وأما تمسكهم بجواز المعاريض وقولهم إن الحيل معاريض فعلية على وزان المعاريض القولية فالجواب من وجوه
احدها ان يقال ومن سلم لكم ان المعاريض اذا تضمنت استباحة الحرام وإسقاط الواجبات وإبطال الحقوق كانت جائزة بل هي من الحيل القولية وإنما تجوز المعاريض اذا كان فيها تخلص من ظالم كما عرض الخليل بقوله هذه أختي فإذا تضمنت نصر حق أو إبطال باطل كما عرض الخليل بقوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وكما عرض الملكان لداود بما ضرباه له من
المثال الذي نسباه الى انفسهما وكما عرض النبي ص - قوله ونحن من ماء وكما كان يروى عن الغزوة بغيرها لمصلحة الاسلام والمسلمين إذا لم تتضمن مفسدة في دين ولا دنيا كما عرض ص - بقوله إنا حاملوك على ولد الناقة وبقوله إن الجنة لا تدخلها العجز وبقوله من يشترى منى هذا العبد يريد عبد الله وبقوله لتلك المرأة زوجك الذي في عينيه بياض وإنما اراد به البياض الذي خلقه الله في عيون بين آدم وهذه المعاريض ونحوها من اصدق الكلام فأين في جواز هذه ما يدل على جواز الحيل المذكورة
رأي ابن تيمية في المعاريض
وقال شيخنا رضى الله عنه والذي قيست عليه الحيل الربويه وليست مثله نوعان احدهما المعاريض وهي ان يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحا ويوهم غيره انه يقصد به معنى آخر فيكون سبب ذلك الوهم كون اللفظ مشتركا بين حقيقتين لغويتين او عرفيتين او شرعيتين او لغوية مع إحداهما او عرفية مع إحداهما او شرعية مع أحداهما فيعنى احد معنييه ويوهم السامع له أنه إنما على الآخر إما لكونه لم يعرف إلا ذلك وإما لكون دلالة الحال تقتضيه واما لقرينة حالية او مقالية يضمها الى اللفظ او يكون سبب التوهم كون اللفظ ظاهرا في معنى فيعنى به معنى يحتمله باطنا بأن ينوى مجاز اللفظ دون حقيقته أو ينوي بالعام الخاص او بالمطلق المقيد او يكون سبب التوهم كون المخاطب إنما يفهم من اللفظ غير حقيقته لعرف خاص به او غفلة منه او جهل او غير ذلك من الاسباب مع كون المتكلم إنما قصد حقيقته فهذا كله إذا كان المقصود به رفع ضرر غير مستحق فهو جائز كقول الخليل هذه اختي وقول النبي ص - نحن من ماء وقول الصديق رضى الله عنه هاد يهديني السبيل ومنه قول عبدالله بن رواحة
شهدت بأن وعد الله حق ...
الابيات
أوهم امرأته القرآن وقد يكون واجبا إذا تضمن دفع ضرر يجب دفعه ولا يندفع إلا بذلك
وهذا الضرب وان كان نوع حيلة في الخطاب لكنه يفارق الحيل المحرمة من الوجه المحتال عليه والوجه المحتال به أما الاول فلكونه دفع ضرر غير مستحق فلو تضمن كتمان ما يجب إظهاره من شهادة أو إقرار او علم أو نصيحة مسلم أو التعريف بصفة معقود عليه في بيع او نكاح أو أجارة فإنه غش محرم بالنص
قال مثنى الانباري قلت لاحمد بن حنبل كيف الحديث الذي جاء في المعاريض فقال المعاريض لا تكون في الشراء والبيع تكون في الرجل يصلح بين الناس او نحو هذا
قال شيخنا والضابط ان كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام لأنه كتمان وتدليس ويدخل في هذا الاقرار بالحق والتعريض في الحلف عليه والشهادة على العقود ووصف المعقود عليه والفتيا والحديث والقضاء وكل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز بل واجب إذا أمكن ووجب الخطاب كالتعريض لسائل عن مال معصوم او نفسه يريد ان يعتدى عليه
وإن كان بيانه جائزا او كتمانه جائزا فإما ان تكون المصلحة في كتمانه او في إظهاره او كلاهما متضمن للمصلحة فإن كان الاول فالتعريض مستحب كتورية الغازي عن الوجه الذي يريده وتورية الممتنع عن الخروج والاجتماع بمن يصده عن طاعة او مصلحة راجحة كتورية احمد عن المروزي وتورية الحالف لظالم له أو لمن استحلفه يمينا لا تجب عليه ونحو ذلك وان كان الثاني فالتورية فيه مكروهة والاظهار مستحب وهذا في كل موضع يكون البيان فيه مستحبا وإن تساوي الامران وكان كل منهما طريقا الى المقصود لكون ذلك المخاطب التعريض والتصريح بالنسبة إليه سواء جاز الأمران كما لو كان يعرف بعدة ألسن وخطايه بكل لسان منها يحصل مقصوده ومثل هذا ما لو كان له غرض مباح
في التعريض ولا حذر عليه في التصريح والمخاطب لا يفهم مقصوده وفي هذا ثلاثة اقوال للفقهاء وهي في مذهب الامام احمد أحدها له التعريض إذ لا يتضمن كتمان حق ولا إضرار بغير مستحق والثاني ليس له ذلك فإنه إيهام للمخاطب من غير حاجة اليه وذلك تغرير وربما أوقع السامع في الخبر الكاذب وقد يترتب عليه ضرر به والثالث له التعريض في غير اليمين
وقال الفضيل بن زياد سألت احمد عن الرجل يعارض في كلامه يسألني عن الشيء أكره أن أخبره به قال إذا لم يكن يمينا فلا بأس في المعاريض مندوحة عن الكذب وهذا عند الحاجة الى الجواب فأما الابتداء فالمنع فيه ظاهر كما دل عليه حديث ام كلثوم انه لم يرخص فيما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث وكلها مما يحتاج اليه المتكلم وبكل حال فغاية هذا القسم تجهيل السامع بأن يوقعه المتكلم في اعتقاد ما لم يرده بكلامه وهذا التجهيل قد تكون مصلحته أرجح من مفسدته وقد تكون مفسدته أرجع من مصلحته وقد يتعارض الامران ولا ريب ان من كان علمه بالشيء يحمله على ما يكرهه الله ورسوله كان تجهيله به وكتمانه عنه اصلح له وللمتكلم وكذلك ما كان في علمه مضرة على القائل او تفوت عليه مصلحة هي ارجح من مصلحة البيان فله ان يكتمه عن السامع فان ابي الا استنطاقه فله أن يعرض له
فالمقصود بالمعاريض فعل واجب او مستحب او مباح اباح الشارع السعي في حصوله ونصب له سببا يفضى اليه فلا يقاس بهذه الحيل التي تتضمن سقوط ما أوجبه الشارع وتحليل ما حرمه فأين احد البابين من الآخر وهل هذا إلا من أفسد القياس وهو كقياس الربا على البيع والميتة على المذكى
فصل جواز المعاريض فيما لا يضر
فهذا الفرق من جهة المحتال عليه وأما الفرق من جهة المحتال به فإن المعرض إنما تكلم بحق ونطق بصدق فيما بينه وبين الله لا سيما إن لم ينو باللفظ خلاف ظاهره في نفسه وإنما كان عدم الظهور من ضعف فهم السامع وقصوره في فهم دلالة اللفظ ومعاريض النبي ص - ومزاحه كان من هذا النوع كقوله نحن من ماء وقوله إنا حاملوك على ولد الناقة ولا يدخل الجنة العجز وزوجك الذي في عينيه بياض وأكثر معاريض السلف كانت من هذا ومن هذا الباب التدليس في الإسناد لكن هذا مكروه لتعلقه بالدين وكون البيان في العلم واجبا بخلاف ما قصد به دفع ظالم أو دفع ضرر عن المتكلم
المعاريض نوعان
