذلك بحيث لا يحتاج الى حاكم ان يملكه العين التي يريد ان يرهنها منه ثم يشتريها منه بالمبلغ الذي يريد استدانته ثم يقول إن وفيتك الثمن الى كذا وكذا وإلا فلا بيع بيننا فإن وفاه وإلا انفسخ البيع وعادت السلعة الى ملكه وهذه حيلة حسنة مخلصة لغرضها من غير مفسدة ولا تضمن لتحريم ما احل الله ولا لتحليل ما حرم الله
المثال الثالث والثلاثون إذا كان عليه دين مؤجل فادعى به صاحبه وأقر به فالصحيح المقطوع به انه لا يؤاخذ به قبل أجله لانه انما اقر به على هذه الصفة فالزامه به على غير ما اقر به الزام بما لم يقر به وقال بعض اصحاب احمد والشافعي يكون مقرا بالحق مدعيا لتأجيله فيؤاخذ بما أقر به ولا تسمع منه دعواه الاجل الا ببينة وهذا في غاية الضعف فإنه إنما أقر به إقرارا مقيدا لا مطلقا فلا يجوز ان يلغى التقيد ويحكم عليه بحكم الاقرار المطلق كما لو قال له على الف إلا خمسين او له على الف من ثمن مبيع لم اقبضه او له على الف من نقد كذا وكذا أو معاملة كذا وكذا فيلزمهم في هذا ونحوه ان يبطلوا هذه التقييدات كلها ويلزموه بالف كاملة من النقد الغالب ولا يقبل قوله إنها من ثمن مبيع لم أقبضه ومما يبين بطلان هذا القول ان إقرار المرء على نفسه شهادة منه على نفسه كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم ولو شهد عليه شاهدان بالف مؤجلة لم يحكم عليها بها قبل الاجل اتفاقا فهكذا اذا اقر بها مؤجلة فالحيلة في خلاصه من الالزام بهذا القول الباطل ان يقول لا يلزمني توفية ما تدعي على أداءه إليك الى مدة كذا وكذا ولا يزيد على هذا فإن الح عليه وقال لي عليك كذا ام ليس لي عليك شيء ولابد من ان يجيب بأحد الجوابين فالحيلة في خلاصه ان يقول إن ادعيتها مؤجلة فأنا مقر بها وان ادعيتها حالة فأنا منكر
وكذلك لو كان قد قضاه الدين وخاف ان يقول كان له على وقضيته فيجعله الحاكم مقرا بالحق مدعيا لقضائه فالحيلة ان يقول ليس له على شيء ولا يلزمني اداء ما يدعيه فان الح عليه لم يكن له جواب غير هذا على ان القول الصحيح انه لا يكون مقرا بالحق مدعيا لقضائه بل منكرا الآن لثبوته في ذمته فكيف يلزم به
فإن قيل لم يقر بثبوت سابق وادعى قضاء طارئا عليه
قيل لم يقر بثبوت مطلق بل بثبوت مقيد بقيد وهو الزمن الماضي ولم يقر بأنه ثابث الآن في ذمته فلا يجوز إلزامه به الآن استنادا الى إقراره به في الزمن الماضي لانه غير منكر ثبوته في الماضي وإنما هو منكر لثبوته الآن فكيف يجعل مقرا بما هو منكر له وقياسهم هذا الاقرار على قوله له على الف لا يلزمني او لا يثبت في ذمتي قياس باطل فإنه كلام متناقض لا يعقل وأما هذا فكلام معقول وصدقة فيه ممكن ولم يقر بشغل ذمته الآن بالمدعى به فلا يجوز شغل ذمته به بناء على إقراره بشغلها في الماضي وما نظير هذا إلا قول الزوج كنت طلقت امرأتي وراجعتها فهل يجعل بهذا الكلام مطلقا الآن وقول القائل كنت فيما مضى كافرا ثم أسلمت فهل يجعل بهذا الكلام كافرا الآن وقول القائل كنت عبدا فأعتقنى مولاى هل يجعل بهذا الكلام رقيقا فإن طردوا الحكم في هذا كله وطلقوا الزوج وكفروا المعترف بنعمة الله عليه وانه كان كافرا فهداه الله وامروه ان يجدد اسلامه وجعلوا هذا قنا قيل لهم فاطردوا ذلك فيمن قال كانت هذه الدار او هذا البستان او هذه الارض او هذه الدابة لفلان ثم اشتريتها منه فأخرجوها من ملكه بهذا الكلام وقولوا قد أقر بها فلان ثم ادعى اشتراءها فيقبل إقراره ولا تقبل دعواه فمن جرت هذه الكلمة على لسانه وقال الواقع فأخرجوا ملكه من يده وكذلك إذا قالت المرأة كنت مزوجة بفلان ثم طلقني اجعلوها بمجرد هذا الكلام
زوجته والكلام بآخره فلا يجوز ان يؤخذ منه بعضه ويلغى بعضه ويقال قد لزمك حكم ذلك البعض وليس علينا من بقية كلامك فإن هذا يرفع حكم الاستثناء والتقيدات جميعها وهذا لا يخفي فساده ثم ان هذا على اصل من لا يقبل الجواب الا على وفق الدعوى يحول بين الرجل وبين التخلص من ظلم المدعي ويلجئه الى ان يقر له بما يتوصل به الى الاضرار به وظلمه او الى ان يكذب بيانه انه اذا استدان منه ووفاه فإن قال ليس له على شيء لم يقبلوا منه لانه لم يجب على نفي الدعوى وان قال كنت استدنت منه ووفيته لم تسمعوا منه آخر كلامه وسمعتم منه اوله وان قال لم استدن منه وكان كاذبا فقد الجأتموه الى ان يظلم او يكذب ولا بد فالحيلة لمن بلى بهذا القول ان يستعمل التورية ويحلف ما استدان منه وينوي ان تكون ما موصولة فإذا قال والله اني ما استدنت منه أي اني الذي استدنت منه وينفعه تأويله بالاتفاق اذا كان مظلوما كما لا ينفعه اذا كان ظالما بالاتفاق
المثال الرابع والثلاثون اذا كان عليه دين فأعسر به فأدعى عليه به فإن انكره كان كاذبا وان اقر له به الزمه اياه وان جحده اقام به البينة فإن ادعى الاعسار بعد ذلك فإن المدعي قد ظهر للحاكم كذبه في جحده الحق فهكذا هو كاذب في دعوى الاعسار فالحيلة في تخليصه ان يقول لا يلزمني توفية ما يدعيه على ولا اداؤه فإن طالبه الحاكم بجواب يطابق السؤال فله ان يوري كما تقدم ويحلف على ذلك فإن خشى من اقامة البينة فهنا تعز عليه الحيلة ولم يبق له الا تحليف المدعي انه لا يعلم عجزه عن الوفاء او عن اقامة البينة بإنه عاجز عن الوفاء فإن حلف المدعي ولم تقم له بينة بالعجز لم يبق له حيلة غير الصبر
المثال الخامس والثلاثون إذا تداعيا عينا هي في يد أحدهما فهي لصاحب
اليد فإن اقام الآخر بينة حكم له ببينته فإن اقام كل واحد منهما بينة فقال الشافعي بينة صاحب اليد اولى لان البينتين قد تعارضتا وسلمت اليد عن معارض وقال الامام احمد في ظاهر مذهبه بينة الخارج اولى لان معها زيادة علم خفيت على بينة صاحب اليد فإنها تستند الى ظاهر اليد وبينة الخارج تستند ايضا الى سبب خفي على بينة الداخل فتكون اولى فالحيلة في تقديم بينة الخارج عند من يقدم بينة الداخل ان يدعى الخارج انه في يد الداخل غصبا او عارية او وديعة او ببيع فاسد ثم تشهد البينة على وفق ما ادعاه فحينئذ تقدم بينة الخارج على الصحيح عندهم
المثال السادس والثلاثون الحيلة المخلصة من لدغ العقارب وذلك اذا اشتري الماكر المخادع من رجل دار او بستانا او سلعة واشهد عليه بالبيع ثم مضي الى البيت او الحانوت ليأتيه بالثمن فأقر بجميع ما في يده لولده او لامرأته فلا يصل البائع الى اخذ الثمن فالحيلة له ان يبيعه بحضرة الحاكم او يمضي بعد البيع معه اليه ليثبت له التبايع ثم يسأله قبل مفارقته ان يحجر على المشتري في ماله ويقفه حتى يسلم اليه الثمن لئلا يتلف ماله او يتبرع به فيتعذر عليه الوصول الى حقه ويلزم الحاكم اجابته اذا خشى ذلك من المشتري لان فيه اعانة لصاحب الحق على التوصل الى حقه فإن تعذرت عليه هذه الحيلة ولدغته العقرب وادعى الاعسار عند الجمهور سأل الحاكم الحجر عليه فإن فعل ذلك رجع عليه في عين ماله فإن كانت العقرب داهية بأن غير العين المبيعة او ملكها لولده او زوجته او كان الحاكم لا يرى رجوع البائع في عين المبيع اذا افلس المشتري فالحيلة ان يتوصل الى ابطال العقد بإقرار سابق على المبيع ان المبيع لولده او لزوجته او يرهنه او يبيعه لمن يثق به ويقدم تاريخ ذلك على بيع العقرب وله ان يتوصل بهذه
الحيلة وان كانت مكرا او خداعا فإن المكر والخداع حسن اذا كان على وجه المقابلة لا على وجه الظلم كما قال تعالى ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون وقال ومكروا ومكر الله والله خيرالماكرين وقال إن النافقين يخادعون الله وهو خادعهم واخبر تعالى انه كاد ليوسف في مقابلة كيد إخوته وقد تقدم ذلك
المثال السابع والثلاثون اذا تحيل المكار المخادع على سقوط نفقة القريب بالمماطلة وقال انها تسقط بمضى الزمان فلا يبقى دينا على فتركها آمنا من الزامه بها لما مضى فالحيلة للمنفق عليه ان يرفعه الى الحاكم ليفرضها عليه ثم يستأذنه في الاستدانة عليه بقدرها فإذا فعل الزمه الحاكم بقضاء ما استدانه المنفق عليه فإن فرضها عليه ولم يستأذنه في الاستدانة ومضى الزمان فهل تستقر عليه بذلك فيه وجهان لاصحاب الشافعي والاكثرون منهم صرحوا بسقوطها مطلقا فرضت او لم تفرض ومنهم من قال ان فرضت لم تسقط فإن لم يمكنه الرفع الى الحاكم فليقل له اشفع لى الى فلان لينفق على او يعطيني ما احتاج اليه فإذا فعل فقد لزم الشافع لان ذلك حق اداه الى المشفوع عنده عن الشفيع بإذنه فإن انفق عليه الغير بغير اذنه ناويا للرجوع فله الرجوع في اصح المذهبين وهو مذهب مالك واحمد في احدى الروايتين وهكذا كل من ادى عن غيره واجبا بغير اذنه بشرط ان يكون واجبا على المنصوص من مذهب مالك واحمد فإن احمد نص في رواية الجوزجاني على رجوع من عمر قناة غيره بغير اذنه وهو مذهب مالك ولو ان القريب استدان وانفق على نفسه ثم احال بالدين على من تلزمه نفقته لزمه ان يقوم له به لانه احال على من له عليه حق ولا يقال قد سقطت بمضى الزمان فلم تصادف الحوالة محلا لانها انما تسقط بمضى الزمان اذا لم يكن المنفق عليه قد استدان على المنفق بل تبرع له غيره او تكلف
او صبر فإما اذا استدان عليه بقدر نفقته الواجبة عليه فهنا لا وجه لسقوطها وان كان الاصحاب وغيرهم قد اطلقوا السقوط فتعليلهم يدل على ما قلناه فتأمله
المثال الثامن والثلاثون اذا استنبط في ملكه او ارض استأجرها عين ماء ملكه ولم يملك بيعه لمن يسوقه الى ارضه او يسقي به بهائمه بل يكون اولى به من كل احد وما فضل منه لزمه بذله لبهائم غيره وزرعه فالحيلة على جواز المعاوضة ان يبيعه نصف العين او ثلثها او يؤجره ذلك فيكون الماء بينه وبينه على حسب ذلك ويدخل الماء تبعا لملك العين او منفعتها ولا تدخل هذه الحيلة تحت النهى عن بيع الماء فإنه لم يبعه وانما باع العين ودخل الماء تبعا والشيء قد يستتبع مالا يجوز ان يفرد وحده
المثال التاسع والثلاثون اذا باع عبده من رجل وله غرض ان لايكون الا عنده او عند بائعه فالحيلة في ذلك ان يشهد عليه انه ان باعه فهو احق به بالثمن وهذا يجوز على نص احمد وهو قول عبد الله بن مسعود ولا محذور في ذلك وقول المانعين انه يخالف مقتضى العقد فنعم يخالف مقتضى العقد المطلق وجميع الشروط اللازمة تخالف مقتضى العقد المطلق ولا تخالف مقتضى العقد المقيد بل هي مقتضاه فإن لم تسعد معه هذه الحيلة فله حيلة اخرى وهي ان يقول له في مدة الخيار اما ان تقول متى بعته فهو حر والا فسخت البيع فإذا قال ذلك فمتى باعه عتق عليه بمجرد الايجاب قبل قبول المشتري على ظاهر المذهب فإن الذي علق عليه العتق هو الذي يملكه البائع وهو الايجاب وذلك بيع حقيقة ولهذا يقال بعته العبد فاشتراه فكما ان الشراء هو قبول المشتري فكذلك البيع هو ايجاب البائع ولهذا يقال البائع والمشتري قال الشاعر ... وإذا تباع كريمة او تشترى ... فسواك بائعها وانت المشتري
هذا منصوص احمد فإن لم تسعد معه هذه الحيلة فليقل له في مدة الخيار إما ان تقول متى بعتك فأنت حر قبله بساعة واما ان افسخ فمتى قال ذلك لم يمكنه بيعه البتة
المثال الاربعون إذا كان للموكل عند وكيله شهادة تتعلق بما هو وكيله فيه لم تقبل فإن اراد قبولها فليعزله او ليعزل نفسه قبل الخصومة ثم يقيم الشهادة فإذا تمت عاد توكله به وليس في هذه الحيلة محذور فلا تكون محرمة
المثال الحادي والاربعون اذا توضأ ولبس إحدى خفيه قبل غسل رجله الاخرى ثم غسل رجله الاخرى وادخلها في الخف جاز له المسح على أصح القولين وفيه قول آخر انه لا يجوز لانه لم يلبس الاولى على طهارة كاملة فالحيلة في جواز المسح ان ينزع خف الرجل الاولى ثم يلبسه وهذا نوع عبث لاغرض للشارع فيه ولا مصلحة للمكلف فالشرع لا يأمره به
المثال الثاني والاربعون إذا استحلف على شيء فاحب ان يحلف ولا يحنث فالحيلة ان يحرك لسانه بقول إن شاء الله وهل يشترط ان يسمعها نفسه فقيل لا بد ان يسمع نفسه وقال شيخنا هذا لا دليل عليه بل متى حرك لسانه بذلك كان متكلما وان لم يسمع نفسه وهكذا حكم الاقوال الواجبة والقراءة الواجبة قلت وكان بعض السلف يطبق شفتيه ويحرك لسانه بلا إله إلا الله ذاكرا وإن لم يسمع نفسه فإنه لاحظ للشفتين في حروف هذه الكلمة بل كلها حلقية لسانية فيمكن الذاكر ان يحرك لسانه بها ولا يسمع نفسه ولا أحدا من الناس ولا تراه العين يتكلم وهكذا التكلم بقول إن شاء الله يمكن مع إطباق الفم فلا يسمعه احد ولا يراه وإن اطبق اسنانه وفتح شفتيه أدنى شيء سمعته أذناه بجملته
المثال الثالث والاربعون إذا لا عن امرأته وانتفى من ولدها ثم قتل الولد لزمه القصاص وكذلك إن قتلها فلولدها القصاص إذا بلغ فان اراد إسقاط القصاص عن نفسه فالحيلة ان يكذب نفسه ويقر بأنه ابنه فيسقط القصاص في الموضعين وفي جواز هذه الحيلة نظر
المثال الرابع والاربعون إذا كان له عليه حق وقد أبراه ولا بينة له بالابراء ثم عاد فادعاه فإن قال قد أبراني منه لم يكن مقرا به كما لو قال كان له على وقضيته وعلى القول الآخر يكون مقرا به مدعيا للابراء فيكلف البينة فالحيلة على التخلص ان يقول قد أبرأتني من هذه الدعوى فإذا قال ذلك لم يكن مقرا بالمدعى به فإذا سأل إحلاف خصمه انه لم يبرئه من الدعوى ملك ذلك فإن لم يحلف صرفهما الحاكم وإن حلف طولب بالجواب ولا يسمع منه بعد ذلك انه ابرأه من الدعوى فإن قال أبرأتني من الحق ففيه الخلاف المذكور وإن قال لا شيء عندي اكتفى منه بهذا الجواب عند الجمهور فإن طالبه الحاكم بالجواب على وفق الدعوى فالحيلة ان يجيب ويورى كما تقدم
المثال الخامس والاربعون إذا خاف المضارب ان يسترجع رب المال منه المال فقال قد ربحت الفا لم يكن له الاسترجاع لانه قد صار شريكا فإن قال ذلك حيلة ولم يربح فقال بعد ذلك كذبت لم يسمع منه فالحيلة في تخلصه ان يدعى خسارتها بعد ذلك او تلفها فيقبل قوله مع يمينه
المثال السادس والاربعون إذا وقف وقفا وجعل النظر فيه لنفسه مدة حياته ثم من بعده لغيره صح ذلك عند الجمهور وهو اتفاق من الصحابة فإن عمر رضى الله عنه كان يلى صدقته وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة والنبي ص - لما أشار على عمر بوقف أرضه لم يقل له لا يصح ذلك
حتى تخرجها عن يدك ولا تلى نظرها واي غرض للشارع في ذلك واي مصلحة للواقف او الموقوف عليه بل المصلحة خلاف ذلك لانه اخبر بماله واقوم بعمارته ومصالحه وحفظه من الغريب الذي ليست خبرته وشفقته كخبرة صاحبه وشفقته ويكفى في صحة الوقف إخراجه عن ملكه وثبوت نظره ويده عليه كثبوت نظر الاجنبي ويده ولا سيما ان كان متبرعا فأي مصلحة في ان يقال له لا يصح وقفك حتى تجعله في يد من لست على ثقة من حفظه والقيام بمصالحه وإخراج نظرك عنه
فان قيل اخراجه لله يقتضى رفع يده عنه بالكلية كالعتق
قيل بالعتق خرج العبد عن ان يكون مالا وصار محررا محضا فلا تثبت عليه يد أحد وأما الوقف فإنه لا بد من ثبوت اليد عليه لحفظه والقيام بمصالحه واحق ما يثبت عليه يد اشفق الناس عليه واقومهم بمصالحه وثبوت يده ونظره لا ينافى وقفه لله فإنه وقفه لله وجعل نظره عليه ويده لله فكلاهما قربة وطاعة فكيف يحرم ثواب هذه القربة ويقال له لا يصح لك قربة الوقف إلا بحرمان قربة النظر والقيام بمصالح الوقف فأي نص واي قياس واي مصلحة واي غرض للشارع اوجب ذلك بل أي صاحب قال ذلك فإن احتاج الواقف الى ذلك في موضع لا يحكم فيه الا بقول من يبطل الوقف اذا لم يخرجه عن يده واذا شرط النظر بنفسه فالحيلة في ذلك ان يفوض النظر الى من يثق به ويجعل اليه تفويض النظر لمن شاء فيقبل الناظر ذلك ويصح الوقف ويلزم ثم يفوضه الناظر اليه فإنه قد صار اجنبيا بمنزلة سائر الناس فهذه حيلة صحيحة يتوصل بها الى حق فهي جائزة وكذلك لو جعل النظر فيه للحاكم ثم فوضه الحاكم اليه فإن خاف ان لا يفوضه الحاكم اليه فليملكه لمن يثق به ويقفه ذلك على ما يريد المملك ويشترط ان يكون نظره له وان يكون تحت يده
المثال السابع والاربعون اذا وقف على نفسه ثم على غيره صح في احدى الروايتين عن الامام احمد وهو قول ابي يوسف وعليه عمل الحنفية وقول بعض الشافعية وممن اختاره ابو عبد الله الزبيري وعند الفقهاء الثلاثة لا يصح
والمانعون من صحته قالوا يمتنع كون الانسان معطيا من نفسه لنفسه ولهذا لا يصح ان يبيع نفسه ولا يهب نفسه ولا يؤجر ماله من نفسه فكذا لا يصح وقفه على نفسه
قال المجوزون الوقف شبيه العتق والتحرير من حيث انه يمتنع نقل الملك في رقبته ولهذا لا يفتقر الى قبول اذا كان على غير معين اتفاقا ولا اذا كان على معين على احد القولين واشبه شيء به ام الولد واذا كان مثل التحرير لم يكن الواقف مملكا لنفسه بل يكون مخرجا للملك عن نفسه ومانعا لها من التصرف في رقبته مع انتفاعه بالعين كأم الولد وهذا اذا قلنا بانتقال رقبة الوقف الى الله تعالى ظاهر فإن الواقف اخرج رقبة الوقف لله وجعل نفسه احد المستحقين للمنفعة مدة حياته فإن لم يكن اولى من البطون المرتبة فلا يكون دون بعضهم فهذا محض القياس وان قلنا الوقف ينتقل الى الموقوف عليهم بطنا بعد بطن يتلقونه من الواقف فالطبقة الاولى احد الموقوف عليهم ومعلوم ان احد الشريكين اذا اشترى لنفسه او باع من الشركة جاز على المختار لاختلاف حكم الملكين فلأن يجوز ان ينقل ملكه المختص الى طبقات موقوف عليها هو احدها اولى لانه في كلا الموضعين نقل ملكه المختص الى ملك مشترك له فيه نصيب بل في الشركة الملك الثاني من جنس الاول يملك به التصرف في الرقبة وفي الوقف ليس من جنسه فيكون اولى بالجواز
يؤيده انه لو وقف على جهة عامة جاز ان يكون كواحد من تلك الجهة كما
وقف عثمان بئر رومة وجعل دلوه فيها كدلاء المسلمين وكما يصلي المرء في المسجد الذي وقفه ويشرب من السقاية التي وقفها ويدفن في المقبرة التي سبلها او يمر في الطريق التي فتحها وينتفع بالكتاب الذي وقفه ويجلس على البساط والحصير اللذين وقفهما وامثال ذلك فإذا جاز للواقف ان يكون موقوفا عليه في الجهة العامة جاز مثله في الجهة الخاصة لا تفاقهما في المعنى بل الجواز هنا اولى من حيث انه موقوف عليه بالتعيين وهناك دخل في الوقف بشمول له الاسم
وتقليد هذا القول خير من الحيلة الباردة التي يملك الرجل فيها ماله لمن لا تطيب له نفسه ان يعطيه درهما ثم يقفه ذلك المملك على المملك فإن هذه الحيلة تضمنت امرين احدهما لا حقيقة له وهو انتقال الملك الى الملك والثاني اشتراطه عليه ان يقف على هذا الوجه او اذنه له فيه وهذا في المعنى توكيل له في الوقف كما ان اشتراطه حجر عليه في التصرف بغير الوقف فصار وجود هذا التمليك وعدمه سواء لم يملكه المملك ولا يمكنه وجود التصرف فيه ولو مات قبل وقفه لم يحل لورثته اخذه ولو انه اخذه ولم يقفه على صاحبه ولم يرده اليه عد ظالما غاصبا ولو تصرف فيه صاحبه بعد هذا التمليك لكان تصرفه فيه نافذا كنفوذه قبله هذا فيما بينه وبين الله تعالى وكذلك في الحكم ان قامت بينة بأنهما تواطئا على ذلك وانه انما وهبه اياه بشرط ان يقفه عليه او اقر له بذلك
فإن قيل فهل عندكم احسن من هذه الحيلة قيل نعم ان يقفه على الجهات التي يريد ويستثنى غلته ومنفعته لنفسه مدة حياته او مدة معلومة وهذا جائز بالسنة الصحيحة والقياس الصحيح وهو مذهب فقهاء اهل الحديث فإنهم يجوزون ان يبيع الرجل الشيء او يهبه او يعتق العبد ويستثنى بعض منفعة ذلك مدة ويجوزون ان يقف
الشيء على غيره ويستثنى بعض منفعته مدة معلومة او الى حين موته ويستدلون بحديث جابر وبحديث عتق ام سلمة سفينة وبحديث عتق صفية وبآثار صحاح كثيرة عن الصحابة لم يعلم فيهم من خالفها ولهذا القول قوة القياس
فإن قيل فلو عدل الى الحيلة الاولى فما حكمها في نفس الامر وما حكم الموقوف عليه اذا علم بالحال هل يطيب له تناول الوقف ام لا
قيل لا يمنع ذلك صحة الوقف ونفوذه ويطيب للموقوف عليه تناول الوقف فإن المقصود صحيح شرعي وان كانت الطريق اليه غير مشروعة وهذا كما اذا اعتق العبد او طلق المرأة وجحد ذلك فأقام العبد او المرأة شاهدين لم يعلما ذلك فشهدا به وسع العبد ان يتصرف لنفسه والمرأة ان تتزوج وفقه المسألة ان هذا الاذن والتوكيل في الوقف وان حصل في ضمن عقد فاسد فإنه لا يفسد بفساد العقد كما لو فسدت الشركة او المضاربة لم يفسد تصرف الشريك والعامل لما تضمنه العقد الفاسد من الاذن بل هذا اولى من وجهين احدهما ان الاتفاق يلزمهما قبل التمليك اذن صحيح ووكالة صحيحة في الباطن لم يرد بعدها ما ينافيها وايضا فإنما بطل عقد الهبة لكونه شرط على الموهوب له ان لا يتصرف فيه الا بالوقف على الواهب ومعلوم ان التصرف في العين لا يتوقف على الملك بل يصح بالوكالة وبطريق الولاية فلا يلزم من ابطال الملك بطلان الاذن الذي تضمنه الشرط لان الاذن مستند غير الملك
فإن قيل فإذا بطل الملك ينبغي ان يبطل التصرف الذي هو من توابعه قيل لا يلزم ذلك لان التصرف في مثل هذه الصورة ليس من توابع الملك الحقيقي وانما هو من توابع الاذن والتوكيل
يوضحه ان هذه الحيل التي لا حقيقة لها يجب ان تسلب الاسماء التي اعيرتها وتعطى الاسماء الحقيقية كما سلب منها ما يسمى بيعا ونكاحا وهدية هذه الاسماء
واعطى اسم الربا والسفاح والرشوة فكذلك هذه الهبة تسلب اسم الهبة وتسمى اذنا وتوكيلا ولا سيما فإن صحة الوكالة لا يتوقف على لفظ مخصوص بل تصح بكل لفظ يدل على الوكالة فهذه الحيلة في الحقيقة توكيل للغير في ان يقف علىالموكل فمن اعتقد صحة وقف الانسان على نفسه اعتقد جواز هذا الوقف ومن اعتقد بطلانه وبطلان الحيل المفضية الى الباطل فأنه عنده يكون منقطع الابتداء وفيه من الخلاف ما هو مشهور فمن ابطله راى ان الطبقة الثانية ومن بعدها تبع للأولى فإذا لم يصح في المتبوع ففي التابع اولى ان لا يصح ولأن الواقف لم يرض به اذ لابد في صحة التصرف من رضا فلا يجوز ان يلزم بما لم يرض به اذ لابد في صحة التصرف من رضا المتصرف وموافقة الشرع فعلى هذا هو باق على ملك الواقف فإذا مات فهل يصح الوقف حينئذ يحتمل وجهين ويكون مأخذهما ذلك كما لو قال هو وقف بعد موتي فيصح او انه وقف معلق على شرط وفيه وجهان فإن قيل بصحته كان من الثلث وفي الزائد يقف على اجازة الورثة وان قيل ببطلانه كان ميراثا ومن رأى صحته قال قد امكن تصحيح تصرف العاقل الرشيد بأن يصحح الوقف ويصرفه في الحال الى جهته التي يصح الوقف عليها وتلغي الجهة التي لا تصح فتجعل كالمعدومة وقيل على هذا القول بل تصرف مصرف الوقف المنقطع فإذا مات الواقف صرف مصرف الجهة الصحيحة
فإن قيل فما تقولون لو سلك حيلة غير هذا كله واسهل منه واقرب وهي ان يقرأن ما في يده من العقار وقف عليه انتقل اليه من جائز الملك جائز الوقف ثم بعده على كذا وكذا فما حكم هذه الحيلة في الباطن وحكم من علم بها من الموقوف عليهم
قيل هذه الحيلة إنما قصد المتكلم بها إنشاء الوقف وان أظهر انه قصد
بها الاخبار فهى انشاء في الباطن اخبار في الظاهر فهى كمن اقر بطلاق او عتاق ينوى به الانشاء والوقف ينعقد بالصريح والكناية مع النية وبالفعل مع النية عند الاكثرين واذا كان مقصوده الوقف على نفسه وتكلم بقوله هذا وقف على وميزه بفعله عن ملكه صار وقفا فإن الاقرار يصح ان يكون كناية عن الانشاء مع النية فإذا قصده به صح كما ان لفظ الانشاء يجوز ان يقصد به الاخبار وإذا اراد به الاخبار دين فكل من الامرين صالح لاستعماله في الاخر فقد يقصد بالاقرار الاخبار عما مضى وقد يقصد به الانشاء وانما ذكر بصيغة الاخبار لغرض من الاغراض
يوضح ذلك ان صيغ العقود قد قيل هي انشاءات وقيل إخبارات والتحقيق انها متضمنه للأمرين فهى إخبار عن المعاني التي في القلب وقصد تلك المعاني انشاء فاللفظ خبر والمعنى إنشاء فإذا أخبر ان هذا وقف عليه وهو يعلم ان غيره لم يقفه عليه وانما مقصوده ان يصير وقفا بهذا الاخبار فقد اجتمع لفظ الاخبار وإرادة الانشاء فلو كان اخبر عن هذه الارداة لم يكن هناك ريب انه أنشأ الوقف لكن لما كان لفظه إخبارا عن غير ما عناه والذي عناه لم ينشيء له لفظا صارت المسألة ونشأت الشبهة ولكن هذه النية مع هذا اللفظ الصالح للكناية مع الفعل الدال على الوقف يقوم مقام التكلم باللفظ الذي ينشأ به الوقف والله أعلم
المثال الثامن والاربعون لو باع غيره دارا او عبدا او سلعة واستثنى منفعة المبيع مدة معلومة جاز كما دلت عليه النصوص والاثار والمصلحة والقياس الصحيح فإن خاف ان يرفعه الى حاكم يرى بطلان هذا الشرط فيبطله عليه فالحيلة في تخليصه من ذلك ان يواطئه قبل البيع على ان يؤجره إياه تلك المدة بمبلغ معين ويقر بقبض الاجرة ثم يبيعه إياه ثم يستأجره كما اتفقا
عليه ويقر له بقبض الاجرة وهذه حيلة صحيحة جائزة لا تتضمن تحليل حرام ولا تحريم حلال
المثال التاسع والاربعون المطلقة البائنة لا نفقة لها ولا سكنى بسنة رسول الله ص - الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بل هي موافقة لكتاب الله وهي مقتضى القياس وهي مذهب فقهاء اهل الحديث فإن خاف المطلق ان ترفعه الى حاكم يرى وجوب النفقة والسكنى او السكنى وحدها فالحيلة في تخليصه ان يعلق طلاقها على البراءة الصحيحة من ذلك فيقول إن صحت براءتك لى من النفقة والسكنى او من دعوى ذلك فأنت طالق فلا يمكنها بعد ذلك ان تدعى بهما ألبتة وله حيلة اخرى وهي ان يخالعها على نظير ما يعلم انه يفرض عليه للنفقة والسكنى او اكثر منه فإذا ادعت بذلك وفرضه عليه الحاكم صار لها عليه مثل الذي له عليها فإما ان يأخذ منها ويعطيها واما ان يتقاصا
المثال الخمسون إذا اشترى سلعة من رجل غريب فخاف ان يستحق او تظهر معيبة ولا يعرفه فالحيلة ان يقيم له وكيلا يخاصمه ان ظهر ذلك فإن خاف ان يعزل البائع الوكيل فالحيلة ان يشتريها من الوكيل نفسه ويضمنه درك المبيع
المثال الحادي والخمسون إذا دفع اليه مالا يشترى به متاعا من بلد غير بلده فاشتراه واراد تسليمه اليه وإقامته في تلك البلدة فان اودعه غيره ضمن لانه لم يأذن له ربه وان وكل غيره في دفعه اليه ضمن ايضا وان استاجر من يوصله اليه ضمن لانه لم يكن يامن غيره عليه فالحيلة في ايصاله الى ربه ان يشهد عليه قبل الشراء او بعده ان يعمل في المال برأيه وان يوكل فيه او ان يودع اذا راى المصلحة في ذلك كله فإن أبى ذلك الموكل وقال لا يوافيني به غيرك فقد ضاقت عليه الحيلة فليخرج نفسه من الوكالة فتصير يده يد مودع فلا يلزمه مؤنة رد الوديعة بل مؤنة ردها على صاحبها فإن احب اخذ ماله ارسل من يأخذه او جاء هو في طلبه
فإن قيل فلو لم يعزل نفسه كان مؤنة الرد عليه
قيل لما دخل معه في عقد الوكالة فقد التزم له ان يسلم اليه المال فيلزمه ما التزم به فإذا اخرج نفسه من الوكالة بقى كالمودع المحض فإن كان وكيلا يجعل فهو كالاجير فمؤنة الرد عليه ولا يملك اخراج نفسه من الوكالة قبل توفية العمل كالاجير
المثال الثاني والخمسون اذا اراد الذمى ان يسلم وعنده خمر فخاف ان اسلم يجب عليه إراقتها ولا يجوز له بيعها فالحيلة ان يبيعها من ذمى آخر بثمن معين او في ذمته ثم يسلم ويتقاضاه الثمن ولا حرج عليه في ذلك فإن تحريمها عليه بالاسلام كتحريمها بالكتاب بعد ان لم تكن حراما وفي الحديث ان الله يعرض بالخمر فمن كان عنده منها شيء فليبعه
فان قيل فلو اسلم من اشتراها ولم يؤد ثمنها هل يسقط عنه
قيل لا يسقط لثبوته في ذمته قبل الاسلام
فإن قيل فلو اسلم اليه في خمر ثم أسلما او احدهما
قيل ينفسخ العقد ويرد اليه رأس ماله
فان قيل فلو اراد ان يشتري خمرا ثم عزم على الاسلام وخاف ان يلزمه بثمنها فهل له حيلة في التخلص من ذلك
قيل الحلة ان لا يملكها بالشراء بل بالقرض فإذا اقترضها منه ثم اسلما او احدهما لم يجب عليه رد بدل القرض فإن موجب القرض رد المثل وقد تعذر بالاسلام
المثال الثالث والخمسون اذا اشترى دارا او ارضا وقد وقعت الحدود وصرفت الطرق بينه وبين جاره فلا شفعة فيها وان كانت الحدود لم تقع ولم تصرف الطرق بل طريقها واحدة ففيها الشفعة هذا الاقوال في شفعة الجوار وهو مذهب
أهل البصرة واحد الوجهين في مذهب الامام احمد واختاره شيخ الاسلام وغيره فان خاف المشترى ان يرفعه الجار الى حاكم يرى الشفعة وان صرفت الطرق فله التحيل على ابطالها بضروب من الحيل احدها ان يشتريها منه بألف دينار ويكاتبه على ذلك ثم يعطيه عوض كل دينار درهمين او نحو ذلك وثانيها ان يهب منه الدار والارض ثم يهبه ثمنها وثالثها ان يقول المشتري للشفيع ان شئت بعتكها بما اشتريتها به او باقل من ذلك او اصبر عليك بالثمن فيجيبه الى ذلك فتسقط شفعته ورابعها ان يتصادق البائع والمشتري على شرط او صفة تفسد البيع كأجل مجهول او خيار مجهول او إكراه او تلجئة ونحو ذلك ثم يقرها البائع في يد المشترى ولا يكون للشفيع سبيل عليها وخامسها ان يشترط الخيار مدة طويلة فإن صح لم يكن له ان يأخذ قبل انقضائه وان بطل لم يكن له ان ياخذ ببيع فاسد وسادسها ان يهب له تسعة اعشار الدار او الارض ويبيعه العشر الباقي بجميع الثمن وسابعها ان يوكل الشفيع في بيع داره او ارضه فيقبل الوكالة فيبيع او يوكله المشتري في الشراء له وثامنها ان يزن له الثمن الذي اتفقا عليه سرا ثم يجعله صبرة غير معلومة ويبيعه الدار وتاسعها ان يقر البائع بسهم من الف سهم للمشتري فيصير شريكه ثم يبيعه باقي الدار فلا يجد جاره اليها سبيلا لان حق الشريك مقدم على حق الجار وعاشرها ان يتصدق عليه ببيت من الدار ثم يبيعه باقيها بجميع الثمن فيصير شريكا فلا شفعة لجاره وحادى عشرها ان يأمر غريبا او مسافرا بشرائها فاذا فعل دفعها اليه ثم وكله بحفظها ثم يشهد على الدفع اليه وتوكيله حتى لا يخاصمه الشفيع وثاني عشرها ان يجيء المشتري الى الجار قبل البيع فيشترى منه داره ويرغبه في الثمن اضعاف ما تساوي ويشترط الخيار لنفسه ثلاثة ايام ثم في مدة الخيار يمضي ويشترى تلك الدار التي يريد شراءها فإذا تم العقد بينهما فسخ البيع الاول ولا يستحق
جاره عليه شفعة لانه حين البيع لم يكن جارا وانما طرأ له الجوار بعد البيع وثالث عشرها ان يؤجر المشتري لبائع الدار عبده او ثوبه شهرا بسهم من الدار فيصير شريكه ثم بعد يومين او ثلاثة يشترى منه بقيتها فلا يكون لجاره عليه سبيل ورابع عشرها ان يشتريها بثمن مؤجل اضعاف ما تساوي فإن الجار لا يأخذها بذلك الثمن فإذا رغب صالحه من ذلك الثمن على ما يساويه حالا من غير جنسه
فإن قيل فأنتم قد بالغتم في الانكار على من احتال ببعض هذه الوجوه على اسقاط الشفعة وذكرتم تلك الاثار فنكيل لكم بالكيل الذي كلتم به لنا
قلنا لا سواء نحن وانتم في ذلك فإنا ذكرنا هذه الوجوه تحيلا على إبطال ما أبطله رسول الله ص - بقوله فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة فلما ابطل الشفعة تحيلنا على تنفيذ حكمه وامره بكل طريق فكنا فى هذه الحيل منفذين لامره واما انتم فأبطلتم بها ما اثبته بحكمه وقضائه بالشفعة فيما لم يقسم وانه لا يحل له ان يبيع حتى يؤذن شريكه فإذا حرم عليه البيع قبل استئذانه فما الظن بالتحيل على اسقاط شفعته فتوصلتم انتم بهذه الحيل الى اسقاط ما اثبته وتوصلنا نحن بها الى اسقاط ما اسقطه وابطله فأى الفريقين احق بالصواب واتبع لمقصود الرسول ص - والله المستعان
المثال الرابع والخمسون يصح تعليق الوكالة بالشرط كما يصح تعليق الولاية بالشرط كما صحت به السنة بل تعليق الوكالة اولى بالجواز فإن الولي وكيل وكالة عامة فانه انما يتصرف نيابة عن المولى فوكالته اعم من وكالة الوكيل في الشيء المعين فإذا صح تعليقها فتعليق الوكالة الخاصة اولى بالصحة وقال الشافعي لاتصح فإذا دعت الحاجة الى ذلك فالحيلة في جوازه ان يوكله مطلقا ثم يعلق التصرف على شرط فيصح ولا يظهر فرق فقهى بين امتناع هذا
وجواز هذا والمقصود من التوكيل التصرف والتوكيل وسيلة اليه فاذا صح تعليق الغاية فتعليق الوسيلة اولى بالصحة
المثال الخامس والخمسون اذا رفع الى الامام وادعى عليه زنى فخاف ان انكر ان تقوم عليه البينة فيحد فالحيلة في ابطال شهادتهم انه يقر اذا سئل مرة واحدة ولايزيد عليها فلا تسمع البينة مع الاقرار وليس للحاكم ولا للامام ان يقرره تمام النصاب بل اذا سكت لم يتعرض له فإن كان الامام ممن يرى وجوب الحد بالمرة الواحدة فالحيلة ان يرجع عن اقراره فيسقط عند الحد فاذا خاف من اقامة البينة عليه اقر ايضا ثم رجع وهكذا ابدا وهذه الحيلة جائزة فانه يجوز له دفع الحد عن نفسه وان يخلد الى التوبة كما قال النبي ص - للصحابة لما فر ما عن من الحد هلاتركتموه يتوب فيتوب الله عليه فإذا فر من الحد الى التوبة فقد أحسن
المثال السادس والخمسون اذا حلف لغادر او جاسوس او سارق ان لا يخبر به احدا ولا يدل عليه فأراد التخلص من هذه اليمين وان لا يخفيه فالحيلة ان يسأل عن أقوام هو من جملتهم فإذا سئل عن غيره قال لا فاذا انتهت التوبة اليه سكت فإنه لا يحنث ولايأثم بالستر عليه وإيوائه وسئل ابو حنيفة رحمه الله عن هذه المسألة بعينها قال له السائل نزل بي اللصوص فأخذوا مالي واستحلفوني بالطلاق الا أخبر احدا بهم فخرجت فرايتهم يبيعون متاعي في السوق جهرة فقال له اذهب الى الوالي فقل له يجمع اهل المحلة او السكة الذين هم فيهم ثم يحضرهم ثم يسألك عنهم واحدا فإذا واحدا سألك عمن ليس منهم فقل ليس منهم واذا سألك عمن هو منهم فاسكت ففعل الرجل فأخذ الولي متاعه منهم وسلمه اليه فلو عملت هذه الحيلة مع مظلوم لم تنفع وحنث الحالف فإن المقصود الدفع عنه وبالسكوت قد اعان عليه ولم يدفع عنه
المثال السابع والخمسون ما سئل عنه ابو حنيفة رحمه الله عن امرأة قال لها زوجها انت طالق اذا سألتني الخلع ان لم اخلعك وقالت المرأة كل مملوك لي حر ان لم اسألك الخلع اليوم فجاء الزوج الى ابي حنيفة فقال احضر المرأة فأحضرها فقال لها ابو حنيفة سليه الخلع فقالت سألتك ان تخلعني فقال ابو حنيفة قل لها قد خلعتك على الف درهم تعطينها فقال لها ذلك فقال لها قولي لا اقبل فقالت لا اقبل فقال قومي مع زوجك فقد بر كل واحد منكما ولم يحنث في شيء ذكرها محمد بن الحسن في كتاب الحيل له
وانما تتم هذه الحيلة على الوجه الذي ذكره فلو قالت له اسألك الخلع على الف درهم حالة او الى شهر فقال قد خلعتك على ذلك وقع الخلع بخلاف ما اذا قالت له اخلعني قال خلعتك على الف فإن هذا لا يكون خلعا حتى تقبل وترضى وهي لم ترض بالألف فلا يقع الخلع
فإن قيل فكيف اذا لم يقع الخلع
قيل هو انما حلف على فعله لا على قبولها فإذا قال قد خلعتك على الف فقد وجد الخلع من جهته فانحلت يمينه ولم يقف حل اليمين على قبولها كما اذا حلف لا يبيع فباع ولم يقبل المشتري ولا بينه له فإنه يحنث
المثال الثامن والخمسون ما ذكره محمد في كتابه ايضا عنه اتاه اخوان قد تزوجا بأختين فزفت كل امرأة منهما الى زوج اختها فدخل بها ولم يعلم ثم علم الحال لما اصبحا فذكرا له ذلك وسألاه المخرج فقال لهما كل منكما راض بالتي دخل بها فقالا نعم فقال ليطلق كل منكما امرأته التي عقد عليها تطليقة ففعلا فقال ليعقد كل منكما على المرأة التي دخل بها
ففعلا فقال ليمض كل منكما الى اهله وهذه الحيلة في غاية اللطف فإن المرأة التي دخل بها كل منهما قد وطئها بشبهة فله ان ينكحها في عدتها فإنه لا يصان ماؤه عن مائه وأمره ان يطلق واحدة فإنه لم يدخل بالتي طلقها فالواحدة تبينها ولا عدة عليها منه فللآخر ان يتزوجها
المثال التاسع والخمسون اذا تزوجت المرأة وخافت ان يسافر عنها الزوج ويدعها او يسافر بها ولا تريد الخروج من دارها او ان يتزوج عليها او يتسرى او يشرب المسكر او يضربها من غير جرم او يتبين فقيرا وقد ظنته غنيا او معيبا وقد ظنته سليما او اميا وقد ظنته قارئا او جاهلا وقد ظنته عالما او نحو ذلك فلا يمكنها التخلص فالحيلة لها في ذلك كله ان تشترط عليه انه متى وجد شيء من ذلك فأمرها بيدها ان شاءت اقامت معه وان شاءت فارقته وتشهد عليه بذلك فإن خافت ان لاتشترط ذلك بعد لزوم العقد فلا يمكنها الزامه بالشرط فلا تأذن لوليها ان يزوجها منه الا على هذا الشرط فيقول زوجتكما على ان امرها بيدها ان كان الامر كيت وكيت فمتى كان الامر كذلك ملكت تطليق نفسها ولا بأس بهذه الحيلة فإن المرأة تتخلص بها من نكاح من لم ترض بنكاحه وتستغني بها عن رفع امرها الى الحاكم ليفسخ نكاحها بالغيبة والاعسار ونحوهما
المثال الستون يصح ضمان مالا يجب كقوله ما اعطيت لفلان فهو علي عند الاكثرين كما دل عليه القرآن في قول مؤذن يوسف ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم والمصلحة تقتضى ذلك بل قد تدعو اليه الحاجة او الضرورة وعند الشافعي لا يجوز وسلم جوازه اذا تبين سبب وجوبه كدرك المبيع والحيلة في جوازه على هذا القول انه اذا رضى بأن يلتزم عنه مقدارا له يجب عليه بعد ان يقر المضمون عنه به للدافع ثم يضمنه عنه الضامن فإن خشى المقر ان يطالبه المقر له بذلك ولا يدفعه اليه فالحيلة ان يقول هو على من ثمن مبيع لم اقبضه فإن تحرج من الاخبار بالكذب فالحيلة ان يبيعه ما يريد اخذه منه بالمبلغ الذي التزم
الضامن اداءه فإذا صار في ذمته ضمنه عنه وهذا الحكم اذا زوج ابنه او عبده او اجيره وضمن للمرأة نفقتها وكسوتها فالصحيح في هذا كله جواز الضمان والحاجة تدعو اليه ولا محذور فيه وليس بعقد معاوضة فتؤثر فيه الجهالة وعقود الالتزام لا يؤثر فيها الجهالة كالنذر ثم يمكن رفع الجهالة بأن يحد له حدا فيقول من درهم الى كذا وكذا
فإن قيل ما بين الدرهم والغاية مجهول لا يدري كم يلزمه منه قيل لا يقدح ذلك في جواز الالتزام لانه يتبين في الآخر كم هو الواجب منه ثم لو اقر بذلك فقال له على ما بين درهم الى الف صح فهكذا اذا قال ضمنت عنه ما بين درهم الى الف
فإن قيل الضامن فرع على المضمون عنه فإذا كان الاصل لم يثبت في ذمته شيء فعلى أي شيء الضمان ينبني الضمان ويتفرع