والمعاريض نوعان أحدهما ان يستعمل اللفظ في حقيقته وما وضع له فلا يخرج به عن ظاهره ويقصد فردا من أفراد حقيقته فيتوهم السامع انه قصد غيره إما لقصور فهمه وأما لظهور ذلك الفرد عنده أكثر من غيره وإما لشاهد الحال عنده وإما لكيفية المخبر وقت التكلم من ضحك او غضب او إشارة ونحو ذلك وإذا تأملت المعاريض النبوية والسلفيه وجدت عامتها من هذا النوع والثاني ان يستعمل العام في الخاص والمطلق العام في الخاص والمطلق في المقيد وهو الذي يسميه المتأخرون الحقيقة والمجاز وليس يفهم أكثر من المطلق والمقيد فإن لفظ الاسد والبحر والشمس عند الاطلاق له معنى وعند التقييد له معنى يسمونه المجاز ولم يفرقوا بين مقيد ومقيد ولابين قيد وقيد فإن قالوا كل مقيد مجاز لزمهم ان يكون كل كلام مركب مجازا فإن التركيب يقيده بقيود زائدة على اللفظ المطلق وإن قالوا بعض القيود بجعله مجازا دون بعض سئلوا عن الضابظ ما هو ولن يجدوا اليه سبيلا وإن قالوا يعتبر اللفظ الفرد من حيث هو مفرد قبل التركيب وهناك يحكم عليه بالحقيقة والمجاز
قيل لهم هذا أبعد وأشد فسادا فإن اللفظ قبل العقد والتركيب بمنزلة الاصوات التي ينعق بها ولا تفيد شيئا وإنما إفادتها بعد تركيبها وأنتم قلتم الحقيقة هي اللفظ المستعمل وأكثركم يقول استعمال اللفظ فيما وضع له اولا والمجاز بالعكس فلا بد في الحقيقة والمجازم من استعمال اللفظ فيما وضع له وهو إنما يستعمل بعد تركيبه وحيئذ فتركيبه بعده يفهم منها مراد المتكلم فما الذي جعله مع بعض تلك القيود حقيقة ومع بعضها مجازا
وليس الغرض إبطال هذا التقسيم الحادث المبتدع المتناقض فإنه باطل من اكثر من أربعين وجها وإنما الغرض التنبيه على نوعى التعريض وأنه تارة يكون مع استعمال اللفظ في ظاهره وتارة يكون اخراجه عن ظاهره ولا يذكر المعرض قرينة تبين مراده ومن هذا النوع عامة التعريض في الايمان والطلاق كقوله كل امرأة له فهى طالق وينوى في بلد كذا وكذا او ينوى فلانة أو قوله أنت طالق وينوي من زوج كان قبله ونحو ذلك فهذا القسم شيء والذي قبله شيء فأين هذا من قصد المحتال بلفظ العقد او صورته ما لم يجعله الشارع مقتضيا له بوجه بل جعله مقتضيا لضده ولا يلزم من صلاحية اللفظ له إخبارا صلاحيته له إنشاء فإنه لو قال تزوجت في المعاريض وعنى نكاحا فاسدا كان صادقا كما لو بينه ولو قال تزوجت إنشاء وكان فاسدا لم ينعقد وكذلك في جميع الحيل فإن الشارع لم يشرع القرض إلا لمن قصد ان يسترجع مثل قرضه ولم يشرعه لمن قصد ان يأخذ اكثر منه لا بحيلة ولا بغيرها وكذلك إنما شرع البيع لمن له غرض في تمليك الثمن وتمليك السلعة ولم يشرعه قط لمن قصد به ربا الفضل أو النساء ولا غرض له في الثمن ولا في المثمن ولا في السلعة وإنما غرضهما الربا وكذلك النكاح لم يشرعه إلا لراغب في المرأة لم يشرعه للمحلل وكذلك الخلع لم يشرعه إلا للمفتدية نفسها من الزوج تتخلص منه من سوء العشرة ولم يشرعه للتحيل على الحنث قط وكذلك التمليك لم يشرعه الله سبحانه وتعالى إلا لمن قصد نفع الغير والاحسان اليه بتمليكه
سواء كان محتاجا أو غير محتاج ولم يشرعه لاسقاط فرض من زكاة او حج او غيرهما قط وكذلك المعاريض لم يشرعها إلا لمحتاج إليها او لمن لا يسقط بها حقا ولا يضربها احدا ولم يشرعها إذا تضمنت إسقاط حق او إضرار لغير مستحق
متى تباح المعاريض ومتى تحرم
فثبت ان التعريض المباح ليس من المخادمة لله في شيء وغايته انه مخادعة لمخلوق اباح الشارع مخادعته لظلمه ولا يلزم من جواز مخادعه الظالم المبطل جواز مخادعة المحق فما كان من التعريض مخالفا لظاهر اللفظ كان قبيحا إلا عند الحاجة وما لم يكن منها مخالفا لظاهر اللفظ كان جائزا إلا عند تضمن مفسدة
والمعاريض كما تكون بالقول تكون بالفعل وتكون بالقول والفعل معا مثال ذلك أن يظهر المحارب انه يريد وجها من الوجوه ويسافر اليه ليحسب العدو أنه لا يريده ثم يكر عليه وهو آمن من قصده او يستطرد المبارز بين يدي خصمه ليظن هزيمته ثم يعطف عليه وهذا من خداعات الحرب
فصل النوع الآخر من المعاريض
فهذا أحد النوعين الذي قيست عليه الحيل المحرمة والنوع الثاني الكيد الذي شرعه الله للمظلوم أن يكيد به ظالمه ويخدعه به إما للتوصل الى أخذ حقه منه او عقوبة له او لكف شره وعدوانه عنه كما روى الإمام احمد في مسنده ان رجلا شكا إلى رسول الله ص - من جاره أنه يؤذيه فأمره رسول الله ص - ان يطرح متاعه في الطريق ففعل فجعل كل من مر عليه يسأل عن شأن المتاع فيخبر بأن جار صاحبه يؤذيه فيسبه ويلعنه فجاء اليه وقال رد متاعك الى مكانه فوالله لا أوذيك بعد ذلك ابدا فهذا من أحسن المعاريض الفعليه والطف الحيل التي يتوصل بها الى دفع ظلم الظالم
ونحن لا ننكر هذا الجنس وإنما الكلام في الحيل على استحلال محارم
الله وإسقاط فرائضه وإبطال حقوق عباده فهذا النوع هو الذي يفوت أفراد الادلة على تحريمه الحصر
فصل ليس كل الحيل حراما
وأما قولكم جعل العقود حيلا على التوصل الى مالا يباح إلا بها الى آخره فهذا موضع الكلام في الحيل وانقسامها الى احكامها الخمسة فنقول
ليس كل ما يسمى حيلة حراما قال الله تعالى الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا اراد بالحيلة التحيل على التخلص من بين الكفار وهذه حيلة محمودة يثاب عليها وكذلك الحيلة على هزيمة الكفار كما فعل نعيم بن مسعود يوم الخندق او على تخليص ماله منهم كما فعل الحجاج بن علاط بإمرأته وكذلك الحيلة على قتل راس من رؤوس اعداء الله كما فعل الذين قتلوا ابن ابي الحقيق اليهودي وكعب بن الأشرف وابا رافع وغيرهم فكل هذه حيل محمودة محبوبة لله ومرضية له
الحيلة اشتقاقها ومعناها
والحيلة مشتقة من التحول وهي النوع والحالة كالجلسة والقعدة والركبة فإنها بالكسر للحالة وبالفتح للمرة كما قيل الفعلة للمرة والفعلة للحالة والمفعل للموضع والمفعل للآلة
وهي من ذوات الواو فإنها من التحول من حال يحول وانما انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وهو قلب مقيس مطرد في كلامهم نحو ميزان وميقات وميعاد فإنها مفعال من الوزن والوقت والوعد فالحيلة هي نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي يتحول به فاعله من حال الى حال ثم غلب عليها بالعرف استعمالها في سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل الى حصول غرضه بحيث لا يتفطن له الا بنوع من الذكاء والفطنة فهذا اخص من موضوعها في اصل اللغة وسواء كان المقصود امرا جائزا او محرما او خص من هذا استعمالها في التوصل الى الغرض الممنوع منه شرعا او عقلا او عادة
فهذا هو الغالب عليها في عرف الناس فإنهم يقولون فلان من ارباب الحيل ولا تعاملوه فإنه متحيل وفلان يعلم الناس الحيل وهذا من استعمال المطلق في بعض انواعه كالدابة والحيوان وغيرهما
تقسيم الحيلة الى الأحكام الخمسة