قيل انما يصير ضامنا اذا ثبت في ذمة المضمون عنه والا في الحال فليس هو ضامنا وان صح ان يقال هو ضامن بالقوة ففي الحقيقة هو ضمان معلق على شرط وذلك جائز والله اعلم
المثال الحادي والستون إذا سبق لسانه بما يؤاخذ به في الظاهر ولم يرد معناه او اراده ثم رجع عنه وتاب منه او خاف ان يشهد عليه به شهود زور ولم يتكلم به فرفع الى الحاكم وادعى عليه به فإن انكر شهدوا عليه وان اقر حكم عليه ولا سيما ان كان لا يرى قبول التوبة من ذلك فالحيلة في الخلاص أن لا يقر به ولا ينكر فيشهد عليه الشهود بل يكفيه في الجواب ان يقول إن كنت قلته فقد رجعت عنه وأنا تائب الى الله منه وليس للحاكم بعد ذلك ان يقول لا اكتفى منك بهذا الجواب بل لا بد من الاقرار او الانكار فان هذا جواب كاف في مثل هذه الدعوى وتكليفه بعد ذلك خطة الخسف
بالاقرار وقد يكون كاذبا فيه او الانكار وقد تاب منه بينه وبين الله تعالى فيشهد عليه الشهود ظلم وباطل فلا يحل للحاكم ان يسأله بعد هذا هل وقع منك ذلك او لم يقع بل أبلغ من هذا لو شهد عليه بالردة فقال لم ازل اشهد ان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله منذ عقلت والى الآن لم يستكشف عن شيء ولم يسأل لا هو ولا الشهود عن سبب ردته كما ذكره الخرقي في مختصره وغيره من اصحاب الشافعي فإذا ادعى عليه بانه قال كذا وكذا فقال إن كنت قلته فأنا تائب الى الله منه او قد تبت منه فقد اكتفى منه بهذا الجواب ولم يكشف عن شيء منه بعد ذلك
فإن قيل هذا تعليق للتوبة او الاسلام بالشرط ولا يصح تعليقه بشرط
قيل هذا من قلة فقه مورده فإن التوبة لا تصح إلا على هذا الشرط تلفظ به او لم يتلفظ به وكذلك تجديد الاسلام لا يصح إلا بشرط ان يوجد ما يناقضه فتلفظه بالشرط تأكيد لمقتضى عقد التوبة والاسلام وهذا كما اذا قال إن كان هذا ملكى فقد بعتك إياه فهل يقول احد إن هذا بيع معلق بشرط فلا يصح وكذلك اذا قال ان كانت هذه امرأتي فهى طالق لا يقول احد إنه طلاق معلق ونظائره اكثر من ان تذكر
وقد شرع الله لعباده التعليق بالشروط في كل موضع يحتاج اليه العبد حتى بينه وبين ربه كما قال النبي ص - لضباعة بنت الزبير وقد شكت اليه وقت الاحرام فقال حجى واشترطى على ربك فقولى ان حبسني حابس فمحلى حيث حبستني فإن لك ما اشترطت على ربك فهذا شرط مع الله في العبادة وقد شرعه على لسان رسوله لحاجة الامة اليه ويفيد شيئين جواز التحلل وسقوط الهدى وكذلك الداعى بالخيرة يشترط على ربه في دعائه فيقول اللهم ان كان هذا الامر خيرا لى في دينى ومعاشى وعاقبة امرى عاجله وآجله فاقدره لي ويسره لي فيعلق طلب
الاجابة بالشرط لحاجته الى ذلك لخفاء المصلحة عليه وكذلك النبي ص - اشترط على ربه أيما رجل سبه او لعنه وليس لذلك بأهل ان يجعلها كفارة له وقربة يقربه بها اليه وهذا تعليق للمدعو به بشرط الاستحقاق وكذلك المصلى على الميت شرع له تعليق الدعاء بالشرط فيقول اللهم انت أعلم بسره وعلانيته إن كان محسنا فتقبل حسناته وان كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته فهذا طلب للتجاوز عنه بشرط فكيف يمنع تعليق التوبة بالشرط
وقال شيخنا كان يشكل على احيانا حال من اصلي عليه الجنائر هل هو مؤمن او منافق فرأيت رسول الله ص - في المنام فسألته عن مسائل عديدة منها هذه المسألة فقال يا أحمد الشرط الشرط او قال علق الدعاء بالشرط وكذلك ارشد امته ص - الى تعليق الدعاء بالحياة والموت بالشرط فقال لا يتمنى احدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل اللهم احينى اذا كانت الحياة خيرا لى وتوفنى اذا كانت الوفاة خيرا لى وكذلك قوله في الحديث الآخر واذا اردت بعبادك فتنة فتوفنى اليك غير مفتون وقال المسلمون عند شروطهم إلا شرطا احل حراما وحرم حلالا
وتعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات وغيرها بالشروط امر قد يدعو اليه الضرورة او الحاجة او المصلحة فلا يستغنى عنه المكلف وقد صح تعليق النظر بالشرط بالاجماع ونص الكتاب وتعليق الضمان بالشرط بنص القرآن وتعليق النكاح بالشرط في تزويج موسى بابنة صاحب مدين وهو من أصح نكاح على وجه الارض ولم يأت في شريعتنا ما ينسخه بل اتت مقررة له كقوله ص - إن احق الشروط ان توفوا به ما استحللتم به الفروج فهذا صريح في ان حل الفروج بالنكاح قد يعلق على شرط ونص الامام احمد على جواز تعليق النكاح بالشرط وهذا هو الصحيح كما يعلق الطلاق والجعالة والنذر وغيرها من العقود وعلق امير المؤمنين عمر رضى الله عنه عقد المزارعة بالشرط فكان
يدفع ارضه الى من يعمل عليها على انه ان جاء عمر بالبذر فله كدا وان جاء العامل بالبذر فله كذا ذكره البخاري ولم يخالفه صاحب ونص الامام احمد على جواز تعليق البيع بالشرط في قوله إن بعت هذه الجارية فأنا احق بها بالثمن واحتج بأنه قول ابن مسعود ورهن الامام احمد نعله وقال للمرتهن إن جئتك بالحق الى كذا وإلا فهو لك وهذا بيع بشرط فقد فعله وافتى به وكذلك تعليق الابراء بالشرط نص على جوازه فعلا منه فقال لمن اغتابه ثم استحله انت في حل ان لم تعد فقال له الميموني قد اغتابك وتحلله فقال الم ترنى قد اشترطت عليه ان لا يعود والمتأخرون من اصحابه يقولون لا يصح تعليق الابراء بالشرط وليس ذلك موافقا لنصوصه ولا لأصوله
وقد علق النبي ص - ولاية الامارة بالشرط وهذا تنبيه على تعليق الحكم في كل ولاية وعلى تعليق الوكالة الخاصة والعامة وقد علق ابو بكر تولية عمر رضى الله عنه بالشرط ووافقه عليه سائر الصحابة فلم ينكره منهم رجل واحد وقال النبي ص - من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا ان يشترطها المبتاع فهذا الشرط خلاف مقتضى العقد المطلق وقد جوزه الشارع وقال من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا ان يشترطه المبتاع وفي السنن عنه من اعتق عبدا وله مال فمال العبد له إلا ان يشترطه السيد وفي المسند والسنن عن سفينة قال كنت مملوكا لأم سلمة فقالت اعتقتك واشترطت عليك ان تخدم رسول الله ص - ما عشت فقلت ولو لم تشترطي على ما فارقت رسول الله ص - ما عشت فأعتقتني واشترطت على وذكر البخاري في صحيحه عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال مقاطع الحقوق عند الشروط ولك ما شرطت وقال البخاري في باب الشروط في القرض وقال ابن عمر وعطاء إذا احله في القرض جاز وقال في باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الاقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم وقال ابن عوف عن ابن سيرين قال قال رجل لكريه ارحل ركابك فإن لم أرحل معك في يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال
شريح من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه وقال ايوب عن ابن سيرين ان رجلا باع طعاما فقال ان لم آتك الاربعاء فليس بيني وبينك بيع فقال للمشتري انت أخلفته فقضى عليه وقال في باب الشروط في المهر وقال المسور سمعت رسول الله ص - ذكر صهرا فأثنى عليه في مصاهرته فأحسن فقال حدثني فصدقني ووعدني فوفاني ثم ذكر فيه حديث احق الشروط ان توفوا به ما استحللتم به الفروج وقال في كتاب الحرث وعامل عمر الناس على انه إن جاء عمر بالبذر من عنده فلهم الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا وهذا صريح في جواز إن خطته اليوم فلك كذا وإن خطته غدا فلك كذا وفي جواز بعتكه بعشرة نقدا او بعشرين نسيئة فالصواب جواز هذا كله للنص والآثار والقياس وقال جابر بعت رسول الله ص - بعيرا واشترطت حملانه الى اهلى وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبدالرحمن بن فروخ عن نافع بن عبدالحارث عامل عمر على مكة انه اشترى من صفوان بن امية دارا لعمر بن الخطاب بأربعة آلاف درهم واشترط عليه نافع ان رضى عمر فالبيع له وان لم يرض فلصفوان اربعمائة درهم ومن ههنا قال الامام احمد لا بأس ببيع العربون لان عمر فعله واجاز هذا البيع والشرط فيه مجاهد ومحمد بن سيرين وزيد بن اسلم ونافع ابن عبدالحارث وقال ابو عمر وكان زيد بن اسلم يقول أجازه رسول الله ص - وذكر الامام احمد ان محمد بن مسلمة الانصاري اشترى من نبطى حزمة حطب واشترط عليه حملها الى قصر سعد واشترى عبد الله ابن مسعود جارية من امرأته وشرطت عليه انه إن باعها فهى لها بالثمن وفي ذلك اتفاقهما على صحة البيع والشرط ذكره الامام احمد وافتى به
والمقصود أن للشروط عند الشارع شأنا ليس عند كثير من الفقهاء فإنهم يلغون شروطا لم يلغها الشارع ويفسدون بها العقد من غير مفسدة تقتضى فساده وهم متناقضون فيما يقبل التعليق بالشروط من العقود وما لا يقبله فليس
لهم ضابط مطرد منعكس يقوم عليه دليل فالصواب الضابط الشرعي الذي دل عليه النص ان كل شرط خالف حكم الله وكتابه فهو باطل وما لم يخالفه حكمه فهو لازم
يوضحه ان الالتزام بالشروط كالالتزام بالنذر والنذر لا يبطل منه إلا ما خالف حكم الله وكتابه بل الشروط في حقوق العباد أوسع من النذر في حق الله والالتزام به أوفي من الالتزام بالنذر
وإنما بسطت القول في هذا لان باب الشرط يدفع حيل اكثر المتحيلين ويجعل للرجل مخرجا مما يخاف منه ومما يضيق عليه فالشرط الجائز بمنزلة العقد بل هو عقد وعهد وقد قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود وقال والموفون بعهدهم اذا عاهدوا
وههنا قضيتان كليتان من قضايا الشرع الذي بعث الله به رسوله احداهما ان كل شرط خالف حكم الله وناقض كتابه فهو باطل كائنا ما كان والثانية ان كل شرط لا يخالف حكمه ولا يناقض كتابه وهو ما يجوز تركه وفعله بدون الشرط فهو لازم بالشرط ولا يستثنى من هاتين القضيتين شيء وقد دل عليهما كتاب الله وسنة رسول واتفاق الصحابة ولا تعبأ بالنقض بالمسائل المذهبية والاقوال الآرائية فإنها لا تهدم قاعدة من قواعد الشرع فالشروط في حق المكلفين كالنذر في حقوق رب العالمين فكل طاعة جاز فعلها قبل النذر لزمت بالنذر وكذلك كل شرط قد جاز بذله بدون الاشتراط لزم بالشرط فمقاطع الحقوق عند الشروط واذا كان من علامات النفاق اخلاف الوعد وليس بمشروط فكيف الوعد المؤكد بالشرط بل ترك الوفاء بالشرط يدخل في الكذب والخلف والخيانة والغدر وبالله التوفيق
المثال الثاني والستون اذا باعه جارية معيبة وخاف ردها عليه بالعيب فليبين له من عيبها ويشهد انه دخل عليه فإن خاف ردها بعيب آخر لا يعلمه
البائع فليعين له عيوبا يدخل في جملتها وانه رضى بها كذلك فإن كان العيب غير متصور ولا داخل في جملة تلك العيوب فليقل وانك رضيت بها بحملة ما فيها من العيوب التي توجب الرد مقتصرا على ذلك ولا يقول وانك اسقطت حقك من الرد ولا أبرأتني من كل دعوى توجب الرد ولا يبيعها بشرط البراءة من كل عيب فإن هذا لا يسقط الرد عند كثير من الفقهاء وهي مسألة البيع بالبراءة من العيوب وللشافعي فيها ثلاثة اقوال احدها صحة البيع والشرط والثاني صحة البيع وفساد الشرط وانه لا يبرأ من شيء من العيوب والثالث انه يبرأ من العيوب الباطنة في الحيوان خاصة دون غيرها
والمشهور من مذهب مالك جواز العقد والشرط وانه يبرأ من جميع العيوب وهل يعم ذلك جميع المبيعات او يخص بعضها فذكر ابن حبيب عن مالك وابن وهب انه يعم جميع المبيعات عرضا كان المبيع او حيوانا وعنه انه يختص ببعض المبيعات واختلف عنه في تعيينه فالذي في الموطأ عنه انه يختص بالحيوان ناطقا كان او بهما والذي في التهذيب اختصاصه بناطق الحيوان قالوا وعلى هذا المذهب في صحة ذلك مطلقا فبيع السلطان وبيع الميراث اذا علم انه ميراث جار مجري بيع البراءة وان لم يشترط وعلى هذا فإذا قال ابيعك بيع الميراث لا قيام بعيب صح ذلك ويكون بيع براءة وفي الميراث لا يحتاج الى ذكره قالوا واذا قلنا ان البراءة تنفع فإنما منفعتها في امتناع الرد بعيب لم يعلم به البائع واما ما علم به البائع فإن شرط البراءة لا يمنع رد المشتري به اذا لم يكن عالما به وقت العقد فإذا ادعى المشتري علم البائع فأقر او نكل بعد توجه اليمين عليه توجه الرد عليه
قالوا ولو ملك شيئا ثم باعه قبل ان يستعمله بشرط البراءة لم ينفعه ذلك حتى يستعمله ويستبرئه ثم يبيعه بشرط البراءة قال في التهذيب في التجار يقدمون بالرقيق فيبيعونه بالبراءة ولم تطل اقامة الرقيق عندهم هؤلاء يريدون ان يذهبوا بأموال الناس باطلا لا تنفعهم البراءة وقال عبد الملك وغيره لا يشترط
استعماله ولا طول مقامه عنده بل تنفعه البراءة كما تنفعه مع الطول والاستعمال قالوا واذا كان في المبيع عيب يعلمه البائع بعينه فأدخله في جملة عيوب ليست موجودة وتبرا منها كلها لم يبرأ منه حتى يفرده بالبراءة ويعين موضعه وجنسه ومقدار بحيث لا يبقى للمبتاع فيه قول قالوا وكذلك لو اراه العيب وشاهده لم يبرا منه اذا كان ظاهره لا يستلزم الاحاطة بباطنه وباطنه فيه فساد آخر كما اذا اراه دبرة البعير وشاهدها وهي منغلة مفسدة فلم يذكر له ما فيها من نغل وغيره ونظائر ذلك قالوا وكذلك لو اخبره ان به اباقا او سرقة وهو اباق بعيد او سرقة عظيمة والمشتري يظنه يسيرا لم يبرأ حتى يبين له ذلك
قال ابو القاسم ابن الكاتب لا يختلف قول مالك في ان بيع السلطان بيع براءة على المفلس او لقضاء ديون من تركة ميت براءة ايضا وان لم يشترطها قال وانما كان كذلك لانه حكم منه بالمبيع وبيع البراءة مختلف فيه فإذا حكم السلطان بأحد اقوال العلماء لم ترد قضيته عند من يرى خلاف رأيه فيما حكم به ورد ذلك عليه المازري وغيره وقالوا السلطان لم يتعرض في البيع الى خلاف ولا وفاق ولا قصد الى حكم به يرفع النزاع وقد حكى بعض الشيوخ الخلاف في بيع البراءة ولو تولاه السلطان بنفسه قال وذلك لان سحنون قال وكان قول مالك القديم ان بيع السلطان وبيع الوارث لا قيام فيه بعيب ولا بعهدة قال وهذا يدل على ان له قولا آخر خلاف هذا وقال ويدل عليه ان ابن القاسم قال اذا بيع عبد على مفلس فإن للمشتري ان يرده بالعيب قال فالصواب ان بيع السلطان وبيع الورثة كغيرهما قال المازري اما بيع الورثة لقضاء ديونه وتنفيذ وصاياه فإن فيه الخلاف المشهور قال واما ما باعوه لانفسهم للانفصال من شركة بعضهم لبعض فملتحق ببيع الرجل مال نفسه بالبراءة وكذلك من باع للانفاق على من في ولايته قلت وقول المازري ان بيع السلطان لا تعرض فيه لحكم مبني على اصل وهو ان الحاكم اذا عقد
بنفسه عقدا مختلفا فيه هل يكون بمنزلة حكمه به فيسوغ تنفيذه ولا يسوغ رده او لا يكون حكما منه به فيسوغ لحاكم اخر خلافه وفي هذا الاصل قولان للفقهاء وهما في مذهب الامام احمد وغيره فهذا تقرير مذلك في هذه المسألة
وأما مذهب ابي حنيفة فإنه يصحح البيع والشرط ولا يمكن المشتري من الرد بعد اشتراط البراءة العامة سواء علم البائع العيب او لو يعلمه حيوانا كان المبيع او غيره وتناضر في هذه المسألة أبو حنيفة وابن ابي ليل فقال ابن ابي ليلى لا يبرأ إلا من عيب اشار اليه ووضع يده عليه فقال ابو حنيفة فلو ان امرأة من قريش باعت عبدا زنجيا على ذكره عيب افتضع اصبعها على ذكره فسكت ابن ابي ليلى
وأما مذهب الامام احمد فعنه ثلاث روايات إحداهن انه لا يبرأ بذلك ولا يسقط حق المشتري من الرد بالعيب الا من عيب عنه وعلم به المشتري والثانية انه يبرأ مطلقا والثالثة انه يبرأ من كل عيب لم يعلمه ولا يبرأ من كل عيب علمه حتى يعلم به المشتري
فإن صححنا البيع والشرط فلا إشكال وإن أبطلنا الشرط فهل يبطل البيع او يصح ويثبت الرد فيه وجهان فإذا اثبتنا الرد وابطلنا الشرط فللبائع الرجوع بالتفاوت الذي نقص من ثمن السلعة بالشرط الذي لم يسلم له فإنه انما باعها بذلك الثمن بناء على ان المشتري لا يردها عليه بعيب ولو علم ان المشتري يتمكن من ردها لم يبعها بذلك الثمن فله الرجوع بالتفاوت وهذا هو العدل وقياس اصول الشريعة فان المشتري كما يرجع بالارش عند فوات غرضه من سلامة المبيع فكذا البائع يرجع بالتفاوت عند فوات غرضه من الشرط الذي ابطلناه عليه
والصحيح في هذه المسألة ما جاء عن الصحابة فإن عبدالله بن عمر باع
زيد بن ثابت عبدا بشرط البراءة بثمانمائة درهم فأصاب به زيد عيبا فأراد رده على ابن عمر فلم يقبله فترافعا الى عثمان فقال عثمان لابن عمر تحلف انك لم تعلم بهذا العيب فقال لا فرده عليه فباعه ابن عمر بألف درهم ذكره الامام احمد وغيره وهذا اتفاق منهم على صحة البيع وجواز شرط البراءة واتفاق من عثمان وزيد على ان البائع اذا علم بالعيب لم ينفعه شرط البراءة وعلى ان المدعى عليه متى نكل عن اليمين قضى عليه بالنكول ولم ترد اليمين على المدعى لكن هذا فيما اذا كان المدعى عليه منفردا بمعرفة الحال فاذا لم يحلف مع كونه عالما بصورة الحال قضى عليه بالنكول واما اذا كان المدعى هو المنفرد بالعلم بالحال او كان مما لا يخفى عليه علمها ردت عليه اليمين فمثال الاول قضية ابن عمر هذه فانه هو العالم بانه هل كان يعلم الغيب او لا يعلمه بخلاف زيد بن ثابت فإنه لا يعلم علم ابن عمر بذلك ولا عدم علمه فلا يشرع رد اليمين عليه ومثال الثاني اذا ادعى على وارث ميت انه اقرض مورثه مائة درهم او باعه سلعة ولم يقبضه ثمنها او اودعه وديعة والوارث غائب لا يعلم ذلك وسأل إحلافه فنكل عن اليمين لم يقض عليه بالنكول وردت اليمين على المدعى لانه منفرد بعلم ذلك فاذا لم يحلف لم يقض له ومثال الثالث اذا ادعى عليه انه باعه او اجره فنكل عن اليمين حلف المدعى وقضى له فإن لم يحلف لم يقض له بنكول المدعى عليه لانه عالم بصحة ما ادعاه فإذا لم يحلف ولم يقم له بينه لم يكن مجرد نكول خصمه مصححا لدعواه
فهذا التحقيق احسن ما قيل في مسألة النكول ورد اليمين وعليه تدل آثار الصحابة ويزول عنها الاختلاف ويكون هذا في موضعه وهذا في موضعه
وعرف حذيفة جملا له فادعاه فنكل المدعى عليه وتوجهت اليمن على حذيفة فقال أتراني اترك جملى فحلف بالله انه ما باع ولا هب
فقد ثبت تحليف المدعى اذا اقام شاهدا واحدا والشاهد اقوى من النكول فتحليفه مع النكول اولى وقد شرع الله ورسوله تحليف المدعى في ايمان القسامة لقوة جانبه باللوث فتحليفه مع النكول اولى وكذلك شرع تحليف الزوج في اللعان وكذلك شرع تحليف المدعى اذا كان شاهد الحال يصدقه كما اذا تداعيا متاع البيت او تداعى النجار والخياط آلة كل منهما فإنه يقضى لمن تدل الحال على صحة دعواه مع يمينه وقد روى في حديث مرفوع ان النبي ص - رد اليمين على طالب الحق ذكره الدارقطني وغيره وهذا محض الفقه والقياس فأنه اذا نكل قوى جانب المدعى فظن صدقه فشرع اليمين في حقه فإن اليمين إنما شرعت في جانب المدعى عليه لقوة جانبه بالاصل فإذا شهد الشاهد الواحد ضعف هذا الاصل ولم يتمكن قوته من الاستقلال وقوى جانب المدعى باليمين وهكذا اذا نكل ضعف اصل البراءة ولم يكن النكول مستقلا بإثبات الدعوى لجواز ان يكون لجهله بالحال او لتورعه عن اليمين او للخوف من عاقبة اليمين او لموافقة قضاء وقدر فيظن الظان انه بسبب اليمين او لترفعه عن ابتذاله باستحلاف خصمه له مع علمه بأنه لو حلف كان صادقا واذا احتمل نكوله هذه الوجوه لم يكن مستقلا بل غايته ان يكون مقويا لجنبة المدعى فترد اليمين عليه ولم تكن هذه المسألة مقصودة وانما جر اليها الكلام في اثر ابن عمر وزيد في مسألة البراءة