وإذا قسمت باعتبارها لغة انقسمت الى الاحكام الخمسة فإن مباشرة الاسباب الواجبة حيلة على الحصول مسبباتها فالأكل والشرب واللبس والسفر الواجب حيلة على المقصود منه والعقود الشرعية واجبها ومستحبها ومباحها كلها حيلة على حصول المعقود عليه والاسباب المحرمة كلها حيلة على حصول مقاصدها منها وليس كلامنا في الحيلة بهذا الاعتبار العام الذي هو مورد التقسيم الى مباح ومحظور فالحيلة جنس تحته التوصل الى فعل الواجب وترك المحرم وتخليص الحق ونصر المظلوم وقهر الظالم وعقوبة المعتدي وتحته التوصل الى استحلال المحرم وإبطال الحقوق وإسقاط الواجبات ولما قال النبي ص - لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل غلب استعمال الحيل في عرف الفقهاء على النوع المذموم وكما يذم الناس ارباب الحيل فهم يذمون ايضا العاجز الذي لا حيلة عنده لعجزه وجهله بطرق تحصيل مصالحه فالأول ماكر مخادع والثاني عاجر مفرط والممدوح غيرهما وهو من له خبرة بطرق الخير والشر خفيها وظاهرها فيحسن التوصل الى مقاصده المحمودة التي يحبها الله ورسوله بأنواع الحيل ويعرف طرق الشر الظاهرة والخفية التي يتوصل بها الى خداعه والمكر به فيحترز منها ولا يفعلها ولا يدل عليها وهذه كانت حال سادت الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا ابر الناس قلوبا واعلم الخلق بطرق الشر ووجوه الخداع واتقى لله من ان يرتكبوا منها شيئا او يدخلوه في الدين كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لست بخب ولا يخدعني الخب وكان حذيفة اعلم الناس بالشر والفتن وكان الناس يسألون ص - عن الخير وكان هو يسأله عن الشر والقلب السليم ليس هو
الجاهل بالشر الذي لا يعرفه بل الذي يعرفه ولا يريده بل يريد الخير والبر والنبي ص - قد سمى الحرب خدعة ولا ريب في انقسام الخداع الى ما يحبه الله ورسوله والى ما يبغضه وينهى عنه وكذلك المكر ينقسم الى قسمين محمود ومذموم فالحيلة والمكر والخديعة تنقسم الى محمود ومذموم فالحيل المحرمة منها ما هو كفر ومنها ما هو كبيرة ومنها ما هو صغيرة وغير المحرمة منها ما هو مكروه ومنها ما هو جائز ومنها ما هو مستحب ومنها ما هو واجب فالحيلة بالردة على الفسخ النكاح كفر ثم انها لا تتأتى الا على قول من يقول بتعجيل الفسخ بالردة فأما من وقفه على انقضاء العده فإنها لا يتم لها غرضها حتى تنقضى عدتها فإنها متى علم بردتها قتلت إلا على قول من يقول لا تقتل المرتدة بل يحبسها حتى تسلم أو تموت وكذلك التحيل بالردة على حرمان الوارث كفر والافتاء بها كفر ولا تتم إلا على قول من يرى ان مال المرتد لبيت المال فأما على القول الراجح انه لورثته من المسلمين فلا تتم الحيلة وهذا القول هو الصواب فان ارتداده اعظم من مرض الموت المخوف وهو في هذه الحال قد تعلق حق الورثة بماله فليس له ان يسقط هذا التعلق بتبرع فهكذا المرتد بردته تعلق حق الورثة بماله إذ صار مستحقا للقتل
فصل الحيلة التي تعد من الكبائر
وأما الحيل التي هي من الكبائر فمثل قتل امرأته إذا قتل حماته وله من امرأته ولد والصواب ان هذه الحيلة لا تسقط عنه القود وقولهم إنه ورث ابنه بعض دم ابيه فسقط عنه القود ممنوع فان القود وجب عليه اولا بقتل أم المرأة وكان لها ان تستوفيه ولها أن تسقطه فلما قتلها قام وليها في هذه الحال مقامها بالنسبة إليها وبالنسبة الى امها ولو كان ابن القاتل فإنه لم يدل كتاب
ولا سنة ولا إجماع ولا ميزان عادل على ان الولد لا يستوفي القصاص من والده لغيره وغاية ما يدل عليه الحديث انه لا يقاد الوالد بولده على ما فيه من الضعف وفي حكمه من النزاع ولم يدل على انه لا يقاد بالاجنبي إذا كان الولد هو مستحق القود والفرق بينهما ظاهر فإنه في مسألة المنع قد أقيد بابنه وفي هذه الصورة إنما أقيد بالاجنبي وكيف تأتي شريعة أو سياسة عادلة بوجوب القود على من قتل نفسا بغير حق فإن عاد فقتل نفسا أخرى بغير حق وتضاعف إثمه وجرمه سقط عنه القود بل لو قيل بتحتم قتله ولا بد إذا قصد هذا لكان أقرب الى العقول والقياس
فصل الحيلة المحرمة
ومن الحيل المحرمة التي يكفر من أفتى بها تمكين المرأة ابن زوجها من نفسها لينفسخ نكاحها حيث صارت موطوءة ابنه وكذا بالعكس أو وطئه حماته لينفسخ نكاح امرأته مع ان هذه الحيلة لا تتمشى إلا على قول من يرى أن حرمة المصاهرة تثبت بالزنا كما تثبت بالنكاح كما يقوله ابو حنيفة واحمد في المشهور من مذهبه والقول الراجح ان ذلك لا يحرم كما هو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك فإن التحريم بذلك موقوف على الدليل ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح وقياس السفاح على النكاح في ذلك لا يصح لما بينهما من الفروق والله تعالى جعل الصهر قسيم النسب وجعل ذلك من نعمة التي امتن بها على عباده فكلاهما من نعمه وإحسانه فلا يكون الصهر من آثار الحرام وموجباته كما لا يكون النسب من آثاره بل إذا كان النسب الذي هو اصل لا يحصل بوطء الحرام فالصهر الذي هو فرع عليه ومشبه به اولى ألا يحصل بوطء الحرام وأيضا فإنه لو ثبت تحريم المصاهرة لا تثبت المحرمية التي هي من أحكامه فإذا لم تثبت المحرمية لم تثبت الحرمة وايضا فإن الله تعالى إنما قال وحلائل ابنائكم ومن زنا بها الابن لا تسمى حليلة لغة ولا شرعا ولا عرفا وكذلك قوله ولا تنكحوا ما نكح
آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنما المراد به النكاح الذي هو ضد السفاح ولم يأت في القرآن النكاح المراد به الزنا قط ولا الوطء المجرد عن عقد
وقد تناظر الشافعي هو وبعض العراقيين في هذه المسألة ونحن نذكر مناظرته بلفظها
مناظرة بين الشافعي ومن يرى حرمة المصاهرة بالزنا
قال الشافعي الزنا لا يحرم الحلال وقال به ابن عباس قال الشافعي لان الحرام ضد الحلال ولا يقاس شيء على ضده فقال لي قائل ما تقول لو قبلت امرأة الرجل ابنه بشهوة حرمت على زوجها أبدا فقلت لم قلت ذا والله تعالى إنما حرم أمهات نسائكم ونحو هذا بالنكاح فلم يجز أن يقاس الحرام بالحلال فقال أجد جماعا وجماعا قلت جماعا حمدت به وأحصنت وجماعا رجمت به احدهما نقمة والآخر نعمة وجعله الله نسبا وصهرا وأوجب به حقوقا وجعلك محرما لام امرأتك وابنتها تسافر بهما وجعل على الزنا نقمة في الدينا بالحد وفي الآخرة بالنار إلا ان يعفو الله فتقيس الحرام الذي هو نقمة على الحلال الذي هو نعمة وقلت له فلو قال لك وجدت المطلقة ثلاثا تحل بجماع زوج وإصابة فاحلها بالزنا لانه جماع كجماع قال إذا اخطيء لأن الله تعالى أحلها بنكاح زوج قلت وكذلك ما حرم الله في كتابه بنكاح زوج واصابة زوج قال أفيكون شيء يحرمه الحلال ولا يحرمه الحرام اقول به قلت نعم ينكح اربعا فيحرم عليه ان ينكح من النساء خامسة أفيحرم عليه إذا زنا باربع شيء من النساء قال لا يمنعه الحرام مما يمنعه الحلال قال فقد ترتد فتحرم على زوجها قلت نعم وعلى جميع الخلق وأقتلها وأجعل ما لها فيئا قال فقد نجد الحرام يحرم الحلال قلت أما في مثل ما اختلفنا فيه من امر النساء فلا انتهى
ومما يدل على صحة هذا القول ان احكام النكاح التي رتبها الله تعالى عليه من العدة والاحداد والميراث والحل والحرمة ولحوق النسب
ووجوب النفقة والمهر وصحة الخلع والطلاق والظهار والايلاء والقصر على أربع ووجوب القسم والعدل بين الزوجات وملك الرجعة وثبوت الاحصان والاحلال للزوج الاول وغير ذلك من الاحكام لا يتعلق شيء منها بالزنا وان اختلف في العدة والمهر والصواب انه لا مهر لبغى كما دلت عليه سنة رسول الله ص - وكما فطر الله عقول الناس على استقباحه فكيف يثبت تحريم المصاهرة من بين هذه الاحكام والمقصود ان هذه الحيلة باطلة شرعا كما هي محرمة في الدين
إبطال حيلة لاسقاط الحد في السرقة
وكذلك الحيلة على إسقاط حد السرقة بقول السارق هذا ملكي وهذه داري وصاحبها عبدي من الحيل التي هي الى المضحكة والسخرية والاستهزاء بها أقرب منها الى الشرع ونحن نقول معاذ الله ان يجعل في فطر الناس وعقولهم قبول مثل هذا الهذيان البارد المناقض للعقول والمصالح فضلا عن أن يشرع لهم قبوله وكيف يظن بالله وشرعه ظن السوء انه شرع رد الحق بالباطل الذي يقطع كل احد ببطلانه وبالبهتان الذي يجزم كل حاضر ببهتانه ومتى كان البهتان والوقاحة والمجاهرة بالزور والكذب مقبولا في دين من الاديان او شريعة من الشرائع او سياسة أحد من الناس ومن له مسكة من عقل وان بلى بالسرقة فإنه لا يرضى لنفسه بدعوى هذا البهت والزور ويالله وياللعقول ايعجز سارق قط عن التكلم بهذا البهتان ويتخلص من قطع اليد فما معنى شرع قطع يد السارق ثم إسقاطه بهذا الزور والبهتان
إبطال حيلة لاسقاط اليمين عن الغاصب
وكذلك إذا غصب شيئا فادعاه المغصوب منه فأنكر فطلب تحليفه
قالوا فالحيلة في إسقاط اليمين عنه أن يقر به لولده الصغير فيسقط عنه اليمين ويفوز بالمغصوب وهذه حيلة باطلة في الشرع كما هي محرمة في الدين بل المقر له إن كان كبيرا صار0هو الخصم في ذلك وتوجهت عليه اليمين وإن كان صغيرا
توجهت اليمين على المدعي عليه فإن نكل قضى به للمدعي وغرم قيمته لمن أقر له به لأنه بنكوله قد فوته عليه
إبطال حيلة لاسقاط القصاص
وكذلك إذا جرح رجلا فخشى أن يموت من الجرح فدفع عليه دواء مسموما فقتله
قال أرباب الحيل يسقط عنه القصاص وهذا خطأ عظيم بل يجب عليه القصاص بقتله بالسم كما يجب عليه بقتله بالسيف ولو أسقط الشارع القتل عمن قتل بالسم لما عجز قاتل عن قتل من يريد قتله به آمنا إذ قد علم أنه لا يجب عليه القود وفي هذا من فساد العالم مالا تأتى به شريعة
ابطال حيلة لاخراج الزوجة من الميراث
وكذلك إذا أراد إخراج زوجته من الميراث في مرضه وخاف ان الحاكم يورث المبتوتة قالوا فالحيلة ان يقر انه كان طلقها ثلاثا وهذه حيلة محرمة باطلة لا يحل تعليمها ويفسق من علمها المريض ويستحق عقوبة الله ومع ذلك فلا تنفذ فإنه كما هو متهم بطلاقها فهو متهم بالإقرار بتقدم الطلاق على المرض وإذا كان الطلاق لا يمنع الميراث للتهمة فالإقرار لا يمنعه للتهمة ولا فرق بينهما فالحيلة باطلة محرمة
إبطال حيلة لاسقاط الزكاة
وكذلك إذا كان في يده نصاب فباعه او وهبه قبل الحول ثم استرده قال ارباب الحيل تسقط عنه الزكاة بل لو ادعى ذلك لم يأخذ العامل زكاته وهذه حيلة محرمة باطلة ولا يسقط ذلك عنه فرض الله الذي فرضه وأوعد بالعقوبة الشديدة من ضيعه واهله فلو جاز إبطاله بالحيلة التي هي مكر وخداع لم يكن في إيجابه والوعيد على تركه فائدة
وقد استقرت سنة الله في خلقه شرعا وقدرا على معاقبة العبد بنقيض قصده كما حرم القاتل الميراث وورث المطلقة في مرض الموت وكذلك الفار من
الزكاة لايسقطها عنه فراره ولا يعان على قصده الباطل فيتم مقصود ويسقط مقصود الرب تعالى وكذلك عامة الحيل إنما يساعد فيها المتحيل على بلوغ غرضه ويبطل غرض الشارع
إبطال حيلتين لاسقاط الكفارة
وكذلك المجامع في نهار رمضان إذا تغدى او شرب الخمر اولا ثم جامع قالوا لا تجب عليه الكفارة وهذا ليس بصحيح فإن إضمامه الى إثم الجماع إثم الاكل والشرب لا يناسب التخفيف عنه بل يناسب تغليظ الكفارة عليه ولو كان هذا يسقط الكفارة لم تجب كفارة على واطيء اهتدى لجرعة ماء أو ابتلاع لبابة أو أكل زبيبة فسبحان الله هل أوجب الشارع الكفارة لكون الوطء لم يتقدمه مفطر قبله او للجناية على زمن الصوم الذي لم يجعله الله محلا للوطء أفترى بالأكل والشرب قبله صار الزمان محلا للوطء فانقلبت كراهة الشارع له محبة ومنعه إذنا هذا من المحال وأفسد من هذا قولهم الحيلة في إسقاط الكفارة أن ينوي قبل الجماع قطع الصوم فإذا أتى بهذه النية فليجامع آمنا من وجوب الكفارة ولازم هذا القول الباطل انه لا تجب كفارة على مجامع أبدا وإبطال هذه الشريعة رأسا فإن المجامع لا بد ان يعزم على الجماع قبل فعله وإذا عزم على الجماع فقد تضمنت نيته قطع الصوم فأفطر قبل الفعل بالنية الجازمة للإفطار فصادفه الجماع وهو مفطر بنية الإفطار السابقة على الفعل فلم يفطر به فلا تجب الكفارة فتأمل كيف تضمن الحيل المحرمة مناقضة الدين وإبطال الشرائع
إبطال حيلة لإسقاط وجوب القضاء في الحج
وكذلك قالوا لو ان محرما خاف الفوت وخشى القضاء من قابل فالحيلة في إسقاط القضاء أن يكفر بالله ورسوله في حال إحرامه فيبطل إحرامه فإذا عاد الى الاسلام لم يلزمه القضاء من قابل بناء على ان المرتد كالكافر الاصلي فقد اسلم إسلاما مستأنفا لا يجب عليه فيه قضاء ما مضى ومن له مسكة من علم ودين
يعلم ان هذه الحيلة مناقضة لدين الاسلام اشد مناقضة فهو في شق الاسلام في شق
إبطال حيلة في إسقاط الحق
وكذلك لو وكل رجلا في استيفاء حقه فرفعه الى الحاكم فأراد ان يحلفه بالطلاق أنه لا حق لوكيله قبله فالحيلة في حلفه صادقا ان يحضر الموكل الى منزله ويدفع اليه حقه ثم يغلق عليه الباب ويمضي مع الوكيل فإذا حلف أنه لا حق لوكيله قبله حلف صادقا فإذا رجع الى البيت فشأنه وشأن صاحب الحق
وهذه شر من حيلة اليهود اصحاب الحيتان وهذه وأمثالها انما هي من حيل اللصوص وقطاع الطريق فما لدين الله ورسوله وإدخالها فيه ولا يجدي عليه هذا الفعل في بره باليمين شيئا بل هو حانث كل الحنث إذ لم يتمكن صاحب الحق من الظفر بحقه فهو في ذمة الحالف كما هو وإنما يبرأ منه إذا تمكن صاحبه من قبضه وعد نفسه مستوفيا لحقه