وقد علم حكم هذا الشرط واين ينتفع به البار واين لا ينتفع به
وإن قيل فهل ينفعه ان يشترط على المشتري انه متى رده فهو حر ام لا ينفعه واذا خاف توكيله في الرد استوثق منه بقوله متى رددته او وكلت في رده فان خاف من رد الحاكم عليه حيث يرده بالشرع فلا يكون المشتري هو الراد ولا وكيله بل الحاكم المنفذ للشرع فاستوثق منه بقوله إذا دعيت رده فهو حر فهنا تصعب الحيلة على الرد إلا على مذهب ابي ثور واحد الوجهين في مذهب الامام احمد وهو
إجماع الصحابة ان تعليق العتق متى قصد به الحض او المنع فهو يمين حكمه حكم اليمين بالحج والصوم والصدقة وحكم ما لو قال ان رددته فعلى ان اعتقه بل اولى بعدم العتق فإن هذا نذر قربة ولكن اخراجه مخرج اليمين منع لزوم الوفاء به مع ان الالتزام به اكثر من الالتزام بقوله فهو حر فكل ما في التزام قوله فهو حر فهو داخل في التزام فعلى ان اعتقه ولا ينعكس فإن قوله فعلى ان اعتقه يتضمن وجوب الاعتاق وفعل العتق ووقوع الحرية فإذا منع قصد الحض او المنع وقوع ثلاثة اشياء فلأن يمنع وقوع واحد منها اولى واحرى وهذا لا جواب عنه وهو مما يبين فضل فقه الصحابة وان بين فقههم وفقه من بعدهم كما بينه وبينهم وحتى لو لم يصح ذلك عنهم لكان هذا محض القياس ومقتضى قواعد الشرع واصوله من اكثر من عشرين وجها لا تخفي على متبحر تتبعها ويكفي قول فقيه الامة وحبرها وترجمان القرآن ابن عباس العتق ما ابتغى به وجه الله والطلاق ما كان عن وطر فتأمل هاتين الكلمتين الشريفتين الصادرتين عن علم قد رسخ اسفله وبسق اعلاه واينعت ثمرته وذللت للطالب قطوفه ثم احكم بالكلمتين على ايمان الحالفين بالعتق والطلاق هل تجد الحالف بهذا ممن يبتغي به وجه الله والتقرب اليه باعتاق هذا العبد وهل تجد الحالف بالطلاق ممن له وطرفي طلاق زوجته فرضى الله عن جبر هذه الامه لقد شفت كلمتاه هاتان الصدور وطبقتا المفصل واصابتا المحز وكانتا برهانا على استجابة دعوة ص - ان يعلمه الله التأويل ويفقهه في الدين ولا يوحشنك من قد اقر على نفسه هو و جميع اهل العلم انه ليس من اولى العلم فإذا ظفرت برجل واحد من اولى العلم طالب للدليل محكم له متبع للحق حيث كان واين كان ومع من كان زالت الوحشة وحصلت الالفة ولو خالفك فإنه يخالفك ويعذرك والجاهل الظالم يخالفك بلا حجة ويكفرك او يبدعك بلا حجة وذنبك رغبتك عن طريقته الوخيمة وسيرته الذميمة فلا تغتر بكثرة هذا الضرب وفإن الآلاف المؤلفة منهم لا يعدلون بشخص واحد من اهل العلم والواحد من اهل العلم يعدل بملء الارض منهم
واعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كان وحده وإن خالفه أهل الأرض قال عمرو بن ميمون الاودى صحبت معاذا باليمن فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام ثم صبحت من بعده افقه الناس عبد الله ابن مسعود فسمعته يقول عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول سيولى عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فصلوا الصلاة لميقاتها فهى الفريضة وصلوا معهم فإنها لكم نافلة قال قلت يا أصحاب محمد ما ادري ما تحدثون قال وما ذاك قلت تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول لي صل الصلاة وحدك وهي الفريضة وصل مع الجماعة وهي نافلة قال يا عمرو بن ميمون قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية أتدري ما الجماعة قلت لا قال إن جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة الجماعة ما وافق الحق وان كنت وحدك وفي لفظ آخر فضرب على فخذي وقال ويحك أن جمهور الناس فارقوا الجماعة وان الجماعة ما وافق طاعة الله تعالى
وقال نعيم بن حماد إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وان كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ ذكرهما البيهقى وغيره
وقال بعض أئمة الحديث وقد ذكر له السواد الأعظم فقال أتدرى ما السواد الأعظم هو محمد بن أسلم الطوسي واصحابه فمسخ المختلفون الذين جعلوا السواد الأعظم والحجة والجماعة هم الجمهور وجعلوهم عيارا على السنة وجعلوا السنة بدعة والمعروف منكرا لقلة أهله وتفردهم في الإعصار والأمصار وقالوا من شذ شذ الله به في النار وما عرف المختلفون أن الشاذ ما خالف الحق وان كان الناس كلهم عليه إلا واحدا منهم فهم الشاذون وقد شد الناس كلهم زمن احمد بن حنبل إلا نفرا يسيرا فكانوا هم الجماعة وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذون وكان الإمام احمد وحده هو الجماعة ولما لم يتحمل هذا عقول الناس قالوا للخليفة يا أمير المؤمنين أتكون أنت وقضاتك وولاتك والفقهاء والمفتون كلهم على الباطل واحمد وحده هو على الحق
فلم يتسع علمه لذلك فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل فلا إله إلا الله ما أشبه الليلة بالبارحة وهي السبيل المهيع لأهل السنة والجماعة حتى يلقوا ربهم مضى عليها سلفهم وينتظرها خلفهم من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم
المثال الثالث والستون إذا وقعت الفرقة البائنة بين الزوجين لم تجب لها عليه نفقة ولا سكنى بسنة رسول الله ص - الصحيحة الصريحة فإن خاف أن ترفعه إلى حاكم يرى وجوب ذلك عليه فالحيلة أن يتغيب مدة العدة فإذا رفعته بعد ذلك لم يحكم بها عليه لأنها تسقط عنه بمضي الزمان كما يقوله الاكثرون في نفقة القريب وكما هو متفق عليه في نفقة العبد والحيوان البهيم ولا كراهة في هذه الحيلة لأنها وسيلة الى اسقاط ما أسقطه الله ورسوله بخلاف الحيلة على إسقاط ما أوجبه الله ورسوله فهذه لون وتلك لون فإن لم تمكنه الغيبة وأمكنه أن يرفعها إلى حاكم يحكم بسقوط ذلك فعل والحيلة في أن يتوصل إلى حكم حاكم بذلك أن ينشيء الطلاق أو يقر به بحضرته ثم يسأله الحكم بما يراه من سقوط النفقة والسكنى بهذه الفرقة مع علمه باختلاف العلماء في ذلك فإن بدرته إلى حاكم يرى وجوبها فقد ضاقت عليه وجوه الحيل ولم يبق له إلا حيلة واحدة وهي دعواه أنها كانت بانت منه قبل ذلك بمدة تزيد على انقضاء عدتها وانه نسى البينونة وهذه الحيلة تدخل في قسم التوصل إلى الجائز بالمحظور كما تقدم نظائره
المثال الرابع والستون اختلف الفقهاء في الضمان هل هو تعدد لمحل الحق وقيام للضمين مقام المضمون عنه أو هو استيثاق بمنزلة الرهن على قولين وهما روايتان عن مالك يظهر أثرهما في مطالبة الضامن مع التمكن من مطالبة المضمون عنه فمن قال بالقول الأول وهم الجمهور قالوا لصاحب الحق مطالبة من شاء
منهما على السواء ومن قال بالقول الثاني قال ليس له مطالبة الضامن إلا إذا تعذر عليه مطالبة المضمون عنه واحتج هؤلاء بثلاث حجج إحداها أن الضامن فرع والمضمون عنه اصل وقاعدة الشريعة أن الفروع والأبدال لا يصار إليها إلا عند تعذر الأصول كالتراب في الطهارة والصوم في كفارة اليمين وشاهد الفرع مع شاهد الأصل وقد اطرد هذا في ولاية النكاح واستحقاق الميراث لا يلى فرع مع أصله ولا يرث معه الحجة الثانية أن الكفالة توثقه وحفظ للحق فهى جارية مجرى الرهن ولكن ذاك رهن عين وهي رهن ذمة أقامها الشارع مقام رهن الأعيان للحاجة إليها واستدعاء المصلحة لها والرهن لا يستوفي منه إلا مع تعذر الاستيفاء من الراهن فكذا الضمين ولهذا كثيرا ما يقترن الرهن والضمين لتواخيهما وتشابههما وحصول الاستيثاق بكل منهما الحجة الثالثة أن الضامن في الأصل لم يوضع لتعدد محل الحق كما لم يوضع لنقله وإنما وضع ليحفظ صاحب الحق حقه من التوى والهلاك ويكون له محل يرجع إليه عند تعذر الاستيفاء من محله الأصلي ولم ينصب الضامن نفسه لان يطالبه المضمون له مع وجود الأصيل ويسرته والتمكن من مطالبته والناس يستقبحون هذا ويعدون فاعله متعديا ولا يعذرونه بالمطالبة حتى إذا تعذر عليه مطالبة الأصيل عذروه بمطالبة الضامن وكانوا عونا له عليه وهذا أمر مستقر في فطر الناس ومعاملاتهم بحيث لو طالب الضامن والمضمون عنده إلى جانبه والدراهم في كمه وهو متمكن من مطالبته لاستقبحوا ذلك غاية الاستقباح وهذا القول في القوة كما ترى وهو رواية ابن القاسم في الكتاب عن مالك ولا ينافى هذا قول النبي ص - الزعيم غارم فإنه لا عموم له ولا يدل على انه غارم في جميع الأحوال ولهذا لو أدى الأصيل لم يكن غارما ولحديث أبى قتادة في ضمان دين الميت لتعذر مطالبة الأصيل ولا يصح الاحتجاج بأن الضمان مشتق من الضم فاقتضى لفظه ضم إحدى الذمتين إلى الأخرى لوجهين أحدهما أن الضم من المضاعف
والضمان من الضمين فمادتهما مختلفة ومعناهما مختلف وان تشابها لفظا ومعنى في بعض الأمور الثاني انه لو كان مشتقا من الضم فالضم قدر مشترك بين ضم يطالب معه استقلالا وبدلا والأعم لا يستلزم الأخص
وإذا عرف هذا و أراد الضامن الدخول عليه فالحيلة أن يعلق الضمان بالشرط فيقول إن توى المال على الأصيل فأنا ضامن له ولا يمنع تعليق الضمان بالشرط وقد صرح القرآن بتعليقه بالشرط وهو محض القياس فإنه التزام فجاز تعليقه بالشرط كالنذور والمؤمنون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا وهذا ليس واحدا منهما ومقاطع الحقوق عند الشروط فإن خاف من قاصر في الفقه غير راسخ في حقائقه فليقل ضمنت لك هذا الدين عند تعذر استيفائه ممن هو عليه فهذا ضمان مخصوص بحاله مخصوصة فلا يجوز إلزامه به في غيرها كما لو ضمن الحال مؤجلا أو ضمنه في مكان دون مكان فإن خاف من إفساد هذا أيضا فليشهد عليه أنه لا يستحق المطالبة له به إلا عند تعذر مطالبة الأصيل وأنه متى طالبه أو ادعى عليه به مع قدرته على الأصيل كانت دعواه باطلة والله اعلم
المثال الخامس والستون قد تدعو الحاجة إلى أن يكون عقد الإجارة مبهما غير معين فمثاله أن يقول له إن ركبت هذه الدابة إلى أرض كذا فلك عشرة وإن ركبتها إلى أرض كذا فلك خمسة عشر أو يقول إن خطت هذا القميص اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فنصف درهم وإن زرعت هذه الأرض حنطة فأجرتها مائة أو شعيرا فأجرتها خمسون ونحو ذلك فهذا كله جائز صحيح لا يدل على بطلانه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس بل هذه الأدلة تقتضي صحته وان كان فيه نزاع متأخر فالثابت عن الصحابة الذي لا يعلم عنهم فيه نزاع جوازه كما ذكره البخاري في صحيحه عن عمر انه دفع أرضه إلى من يزرعها وقال ان جاء عمر بالبذر من عنده فله كذا وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا ولم
يخالفه صحابي واحد ولا محذور في ذلك ولا خطر ولا غرر ولا أكل مال بالباطل ولا جهالة تعود إلى العمل ولا إلى العوض فإنه لا يقع إلا معينا والخيرة إلى الأجير أي ذلك احب أن يستوفي فعل فهو كما لو قال له أي ثوب أخذته من هذا الثياب فقيمته كذا أو أي دابة ركبتها فأجرتها كذا أو أجرة هذه الفرس كذا وأجرة هذا الحمار كذا فأيها شئت فخذه أو ثمن هذا الثوب مائة وثمن هذا مائتان ونحو ذلك مما ليس فيه غرر ولا جهالة ولا ربا ولا ظلم فكيف تأتى الشريعة بتحريمه وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة على فعله وكثير من المتأخرين من أتباع الأئمة يبطل هذا العقد فالحيلة على جوازه أن يقول استأجرتك لتخيطه اليوم بدرهم فإن خطته غدا فلك أجرة مثله نصف درهم وكذا يقول أجرتك هذه الدابة إلى ارض كذا بعشرة فإن ركبتها إلى ارض كذاو كذا فعليك أجرة مثلها كذا وكذا فإن خاف أن يكون يده يد عدوان ضمنه فليقل فإذا انقضت المسافة الأولى فهى أمانة عندك هذا عند من لم يصحح الإجارة المضافة ومن صححها فالحيلة عنده أن يقول فإذا قطعت هذه المسافة فقد آجرتكها إلى مسافة كذا وكذا فإذا انتهت آجرتكها إلى مسافة كذا وكذا فإن خشى المستأجر أن ينقضى شغله قبل ذلك فيبقى عقد الإجارة لازما له وقد فرغ شغله فالحيلة أن يقول إذا انقضت المسافة أو المدة فقد وكلتك في إجارتها لمن شئت فليؤجرها لغيره ثم يستأجرها منه فإن خاف أن لا تتم هذه الحيلة على اصل من لا يجوز تعليق الوكالة بالشرط فليوكله في الحال وكالة غير معلقة ثم يعلق تصرفه بالشرط فيقول أنت وكيلي في إجارتها فإذا انقضت المدة فقد أذنت لك في إجارتها
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال الحيل إن احتال في إجازة هذا الشرط فقال استأجرها إلى دمشق بكذا ومن دمشق إلى الرملة بكذا ومن الرملة إلى مصر بكذا جاز له لأنه إذا سمى لكل من المسافتين أجرة معلومة فكل واحدة منهما كالمعقود عليه على حاله فلا يمنع صحة العقد
قلت ولكن لا تنفعه هذه الحيلة إذا انقضى غرضه عند المسافة الأولى ويبقى عقد الإجارة لازما له فيما وراءها فتصير كما لو استأجرها إلى مصر فانقضى غرضه في الرملة فما الذي أفاده تعدد العقود فوجود هذه الحيلة وعدمها سواء فالوجه ما ذكرناه والله أعلم
المثال السادس والستون يجوز بيع المقاثي والباذنجان ونحوها بعد أن يبدو صلاحها كما تباع الثمار في رؤوس الأشجار ولا يمنع من صحة البيع تلاحق المبيع شيئا بعد شيء كما لم يمنع ذلك صحة بيع التوت والتين وسائر ما يخرج شيئا بعد شيء هذا محض القياس وعليه تقوم مصالح بني آدم ولا بد لهم منه ومن منع بيع ذلك إلا لقطة لقطة فمع أن ذلك متعذر في الغالب لا سبيل إليه إذ هو في غاية الحرج والعسر فهو مجهول لا ينضبط ولا ما هي اللقطة المبيعة أهي الكبار أو الصغار أو المتوسط أو بعض ذلك وتكون المقثأة كبيرة جدا لا يمكن اخذ اللقطة الواحدة إلا في أيام متعددة فيحدث كل يوم لقطة أخرى تختلط بالمبيع ولا يمكن تميزها منه ولا سبيل إلى الاحتراز من ذلك إلا أن يجمع دواب المصر كلها في يوم واحد ومن أمكنه من القطافين ثم يقطع الجميع في يوم واحد ويعرضه للتلف والضياع وحاشا أكمل الشرائع بل غيرها من الشرائع أن تأتى بمثل هذا وإنما هذا من الاغلاط الواقعة بالاجتهاد وأين حرم الله ورسوله على الأمة ما هم أحوج الناس إليه ثم أباح لهم نظيره فإن كان هذا غررا فبيع الثمار المتلاحقة الأجزاء غرر وإن لم يكن ذلك غررا فهذا مثله والصواب أن كليهما ليس غررا لا لغة ولا عرفا ولا شرعا ودعوى أن ذلك غرر دعوى بلا برهان فإن ادعى ذلك على اللغة طولب بالنقل ولن يجد إليه سبيلا وإن ادعى ذلك على العرف فالعرف شاهد بخلافه واهل العرف لا يعدون ذلك غررا وإن ادعاه على الشرع طولب بالدليل الشرعي فإن بلى بمن يقول هكذا في الكتاب وهكذا قالوا فالحيلة في الجواز أن يشتري ذلك بعروقه فإذا استوفى ثمرته تصرف في العروق بما يريد والمانعون يجوزون هذه الحيلة ومن المعلوم أن العروق غير مقصودة وإنما المقصود الثمرة
فان امتنع البيع لأجل الغرر لم يزل بملك العروق وهذا في غاية الظهور وبيع ذلك كبيع الثمار وهو قول أهل المدينة واحد الوجهين في مذهب الإمام احمد واختاره شيخنا
المثال السابع والستون تجوز قسمة الدين المشترك بميراث أوعقد أوإتلاف فينفرد كل من الشريكين بحصته ويختص بما قبضه سواء كان في ذمة واحدة أوفي ذمم متعددة فإن الحق لهما فيجوز أن يتفقا على قسمته أوعلى بقائه مشتركا ولا محذور في ذلك بل هذه أولى بالجواز من قسمة المنافع بالمهايأة بالزمان أو بالمكان ولا سيما فان المهايأة بالزمان تقتضي تقدم أحدهما على الأخر وقد تسلم المنفعة إلى نوبة الشريك وقد تتوى والدين في الذمة يقوم مقام العين ولهذا تصح المعاوضة عليه من الغريم وغيره وتجب على صاحبه زكاته إذا تمكن من قبضه ويجب عليه الإنفاق على أهله وولده ورقيقه منه ولا يعد فقيرا معدما فاقتسامه يجري مجرى اقتسام الأعيان والمنافع
فإذا رضى كل من الشريكين أن يختص بما يخصه من الدين فينفرد هذا برجل يطالبه وهذا برجل يطالبه أو ينفرد هذا بالمطالبة بحصته وهذا بالمطالبة بحصته لم يهدما بذلك قاعدة من قواعد الشريعة ولا استحلا ما حرم الله ولا خالفا نص كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول صاحب ولا قياسا شهد له الشرع بالاعتبار وغاية ما يقدر عدم تكافؤ الذمم ووقوع التفاوت فيها وأن ما في الذمة لم يتعين فلا يمكن قسمته وهذا لا يمنع تراضيهما بالقسمة مع التفاوت فإن الحق لا يعدوهما وعدم تعين ما في الذمة لا يمنع القسمة فإنه يتعين تقديرا ويكفي في إمكان القسمة التعين بوجه فهو معين تقديرا ويتعين بالقبض تحقيقا
وأما قول أبي الوفاء ابن عقيل لا تختلف الرواية عن احمد في عدم جواز
قسمة الدين في الذمة الواحدة واختلفت الرواية عنه في جواز قسمته إذا كان في الذمتين فعنه فيه روايتان فليس كذلك بل عنه في كل من الصورتين روايتان وليس في أصوله ما يمنع جواز القسمة كما ليس في أصول الشريعة ما يمنعها وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة على الجواز وأما من منع من القسمة فقد تشتد الحاجة إليها فيحتاج إلى التحليل عليها فالحيلة أن يأذن لشريكه أن يقبض من الغريم ما يخصه فإذا فعل لم يكن لشريكه أن يخاصمه فيه بعد الاذن على الصحيح من المذهب كما صرح به الأصحاب وكذلك لو قبض حصته ثم استهلكها قبل المحاصة لم يضمن لشريكه شيئا وكان المقبوض من ضمانه خاصة وذلك أنه لما أذن لشريكه في قبض ما يخصه فقد أسقط حقه من المحاصة فيختص الشريك بالمقبوض وأما إذا استهلك الشريك ما قبضه فإنه لا يضمن لشريكه حصته منه من قبل المحاصة لأنه لم يدخل في ملكه ولم يتعين له بمجرد قبض الشريك له ولهذا لو وفى شريكه نظيره لم يقل انتقل إلى القابض الأول ما كان ملكا للشريك فدل على أنه إنما بصير ملكا له بالمحاصة لا بمجرد قبض الشريك
ومن الأصحاب من فرق بين كون الدين بعقد وبين كونه بإتلاف أو إرث ووجه الفرق أنه إذا كان بعقد فكأنه عقد مع الشريكين فلكل منهما أن يطالب بما يخصه بخلاف دين الإرث والإتلاف والله أعلم
المثال الثامن والستون اختلف الفقهاء في جواز بيع المغيبات في الأرض من البصل والثوم والجزر واللفت والفجل والقلقاس ونحوها على قولين أحدهما المنع من بيعه كذلك لأنه مجهول غير مشاهد والورق لا يدل على باطنه بخلاف ظاهر الصبرة وعند أصحاب هذا القول لا يباع حتى يقلع والقول الثاني يجوز بيعه كذلك على ما جرت به عادة أصحاب الحقول وهذا قول أهل المدينة وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد اختاره شيخنا وهو الصواب المقطوع به فإن في المنع من بيع ذلك حتى يقلع أعظم الضرر