ابطال بعض الحيل لإسقاط الزكاة
وكذلك لو كان له عروض للتجارة فأراد ان يسقط زكاتها قالوا فالحيلة ان ينوي بها القنية في آخر الحول يوما أو أقل ثم ينقض هذه النية ويعيدها للتجارة فيستأنف بها حولا ثم يفعل هكذا في آخر كل حول فلا تجب عليه زكاتها أبدا
فيالله العجب أيروج هذا الخداع والمكر والتلبيس على احكم الحاكمين الذي يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور ثم إن هذه الحيلة كما هي مخادعة لله ومكر بدين الاسلام فهي باطلة في نفسها فإنها إنما تصير للقنية إذا لم يكن من نيته إعادتها للتجارة فأما وهو يعلم أنه لا يقتنيها ألبتة ولا له حاجة باقتنائها وإنما أعدها للتجارة فكيف تتصور منه النية الجازمة للقنية وهو يعلم قطعا أنه لا يقتنيهما ولا يريد اقتناءها وإنما هو مجرد حديث النفس أو خاطر أجراه على قلبه بمنزلة من
يقول بلسانه أعددتها للقنية وليس ذلك في قلبه أفلا يستحي من الله من يسقط فرائضه بهذا الهوس وحديث النفس
وأعجب من هذا انه لو كان عنده عين من الذهب والفضة فأراد إسقاط زكاتها في جميع عمره فالحيلة أن يدفعها الى محتال مثله أو غيره في آخر الحول ويأخذ منه نظيرها فيستأنف له الحول ثم في آخره يعود فيستبدل بها مثلها فإذا هو فعل مثل ذلك لم تجب عليه زكاته ما عاش وأعظم من هذه البلية إضافة هذا المكر والخداع الى الرسول وان هذا من الدين الذي جاء به
ومثل هذا وأمثاله منع كثيرا من أهل الكتاب من الدخول في الاسلام وقالوا كيف يأتي رسول الله بمثل هذه الحيل وأساءوا ظنهم به وبدينه وتواصوا بالتمسك بما هم عليه وظنوا ان هذا هو الشرع الذي جاء به وقالوا كيف تأتى بهذا شريعة او تقوم به مصلحة او يكون من عند الله ولو ان ملكا من الملوك ساس رعيته بهذه السياسة لقدح ذلك في ملكه قالوا وكيف يشرع الحكيم الشيء لما في شرعه من المصلحة ويحرم لما في فعله من المفسدة ثم يبيح إبطال ذلك بأدنى حيلة تكون وترى الواحد منهم إذا ناظره المسلم في صحة دين الاسلام إنما يحتج عليه بهذه الحيل كما هو في كتبهم وكما نسمعه من لفظهم عند المناظرة فالله المستعان
وكذلك قالوا لو كان له نصاب من السائمة فأراد إسقاط زكاتها فالحيلة في ذلك أن يعلفها يوما واحدا ثم تعود الى السوم وكذلك يفعل في كل حول وهذه حيلة باطلة لا تسقط عنه وجوب الزكاة بل وكذلك كل حيلة يتحيل بها على إسقاط فرض من فرائض الله أو حق من حقوق عباده لا يزيد ذلك الفرض إلا تأكيدا وذلك الحق إلا إثباتا
إبطال حيلة لإبطال الشهادة
وكذلك قالوا إذا علم أن شاهدين يشهدان عليه فأراد ان يبطل شهادتها
فليخاصمهما قبل الرفع الى الحاكم وهذه الحيلة حسنة إذا كانا يشهدان عليه بالباطل فإذا علم أنهما يشهدان بحق لم تحل له مخاصمتهما ولا تسقط هذه المخاصمة شهادتهما
إبطال حيلة لضمان البساتين
وكذلك قالوا لا يجوز ضمان البساتين والحيلة على ذلك ان يؤجره الارض ويساقيه على الثمر من كل ألف جزء على جزء وهذه الحيلة لا تتم إذا كان البستان وقفا وهو ناظره أو كان ليتيم فإن هذه المحاباة في المسقاة تقدح في نظره ووصيته
فإن قيل إنها تغتفر لأجل العقد الآخر وما فيه من محاباة المستأجر له فهذا لا يجوز له أن يحابى في المساقاة لما حصل للوقف واليتيم من محاباة اخرى وهو نظير ان يبيع له سلعة بربح ثم يشترى له سلعة بخسارة توازن ذلك الربح هذا إذا لم يبن احد العقدين على الآخر فإن بنى عليه كانا عقدين في عقد وكانا بمنزلة سلف وبيع وشرطين في بيع وإن شرط أحد العقدين في الآخر فسدا مع ان هذه الحيلة لا تتم إلا على أصل من لم ير جواز المساقاة أو من حصها بالتحيل وحده ثم فيها مفسدة اخرى وهي أن المساقاة عقد جائز فمتى أراد أحدهما فسخها فسخها وتضرر الآخر ومفسدة ثانية وهي انه يجب عليه تسليم هذا الجزء من ألف جزء من جميع ثمرة البستان من كل نوع من انواعه وقد يتعذر عليه ذلك او يتعسر إما بأن يأكل الثمرة أو يهديها كلها أو يبيعها على أصولها فلا يمكنه تسليم ذلك الجزء وهكذا يقع سواء ثم قد يكون ذلك الجزء من الالف يسيرا جدا فلا يطالب به عادة فيبقى في ذمته لليتيم وجهه الوقف الى غير ذلك من المفاسد التي في هذه الحيلة وأصحاب رسول الله ص - كانوا أفقه من ذلك وأعمق علما وأقل تكلفا وأبر قلوبا فكانوا يرون ضمان الحدائق بدون هذه الحيلة كما فعله عمر بن الخطاب رضى الله عنه بحديقة أسيد بن حضير
ووافقه عليه جميع الصحابة فلم ينكره منهم رجل واحد وضمان البساتين كما هو إجماع الصحابة فهو مقتضى القياس الصحيح كما تضمن الارض لمغل الزرع فكذلك تضمن الشجر لمغل الثمر ولا فرق بينهما البتة إذ الاصل هنا كالأرض هناك والمغل يحصل بخدعة ! المستأجر والقيام على الشجر كما يحصل بخدمته والقيام على الارض ولو استأجر أرضا ليحرثها ويسقيها ويستغل ما ينبته الله تعالى فيها من غير بذر منه كان بمنزلة استئجار الشجر من كل وجه لا فرق بينهما ألبتة فهذا من هذه الحيلة وأبعد من الفساد وأصلح للناس واوفق للقياس وهو أختيار أبي الوفاء ابن عقيل وشيخ الاسلام ابن تيمية رضى الله عنهما وهو الصواب
فصل الحيلة السريجية لسد باب الطلاق
ومن هذا الباب الحيلة السريجية التي حدثت في الاسلام بعد المائة الثالثة وهي تمنع الرجل من القدرة على الطلاق ألبتة بل تسد عليه باب الطلاق بكل وجه فلا يبقى له سبيل الى التخلص منها ولا يمكنه مخالعتها عند من يجعل الخلع طلاقا وهي نظير سد الانسان على نفسه باب النكاح بقوله كل امرأة أتزوجها فهى طالق فهذا لو صح تعليقه لم يمكنه في الاسلام ان يتزوج امرأة ما عاش وذلك لو صح شرعه لم يمكنه أن يطلق امرأة أبدا
وصورة هذه الحيلة ان يقول كلما طلقتك او كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا قالوا فلا يتصور وقوع الطلاق بعد ذلك إذ لو وقع لزم وقوع ما علق به وهو الثلاث فإذا وقعت الثلاث امتنع وقوع هذا المنجز فوقوعه يفضى الى عدم وقوعه وما أفضى وجوده الى عدم وجوده لم يوجد هذا اختيار ابى العباس ابن سريج ووافقه عليه جماعة من أصحاب الشافعي
وأبي ذلك جمهور الفقهاء من المالكية والحنفية والحنبلية وكثير من الشافعية ثم اختلفوا في وجه إبطال هذا التعليق فقال الاكثرون هذا التعليق لغو وباطل من القول فإنه يتضمن المحال وهو وقوع طلقة مسبوقه بثلاث وهذا محال فما تضمنه فهو باطل من القول فهو بمنزلة قوله إذا وقع عليك طلاقي لم يقع وإذا طلقتك لم يقع عليك طلاقي ونحو هذا من الكلام الباطل بل قوله إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا أدخل في الاحالة والتناقض فإنه في الكلام الاول جعل وقوع الطلاق مانعا ومن وقوعه مع قيام الطلاق وهنا جعل وقوعه مانعا ومن وقوعه مع زيادة محال عقلا وعادة فالمتكلم به يتكلم بالمحال قاصدا للمحال فوجود هذا التعليق وعدمه سواء فإذا طلقها بعد ذلك نفذ طلاقها ولم يمنع منه مانع وهذا اختيار ابي الوفاء بن عقيل وغيره من أصحاب احمد وابي العباس بن القاص من اصحاب الشافعي وقالت فرقة اخرى بل المحال إنما جاء من تعليق الثلاث على المنجز وهذا محال ان يقع المنجز ويقع جميع ما علق به فالصواب ان يقع المنجز ويقع جميع ما علق به او تمام الثلاث من المعلق وهذا اختيار القاضي وابي بكر وبعض الشافعية ومذهب ابي حنيفة والذين منعوا وقوع الطلاق جملة قالوا هو ظاهر كلام الشافعي فهذا تلخيص الاقوال في هذا التعليق
قال المصححون للتعليق صدر من هذا الزوج طلاقان منجز ومعلق والمحل قابل وهو ممن يملك التنجيز والتعليق والجمع بينهما ممتنع ولامزية لاحدهما على الآخر فتمانعا وتساقطا وبقيت الزوجية بحالها وصار كما لو تزوج اختين في عقد واحد فإنه يبطل نكاحهما لهذا الدليل بعينه
وكذلك إذا أعتق امته في مرض موته وزوجها عبده ولم يدخل بها وقيمتها مائة ومهرها مائة وباقي التركة مائة لم يثبت لها الخيار لان إثبات الخيار يقتضي
سقوط المهر وسقوط المهر يقتضي نفي الخيار والجمع بينهما لا يمكن وليس احدهما اولى من الآخر لان طريق ثبوتهما الشرع فأبقينا النكاح ورفضنا الخيار ولم يسقط المهر وكل ما افضى وقوعه الى عدم وقوعه فهذه سبيله
ومثاله في الحس إذا تشاح اثنان في دخول دار وهما سواء في القوة وليس لأحدهما على الآخر مزية توجب تقديمه فإنهما يتمانعان فلا يدخل واحد منهما وهذا مشتق من دليل التمانع على التوحيد وهو ان يستحيل ان يكون للعالم فاعلان مستقلان بالفعل فإن استقلال كل منهما ينفى استقلال الآخر فاستقلالهما يمنع استقلالهما ووزانه في هذه المسألة ان وقوعهما يمنع وقوعهما
قالوا وغاية ما في هذا الباب استلزام هذا التعليق لدور حكمى يمنع وقوع المعلق والمنجز ونحن نريكم من مسائل الدور التي يفضى وقوعها الى عدم وقوعها كثيرا ومنها ما ذكرناه ومنها ما لو وجد من أحدهما ريح وشك كل واحد منهما هل هي منه او من صاحبه لم يجز اقتداء احدهما بالآخر لان اقتداءه به يبطل اقتداءه وكذلك لو كان معهما إناءان أحدهما نجس فأدى اجتهاد كل منهما إلى إناء لم تجز القدوة بينهما لانها تفضى الى ابطال القدرة وكذلك إذا اجتهد في الثوبين والمكانين ومنها لو زوج عبده حرة وضمن السيد مهرها ثم باعه لزوجه قبل الدخول بها فالبيع باطل لان صحته تؤدي الى فساده إذ لو صح لبطل النكاح لانها إذا ملكت زوجها بطل نكاحها وإذا بطل سقط مهرها لان الفرقة من جهتها وإذا سقط مهرها وهو الثمن بطل البيع والعتق البتة بل إما أن يصح البيع ولا يقع العتق إذ لو وقع العتق لبطل البيع وإذا بطل بطل العتق فوقوعه يؤدي الى عدم وقوعه وهذا قول المزني وقال ابن سريج لا يصح بيعه لانه لو صح لوقع العتق قبله ووقوع العتق قبله يمنع صحة البيع فصحة البيع تمنع صحته وكذلك لو قال له إذا رهنتك
فأنت حر قبله بساعة وكذلك لو قال لعبيده ولا مال له سواهم وقد أفلس إن حجر الحاكم على فانتم أحرار قبل الحجر بيوم لم يصح الحجر لان صحته تمنع صحته ومثاله لو قال لعبده متى صالحت عليك فأنت حر قبل الصلح ومثله لو قال لامرأته إن صالحت فلانا وانت امرأتي فأنت طالق قبله بساعة لم يصح الصلح لان صحته تمنع صحته ومثل لو قال لعبده متى ضمنت عنك صداق امرأتك فأنت حر قبله إن كنت في حال الضمان مملوكي ثم ضمن عنه الصداق لم يصح لانه لو صح لعتق قبله واذا عتق قبله لم يصادف الضمان شرطه وهو كونه مملوكه وقت الضمان وكذلك لا يقع العتق لان وقوعه يؤدي الى ان لا يصح الضمان عنه وإذا لم يصح الضمان عنه لم يصح العتق فكل من الضمان والعتق تؤدي صحته الى بطلانه فلا يصح واحد منهما ومثله ما لو قال إن شاركني في هذا العبد شريك فهو حر قبله بساعة لم تصح الشركة فيه بعد ذلك لانها لو ضحت لعتق العبد وبطلت الشركة فصحتها تفضى الى بطلانها ومثله لو قال إن وكلت إنسانا ببيع هذا العبد او رهنه او هبته وكالة صحيحة فهو قبله بساعة حر لم تصح الوكالة لان صحتها تؤدي الى بطلانها ومثله ما لو قال لامرأته إن وكلت وكيلا في طلاقك فأنت طالق قبله او معه ثلاثا لم يصح توكيله في طلاقها إذ لو صحت الوكالة لطلقت في حال الوكالة أو قبلها فتبطل الوكالة فصحتها تؤدي الى بطلانها وكذلك لو خلف الميت ابنا فاقر بابن آخر للميت فقال المقربه أنا ابنه وأما انت فلست بابنه لم يقبل إنكار المقربه لأن قبول قوله يبطل قوله ومن هنا قال الشافعي لو ترك أخا لأب وأم فأقر الاخ بابن للميت ثبت نسبه ولم يرث لأنه لو ورث لخرج المقر عن ان يكون وارثا وإذا لم يكن وارثا لم يقبل إقراره بوارث آخر فتوريث الابن يفضى الى عدم توريثه ونازعه الجمهور في ذلك وقالوا إذا ثبت نسبه ترتب عليه أحكام النسب ومنها الميراث ولا يفضى
توريثه الى عدم توريثه لانه بمجرد الإقرار يثبت النسب ويترتب عليه الميراث والاخ كان وارثا في الظاهر فحين أقر كان هو كل الورثة وإنما خرج عن الميراث بعد الإقرار وثبوت النسب فلم يكن توريث الابن مبطلا لكون المقر وارثا حين الاقرار وان بطل كونه وارثا بعد الاقرار وثبوت النسب وأيضا فالميراث تابع لثبوت النسب والتابع اضعف من المتبوع فإذا ثبت المتبوع الأقوى فالتابع أولى ألا ترى ان النساء تقبل شهادتهن منفردات في الولادة ثم في النسب ونظائر ذلك كثيرة
ومن المسائل التي يفضى ثبوتها الى إبطالها لو أعتقت المرأة في مرضها عبدا فتزوجها وقيمته تخرج من الثلث صح النكاح ولا ميراث له إذ لو ورثها لبطل تبرعها له بالعتق لأنه يكون تبرعا لوارث وإذا بطل العتق بطل النكاح وإذا بطل بطل الميراث وكان توريثه يؤدي الى ابطال توريثه وهذا على اصل الشافعي وأما على قول الجمهور فلا يبطل ميراثه ولا عتقه ولا نكاحه لانه حين العتق لم يكن وارثا فالتبرع نزل في غير وارث والعتق المنجز يتنجز من حينه ثم صار وارثا بعد ثبوت عتقه وذلك لا يضره شيئا
ومن ذلك لو أوصى له بابنه فمات قبل قبول الوصية وخلف إخوة لابيه فقبلوا الوصية عتق على الموصى له ولم يصح ميراثه منه إذ لو ورث لاسقط ميراث الاخوة وإذا سقط ميراثهم بطل قبولهم للوصية فيبطل عتقه لأنه مرتب على القبول وكان توريثه مفضيا الى عدم توريثه
والصواب قول الجمهور أنه يرث ولا دور لان العتق حصل حال القبول وهم ورثة ثم ترتب على العتق تابعه وهو الميراث وذلك بعد القبول فلم يكن الميراث مع القبول ليلزم الدور وإنما ترتب على القبول العتق وعلى العتق الميراث فهو مترتب عليه بدرجتين