والحرج والمشقة مع ما فيه من الفساد الذي لا تأتي به شريعة فإنه إن قلعه كله في وقت واحد تعرض للتلف والفساد وإن قيل كلما أردت بيع شيء منه فاقلعه كان فيه من الحرج والعسر ما هو معلوم وإن قيل اتركه في الأرض حتى يفسد ولاتبعه فيها فهذا لا تأتي به شريعة وبالجمله فالمفتون بهذا القول لو بلوا بذلك في حقولهم أو ما هو وقف عليهم ونحو ذلك لم يمكنهم إلا بيعه في الأرض ولابد أو أتلافه وعدم الانتفاع به وقول القائل إن هذا غرر ومجهول فهذا ليس حظ الفقيه ولا هو من شأنه وإنما هذا من شأن أهل الخبرة بذلك فإن عدوه قمارا أو غررا فهم أعلم بذلك وإنما حظ الفقيه يحل كذا لأن الله أباحه ويحرم كذا لأن الله حرمه وقال الله وقال رسوله وقال الصحابة وأما أن يرى هذا خطرا وقمارأ أو غررا فليس من شأنه بل أربابه أخبر بهذا منه والمرجع إليهم فيه كما يرجع إليهم في كون هذا الوصف عيبا أم لا وكون هذا البيع مربحا أم لا وكون هذه السلعة نافقة في وقت كذا وبلد كذا ونحو ذلك من الأوصاف الحسية والأمور العرفية فالفقهاء بالنسبة إليهم فيها مثلهم بالنسبة إلى ما في الأحكام الشرعية
فإن بليت بمن يقول هكذا في الكتاب وهكذا قالوا فالحيلة في الجواز أن تستأجر منه الأرض المشغولة بذلك مدة يعلم فراغه منها ويقر له إقرارا مشهودا له به أن ما في باطن الأرض له لاحق للمؤجر فيه ولكن عكس هذه الحيلة لو أصابته آفة لم يتمكن من وضع الجائحة عنه بخلاف ما إذا اشتراه بعد بدو صلاحه فإنه كالثمرة على رءوس الشجر إن أصابته آفة وضعت عنه الجائحة وهذا الصواب في المسألتين جواز بيعه ووضع الجوائح فيه والله أعلم 0
المثال التاسع والستون اختلفت الفقهاء في جواز البيع بما ينقطع به السعر من غير تقدير الثمن وقت العقد وصورتها البيع ممن يعامله من خباز أو لحام أو سمان
أو غيرهم يأخذ منه كل يوم شيئا معلوما ثم يحاسبه عند رأس الشهر أو السنة على الجميع ويعطيه ثمنه فمنعه الأكثرون وجعلو القبض به غير ناقل للملك وهو قبض فاسد يجري مجرى المقبوض بالغصب لأنه مقبوض بعقد فاسد هذا وكلهم إلا شدد على نفسه يفعل ذلك ولا يجد منه بدا وهو يفتي ببطلانه وأنه باق على ملك البائع ولا يمكنه التخلص من ذلك إلا بمساومته له عند كل حاجة يأخذها قل ثمنها أو كثر وإن كان ممن شرط الإيجاب والقبول لفظا فلا بد مع المساوة أن يقرن بها الإيجاب والقبول لفظا والقول الثاني وهو الصواب المقطوع به وهو عمل الناس في كل عصر ومصر جواز البيع بما ينقطع به السعر وهو منصوص الإمام أحمد واختاره شيخنا وسمعته يقول هو أطيب لقلب المشتري من المساومة يقول لي أسوة بالناس اخذ بما يأخذ به غيري قال والذين يمنعون من ذلك لا يمكنهم تركه بل هم واقعون فيه وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا إجماع الأمة ولا قول صاحب ولا قياس صحيح ما يحرمه
وقد أجمعت الأمة على صحة النكاح بمهر المثل وأكثرهم يجوزون عقد الإجارة بأجرة المثل كالنكاح والغسال والخباز والملاح وقيم الحمام والمكاري والبيع بثمن المثل كبيع ماء الحمام فغاية البيع بالسعر أن يكون بيعه بثمن المثل فيجوز كما تجوز المعاوضة بثمن المثل في هذه الصورة وغيرها فهذا هو القياس الصحيح ولا تقوم مصالح الناس إلا به
فإن بليت بالقائل هكذا في الكتاب وهكذا قالوا فالحيلة في الجواز أن يأخذ ذلك قرضا في ذمته ذمته فيجب عليه للدافع مثله ثم يعاوضه عليه بثمن معلوم فإنه بيع للدين من الغريم وهو جائز ولكن في هذه الحيلة افة وهو أنه قد يرتفع السعر فيطالبه بالمثل فيتضرر الأخذ وقد ينخفض فيعطيه المثل فيتضرر الأول فالطريق الشرعية التي لم يحرمها الله ورسوله أولى بهما والله أعلم
المثال السبعون إذا كان عليه دين وله وقف من غلة دار أو بستان فوكل صاحب الدين أن يستوفي ذلك من دينه جاز فإن خاف أن يحتال عليه ويعزله عن الوكالة فليجعلها حوالة على من في ذمته عوض ذلك المغل فإن لم يكن قد وآجر الدار أو الأرض لأحد فالحيلة أن يستأجرها منه صاحب الدين بعوض في ذمته ثم يعاوضه بدينه من ذلك العوض فإن أراد أن يكون هو وكيله في استيفاء دينه من تلك المنافع لا بطريق الإجارة ولا بطريق الحوالة بل بطريق الوكالة في قبض ما يصير إليه من غلة ذلك الوقف وخاف عزله فالحيلة أن يأخذ إقراره أن الواقف شرط أن يقضي ما عليه من الدين أولا ثم يصرف إليه بعد الدين كذا و كذا وأنه وجب لفلان وهو الغريم عليه من الدين كذا وكذا وأنه يستحقه من مغل هذا الوقف مقدما به على سائر مصارف الوقف وأنه لا ينتقل من الموقوف شيء قبل قضاء الدين وأن ولاية أمر هذا الوقف إلى فلان حتى يستوفي ينه فإذا استوفاه فلا ولاية له عليه وإن حكم حاكم بذلك كان اوفق
المثال الحادي و السبعون إذا كان له عليه دين فقال إن مت قبلي فأنت في حل وإن مت قبلك فأنت في حل صح و برىء في الصورتين فإن إحداهما وصية والأخرى إبراء معلق بالشرط ويصح تعليق الإبراء بالشرط لأنه إسقاط كما يصح تعليق العتق والطلاق وقد نص عليه الإمام أحمد في الإحلال من العرض والمال مثله
وقال أصحابنا وأصحاب الشافعي إذا قال إن مت قبلك فأنت في حل هو إبراء صحيح لأنه وصية وإن قال إن مت قبلي فأنت في حل لم يصح لأنه تعليق للإبراء بالشرط ولم يقيموا شبهة فضلا عن دليل صحيح على امتناع تعليق الإبراء بالشرط ولا يدفعه نص ولا قياس ولاقول صاحب فالصواب صحة الإبراء في الموضعين وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة
فإن بلى من يقول هكذا في الكتاب وهكذا قالوا فالحيلة أن يشهد عليه أنه لا يستحق عليه شيئا بعد موته من هذا الدين ولا في تركته وإن شاء كتب الفصلين في سجل واحد وضمنه الوصية له به إن مات رب الدين وإن مات المدين فلا حق له به قبله فيصح حينئذ مستندا إلى ظاهر الإقرار وهو إبراء في المعنى
المثال الثاني والسبعون لو غلظ المضارب أو الشريك وقال ربحت ألفا ثم أراد الرجوع لم يقبل منه لأنه إنكار بعد إقرار ولو أقام بينة على الغلط فالصحيح أنها تقبل وقيل لا تقبل لأنه مكذب لها فالحيلة في استدراكه ما غلط فيه بحيث تقبل منه أن يقول خسرتها بعد أن ربحتها فالقول قوله في ذلك ولا يلزمه الألف وهكذا الحيلة في استدراك كل أمين لظلامته كالمودع إذا رد الوديعة التي دفعت إليه ببينة ولم يشهد على ردها فهل يقبل قوله في الرد فيه قولان روايتان عن الإمام أحمد فإذا خاف أن لا يقبل قوله فالحيلة في تخلصه أن يدعى تلفها من غير تفريط فإن حلفه على ذلك فليحلف موريا متأولا من عنده خروجها من تحت يده ونظائر ذلك والله أعلم
المثال الثالث والسبعون إن استغرقت الديون ماله لم يصح تبرعه بما يضر بأرباب الديون سواء حجر عليه الحاكم أولم يحجر عليه هذا مذهب مالك واختيار شيخنا وعند الثلاثة يصح تصرفه في ماله قبل الحجر بأنواع التصرف والصحيح هو القول الأول هو الذي لا يليق بأصول المذهب غيره بل هو مقتضى أصول الشرع وقواعده لأن حق الغرماء قد تعلق بماله ولهذا يحجر عليها الحاكم ولو تعلق حق الغرماء بما له لم يسع الحاكم الحجر عليه فصار كالمريض مرض الموت لما تعلق حق الورثة بماله منعه الشارع من التبرع بما زاد على الثلث فإن في تمكينه من التبرع بماله إبطال حق الورثة منه وفي تمكين هذا المديان من التبرع إبطال حقوق الغرماء والشريعة لا تأتي بمثل هذا فإنها إنما جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق بكل طريق وسد الطرق المفضية إلى إضاعتها وقال النبي ص -
من أخذ أموال الناس يريد أداءها
أداها الله عنه ومن أخذها يريد أتلافها أتلفه الله ولا ريب أن هذا التبرع إتلاف لها فكيف ينفذ تبرع من دعا رسول الله ص - على فاعله
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يحكى عن بعض علماء عصره من أصحاب احمد انه كان ينكر هذا المذهب و يضعفه قال إلى أن بلى بغريم تبرع قبل الحجر عليه فقال و الله مذهب مالك هو الحق في هذه المسألة و تبويب البخارى و ترجمتة و استدلاله يدل على اختياره هذا المذهب فانه قال في باب من رد أمر السفيه و الضعيف وإن لم يكن حجر عليه الإمام ويذكر عن جابر أن النبي ص - رد على المتصدق قبل النهي ثم نهاه فتأمل هذا االإستدلال قال عبد الحق أراد به والله أعلم حديث جابر في بيع المدبر ثم قال البخاري في هذا الباب نفسه وقال مالك إذا كان لرجل على رجل مال وله عبد لا شئ له غيره فأعتقه لم يجز عتقه ثم ذكر حديث من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله وهذا الذي حكاه عن مالك هو في كتب أصحابه
وقال ابن الجلاب ولا تجوز هبة المفلس ولا عتقه ولا صدقته إلا بإذن غرمائه وكذلك المديان الذي لم يفلسه غرماؤه في عتقه وهبته وصدقته وهذا القول هو الذي لا نختار غيره
وعلى هذا فالحيلة لمن تبرع غريمه بهبة أو صدقة أو وقف أو عتق وليس في ماله سعة له ولدائنه أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلان هذا التبرع ويسأله الحكم ببطلانه فإن لم يكن في بلده حاكم يحكم بذلك فالحيلة أن يأخذ عليه إذا خاف منه ذلك الضمين أو الرهن فإن بادر الغريم وتبرع قبل ذلك فقد ضاقت الحيلة على صاحب الحق ولم يبق غير أمر واحد وهو التوصل إلى إقراره بأن ما في يده أعيان أموال الغرماء فيمتنع التبرع بعد الإقرار فإن قدم تاريخ الإقرار بطل التبرع المتقدم أيضا وليست هذه حيلة على إبطال حق ولا تحقيق باطل بل على جور وظلم فلا بأس بها والله أعلم
المثال الرابع والسبعون إذا كان له عليه دين ولا بينة له به وخاف أن يجحده أوله بينة به ويخاف أن يمطله فالحيلة أن يستدين منه بقدر دينه إن أمكن ولا يضره أن يعطيه به رهنا أو كفيلا فإذا ثبت له في ذمته نظير دينه قاصه به وإن لم يرض على أصح المذاهب فإن حذر غريمه من ذلك وأمكنه أن يشتري منه سلعة ولا يعين الثمن ويخرج النقد فيضعه بين يديه فإذا قبض السلعة وطلب منه الثمن قاصه بالدين الذي عليه وبكل حال فطريق الحيلة أن يجعل له عليه من الدين نظير ماله
المثال الخامس والسبعون إذا خاف العنت ولم يجد طول حرة وكره رق أولاده فالحيلة في عتقهم أن يشترط على السيد أن ما ولدته زوجته منه من الولد فهم أحرار فكل ولد تلده بعد ذلك منه فهو حر ويصح تعليق العتق بالولادة كما لو قال لأمته كل ولد تلدينه فهو حر قال ابن المنذر ولا أحفظ فيه خلافا
فإن قيل فهل تجوزون نكاح الأمة بدون الشرطين إذا امن رق ولده بهذا التعليق
قيل هذا محل اجتهاد ولا تأباه أصول الشريعة وليس فيه إلا أن الولد يثبت عليه الولاء للسيد وهو شعبة من الرق ومثل هذا هل ينتهض سببا لتحريم نكاح الأمة أو يقال وهو أظهر إن الله تعالى منع من نكاح الإماء لأنهن في الغالب لا يحجبن حجب الحرائر وهن في مهنة ساداتهن وحوائجهن وهن برزات لا مخدرات وهذه كانت عادة العرب في إمائهن وإلى اليوم فصان الله تعالى الأزواج أن تكون زوجاتهم بهذه المثابة مع ما يتبع ذلك من رق الولد وأباحه لهم عند الضرورة إليه كما أباح الميتة والدم ولحم الخنزير عند المخصمة وكل هذا منع منه تعالى كنكاح غير المحصنة ولهذا شرط تعالى في نكاحهن أن
يكن محصنات غير مسافحات ولا ولامتخذات أخدان أي غير زانية مع من كان ولا زانية مع خدينها وعشيقها دون غيره فلم يبح لهم نكاح الإماء إلا بأربعة شروط عدم الطول وخوف العنت وإذن سيدها وأن تكون عفيفة غير فاجرة فجورا عاما ولا خاصا والله أعلم
والمثال السادس والسبعون إذا لم تمكنه أمته من نفسها حتى يعتقها ويتزوجها ولا يريد إخراجها عن ملكه ولا تبصر نفسه عنها فالحيلة أن يبيعها أو يهبها لمن يثق به ويشهد عليه من حيث لا تعلم هي والبيع أجود لأنه لا يحتاج إلى قبض ثم يعتقها ثم يتزوجها فإذا فعل استردها من المشتري من حيث لا تعلم الجارية فانفسخ النكاح فيطؤها بملك اليمين ولا عدة عليها
المثال السابع والسبعون إذا أراده من لا يملك رده على بيع جاريته منه فالحيلة في خلاصه أن يفعل ما ذكرناه سواء ويشهد على عتقها أو نكاحها ثم يستقيله البيع فيطؤها بملك اليمين في الباطن وهي زوجته في الظاهر ويجوز هذا لأنه يدفع به عن نفسه ولا يسقط به حق ذي حق وإن شاء احتال بحيلة أخرى وهى إ قراره بأنها وضعت منه ما يتبين به خلق الإنسان فصارت بذلك أم ولد لا يمكن نقل الملك فيها فإن أحب دفع التهمة عنه وأنه قصد بذلك التحيل فليبعها لمن يثق به ثم يواطىء المشترى على أن يدعى عليه أنها وضعت في ملكه ما فيه صورة إنسان ويقر بذلك فينفسخ البيع ويكتب بذلك محضرا فإنه يمتنع بيعها بعد ذلك
المثال الثامن والسبعون إذا أراد أن يبيع الجارية من رجل بعينه ولم تطب نفسه بأن تكون عند غيره فله في ذلك أنواع من الحيل إحداها أن يشترط عليه أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن كما اشترطت ذلك امرأة
عبد الله بن مسعود عليه ونص الإمام أحمد على جواز البيع والشرط في رواية على بن سعيد وهو الصحيح فإن لم تتم له هذه الحيلة لعدم من ينفذها له فليشترط عليه أنك إن بعتها لغيري فهي حرة ويصح هذا الشرط وتعتق عليه إن باعها لغيره إما بمجرد الإيجاب عند صاحب المغنى وغيره وإما بالقبول فيقع العتق عقيبه وينفسخ البيع عند صاحب المحرر وهذه طريقة القاضي
قال في كتاب إبطال الحيل إذا قال إن بعتك هذا العبد فهو حر وقال المشتري إن اشتريته فهو حر فباعه عتق على البائع لأنه ليس له عند دخوله في ملك الآخر حال استقرار حتى يعتق عليه بنيته التابعة لأن خيار المجلس ثابت للبائع فملك المشتري غير مستقر وقول صاحب المحرر وانفسخ البيع تقرير لهذه الطريقة وأنه إنما يعتق بالقبول ويعتق في مدة الخيار على أحد الوجوه الثلاثة
فإن لم تتم له هذه الحيلة عند من لا يصحح هذا التعليق ويقول إذا اشتراها ملكها ولا تعتق بالشرط في ملك الغير كما يقوله أبو حنيفه فله حيلة أخرى وهي أن يقول إذا بعتها فهي حرة قبل البيع فيصح هذا التعليق فإذا باعها حكمنا بوقوع العتق قبل البيع على أحد الوجهين في مذهب الشافعي وأحمد رضى الله عنهما
فإذا لم تتم له هذه الحيلة عند من لا يصحح هذا التعليق فله حيلة أخرى وهي أن يقول إذا اشتريتها فهي مدبرة فيصح هذا التعليق ويمتنع بيعها عند أبي حنيفة فإن التدبير عنده جار مجرى العتق المعلق بصفة فإذا اشتراها صارت مدبرة ولم يمكنه بيعها عنده
فإن لم تتم له هذه الحيلة على قول من لا يجوز تعليق التدبير بصفة فالحيلة أن يأخذ البائع إقرار المشتري بأنه دبر هذه الجارية بعد ما اشتراها وأنه جعلها حرة بعد موته
فإن لم تتم له هذه الحيلة على قول من يجوز بيع المدبر وهو الإمام أحمد
ومن قال بقوله فالحيلة أن يشهد عليه قبل أن يبيعها منه أنه كان من سيدها تزويجا صحيحا وأنها ولدت منه ولدا ثم اشتراها بعد ذلك فصارت أم ولده فلا يمكنه بيعها
فإن لم تتم هذه الحيلة على قول من يعتبر في كونها أم ولد أن تحمل وتضع في ملكه ولا يكفي أن تلد منه في غير ملكه كما هو ظاهر مذهب أحمد والشافعي فقد ضاقت عليه وجوه الحيل ولم يبق له إلا حيلة واحدة وهي أن يتراضى سيد الجارية والمشتري برجل ثقة عدل بينهما فيبيعها هذا العدل بطريق الوكالة عن سيدها بزيادة على ثمنها الذي اتفقا عليه ويزيد ما شاء ويقبض منه الثمن الذي اتفقا عليه فإن أراد المشتري بيعها طالبه بباقي الثمن الذي أظهره ولو لم يدخلا بينهما ثالثا بل اتفقا على ذلك فقال أبيعكها بمائة دينار وآخذ منك أربعين فإن بعتها طالبتك بباقي الثمن وإن لم تبعها لم أطالبك جاز لكن في توسط العدل الذي يثق به المشتري كأبيه وصاحبه تطييب لقلبه وأمان له من مطالبة البائع له بالثمن الكثير
المثال التاسع والسبعون إذا طلب منه ولده أو عبده أن يزوجه وخاف أن يلحقه ضرر بالزوجة ويأمره بطلاقها فلا يقبل فالحيلة أن يقول له لا أزوجك إلا أن تجعل أمر الزوجة بيدي فإن وثق منه بذلك الوعد قال له بعد التزويج أمرها بيدك وإن لم يثق منه به وخاف أنه إذا قبل العقد لا يفي له بما وعده فالحيلة أن لا يأذن له حتى يعلق ذلك بالنكاح فيقول إن تزوجتها فأمرها بيدك ويصح هذا التعليق على مذهب أهل المدينة وأهل العراق فإن أراد أن يكون ذلك مجمعا عليه فليكتب في كتاب الصداق وأقر الزوج المذكور أن أمر الزوجة المذكورة بيد السيد أو الأب فإذا وقع ما يحذره منها تمكن حينئذ من التطليق عليه والله أعلم لكن قد يخرجه عن الوكالة بعد ذلك فلا يتم مراده فالحيلة أن يشترط عليه أنه متى أخرجه عن الوكالة فهي طالق
المثال الثمانون إذا دبر عبده أو أمته جاز له بيعه ويبطل تدبيره فإن خاف أن يرفعه العبد إلى حاكم لا يرى بيع المدبر فيحكم عليه بالمنع من
بيعه فالحيلة أن يقول إن مت وأنت في ملكي فأنت حر بعد موتي فإذا قال ذلك تم له الأمر كما أراد فإن أراد بيعه مادام حيا فله ذلك وإن مات وهو في ملكه عتق عليه والفرق بين أن يقول أنت حر بعد موتي وبين أن يقول إن مت وأنت في ملكي فأنت حر بعد موتي أن هذا تعليق للعتق بصفة وذلك لا يمنع بيع العبد كما لو قال إن دخلت الدار فأنت حر فله بيعه قبل وجود الصفة بخلاف قوله أنت حر بعد موتي فإنه جزم بحريته في ذلك الوقت ونظير هذا أنه لو قال إن مت قبلي فأنت في حل من الدين الذي عليك فهو إبراء معلق بصفة ولو قال له أنت في حل بعد موتي صح ولم يكن تعليقا للإبراء بالشرط ونظيره لو قال إن مت فداري وقف فإنه تعليق للوقف بالشرط ولو قال هي وقف بعد موتي صح والله أعلم
المثال الحادي والثمانون لو أن رجلين ضمنا رجلا بنفسه فدفعه أحدهما الى الطالب برىء الذي لم يدفع وهذا بمنزلة رجلين ضمنا لرجل مالا فدفعه إليه أحدهما فإنهما يبرءان جميعا لأن المضمون هو إحضار واحد فإذا سلمه أحدهما فقد وجد الإحضار المضمون فبرئا جميعا قال القاضي وربما ألزمه بعض القضاة الضمان بنفس المطلوب ولا يجعل دفع الآخر براءة للذي لم يدفع فالحيلة أن يضمنا للطالب هذا الرجل بنفسه على أنه إذا دفعه أحدهما فهما جميعا بريئان فيتخلص على قول الكل أو يشهدا أن كل واحد منهما وكيل صاحبه في دفع هذا الرجل إلى الطالب والتبرى إليه فإذا دفعه أحدهما برئا جميعا منه لأنه إذا كان كل منهما وكيل صاحبه كان تسليمه كتسليم موكله
المثال الثاني والثمانون قال القاضي في كتاب إبطال الحيل إذا كان لرجلين على امرأة مال وهما شريكان فتزوجها أحدهما على نصيبه من المال الذي عليها لم يضمن لصاحبه شيئا من المهر لأنه لم يجعل نصيبه في ضمانه فصار كما لو أبرأه وربما ضمنه بعض الفقهاء فالحيلة فيه أن يهب لها نصيبه مما
عليها ثم يتزوجها بعد ذلك على مقدار ما وهبها ثم تهب المرأة للزوج المهر الذي تزوجها عليه لأن أحد الشريكين إذا وهب نصيبه من المال المشترك لا يضمن لكونه متبرعا فإذا تزوجها بعد ذلك على مهر ووهبته له حصل مقصوده وتخلص من أقاويل المختلفين
المثال الثالث والثمانون لو حلف رجل بالطلاق أنه لا يضمن عن أحد شيئا فحلف آخر بالطلاق أن لابد أن تضمن عني فالحيلة في أن يضمن عنه ولا يحنث أن يشاركه ويشتري متاعا بينه وبين شريكه قال القاضي فإنه يضمن عن شريكه نصف الثمن ولا يحنث الحالف في يمينه لأن المحلوف عليه عقد الضمان وما يلزمه في مسألتنا لا يلزمه بعقد الضمان وإنما يلزمه بالوكالة لأن كل واحد من الشريكين وكيل صاحبه فيما يشتريه فلهذا لم يحنث في يمينه فإن كانت بحالها ولم يكن بينه وبين المحلوف عليه شركة لكنه وكله المحلوف عليه فاشتراها لم يحنث أيضا لم بينا