ومن المسائل التي يفضى ثبوتها الى بطلانها لو زوج عبده امرأة وجعل رقبته صداقها لم يصح إذا لو صح لملكته وانفسخ النكاح ومنها لو قال لأمته متى أكرهتك فأنت حرة حال النكاح أو قبله فأكرهها على النكاح لم يصح إذ لو صح النكاح عتقت ولو عتقت بطل إكراهها فيبطل نكاحها ومنها لو قال لامرأته قبل الدخول متى استقر مهرك على فأنت طالق قبله ثلاثا ثم وطئها لم يستقر مهرها بالوطء لأنه لو استقر لبطل النكاح قبله ولو بطل النكاح قبله لكان المستقر نصف المهر لاجميعه ! فاستقراره يؤدي الى بطلان استقراره هذا على قول ابن سريج وأما على قول المزني فإنه يستقر المهر بالوطء ولا يقع الطلاق لانه معلق على صفة تقتضي حكما مستحيلا
فصل المجيزون للحيل يؤيدون رأيهم
ومن المسائل التي يؤدي ثبوتها الى نفيها لو قال لامرأته إن لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم ومضى اليوم ولم يطلقها لم تطلق إذ لو طلقت بمضي اليوم لكان طلاقها مستندا الى وجود الصفة وهي عدم طلاقها اليوم وإذا مضى اليوم ولم يطلقها لم يقع الطلاق المعلق باليوم
ومنها لو تزوج أمة ثم قال لها إن مات مولاك وورثتك فأنت طالق او قال إن ملكتك فأنت طالق ثم ورثها او ملكها بغير إرث لا يقع الطلاق إذ لو وقع لم تكن الزوجة في حال وقوعه ملكا له لاستحالة وقوع الطلاق في ملكه فكان وقوعه مفضيا الى عدم وقوعه
ومنها لو كان العبد بين موسرين فقال كل منهما لصاحبه متى اعتقت نصيبك فنصيبي حر قبل ذلك فأعتق احدهما نصيبه لم ينفذ عتقه لانه لو نفذ
لوجب عتق نصيب صاحبه قبله وذلك يوجب السراية الى نصيبه فلا يصادف إعتاقه محلا فنفوذ عتقه يؤدي الى عدم نفوذه والصواب في هذه المسألة بطلان هذا التعليق لتضمنه المحال وأيهما عتق نصيبه صح وسرى الى نصيب شريكه
ومنها لو قال لعبده إن دبرتك فأنت حر قبله ثم دبره صح التدبير ولم يقع العتق لأن وقوعه يمنع صحة التدبير وعدم صحته يمنع وقوع العتق وكانت صحته تفضى الى بطلانه هذا على قول المزنى وعلى قول ابن سريج لايصح التدبير لأنه لو صح لوقع العتق قبله وذلك يمنع التدبير وكان وقوعه يمنع وقوعه
ونظيره ان يقول لمدبره متى ابطلت تدبيرك فأنت حر قبله ثم ابطله بطل ولم يقع العتق على قول المزنى إذ لو وقع لم يصادف إبطال التدبير محلا وعلى قول ابن سريج لايصح إبطال التدبير لأنه لو صح إبطاله لوقع العتق ولو وقع العتق لم يصح إبطال التدبير ومثله لو قال لمدبره إن بعتك فأنت حر قبله ومثله لو قال لعبده إن كاتبتك غدا فأنت اليوم حر ثم كاتبه من الغد ومثله لو قال لمكاتبه إن عجزت عن كتابتك فأنت حر قبله ومثله لو قال متى زنيت او سرقت او وجب عليك حد وانت مملوك فأنت حر قبله ثم وجد الوصف وجب الحد ولم يقع العتق المعلق به إذ لو وقع لم توجد الصفة فلم يصح وكان مستلزما لعدم وقوعه ومثله ان يقول له متى جنيت جناية وانت مملوكي فأنت حر قبله ثم جنى لم يعتق
ومثله ان يقول له متى بعتك وتم البيع فأنت حر قبله ثم باعه فعلى قول المزنى يصح البيع ولا يقع العتق لأن وقوعه يستلزم عدم وقوعه وعلى قول ابن سريج لايصح البيع لأنه يعتق قبله وعتقه يمنع صحة بيعه
ومثله لو قال لأمته إن صليت ركعتين مكشوفة الرأس فأنت حرة قبل ذلك فصلت مكشوفة الرأس فعلى قول المزنى تصح الصلاة دون العتق
وعلى قول ابن سريج لا تصح الصلاة لأنها لو صحت عتقت قبل ذلك واذا عتقت بطلت صلاتها
وكانت صحة صلاتها مستلزمة لبطلانها ومنها لو زوج أمته بحر وادعى عليه مهرها قبل الدخول وادعى الزوج الاعسار وادعى سيد الامة يساره قبل نكاحه الامة بميراث أو غيره لم تسمع دعواه إذ لو ثبتت دعواه لبطل النكاح لانه لا يصح نكاح الامة مع وجود الطول وإذا بطل النكاح بطل دعوى المهر
وكذلك لو تزوج بأمة فادعت ان الزوج عنين لم تسمع دعواها إذ لو ثبتت دعواها لزال خوف العنت الذي شرط في نكاح الامة وذلك يبطل النكاح وبطلانه يوجب بطلان الدعوى منها فلما كانت صحة دعواها تؤدي إلى إفسادها أفسدناها
وكذلك المرأة إذا ادعت على سيد زوجها أنه باعه إياها بمهرها قبل الدخول لم تصح دعواها لأنها لو صحت لسقط نصف المهر وبطل البيع في العبد
وكذلك لو شهد شاهدان على عتق عبد فحكم بعتقه ثم ادعى العبد بعد الحكم بحريته على احد الشاهدين انه مملوكه لم تسمع دعواه لأن تحقيقها يؤدي الى بطلان الشهادة على العتق فتبطل دعوى ملكة للشاهد
وكذلك لو سبى مراهق من أهل الحرب ولم يعلم بلوغه فأنكر البلوغ لم يستحلف لأن إحلافه يؤدي الى إبطال استحلافه فإنا لو حلفناه لحكمنا بصغره والحكم بالصغر يمنع الاستحلاف
ونظيره لو ادى على أم مراهق ما يوجب القصاص أو قذفا يوجب الحد او مالا من مبايعة أو ضمان او غير ذلك وادعى انه بالغ وانه يلزمه الحكم بذلك فأنكر الغلام ذلك فالقول قوله ولا يمين عليه إذ لو حلفناه لحكمنا بصغره والحكم بالصغر يسقط اليمين عنه وإذا لم يكن هنا يمين لم يكن رد يمين لان رد اليمين إنما يكون عند نكول من هو من أهلها وكذلك لو أعتق المريض جارية له
قيمتها مائة وتزوج بها في مرض موته ومهرها مائة وترك مائتي درهم فالنكاح صحيح ولا مهر لها ولا ميراث أما الميراث فلأنها لو ورثت لبطلت الوصية بعتقها لان العتق في المرض وصية وفي بطلان الوصية بطلان الحرية وفيه بطلان الميراث واما سقوط المهر فلأنه لو ثبت لركب السيد دين ولم تخرج قيمتها من الثلث فيبطل عتقها كلها فلم يكن للزوج ان ينكحها وبعضها رقيق فيبطل المهر فكان ثبوت المهر مؤديا الى بطلانه
فالحكم بإبطالها مستفاد من قوله تعالى ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا فعير تعالى من نقض شيئا بعد ان اثبته فدل على ان كل ما كان إثباته مؤديا الى نفيه وإبطاله كان باطلا فهذا ما احتج به السريجيون
الرد على السرجيين
قال الآخرون لقد أطلتم الخطب في هذه المسألة ولم تأتوا بطائل وقلتم ولكن تركتم مقالا لقائل وتأبى قواعد اللغة والشرع والعقل لهذة المسائل تصحيحا والميزان العادل لها عند الوزن ترجيحا وهيهات أن تكون شريعتنا في هذه المسألة مشابهة لشريعة اهل الكتاب إذ يستحيل وقوع الطلاق وتسد دونه الابواب وهل هذا إلا تغيير لما علم بالضرورة من الشريعة وإلزام لها بالاقوال الشنيعة وهذا أشنع من سد باب النكاح بتصحيح تعليق الطلاق لكل من تزوجها في مدة عمره فإنه وإن كان نظير سد باب الطلاق لكن قد ذهب إليه بعض السلف وأما هذه المسألة فمهما حدث في الاسلام بعد انقراض الاعصار المفضلة
ونحن نبين مناقضة هذه المسألة للشرع واللغة والعقل ثم نجيب عن شبهكم شبهة شبهة
أما مناقضتها للشرع فإن الله تعالى شرع للأزواج إذا أرادوا استبدال