المثال الرابع والثمانون شريكان شركة عنان ضمنا عن رجل مالا بأمره على أنه إن أدى المال أحد الشريكين رجع به على شريكه وإن أداه الآخر فشريكه منه برىء وللمسألة أربع صور إحداها أن يقولا أيانا أداه رجع به على شريكه الثانية عكسه الثالثة أن يقول إن أديته أنا رجعت به عليك ولا ترجع به على إن أديته الرابعة عكسه فالصورة الأولى والثانية لا تحتاج إلى حيلة وأما الثالثة والرابعة فالحيلة في جوازهما أن يضمن أحد الشريكين عن المدين ما عليه لصاحبه ثم يجىء شريكه فيضمن ما لصاحب الحق عليهما فإذا أدى هذا الشريك المال رجع به على شريكه والأصيل وإذا أداه شريكه والأصيل لم يرجعا على الشريك بشيء لأن شريكه قد صار صاحب الأصل ههنا فلو رجع عليه لرجع هو عليه بشيء فمن حيث يثبت يسقط فلا معنى للرجوع عليه
المثال الخامس والثمانون لأبأس للمظلوم أن يتحيل على مسبة الناس لظالمه والدعاء عليه والأخذ من عرضه وإن لم يفعل ذلك بنفسه إذ لعل ذلك يردعه ويمنعه من الإقامة على ظلمه وهذا كما لو أخذ ماله فلبس أرث الثياب بعد أحسنها وأظهر البكاء والنحيب والتأوه أو آذاه في جواره فخرج من داره وطرح متاعه على الطريق أو أخذ دابته فطرح حمله على الطريق وجلس يبكي ونحو ذلك فكل هذا مما يدعو الناس إلى لعن الظالم له وسبه والدعاء عليه وقد أرشد النبي ص - المظلوم بأذى جاره له إلى نحو ذلك ففي السنن ومسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي ص - من جاره فقال اذهب فاصبر فأتاه مرتين أو ثلاثا فقال اذهب فاطرح متاعك في الطريق فطرح متاعه في الطريق فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره فجعل الناس يلعنونه فعل الله به وفعل فجاء إليه جاره فقال له ارجع لا ترى مني شيئا تكرهه هذا لفظ أبي داود
المثال السادس والثمانون ما ذكره في مناقب أبي حنيفة رحمة الله تعالى أن رجلا أتاه بالليل فقال أدركني قبل الفجر وإلا طلقت امرأتي فقال وما ذاك قال تركت الليلة كلامي فقلت لها إن طلع الفجر ولم تكلميني فأنت طالق ثلاثا وقد توسلت إليها بكل أمر أن تكلمني فلم تفعل فقال له اذهب فمر مؤذن المسجد أن ينزل فيؤذن قبل الفجر فلعلها إذا سمعته أن تكلمك واذهب إليها وناشدها أن تكلمك قبل أن يؤذن المؤذن ففعل الرجل وجلس يناشدها وأذن المؤذن فقالت قد طلع الفجر وتخلصت منك فقال قد كلمتني قبل الفجر وتخلصت من اليمين وهذا من أحسن الحيل
المثال السابع والثمانون قال بشر بن الوليد كان في جوار أبي حنيفة فتى يغشى مجلسه فقال له يوما إني أريد التزوج بامرأة وقد طلبوا مني من المهر فوق طاقتي وقد تعلقت بالمرأة فقال له اعطهم ما طلبوا منك ففعل فلما عقد العقد جاء إليه فقال قد طلبوا مني المهر فقال احتل واقترض وأعطهم
ففعل فلما دخل بأهله قال إني أخاف المطالبين بالدين وليس عندي ما أوفيهم فقال أظهر أنك تريد سفرا بعيدا وأنك تريد الخروج بأهلك ففعل واكترى جمالا فاشتد ذلك على المرأة وأوليائها فجاءوا إلي أبى حنيفة رحمه الله فسألوه فقال له أن يذهب بأهله حيث شاء فقالوا نحن نرضيه ونرد إليه ما أخذناه منه ولا يسافر فلما سمع الزوج طمع فقال لا والله حتى يزيدوني فقال له إن رضيت بهذا وإلا أقرت المرأة أن عليها دينا لرجل فلا يمكنك أن تخرجها حتى توفيه فقال بالله لا يسمع أهل المرأة ذلك منك أنا أرضى بالذي أعطيتهم
المثال الثامن والثمانون قال القاضي أبو يعلى إذا كان لرجل على رجل ألف درهم فصالحه منها على مائة درهم يؤديها إليه في شهر كذا فإن لم يفعل وأخرها إلى شهر آخر فعليه مائتان فهو جائز وقد أبطله قوم آخرون قال أما جواز الصلح من ألف على مائة فالوجه فيه أن التسعمائة لا يستفيدها بعقد الصلح وإنما استفادها بعقد المداينة وهو العقد السابق فعلم أنها ليست مأخوذة على وجه المعاوضة وإنما هي على طريق الإبراء عن بعض حقه قال ويفارق هذا إذا كانت له ألف مؤجلة فصالحه على تسعمائة حالة انه لا يجوز لأنه استفاد هذه التسعمائة بعقد الصلح لأنه لم يكن مالكا لها حالة وإنما كان يملكها مؤجلة فلهذا لم يصح
وأما جوازه على الشرط المذكور وهو انه إن لم يفعل فعليه مائتان فلأن المصالح إنما علق فسخ البراءة بالشرط والفسخ يجوز تعليقه بالشرط وإن لم يجز تعليق البراءة بالشرط ألا ترى انه لو قال أبيعك هذا الثوب بشرط أن تنقدني الثمن اليوم فإن لم تنقدني الثمن اليوم فلا بيع بيننا إذا لم ينقد الثمن في يومه انفسخ العقد بينهما كذلك ههنا ومن لم يجز ذلك يقول هذا تعليق براءة المال بالشرط وذلك لا يجوز قال والوجه في جواز هذا الصلح على مذهب الجميع
أن يعجل رب المال حط ثمانمائة يحطها على كل حال ثم يصالح المطلوب من المائتين الباقيتين على مائة يؤديها إليه في شهر كذا على أنه إن أخرها عن هذا الوقت فلا صلح بينهما فإذا فعل هذا فقد استوثق في قول الجميع لأنه متى صالحه على مائتين وقد حط عنه الباقي يصير كأنه لم يكن عليه من الدين إلا مائتا درهم ثم صالحه عن المائتين الباقيتين على مائة يؤديها إليه في شهر كذا فإن أخرها فلا صلح بينهما فيكون على قول الجميع مخ العقد معلقا بترك النقد وذلك جائز على ما بيناه في البيع
فإن أراد أن يكاتب عبده على ألف درهم يؤديها إليه في سنتين فإن لم يفعل فعليه ألف أخرى فهى كتابة فاسدة لأنه علق إيجاب المال بخطر وتعليق المال بالأخطار لا يجوز والحيلة في جوازه أن يكاتبه على ألفي درهم ويكتب عليه بذلك كتابا ثم يصالحه بعد ذلك على آلف درهم يؤديها إليه في سنتين فإن لم يفعل فلا صلح بينهما فيكون تعليقا للفسخ بخطر وذلك جائز على ما قدمناه من مسألة البيع فإن كان السيد كاتب عبده على ألفي درهم إلى سنتين فأراد العبد أن يصالح سيده على النصف يعجلها له فإن ذلك جائز عندنا ويبطله غيرنا انتهى كلامه
المثال التاسع والثمانون قال القاضي إذا اشترى رجل من رجل دارا بألف درهم فجاء الشفيع يطلب الشفعة فصالحه المشتري على أن أعطاه نصف الدار بنصف الثمن جاز لأن الشفيع صالح على بعض حقه وذلك جائز كما لو صالح من آلف على خمسمائة فإن صالحه على بيت من الدار بحصته من الثمن لم يجز لأنه صالح على شئ مجهول لأن ما يأخذه الشفيع يأخذه على وجه المعاوضة وحصة المبيع من الثمن مجهولة وجهالة العوض تمنع صحة العقد فالحيلة حتى يسلم البيت للشفيع والدار للمشتري أن يشتري الشفيع هذا البيت من المشتري بثمن مسمى ثم يسلم الشفيع للمشتري ما بقى من الدار وشراء الشفيع لهذا البيت تسليم
للشفعة ومساومته بالبيت تسليم للشفعة لأنه إذا اشتراه بثمن مسمى كان عوض البيت معلوما ودخوله في شراء البيت تسليم للشفعة فيما بقى من الدار وذلك جائز فالحيلة أن يأخذ البيت بهذا الثمن المسمى من غير أن يكون مسلما للشفعة حتى يجب له البيت أن يبدأ المشتري فيقول للشفيع هذا البيت ابتعته لك بكذا وكذا درهما فيقول الشفيع قد رضيت واستوجبت لأن المشتري متى ابتدأ بقوله هذا البيت لك بكذا لم يكن الشفيع مسلما للشفعة
المثال التسعون تجوز المغارسة عندنا على شجر الجوز وغيره بأن يدفع إليه أرضه ويقول اغرسها من الأشجار كذا وكذا والغرس بيننا نصفان وهذا كما يجوز أن يدفع إليه ماله يتجر فيه والربح بينهما نصفان وكما يدفع إليه أرضه يزرعها والزرع بينهما وكما يدفع إليه شجره يقوم عليه والثمر بينهما وكما يدفع إليه بقره أو غنمه أو إبله يقوم عليها والدر والنسل بينهما وكما يدفع إليه زيتونه يعصره والزيت بينهما وكما يدفع إليه دابته يعمل عليها والأجرة بينهما وكما يدفع إليه فرسه يغزو عليها وسهمها بينهما وكما يدفع إليه قناة يستنبط ماءها والماء بينهما ونظائر ذلك فكل ذلك شركة صحيحة قد دل على جوازها النص والقياس واتفاق الصحابة ومصالح الناس وليس فيها ما يوجب تحريمها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا مصلحة ولا معنى صحيح يوجب فسادها والذين منعوا ذلك عذرهم أنهم ظنوا ذلك كله من باب الإجارة فالعوض مجهول فيفسد ثم منهم من أجاز المساقاة والمزارعة للنص الوارد فيهما والمضاربة للإجماع دون ما عدا ذلك ومنهم من خص الجواز بالمضاربة ومنهم من جوز بعض أنواع المساقاة والمزارعة ومنهم من منع الجواز فيما إذا كان بعض الأصل يرجع إلى العامل كقفيز الطحان وجوزه فيما إذا رجعت إليه الثمرة مع بقاء الأصل كالدر والنسل
والصواب جواز ذلك كله وهو مقتضى أصول الشريعة وقواعدها
فإنه من باب المشاركة التي يكون العامل فيها شريك المالك هذا بماله وهذا بعمله وما رزق الله فهو بينهما وهذا عند طائفة من أصحابنا أولى بالجواز من الإجارة حتى قال شيخ الإسلام هذه المشاركات أحل من الإجارة قال لان المستأجر يدفع ماله وقد يحصل له مقصوده وقد لا يحصل فيفوز المؤجر بالمال والمستأجر على الخطر إذ قد يكمل الزرع وقد لا يكمل بخلاف المشاركة فإن الشريكين في الفوز وعدمه على السواء إن رزق الله الفائدة كانت بينهما وإن منعها استويا في الحرمان وهذا غاية العدل فلا تأتى الشريعة بحل الإجارة وتحريم هذه المشاركات
وقد أقر النبي ص - المضاربة على ما كانت عليه قبل الإسلام فضارب أصحابه في حياته وبعد موته وأجمعت عليها الأمة ودفع خيبر إلى اليهود يقومون عليها ويعمرونها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع وهذا كأنه رأى عين ثم لم ينسخه ولم ينه عنه ولا امتنع منه خلفاؤه الراشدون وأصحابه بعده بل كانوا يفعلون ذلك بأراضيهم وأموالهم يدفعونها إلى من يقوم عليها بجزء مما يخرج منها وهم مشغولون بالجهاد وغيره ولم ينقل عن رجل واحد منهم المنع إلا فيما منع منه النبي ص - وهو ما قال الليث بن سعد إذا نظر ذو البصر بالحلال والحرام علم انه لا يجوز ولو لم تأت هذه النصوص والآثار فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله والله ورسوله لم يحرم شيئا من ذلك وكثير من الفقهاء يمنعون ذلك
فإذا بلى الرجل بمن يحتج في التحريم بأنه هكذا في الكتاب وهكذا قالوا ولا بد له من فعل ذلك إذ لا تقوم مصلحة الأمة إلا به فله أن يحتال على ذلك بكل حيلة تؤدي إليه فإنها حيل تؤدي إلى فعل ما أباحه الله ورسوله ولم يحرمه على الأمة وقد تقدم ذكر الحيلة على جواز المساقاة والمزارعة ونظيرها في الاحتيال على المغارسة أن يؤجره الأرض يغرس فيها ما شاء من الأشجار لمدة كذا وكذا
سنة بخدمتها وغرس كذا وكذا من الأشجار فيها فإن اتفقا بعد ذلك أن يجعلا لكل منها غراسا معينا مقررا جاز وإن أحب أن يكون الجميع شائعا بينهما فالحيلة أن يقر كل منهما للآخر أن جميع ما في هذه الأرض من الغراس فهو بينهما نصفين أو غير ذلك
والحيلة في جواز المشاركة على البقر والغنم بجزء من درها ونسلها أن يستأجره للقيام عليها كذا وكذا سنة للمدة التي يتفقان عليها بنصف الماشية أو ثلثها على حسب ما يجعل له من الدر والنسل ويقر له بأن هذه الماشية بينهما نصفين أو أثلاثا فيصير درها ونسلها على حسب ملكهما فإن خاف رب الماشية أن يدعى عليه العامل بملك نصفها حيث أقر له به فالحيلة أن يبيعه ذلك النصف بثمن في ذمته ثم يسترهنه على ذلك الثمن فإن ادعى الملك بعد هذا طالبه بالثمن فإن ادعى الاعسار اقتضاه من الرهن
والحيلة في جواز قفيز الطحان أن يملكه جزءا من الحب أو الزيتون إما ربعه أو ثلثه أو نصفه فيصير شريكه فيه ثم يطحنه أو يعصره فيكون بينهما على حسب ملكيهما فيه فإن خاف أن يملكه ذلك فيملكه عليه ولا يحدث فيه عملا فالحيلة أن يبيعه إياه بثمن في ذمته فيصير شريكه فيه فإذا عمل فيه سلم إليه حصته أو أبرأه من الثمن فإن خاف الأجير أن يطالبه بالثمن ويتسلم الجميع ولا يعطيه أجرته فالحيلة في أمنه من ذلك أن يشهد عليه أن الأصل مشترك بينهما قبل العمل فإذا أحدث فيه العمل فهو على الشركة
وهكذا الحيلة في جميع هذا الباب وهي حيلة جائزة فإنها لا تتضمن إسقاط حق ولا تحريم حلال ولا تحليل حرام
المثال الحادي والتسعون إذا خرج المتسابقان في النضال معا جاز في اصح القولين والمشهور من مذهب مالك انه لا يجوز وعلى القول بجوازه فأصح القولين انه لا يحتاج إلى محلل كما هو المنقول عن الصديق وأبي عبيده بن الجراح واختيار شيخنا وغيره والمشهور من أقوال الأئمة الثلاثة انه لا يجوز إلا بمحلل
على تفاصيل لهم في المحلل وحكمه وقد ذكرناها في كتابنا الكبير في الفروسية الشرعية وذكرنا فيه وفي كتاب بيان الاستدلال على بطلان اشتراط محلل السباق والنضال بيان بطلانه من أكثر من خمسين وجها وبينا ضعف الحديث الذي احتج به من اشترطه وكلام الأئمة في ضعفه وعدم الدلالة منه على تقدير صحته
والمقصود هنا بيان وجه الحيلة على الاستغناء عنه عند من يقنع بهذا قالوا وهكذا في الكتاب فالحيلة على تخلص المتسابقين المخرجين منه أن يملكا العوضين لثالث يثقان به ويقول الثالث أيكما سبق فالعوضان له وإن جئتما معا فالعوضان بينكما فيجوز هذا العقد وهذه الحيلة ليست حيلة على جواز أمر محرم ولا تتضمن إسقاط حق ولا تدخل في مأثم فلا بأس بها والله أعلم
المثال الثاني والتسعون يجوز اشتراط الخيار في البيع فوق ثلاث على أصح قول العلماء وهو مذهب الإمام احمد ومالك على تفاصيل عند مالك وقال الشافعي وأبو حنيفة لا يجوز وقد تدعو الحاجة إلى جوازه لكون المبيع لا يمكنه استعلامه في ثلاثة أيام أو لغيبة من يشاوره ويثق برأيه أو لغير ذلك والقياس المحض جوازه تأجيل الثمن فوق ثلاث والشارع لم يمنع من الزيادة على الثلاثة ولم يجعلها حدا فاصلا بين ما يجوز من المدة ومالا يجوز وإنما ذكرها في حديث حبان بن منقذ وجعلها له بمجرد البيع وإن لم يشترطه لأنه كان يغلب في البيوع فجعل له ثلاثا في كل سلعة يشتريها سواء شرط ذلك أولم يشترطه هذا ظاهر الحديث فلم يتعرض للمنع من الزيادة على الثلاثة بوجه من الوجوه فإن أراد الجواز على قول الجميع فالمخرج أن يشترط الخيار ثلاثا فإذا قارب انقضاء الأجل فسخه ثم اشترط ثلاثا وهكذا حتى تنقضي المدة التي اتفقا عليها وليست هذه الحيلة محرمة لأنها لا تدخل في باطل ولا تخرج من حق وهذا بخلاف الحيلة على إيجار الوقف مائة سنة وقد
شرط الواقف أن لا يؤجر اكثر من سنة واحدة فتحيل على إيجاره اكثر منها بعقود متفرقة في ساعة واحدة كما تقدم
المثال الثالث والتسعون إذا أراد أن يقرض رجلا مالا ويأخذ منه رهنا فخاف أن يهلك الرهن فيسقط من دينه بقدره عند حاكم يرى ذلك فالمخرج له أن يشتري العين التي يريد ارتهانها بالمال الذي يفرضه ويشهد عليه انه لم يقبضه فإن وثق بكونه عند البائع تركه عنده فإن تلف تلف من ضمانه وان بقى تمكن من أخذه منه متى شاء وإن رد عليه المال أقاله البائع
وأحسن من هذه الحيلة ان يستودع العين قبل القرض ثم يقرضه وهي عنده فهي في الظاهر وديعة وفي الباطن رهن فإن تلفت لم يسقط بهلا كها شئ من حقه
فإن خاف الراهن انه إذا وفاه حقه لم يقله البيع فالمخرج له ان يشترط عليه الخيار الى المدة التي يعلم انه يوفيه فيها على قول ابي يوسف ومحمد ومالك واحمد
فإن خاف المرتهن ان يستحق الرهن أو بعضه فالمخرج له ان يضمن درك الرهن غير الراهن أو يشهد على من يخشى دعواه الاستحقاق بأنه متى ادعاه كانت دعواه باطلة أو يضمنه الدرك لنفسه
المثال الرابع والتسعون إذا بدا الصلاح في بعض الشجرة جاز بيع جميعها وكذلك يجوز بيع ذلك النوع كله في البستان وقال شيخنا يجوز بيع البستان كله تبعا لما بدا صلاحه سواء كان من نوعه أولم يكن تقارب إدراكه وتلاحق أم تباعد وهو مذهب الليث بن سعد وعلى هذا فلا حاجة الى الاحتيال على الجواز
وقالت الحنفية إذا خرج بعض الثمرة دون بقيتها أو خرج الجميع وبعضه قد بدا صلاحه دون بعض لا يجوز البيع للجمع بين الموجود والمعدوم والمتقوم وغيره فتصير حصة الموجود المتقوم مجهولة فيفسد البيع وبعض الشيوخ كان
يفتى بجوازه في الثمار والباذنجان ونحوهما جعلا المعدوم تبعا للموجود وأفتى محمد بن الحسن بجوازه في الورد لسرعة تلاحقه قال شمس الائمة السرخسي والاصح المنع فالحيلة في الجواز ان يشتري الاصول وهذا قد لا يتأتى غالبا قالوا فالحيلة ايضا ان يشتري الموجود الذي بدا صلاحه بجميع الثمن ويشهد عليه انه قد اباح له ما يحدث من بعد وهذه الحيلة ايضا قد تتعذر إذ قد يرجع في الاباحة وإن جعلت هبة فهبة المعدوم لا تصح وإن ساقاه على الثمرة من كل الف جزء على جزء مثلا لم تصح المساقاه عندهم وتصح عند أبى يوسف ومحمد وإن آجره الشجرة لأخذ ثمرتها لم تصح الاجارة عندهم وعند غيرهم
فالحيلة إذا أن يبيعه الثمرة الموجودة ويشهد عليه أن ما يحدث بعدها فهو حادث على ملك المشتري لا حق للبائع فيه ولا يذكر سبب الحدوث
ولهم حيلة أخرى فيما إذا بدت الثمار أن يشتريها بشرط القطع أو يشتريها ويطلق ويكون القطع هو موجب العقد ثم يتفقان على التبقية الى وقت الكمال ولا ريب ان المخرج ببيعها إذا بدا صلاح بعضها أو بإجارة الشجر أو بالمساقاة أقرب الى النص والقياس وقواعد الشرع من ذلك كما تقدم تقريره
المثال الخامس والتسعون إذا وكله ان يشترى له بضاعة وتلك البضاعة عند الوكيل وهي رخيصة نساوي أكثر مما اشتراها به ولا تسمح نفسه ان يبيعها بما اشتراها به فالحيلة أن يبيعها بما تساويه بيعا تاما صحيحا لأجنبي ثم إن شاء اشتراها من الاجنبي لموكله ولكن تدخل هذه الحيلة سدا للذرائع إذ قد يتخذ ذلك ذريعة الى ان يبيعها بأكثر مما تساوي فيكون قد غش الموكل ويظهر هذا إذا اشتراها بعينها دون غيرها فيكون قد غر الموكل فإن كان الموكل لو اطلع على الحال لم يكره ذلك ولم يره غرورا فلا بأس به وإن كان لو اطلع عليه لم يرضه لم يجز والله أعلم
المثال السادس والتسعون إذا اشترى منه دارا وخاف احتيال البائع عليه
بأن يكون قد ملكها لبعض ولده فيتركها في يده مدة ثم يدعيها عليه ويحسب سكناها بثمنها كما يفعله المخادعون الماكرون فالحيلة أن يحتال لنفسه بأنواع من الحيل منها أن يضمن من يخاف منه الدرك ومنها ان يشهد عليه أنه إن ادعى هو أو وكيله في الدار كانت دعوى باطلة وكل بينة يقيمها زور ومنها أن يضمن الدرك لرجل معروف يتمكن من مطالبته ومنها أن يجعل ثمنها أضعاف ما اشتراها به فإن استحقت رجع عليه بالثمن الذي أشهد به
مثاله أن يتفقا على أن الثمن الف فيشتريها بعشرة آلاف ثم يبيعه بالعشرة آلاف سلعة ثم يشتريها منه بالالف وهي الثمن فيأخذ الالف ويشهد عليه أن الثمن عشرة آلاف وأنه قبضه وبرئ منه المشتري فإن استحقت رجع عليه بالعشرة آلاف وبالجملة فمقابلة الفاسد بالفاسد والمكر بالمكر والخداع بالخداع وقد يكون حسنا بل مأمورا به وأقل درجاته أن يكون جائزا كما تقدم بيانه
المثال السابع والتسعون إذا اشترى العبد نفسه من سيده بمال يؤديه اليه فأدى اليه معظمه ثم جحد السيد أن يكون باعه نفسه وللسيد في يد العبد مال أذن له في التجارة به فالحيلة ان يشهد العبد في السر أن المال الذي في يده لرجل اجنبي فإن وفي له سيده بما عاقده عليه وفي له العبد وسلمه ماله وإن غدر به تمكن العبد من الغدر به وإخراج المال عن يده وهذه الحيلة لا تتأنى على أصل من يمنع مسالة الظفر ولا على قول من يجيزها فإن السيد إذا ظلمه بجحده حقه لم يكن له ان يظلمه بمنعه ماله وان يحول بينه وبينه فيقابل الظلم بالظلم ولا يرجع إليه منه فائدة ولكن فائدة هذه الحيلة أن السيد متى علم بصورة الحال وأنه متى جحده البيع حال بينه وبين ماله بالإقرار الذي يظهره منعه ذلك من جحود البيع فيكون بمنزلة رجل أمسك ولد غيره ليقتله فظفر هو بولده قبل القتل فأمسكه وأراه انه إن قتل ولده قتل هو ولده أيضا ونظائر ذلك
وكذلك إن كان السيد هو الذي يخاف من العبد أن لا يقر له بالمال ويقر به لغيره يتواطان عليه فالحيلة أن يبدأ السيد فيبيع العبد لأجنبي في السر ويشهد على بيعه ثم يبيع العبد من نفسه فإذا قبض المال فأظهر العبد إقرارا بأن ما في يده لأجنبي أظهر السيد ان بيعه لنفسه كان باطلا وأن فلانا الاجنبي قد اشتراه فإذا علم العبد ان عتقه يبطل ولا يحصل مقصوده امتنع من التحيل على إخراج مال السيد عنه الى أجنبي
ونظير هذه الحيلة إذا أراد ظالم أخذ داره بشراء أو غيره فالحيلة ان يملكها لمن يثق به ثم يشهد على ذلك وانها خرجت عن ملكه ثم يظهر انه وقفها على الفقراء والمساكين ولو كان في بلده حاكم يرى صحة وقف الانسان على نفسه وصحة استثناء الغلة له وحده مدة حياته وصحة وقفه لها بعد موته فحكم له بذلك استغنى عن هذه الحيلة
وحيل هذا الباب ثلاثة أنواع حيلة على دفع الظلم والمكر حتى لا يقع وحيلة على رفعه بعد وقوعه وحيلة على مقابلته بمثله حيث لا يمكن رفعه فالنوعان الأولان جائزان وفي الثالث تفصيل فلا يمكن القول بجوازه على الإطلاق ولا بالمنع منه على الإطلاق بل إن كان المتحيل به حراما لحق الله لم يجز مقابلته بمثله كما لو جرعه الخمر أوزنى بحرمته وإن كان حراما لكونه ظلما له في ماله وقدر على ظلمه بمثل ذلك فهى مسألة الظفر وقد توسع فيها قوم حتى أفرطوا وجوزوا قلع الباب ونقب الحائط وخرق السقف ونحو ذلك لمقابلته بأخذ نظير ماله ومنعها قوم بالكلية وقالوا لو كان عنده وديعة أوله عليه دين لم يجز له أن يستوفي منه قدر حقه إلا بإعلامه به وتوسط آخرون وقالوا إن كان سبب الحق ظاهرا كالزوجية والابوة والبنوة وملك اليمين الموجب للإنفاق فله ان يأخذ قدر حقه من غير إعلامه وإن لم يكن ظاهرا كالقرض وثمن المبيع
ونحو ذلك لم يكن له الاخذ إلا بإعلامه وهذا اعدل الاقوال في المسألة وعليه تدل السنة دلالة صريحة والقائلون به أسعد بها وبالله التوفيق
وإن كان بهتا له وكذبا عليه أو قذفا له أو شهادة عليه بالزور لم يجز له مقابلته بمثله وإن كان دعاء عليه أولعنا أو مسبة فله مقابلته بمثله على أصح القولين وأن منعه كثير من الناس وإن كان إتلاف مال له فإن كان محترما كالعبد والحيوان لم يجز له مقابلته بمثله وإن كان غير محترم فإن خاف تعديه فيه لم يجز له مقابلته بمثله كما لو حرق داره لم يجز له أن يحرق داره وإن لم يتعد فيه بل كان يفعل به نظير ما فعل به سواء كما لو قطع شجرته أو كسر إناءه أو فتح قفصا عن طائره أوحل وكاء مائع له أو أرسل الماء على مسطاحه فذهب بما فيه ونحو ذلك وأمكنه مقابلته بمثل ما فعل سواء فهذا محل اجتهاد لم يدل على المنع منه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح بل الادلة المذكورة تقتضى جوازه كما تقدم بيانه في أول الكتاب وكان شيخنا رضى الله عنه يرجح هذا ويقول هو أولى بالجواز من إتلاف طرفه بطرفه والله اعلم
المثال الثامن والتسعون الضمان والكفالة من العقود اللازمة ولا يمكن الضامن والكفيل أن يتخلص متى شاء ولا سيما عند من يقول ان الكفالة توجب وإن المال إذا تعذر إحضار المكفول به مع بقائه كما هو مذهب الامام احمد ومن وافقه وطريق التخلص من وجوه أحدها أن يؤقتها بمدة فيقول ضمنته أو تكفلت به شهرا أو جمعة ونحو ذلك فيصح الثاني أن يقيدها بمكان دون مكان فيقول ضمنته أو تكفلت به ما دام في هذا البلد أوفي هذا السوق الثالث ان يعلقها على شرط فيقول ضمنت أو كفلت إن رضى فلان أو يقول ضمنت ما عليه إن كفل فلان بوجهه ونحو ذلك الرابع ان يشترط في الضمان أنه لا يطالبه حتى يتعذر مطالبة الأصيل فيجوز هذا الشرط بل هو حكم الضمان في اشهر الروايتين
عن مالك فلا يطالب الضامن حتى يتعذر مطالبة الاصيل وإن لم يشترطه حتى لو شرط ان يأخذ من أيهما شاء كان الشرط باطلا عند ابن القاسم وأصبغ الخامس أن يقول كفك بوجهه على أني برئ مما عليه فلا يلزمه ما عليه إذا لم يحضره بل يلزم بإحضاره إذا تمكن منه السادس أن يطالب المضمون عنه بأداء المال الى ربه ليبرأ هو من الضمان إذا كان قد ضمن بإذنه ويكون خصما في المطالبة وهذا مذهب مالك فإن ضمنه بغير إذنه لم يكن له عليه مطالبته بأداء المال الى ربه فإن اداه عنه فله مطالبته به حينئذ
المثال التاسع والتسعون إذا كان له داران فاشترى منه إحداهما على أنه إن استحقت فالدار الأخرى له بالثمن فهذا جائز إذ غايته تعليق البيع بالشرط وليس في شئ من الادلة الشرعية ما يمنع صحته وقد نص الامام احمد على جوازه فيمن باع جارية وشرط على المشتري انه إن باعها فهو أحق بها بالثمن وفعله بنفسه كما رهن نعله وشرط للمرتهن أنه إن جاءه بفكاكها إلى وقت كذا وإلا فهى له بما عليها ونص على جواز تعليق النكاح بالشرط فالبيع أولى ونص على جواز تعليق التولية بالشرط كما نص عليه صاحب الشرع نصا لا يجوز مخالفته وقد تقدم تقرير ذلك
وكثير من الفقهاء يبطل البيع المذكور فالحيلة في جوازه عند الكل أن يشتري منه المشتري الدار الأخرى التي لا يريد شراءها ويقبضها منه ثم يشتري بها الدار التي يريد شراءها ويسلمها اليه ويتسلم داره فإن استحقت هذه الدار عليه رجع في ثمنها وهو الدار الأخرى وهذه حيلة لطيفة جائزة لا تتضمن إبطال حق ولا دخول في باطل وهي مثال لما كان من جنسها من هذا النوع مما يخالف استحقاقه ويشترط على البائع أخذ ما يقابله من حيوان أودقيق أوغير ذلك
المثال الموفى المائة رجل أراد أن يشتري جارية أوسلعة من رجل غريب فلم يأمن أن تستحق أوتخرج معيبة فلا يمكنه الرجوع ولا الرد فإن قال
له البائع أنا أوكل من تعرفه فيما تدعى به من عيب أورجوع لم يأمن أن يحتال عليه ويعزله فيذهب حقه فالحيلة في التوثق ان يكون الوكيل هو الذي يتولى البيع بنفسه ويضمن له صاحب السلعة الدرك ويكون وكيلا لهذا الذي تولى البيع فيمكن المشتري حينئذ مطالبة هذا الذي تولى البيع بنفسه ويأمن ما يحذره
المثال الحادي بعد المائه رجل قال لغيره اشتر هذه الدار أوهذه السلعة من فلان بكذا وكذا وأنا أربحك فيها كذا وكذا فخاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يريدها ولا يتمكن من الرد فالحيلة ان يشتريها على انه بالخيار ثلاثة أيام أوأكثر ثم يقول للآمر قد اشتريتها بما ذكرت فإن أخذها منه وإلا تمكن من ردها على البائع بالخيار فإن لم يشترها الآمر إلا بالخيار فالحيلة أن يشترط له خيارا أنقص من مدة الخيار التي أشترطها هو على البائع ليتسع له زمن الرد إن ردت عليه
المثال الثاني بعد المائة إذا اشترى منه جارية أوسلعة ثم اطلع على عيب بها فخاف إن ادعى انه اشتراها بكذا وكذا ان ينكر البائع قبض الثمن ويسأل الحاكم الحكم عليه بإقراره أوينكر البيع ويسأله تسليم الجارية اليه فالحيلة التي تخلصه أن يردها عليه أولا فيما بينه وبينه ثم يدعى عليه عند الحاكم باستحقاق ثمنها ولا يعين السبب فإن أقر فلا إشكال وإن أنكر لم يلزم المشتري الثمن فإما أن يقيم عليه بينة أويحلفه
المثال الثالث بعد المائة إذا كان له عليه مال حال فأبى أن يقر له به حتى يصالحه على بعضه أويؤجله ولا بينة له فأراد حيلة يتوسل بها الى أخذ ماله كله حالا ويبطل الصلح والتأجيل فالحيلة له ان يواطئ رجلا يدعى عليه بالمال الذي له على فلان عند حاكم فيقر له به ويصح إقراره بالدين الذي له على الغير
فإنه قد يكون المال مضاربة فيصير ديونا على الناس فلو لم يصح إقراره به له لضاع ماله وأما قول ابى عبد الله بن احمد إن في الرعاية ولو قال ديني الذي على زيد العمرو احتمل الصحة والبطلان أظهرفهذا إنما هو فيما إذا أضاف الدين إليه ثم قال هو لعمرو فيصير ما لو قال ملكى كله لعمرو أودارى هذه له فإن هذا لا يصح إقرارا على أحد الوجهين للتناقض ويصح هبة فأما إذا قال هذا الدين الذي على زيد لعمرو يستحقه دونى صح ذلك قولا واحدا كما لو قال هذه الدار له أوهذا الثوب له على أن الصحيح صحة الإقرار ولو أضاف الدين أوالعين إلى نفسه ولا تناقض لأن الإضافة تصدق مع كونه ملكا للمقر له فإنه يصح أن يقال هذه دار فلان إذا كان ساكنها بالأجرة ويقول المضارب ديني على فلان وهذا الدين لفلان يعني أنه يستحق المطالبة به والمخاصمة فيه فالإضافة تصدق بدون هذا ثم يأتي صاحب المال إلى من هو في ذمته فيصالحه على بعضه أويؤجله ثم يجيء المقر له فيدعى على من عليه المال بجملتة حالا فإذا أظهر كتاب الصلح والتأجيل قال المقر له هذا باطل فإنه تصرف فيما لا يملك المصالح فإن كان الغريم إنما أقر باستحقاق غريمه الدين مؤجلا أوبذلك القدر منه فقط بطلت هذه الحيلة
ونظير هذه الحيلة حيلة إيداع الشهادة وصورتها أن يقول له الخصم لاأقر لك حتى تبرئني من نصف الدين أوثلثه وأشهد عليك أنك لاتستحق على بعد ذلك شيئا فيأتي صاحب الحق إلى رجلين فيقول أشهدا أني على طلب حقي كله من فلان وأني لم أبرئه من شيء منه وأني أريد أن أظهر مصالحته على بعضه لأتوصل بالصلح إلى أخذ بعض حقي وأني إذا أشهدت أني لاأستحق عليه سوى ما صالحني عليه فهو إشهاد باطل وأني إنما أشهدت على ذلك توصلا إلى أخذ بعض حقي فهذه تعرف بمسألة إيداع الشهادة فإذا فعل ذلك جاز له أن يدعى بقاءه على حقه ويقيم الشهادة بذلك هذا مذهب مالك وهو مطرد
على قياس مذهب أحمد وجار على أصوله فإن له التوصل إلى حقه بكل طريق جائز بل لا يقتضي المذهب غير ذلك فإن هذا مظلوم توصل إلى أخذ حقه بطريق لم يسقط بها حقا لأحد ولم يأخذ بها مالا يحل له أخذه فلا خرج بها من حق ولا دخل بها في باطل
ونظير هذا ان يكون للمرأة على رجل حق فيجحده ويأبى ان يقر به حتى تقر له بالزوجية فطريق الحيلة ان تشهد على نفسها انها ليست امرأة فلان وأنى أريد ان اقر له بالزوجية إقرارا كاذبا لا حقيقة له لأتوصل بذلك الى اخذ مالي عنده فاشهدو ان إقرارى بالزوجية باطل أتوصل به الى اخذ حقي
ونظيره ايضا ان ينكر نسب اخيه ويأبى أن يقر له به حتى يشهد انه لا يستحق في تركة ابيه شيئا وانه قد أبرأه من جميع ماله في ذمته منها أوانه وهب له جميع ما يخصه منها أوانه قبضه أواعتاض عنه أونحو ذلك فيودع الشهادة عدلين انه باق على حقه وأنه يظهر ذلك الإقرار توصلا الى إقرار اخيه بنسبه وانه لم يأخذ من ميراث ابيه شيئاص ولا أبرأ اخاه ولا عاوضه ولا وهبه
وهذا يشبه إقرار المضطهد الذي قد اضطهد ودفع عن حقه حتى يسقط حقا آخر والسلف كانوا يسمون مثل هذا مضطهدا كما قال حماد بن سلمة حدثنا حميد عن الحسن أن رجلا تزوج امرأة وأراد سفرا فأخذه أهلها فجعلها طالقا إن لم يبعث بنفقتها الى شهر فجاء الاجل ولم يبعث اليها بشئ فلما قدم خاصموه الى أمير المؤمنين على كرم الله وجهه فقال اضطهدتموه حتى جعلها طالقا فردها عليه
ومعلوم أنه لم يكن هناك إكراه بضرب ولا أخذ مال وإنما طالبوه بما يجب عليه من نفقتها وذلك ليس بإكراه ولكن لما تعنتوه باليمين
جعله مضطهدا لنه عقد اليمين ليتوصل إلى قصده من السفر فلم يكن حلفه عن اختيار بل هو كالمحمول عليه
والفرق بينه وبين المكرة ان المكره قاصد لدفع الضرر باحتمال ما أكره عليه وهذا قاصد للوصول الى حقه بالتزام ما طلب منه وكلاهما غير راض ولا مؤثرا لما التزمه وليس له وطرفيه
فتأمل هذا ونزله على قواعد الشرع ومقاصده وهذا ظاهر جدا في أن أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم الله وجهه لم يكن يرى الحلف بالطلاق موقعا للطلاق إذا حنث به وهو قول شريح وطاوس وعكرمة وأهل الظاهر وأبي عبد الرحمن الشافعي وهو أجل أصحابه على الإطلاق قال بعض الحفاظ ولا يعلم لعلى مخالف من الصحابه وسيأتي الكلام في المسألة إن شاء الله إذ القصود أن من أقر أوحلف أووهب أوصالح لا عن رضا منه ولكن منع حقه إلا بذلك فهو بالمكره أشبه منه بالمختار ومثل هذا لا يلزمه ما عقده من هذه العقود
ومن له قدم راسخ في الشريعة ومعرفة بمصادرها ومواردها وكان الإنصاف أحب إليه من التعصب والهوى والعلم والحجة آثر عنده من التقليد لم يكد يخفى عليه وجه الصواب والله الموفق
وهذه المسألة من نفائس هذا الكتاب والجاهل الظالم لايرى الإحسان إلا إساءة ولا الهدى إلا الضلالة ... فقيل للعيون الرمد للشمس أعين ... سواك تراها في مغيب ومطالع ... وسامح نفوسا بالقشور قد ارتضت ... وليس لها للب من متطلع ...
المثال الرابع بعد المائة اختلف الفقهاء هل يملك البائع حبس السلعة على ثمنها وهل يملك المستأجر حبس العين بعد العمل على الأجرة على ثلاثة أقوال
أحدها يملكه في الموضعين وهو قول مالك وأبى حنيفة وهو المختار والثاني لا يملكه في الموضعين وهو المشهور من مذهب احمد عند أصحابه والثالث يملك حبس العين المستأجرة على عملها ولا يملك حبس المبيع على ثمنه والفرق بينهما أن العمل يجري مجرى الأعيان ولهذا يقابل بالعوض فصار كأنه شريك لمالك العين بعمله فأثر عمله قائم بالعين فلا يجب عليه تسليمه قبل أن يأخذ عوضه بخلاف المبيع فإنه قد دخل في ملك المشتري وصار الثمن في ذمته ولم يبق للبائع تعلق بالعين ومن سوى بينهما قال الأجرة قد صارت في الذمة ولم يشترط رهن العين عليها فلا يملك حبسها
وعلى هذا فالحيلة في الحبس في الموضعين حتى يصل إلى حقه أن يشترط عليه رهن العين المستأجرة على أجرتها فيقول رهنتك هذا الثوب على أجرته وهي كذا وكذا وهكذا في المبيع يشترط على المشتري رهنه على ثمنه حتى يسلمه إليه ولا محذور في ذلك أصلا ولا معنى ولا مأخذ قوى يمنع صحة هذا الشرط والرهن وقد اتفقوا انه لو شرط عليه رهن عين أخرى على الثمن جاز فما الذي يمنع جواز رهن المبيع على ثمنه ولا فرق بين أن يقبضه أولا يقبضه على أصح القولين وقد نص الإمام احمد على جواز اشتراط رهن المبيع على ثمنه وهو الصواب ومقتضى قواعد الشرع وأصوله وقال القاضي وأصحابه لا يصح وعلله ابن عقيل بأن المشتري رهن ما لا يملك فلم يصح كما لو شرط أن يرهنه عبدا لغيره يشتريه ويرهنه وهذا تعليل باطل فإنه إنما حصل الرهن بعد ملكه واشتراطه قبل الملك لا يكون بمنزلة رهن الملك
والفرق بين هذه المسألة وبين اشتراط رهن عبد زيد أن اشتراط رهن عبد زيد غرر قد يمكن وقد لا يمكن بخلاف اشتراط رهن المبيع على ثمنه فإنه إن تم العقد صار المبيع رهنا وإن لم يتم تبينا أنه لا ثمن يحبس عليه الرهن فلا غرر
ألبتة فالمنصوص أفقه وأصح وهذا على أصل من يقول للبائع حبس المبيع على ثمنه ألزم وهو مذهب مالك وأبي حنيفة واحد قولي الشافعي وبعض أصحاب الإمام احمد وهو الصحيح وإن كان خلاف منصوص أحمد لأن عقد البيع يقتضى استواءهما في التسلم والتسليم ففي إجبار البائع على التسليم قبل حضور الثمن وتمكينه من قبضة إضرار به فإذا كان ملك حبسه على ثمنه من غير شرط فلأن يملكه مع الشرط أولى وأحرى فقول القاضي وأصحابه مخالف لنص احمد والقياس فإن شرط أن يقبض المشترى المبيع ثم يرهنه على ثمنه عند بائعه فأولى بالصحة
وقال ابن عقيل في الفصول والرهن أيضا باطل لأنهما شرطا رهنه قبل ملكه وقد عرفت ما فيه وعلله أيضا بتعليل آخر فقال إطلاق البيع يقتضي تسليم الثمن من غير المبيع والرهن يقتضي استيفاء من عينه إن كان عينا أوثمنه إن كان عرضا فيتضادا وهذا التعليل أقوى من الأول وهو الذي أوجب له القول ببطلان الرهن قبل القبض وبعده فيقال المحذور من التضاد إنما هو التدافع بحيث يدفع كل من المتضادين المتنافيين الآخر فأما إذا لم يدفع أحدهما الآخر فلا محذور والبائع إنما يستحق ثمن المبيع وللمشتري أن يؤدي إياه من عين المبيع ومن غيره فإن له أن يبيعه ويقبضه ثمنه منه وغاية عقد الرهن أن يوجب ذلك فأي تدافع وأي تناف هنا
وأما قوله إطلاق العقد يقتضى التسليم للثمن من غير المبيع فيقال بل إطلاقه يقتضى تسليم الثمن من أي جهة شاء المشتري حتى لو باعه قفيز حنطه بقفيز حنطه وسلمه إليه ملك أن يوفيه إياه ثمنا كما استوفاه مبيعا كما لو أقترض منه ذلك ثم وفاه إياه بعينه
ثم قال ابن عقيل وقد قال الإمام احمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه إذا حبس السلعة ببقية الثمن فهو غاصب ولا يكون رهنا
إلا أن يكون شرط عليه في نفس البيع الرهن فظاهر هذا أنه إن شرط كون المبيع رهنا في حال العقد صح قال وليس هذا الكلام على ظاهره ومعناه إلا أن يشترط عليه في نفس البيع رهنا غير المبيع لأن اشتراط رهن البيع اشتراط تعويق التسليم في المبيع
قلت ولا يخفى منافاة ما قاله لظاهر كلام الإمام احمد فإن كلام احمد المستثنى والمستثنى منه في صورة حبس المبيع على ثمنه فقال هو غاصب إلا أن يكون شرط عليه في نفس البيع الرهن أي فلا يكون غاصبا بحبس السلعة بمقتضى شرطه ولو كان المراد ما حمله عليه لكان معنى الكلام إذا حبس السلعة ببقية الثمن فهو غاصب إلا أن يكون قد شرط له رهنا آخر غير المبيع يسلمه إليه وهذا كلام لا يرتبط أوله بآخره ولا يتعلق به فضلا عن أن يدخل في الأول ثم يستثنى منه ولهذا جعله أبو البركات ابن تيمية نصا في صحة هذا الشرط ثم قال وقال القاضي لا يصح
وأما قوله إن اشتراط رهن المبيع تعويق للتسليم في المبيع فيقال واشتراط التعويق إذا كان لمصلحة البائع وله فيه غرض صحيح وقد قدم عليه المشترى فإي محذور فيه ثم هذا يبطل باشتراط الخيار فإن فيه تعويقا للمشتري عن التصرف في المبيع وباشتراط تأجيل الثمن فإن فيه تعويقا للبائع عن تسلمه أيضا ويبطل على أصل الإمام احمد وأصحابه باشتراط البائع انتفاعه بالمبيع مدة يستثنيها فإن فيه تعويقا للتسليم ويبطل أيضا ببيع العين المؤجرة
فإن قيل إذا اشترط أن يكون رهنا قبل قبضه تدافع موجب البيع والرهن فإن موجب الرهن أن يكون تلفه من ضمان مالكه لأنه أمانة في يد المرتهن
وموجب البيع أن يكون تلفه قبل التمكين من قبضه من ضمان البائع فإذا تلف هذا الرهن قبل التمكن من قبضه فمن ضمان أيهما يكون
قيل هذا السؤال أقوى من السؤالين المتقدمين والتدافع فيه أظهر من التدافع في التعليل الثاني وجواب هذا السؤال أن الضمان قبل التمكن من القبض كان على البائع كما كان ولا يزيل هذا الضمان إلا تمكن المشتري من القبض فإذا لم يتمكن من قبضه فهو مضمون على البائع كما كان وحبسه إياه على ثمنه لا يدخله في ضمان المشتري ويجعله مقبوضا له كما لو حبسه بغير شرط