زوج مكان زوج والتخلص من المرأة الطلاق وجعله بحكمته ثلاثا توسعة على الزوج إذ لعله يبدو له ويندم فيراجعها وهذا من تمام حكمته ورأفته ورحمته بهذه الامة ولم يجعل انكحتهم كأنكحة النصارى تكون المرأة غلا في عنق الرجل الى الموت ولا يخفى ما بين الشريعتين من التفاوت وان هذه المسألة منافية لإحداهما منافاة ظاهرة ومشتقة من الاخرى اشتقاقا ظاهرا ويكفى هذا الوجه وحده في إبطالها
وأما مناقضتها للغة فإنها تضمنت كلاما ينقض بعضه بعضا ومضمونه إذا وجد الشيء لم يوجد وإذا وجد الشيء اليوم فهو موجود قبل اليوم وإذا فعلت الشيء اليوم فقد وقع منى قبل اليوم ونحو هذا من الكلام المتناقض في نفسه الذي هو إلى المحال أقرب منه الى الصحيح من المقال
وأما مناقضتها قضايا العقول فلأن الشرط يستحيل ان يتأخر وجوده عن وجود المشروط ويتقدم المشروط عليه في الوجود هذا ممالا يعقل عند احد من العقلاء فإن رتبة الشرط التقدم او المقارنة والفقهاء وسائر العقلاء معهم مجمعون على ذلك فلو صح تعليق المشروط بشرط متأخر بعده لكان ذلك إخراجا له عن كونه شرطا أو جزء شرط او علة أو سببا فإن الحكم لا يسبق شرطه ولا سببه ولا علته إذ في ذلك إخراج الشروط والاسباب والعلل عن حقائقها وأحكامها ولو جاز تقديم الحكم على شرطه لجاز تقديم وقوع الطلاق على إيقاعه فإن الايقاع سبب والاسباب تتقدم مسبباتها كما ان الشروط رتبتها التقدم فإذا جاز إخراج هذا عن رتبته جاز إخراج الآخر عن رتبته فجوزوا حينئذ تقدم الطلاق على التطليق والعتق على الاعتاق والملك على البيع وحل المنكوحة على عقد النكاح وهل هذا في الشرعيات إلا بمنزلة تقدم الانكسار على الكسر والسيل على المطر والشبع على الاكل والولد على الوطء وأمثال
ذلك ولا سيما على أصل من يجعل هذه العلل والاسباب علامات محضة ولا تأثير لها بل هي معرفات والمعرف يجوز تأخيره عن المعرف
وبهذا يخرج الجواب عن قولكم إن الشروط الشرعية معرفات وأمارات وعلامات والعلامة يجوز تأخرها فإن هذا وهم وإيهام من وجهين
الشروط وأحكامها
أحدهما أن الفقهاء مجمعون على ان الشرائط الشرعية لا يجوز تأخرها عن المشروط ولو تأخرت لم تكن شروطا
الثاني أن هذا شرط لغوي كقوله إن كلمت زيدا فأنت طالق ونحو ذلك وإن خرجت بغير إذنى فأنت طالق ونحو ذلك والشروط اللغوية أسباب وعلل مقتضية لاحكامها اقتضاء المسببات لاسبابها ألا ترى أن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق سبب ومؤثر وأثر ولهذا يقع جوابا عن العلة فإذا قال لم أطلقها قال لوجود الشرط الذي علقت عليه الطلاق فلولا أن وجوده مؤثر في الايقاع لما صح هذا الجواب ولهذا يصح ان يخرجه بصيغة القسم فيقول الطلاق يلزمني لا تدخلين الدار فيجعل إلزامه للطلاق في المستقبل مسببا عن دخولها الدار بالقسم والشرط وقد غلط في هذا طائفة من الناس حيث قسموا الشرط الى شرعي ولغوي وعقلي ثم حكموا عليه بحكم شامل فقالوا الشرط يجب تقديمه على المشروط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط ويلزم من انتفائه انتفاء المشروط كالطهارة للصلاة والحياة للعلم ثم أوردوا على نفسهم الشرط اللغوي فإنه يلزم من وجوده وجود المشروط ولا يلزم من انتفائه انتفاؤه لجواز وقوعه بسبب آخر ولم يجيبوا عن هذا الإيراد بطائل والتحقيق ان الشروط اللغوية اسباب عقلية والسبب إذا تم لزم من وجوده وجود مسببه وإذا انتفى لم يلزم نفى المسبب مطلقا لجواز خلف سبب اخر بل يلزم انتفاء السبب المعين عن هذا المسبب
وأما قولكم إنه صدر من هذا الزوج طلاقان منجز ومعلق والمحل قابل لهما فجوابه بالمنع فإن الحل ليس بقابل فإنه يتضمن المحال والمحل لا يقبل المحال نعم هو قابل للمنجز وحده فلا مانع من وقوعه وكيف تصح دعواكم ان المحل قابل للمعلق ومنازعكم إنما نازعكم فيه وقال ليس المحل بقابل للمعلق فجعلتم نفس الدعوى مقدمة في الدليل
وقولكم إن الزوج ممن يملك التنجيز والتعليق جوابه إنما يملك التعليق الممكن فأما التعليق المستحيل فلم يملكه شرعا ولا عرفا ولا عادة وقولكم لا مزية لاحدهما على الاخر باطل بل المزية كل المزية لاحدهما على الآخر فإن المنجز له مزية الامكان في نفسه والمعلق له مزية الاستحالة والامتناع فلم يتمانعا ولم يتساقطا فلم يمنع من وقوع المنجز مانع وقولكم إنه نظير ما لو تزوج أختين في عقد جوابه أنه تنظير باطل فإنه ليس نكاح إحداهما شرطا في نكاح الاخرى بخلاف مسألتنا فإن المنجز شرط في وقوع المعلق وذلك عين المحال
وقولكم إنه لا مزية لأحد الطلاقين على الآخر باطل بل للمنجز مزية من عدة وجوه أحدها قوة التنجيز على التعليق الثاني ان التنجيز لا خلاف في وقوع الطلاق به واما التعليق ففيه نزاع مشهور بين الفقهاء والموقعون لم يقيموا على المانعين حجة توجب المصير اليها مع تناقضهم فيما يقبل التعليق ومالا يقبله فمنازعوهم يقولون الطلاق لا يقبل كما قلتم أنتم في الاسقاط والوقف والنكاح والبيع ولم يفرق هؤلاء بفرق صحيح وليس الغرض ذكر تناقضهم بل الغرض ان للمنجز مزية على المعلق الثالث ان المشروط هو المقصود لذاته والشرط تابع ووسيلة الرابع أن المنجز لا مانع من وقوعه لأهلية الفاعل وقبول المحل والتعليق المحال لا يصلح ان يكون مانعا من اقتضاء السبب الصحيح اثره
الخامس أن صحة التعليق فرع على ملك التنجيز فإذا انتفى ملكه للمنجز في هذه المسألة انتفى صحة التعليق فصحة التعليق تمنع من صحته وهذه معارضة صحيحة في أصل المسألة فتأملها السادس انه لو قال في مرضه إذا اعتقت سالما فغانم حر ثم اعتق سالما ولا يخرجان من الثلث قدم عتق المنجز على المعلق لقوته يوضحه الوجه السابع أنه لو قال لغيره ادخل الدار فإذا دخلت أخرجتك وهو نظيره في القوة فإذا دخل لم يمكنه إخراجه وهذا المثال وزان مسألتنا فإن المعلق هو الاخراج والمنجز هو الدخول الثامن ان المنجز في حيز الامكان والمعلق قد قارنه ما جعله مستحيلا التاسع ان وقوع المنجز يتوقف على امر واحد وهو التكلم باللفظ اختيارا ووقوع المعلق يتوقف على التكلم باللفظ ووجود الشرط وما توقف على شيء واحد أقرب وجودا مما توقف على أمرين العاشر أن وقوع المنجز موافق لتصرف الشارع وملك المالك ووقوع المعلق بخلافه لان الزوج لم يملكه الشارع ذلك فهذه عشرة اوجه تدل على مزية المنجز وتبطل قولكم إنه لا مزية له والله أعلم
فصل ردود على المسألة السريجية
وأما سائر الصور التي ذكرتموها من صور الدور التي يفضى ثبوتها الى إبطالها فمنها ما هو ممنوع الحكم لا يسلمه لكم منازعكم وإنما هي مسائل مذهبية يحتج لها ولا يحتج بها وهم يفكون الدور تارة بوقوع الحكمين معا وعدم إبطال احدهما للآخر ويجعلونهما معلولى علة واحدة ولا دور وتارة يسبق احد الحكمين للآخر سبق السبب لمسببه ثم يترتب الآخر عليه ومنها ما هو مسلم الحكم وثبوت الشيء فيه يقتضي إبطاله
ولكن لهذا حجة لهم