فإن قيل فأحمد رحمه الله تعالى قد قال إنه إذا حبسه على ثمنه كان غاصبا إلا أن يشترط عليه الرهن وهذا يدل على انه قد فرق في ضمانه بين أن يحبسه بشرط أويحبسه بغير شرط وعندكم هو مضمون عليه في الحالين وهو خلاف النص
فالجواب أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى إنما جعله غاصبا بالحبس والغاصب عنده يضمن العين بقيمتها أومثلها ثم يستوفى الثمن أوبقيته من المشترى وأما إذا تلف قبل قبضه فهو من ضمان البائع بمعنى انه ينفسخ العقد فيه ولا يملك مطالبة المشتري بالثمن وإن كان قد قبضه منه أعاده إليه فهذا الضمان شئ وضمان الغاصب شئ آخر
فإن قيل فكيف يكون رهنا وضمانه على المرتهن
قيل لم يضمنه المرتهن من حيث هو رهن وإنما ضمنه من حيث كونه مبيعا لم يتمكن مشتريه من قبضه فحق توفيته بعد على بائعه
فإن قيل فما تقولون لو حبس البائع السلعة لاستيفاء حقه منها وهذا يكون في صور إحداها أن يبيعه دارا له فيها متاع لا يمكن نقله في وقت واحد والثانية أن يستثني البائع الانتفاع بالمبيع مدة معلومة على أصلكم أونحو ذلك فإذا تلفت
في يد البائع قبل تمكن المشتري من القبض في هاتين الصورتين هل تكون من ضمانه أومن ضمان البائع الثالثة أن يشترط الخيار ويمنعه من تسليم المبيع قبل انقضاء الخيار
قيل الضمان في هذا كله على البائع لأنه لم يدخل تحت يد المشتري ولم يتمكن من قبضه فلا يكون مضمونا عليه
فإن قيل فهل يكون من ضمانه بالثمن أوبالقيمة
قيل بل يكون مضمونا عليه بالثمن بمعنى أن العقد ينفسخ بتلفه فلا يلزم المشتري تسليم الثمن
المثال الخامس بعد المائة إقرار المريض لوارثة بدين باطل عند الجمهور للتهمة فلو كان له عليه دين ويريد أن تبرأ ذمته منه قبل الموت وقد علم أن إقراره له باطل فكيف الحيلة في براءة ذمته ووصول صاحب الدين إلى ماله فههنا وجوه أحدها أن يأخذ إقرار باقي الورثة بأن هذا الدين على الميت فإن الإقرار إنما بطل لحقهم فإذا أقروا به لزمهم فإن لم تتم له هذه الحيلة فله وجه ثان وهو أن يأتي برجل أجنبي يثق به يقر له بالمال فيدفعه الأجنبي إلى ربه فإن لم تتم له هذه الحيلة فله وجه ثالث وهو أن يشتري منه سلعة بقدر دينه ويقر المريض بقبض الثمن منه أويقبض منه الثمن بمحضر الشهود ثم يدفعه إليه سرا فإن لم تتم له هذه الحيلة فليجعل الثمن وديعة عنده فيكون أمانة فيقبل قوله في تلفه ويتأول أويدعى رده إليه والقول قوله وله وجه آخر وهو أن يحضر الوارث شيئا ثم يبيعه من موروثه بحضرة الشهود ويسلمه إليه فيقبضه ويصير ماله ثم يهبه الموروث لأجبني ويقبضه منه ثم يهبه الأجنبي للوارث فإذا فعلت هذه الحيلة ليصل المريض إلى براءة ذمته والوارث إلى أخذ دينه جاز ذلك وإلا فلا
المثال السادس بعد المائة إذا أحاله بدينه على رجل فخاف أن يتوى ماله على المحال عليه فلا يتمكن من الرجوع على المحيل لأن الحوالة تحول الحق وتنقله فله ثلاث حيل
إحداها أن يقول أنا لا أحتال ولكن أكون وكيلا لك في قبضه فإذا قبضه فإن استنفقه ثبت له ذلك في ذمة الوكيل وله في ذمة الموكل نظيره فيتقاصان فإن خاف الموكل أن يدعى الوكيل ضياع المال من غير تفريط فيعود يطالبه بحقه فالحيلة له أن يأخذه إقراره بأنه متى ثبت قبضه منه فلا شئ له على الموكل وما يدعى عليه بسبب هذا الحق أومن جهته فدعواه باطلة وليس هذا إبراء معلقا بشرط حتى يتوصل إلى إبطاله بل هو إقرار بأنه لا يستحق عليه شيئا في هذه الحالة
الحيلة الثانية أن يشترط عليه انه إن توى المال رجع عليه ويصح هذا الشرط على قياس المذهب فإن المحتال إنما قبل الحوالة على هذا الشرط فلا يجوز أن يلزم بها بدون الشرط كما لو قبل عقد البيع بشرط الرهن أوالضمين أوالتأجيل أوالخيار أوقبل عقد الإجارة بشرط الضمين للأجرة أوتأجيلها أوقبل عقد النكاح بشرط تأجيل الصداق أوقبل عقد الضمان بشرط تأجيل الدين الحال على المضمون عنه أوقبل عقد الكفالة بشرط أن لا يلزمه من المال الذي عليه شئ أوقبل عقد الحوالة بشرط ملاءة المحال عليه وكونه غير محجور ولا مماطل وأضعاف أضعاف وأضعاف ذلك من الشروط التي لا تحل حراما ولا تحرم حلالا فإنها جائز اشتراطها لازم الوفاء بها كما تقدم تقريره نصا وقياسا وقد صرح أصحاب أبي حنيفة بصحة هذا الشرط
في الحوالة فقالوا واللفظ للخصاف يجوز أن يحتال الطالب بالمال على غريم المطلوب على أن هذا الغريم إن لم يوف الطالب هذا المال إلى كذا وكذا فالمطلوب ضامن لهذا المال على حاله وللطالب أخذه بذلك وتقع الحوالة على هذا الشرط فإن وفاه الغريم إلى الأجل الذي يشترطه وإلا رجع إلى المطلوب وأخذه بالمال ثم حكى عن شيخه قال قلت وهذا جائز قال نعم
الحيلة الثالثة أن يقول طالب الحق للمحال عليه اضمن لي هذا الدين الذي على غريمي ويرضى منه بذلك بدل الحوالة فإذا ضمنه تمكن من مطالبة أيهما شاه وهذه من أحسن الحيل وألطفها
المثال السابع بعد المائة إذا كان له عليه دين حال فاتفقا على تأجيله وخاف من عليه الدين أن لا يفي له بالتأجيل فالحيلة في لزومه أن يفسخ العقد الذي هو سبب الدين الحال ثم يعقده عليه مؤجلا فإن كان عن ضمان أوكان بدل متلف أوعن دية وقد حلت أونحو ذلك فالحيلة في لزوم التأجيل أن يبيعه سلعة بمقدار هذا الدين ويؤجل عليه ثمنها ثم يبيعه المدين تلك السلعة بالدين الذي أجله عليه أولا فيبرأ منه ويثبت في ذمته نظيره مؤجلا فإن خاف صاحب الحق أن لا يفي له من عليه بأدائه عند كل نجم كما أجله فالحيلة أن يشترط عليه أنه إن حل نجم ولم يؤده قسطه فجميع المال عليه حال فإذا نجمه على هذا الشرط جاز وتمكن من مطالبته به حالا ومنجما عند من يرى لزوم تأجيل الحال ومن لا يراه أما من لا يراه فظاهر وأما من يراه فإنه يجوز تأجيله لهذا الشرط كما صرح به أصحاب أبي حنيفة والله أعلم
المثال الثامن بعد المائة إذا أراد المريض الذي لا وارث له أن يوصى بجميع أمواله في أبواب البر فهل له ذلك على قولين أصحهما أنه يملك ذلك لأنه إنما منعه الشارع فيما زاد على الثلث وكان له ورثة فمن لا وارث له لا يعترض
عليه فيما صنع في ماله فإن خاف أن يبطل ذلك حاكم لا يراه فالحيلة له أن يقر لإنسان يثق بدينه وأمانته بدين يحيط بماله كله ثم يوصيه إذا اخذ ذلك المال أن يضعه في الجهات التي يريد فإن خاف المقر له أن يلزم بيمين باستحقاقه لما أقر له به المريض اشترى منه المريض عرضا من العروض بماله كله ويسلم العرض فإذا حلف المقر له حلف بارا فإن خاف المريض أن يصح فيأخذه البائع بثمن العرض فالحيلة أن يشتريه بشرط الخيار سنة فإن مات بطل الخيار وإن عاش فسخ العقد فإن كان المال أرضا أوعقارا أوأراد أن يوقفه جميعه على قوم يستغلونه ولا يمكن إبطاله فالحيلة أن يقر أن واقفا وقف ذلك جميعه عليه ومن بعده على الجهات التي يعينها ويشهد على إقراره بأن هذا العقار في يده على جهة الوقف من واقف كان ذلك العقار ملكا له إلى حين الوقف أويقر بأن واقفا معينا وقفة على تلك الجهات وجعله ناظرا عليه فهو في يده على هذا الوجه
وكذلك الحيلة إذا كان له بنت أوأم أو وارث بالفرض لا يستغرق ماله ولا عصبة له ويريد أن لا يتعرض له السلطان فله أنواع من المخارج منها أن يبيع الوارث تلك الأعيان ويقر بقبض الثمن منه وإن أمكنه أن يشهد على قبضة بأن يحضر الوارث مالا يقبضه إياه ثم يعيده إليه سرا فهو أولى ومنها أن يشتري المريض من الوارث سلعة بمقدار التركة من الثمن ويشهد على الشراء ثم يعيد إليه تلك السلعة ويرهنه المال كله على الثمن فإذا أراد السلطان مشاركته قال وفوني حقي وخذوا ما فضل ومنها أن يبيع ذلك لأجنبي يثق به ويقر بقبض الثمن منه أويقبضه بحضرة الشهود ثم يأذن للأجنبي في تمليكه للوارث أووقفه عليه ومنها أن يقر لأجنبي يثق به بما يريد ثم يأمره بدفع ذلك إلى الوارث
ولكن في هذه الحيل وأمثالها أمران مخوفان أحدهما أنه قد يصح فيحال بينه وبين ماله والثاني أن الأجنبي قد يدعى ذلك لنفسه ولا يسلمه إلى
الوارث فلا خلاص من ذلك إلا بوجه واحد وهو أن يأخذ إقرار الأجنبي ويشهد عليه في مكتوب ثان أنه متى ادعى لنفسه أولمن يخاف أن يواطئه على المريض أووارثه هذا المال أوشيئا منه أوحقا من حقوقه كانت دعواه باطلة وإن أقام به بينه فهى بينه زور وأنه لا حق له قبل فلان بن فلان ولا وارثه بوجه ما ويمسك الكتاب عنده فيأمن هو والوارث ادعاء ذلك لنفسه والله اعلم
المثال التاسع بعد المائة رجل يكون له الدين ويكون عليه الدين فيوكل وكيلا في اقتضاء ديونه ثم يتوارى عن غريمه فلا يمكنه اقتضاء دينه منه فأراد الغريم ممن له الدين على هذا الرجل حيلة يقتضى بها دينه منه ولا يضره توارى من عليه الدين فالحيلة أن يأتي هذا الذي له الدين إلى من عليه الدين فيقول له وكلتك بقبض مالي على فلان وبالخصومة فيه ووكلتك أن تجعل ماله عليك قصاصا بمالي عليه وأجزت أمرك في ذلك وما عملت فيه من شئ فيقبل الوكيل ويشهد على الوكالة على هذا الوجه شهودا ثم يشهدهم الوكيل انه قد جعل الألف درهم التي لفلان عليه قصاصا بالآلف التي لموكله على فلان فيصير الألف قصاصا ويتحول ما كان للرجل المتوارى على هذا الوكيل للرجل الذي وكله
وهذه الحيلة جائزة لأن الموكل أقام الوكيل مقام نفسه والوكيل يقول مطالبتي لك بهذا الدين كمطالبة موكلي به فأنا أطالبك بألف وأنت تطالبني به فاجعل الألف الذي تطالبني عوضا عن الألف الذي أطالبك به ولو كانت الألف لي لحصلت المقاصة إذ لا معنى لقبضك للألف مني ثم أدائها إلي وهذا بعينه فيما إذا طالبتك بها لموكلي أنا أستحق عليك أن تدفع إلى الألف وأنت تستحق على أن ادفع إليك الفا فنتقاص في الألفين
المثال العاشر بعد المائة رجل له على رجل مال فغاب الذي عليه المال
فأراد الرجل أن يثبت ماله عليه حتى يحكم له الحاكم عليه وهو غائب فليرفعه إلى حاكم يرى الحكم على الغائب فإن كان حاكم البلد لا يرى الحكم على الغائب فالحيلة أن يجئ رجل فيضمن لهذا الذي له المال جميع ماله على الرجل الغائب ويسميه وينسبه ولا يذكر مبلغ المال بل يقول ضمنت له جميع ما صح له في ذمته ويشهد على ذلك ثم يقدمه إلى القاضي فيقر الضامن بالضمان ويقول لا أعرف له على فلان شيئا فيسأل القاضي المضمون له هل لك بينة فيقول نعم فيأمره بإقامتها فإذا شهدت ثبت الحق على الغائب وحكم على الضمين بالمال ويجعله خصما عن الغائب لأنه قد ضمن ما عليه ولا ينفذ حكمه على الضامن بثبوت المال على وجه الضمان حتى يحكم على الغائب المضمون عنه بالثبوت لأنه هو الأصل والضامن فرعه وثبوت الفرع بدون أصله ممتنع وهو جائز على اصل أهل العراق حيث يجوزون الحكم على الغائب إذا اتصل القضاء بحاضر محكوم عليه كوكيل الغائب وكما لو ادعى انه اشترى من غائب ما فيه شفعة فإنه يقضى عليه بالبيع وبالشفعة على المدعى وكهذه المسألة ما لو ادعت زوجة غائب أن له عند فلان وديعة فإنه يفرض لها مما في يديه
المثال الحادي عشر بعد المائة ليس للمرتهن أن ينتفع بالرهن إلا بإذن الراهن فإن أذن له كان إباحة أوعارية له الرجوع فيها متى شاء ويقضى له بالأجرة من حين الرجوع في أحد الوجهين فالحيلة في انتفاع المرتهن بالرهن آمنا من الرجوع ومن الأجرة أن يستأجره منه للمدة التي يريد الانتفاع به فيها ثم يبرئه من الأجرة أويقر بقبضها ويجوز أن يرد عقد الإجارة على عقد الرهن ولا يبطله كما يجوز أن يرهنه ما أستأجره فيرد كل من العقدين على الآخر وهو في يده أمانة في الموضعين وحقه متعلق به فيهما إلا أن الانتفاع بالمرهون مع الإجارة والرهن بحاله
المثال الثاني عشر بعد المائة إذا كان له على رجل مال والمال رهن فادعى صاحب الرهن به عند الحاكم فخاف المرتهن أن يقر بالرهن فيقول الراهن قد أقررت بأن لي رهنا في يدك وادعيت الدين فينزعه من يده ولا يقر له بالدين فقد ذكروا له حيلة تحرز حقه وهي أن لا يقر به حتى يقر له صاحبه بالدين فإن ادعاه وسأل إحلافه أنكر وحلف وعرض في يمينه بأن ينوى أن هذا ليس له قبل ملكه أوإذا باعه أوليس له عاريا عن تعلق الحق به ونحو ذلك
وأحسن من هذه الحيلة أن يفصل في جواب الدعوى فيقول إن ادعيته رهنا في يدي على ألف لي عليك فأنا مقر به وإن ادعيته على غير هذا الوجه فلا أقر لك وينفعه هذا الجواب كما قالوا فيما إذا ادعى عله ألفا فقال إن ادعيتها من ثمن مبيع لم اقبضه منك فأنا مقر وإلا فلا وهذا مثله سواء
فإن كان الغريم هو المدعى للمال فخاف الراهن أن يقر بالمال فيجحد المرتهن الرهن فيلزم الراهن المال ويذهب رهنه فالحيلة في أمنه من ذلك أن يقول إن أدعيت هذا المال وأنك تستحقه من غير رهن لي عندك فلا أقر به وإن ادعيته مع كوني رهنتك به كذا وكذا فأنا مقر به ولا يزيد على هذا
وقالت الحنفية الحيلة أن يقر منه بدرهم فيقول لك على درهم ولى عندك رهن كذا وكذا فإذا سأل الحاكم المدعى عن الرهن فإما أن يقر به وإما أن ينكر فإن اقر به فيقر له خصمه بباقي دينه وإن أنكره وحلف عليه وسع الآخر أن يجحد باقي الدين ويحلف عليه إن كان الرهن بقدر الدين أواكثر منه وإن كان أقل منه لزمه أن يعطيه ما زاد على قيمة الرهن من حقه قالوا لأن الرهن إن كان قد تلف بغير تفريطه سقط ما يقابله من الدين وإن كان قد فرط فيه صارت قيمته دينا عليه فيكون قصاصا بالدين الذي له
وهذا بناء على أصلين لهم أحدهما أن الرهن مضمون على المرتهن بأقل الآمرين من قيمته أوقدر الدين والثاني جواز الاستيفاء في مسألة الظفر
المثال الثالث عشر بعد المائة إذا قال لامرأته ان لم اطألك الليلة فأنت طالق ثلاثا فقالت ان وطئني الليلة فأمتي حرة فالمخلص من ذلك ان تبيعه الجارية فإذا وطئها بعد ذلك لم تعتق لأنها خرجت من ملكها ثم تستردها فإن خافت ان يطا الجارية على قول من لا يرى على الرجل استبراء الامة التي يشتريها من امرأته كما ذهب إليه بعض الشافعية والمالكية فالحيلة أن تشتريها منه عقيب الوطء فإن أن لا يرد اليها الجارية ويقيم على ملكها فلا تصل اليها فالحيلة لها ان تشترط عليه انه ان لم يرد الجارية اليها عقيب الوطء فهي حرة فإن خافت ان يملكها لغيره تلجئة فلا يصح تعليق عنقها فالحيلة لها ان تشترط عليه انه ان لم يردها اليها عقيب الوطء فهي طالق فهنا تضيق عليه الحيلة في استدامة ملكها ولم يجد بدا من مفارقة احداهما
المثال الرابع عشر بعد المائة اذا اراد الرجل ان يخالع امراته الحامل على سكناها ونفقتها جاز ذلك وبريء منهما هذا منصوص احمد وقال الشافعي لا يصح الخلع ويجب مهر المثل واحتج له بأن النفقة لم تجب بعد فإنها انما تجب بعد الابانة وقد خالعها بمعدوم فلا يصح كما لو خالعها على عوض شيء يتلفه عليها وهذا اختيار ابي بكر عبد العزيز وقال اصحاب ابي حنيفة اذا خالعها على ان سكنى لها ولا نفقة فلا نفقة لها وتستحق عليه اسكنى قالوا لان النفقة حق لها وقد اسقطته والسكنى حق الشارع فلا تسقط بإسقاطها فيلزمه اسكانها قالوا فالحيلة على سقوط الاجرة عنه ان يشترط الزوج في الخلع ان
لا يكون عليه مؤنة السكنى وان مؤنتها تلزم المرأة في مالها وتجب أجرة المسكن عليها
فإن قيل لو أبرأت المرأة زوجها عن النفقة قبل أن تصير دينا في ذمته لم تصح ولو شرط في عقد الخلع براءة الزوج عن النفقة صح
قيل الفرق بينهما أن الإبراء إذا شرط في الخلع كان إبراء بعوض فالإبراء بعوض استيفاء لما وقعت البراءة عنه لأن العوض قائم مقام ما وقعت البراءة عنه والاستيفاء يجوز قبل الوجوب بدليل ما لو تسلفت نفقة شهر جملة وأما الابراء من النفقة في غير خلع قبل ثبوتها فهو إسقاط لما لم يجب فلا يسقط كما لو أسقطت حقها من القسم فإن لها أن ترجع فيه متى شاءت وأما قول صاحب المحرر وقيل إن أوجينا نفقة الزوجة بالعقد صح وإلا فهو خلع بمعدوم وقد بينا حكمه يعنى إن قلنا إن نفقة الحامل نفقة زوجة وإن النفقة لها من أجل الحمل وإنها تجب بالعقد فيكون خلعا بشئ ثابت وإن قلنا إنه النفقة إنما تجب بالتمكين فقد زال التمكين بالخلع وصارت النفقة نفقة قريب فالخلع بنفقة الزوجة حينئذ خلع بمعدوم هذا أقرب ما يتوجه به كلامه وفيه ما فيه والله أعلم
المثال الخامس عشر بعد المائة إذا وقع الطلاق الثلاث بالمرأة وكان دينها ودين وليها وزوجها المطلق أعز عليهم من التعرض للعنة الله ومقته بالتحيل الذي لا يحلها ولا يطيبها بل يزيدها خبثا فلو انها أخرجت من مالها ثمن مملوك فوهبته لبعض من تثق به فاشترى به مملوكا ثم خطبها على مملوكه فزوجها منه فدخل بها المملوك ثم وهبها إياه انفسح النكاح ولم يكن هناك تحليل مشروط ولا منوى ممن تؤثر نيته وشرطه وهو الزوج فإنه لا أثر لنية الزوجة ولا الولى وإنما التأثير لنية الزوج الثاني فإنه إذا نوى التحليل كان محللا فيستحق اللعنة ثم يستحقها الزوج المطلق إذا رجعت إليه بهذا النكاح الباطل فأما إذا لم يعلم الزوج الثاني ولا الأول
بما في قلب المرأة أووليها من نية التحليل لم يضر ذلك العقد شيئا وقد علم النبي ص - من امرأة رفاعة انها كانت تريد أن ترجع اليه ولم يجعل ذلك مانعا من رجوعها إليه وإنما جعل المانع عدم وطء الثاني فقال حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك وقد صرح اصحابنا بان ذلك يحلها فقال صاحب المغنى فيه فإن تزوجها مملوك ووطئها أحلها وبذلك قال عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم لهم مخالفا
قلت هذه الصورة غير الصورة التي منع منها الامام احمد فإنه منع من حلها إذا كان الزوج المطلق قد اشترى العبد وزوجه بها بإذن وليها ليحلها فهذه حيلة لا تجوز عنده وأما هذه المسألة فليس للزوج الاول وولا للثاني فيها نية ومع هذا فيكره لأنها نوع حيلة
المثال السادس عشر بعد المائة قال عبد الله بن احمد في مسائله سألت ابي عن رجل قال لامرأته أنت طالق إن لم اجامعك اليوم وأنت طالق إن أغتسلت منك اليوم فقال يصلى العصر ثم يجامعها فإذا غابت الشمس اغتسل إن لم يكن اراد بقوله اغتسلت المجامعة ونظير هذا أيضا ما نص عليه في رجل قال لامرأته أنت طالق إن لم أطاك في رمضان فسافر مسيرة أربعة ايام أوثلاثة ثم وطئها فقال لا يعجبني لأنها حيلة ولا يعجبني الحيلة في هذا ولا في غيره وقال القاضي إنما كره الامام احمد هذا لان السفر الذي يبيح الفطر لا بد أن يكون سفرأ مقصودا مباحا وهذا لا يقصد به غير حل اليمين قال الشيخ أبو محمد المقدسي والصحيح أن هذا تنحل به اليمين ويباح له الفطر فيه لأنه سفر بعيد مباح لقصد صحيح وإرادة حل يمينه من المقاصد الصحيحة وقد أبحنا لمن له طريقان قصيرة لا يقصر فيها وبعيدة أن يسلك البعيدة ليقصر فيها الصلاة ويفطر مع أنه لا قصد له سوى الترخص فههنا أولى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق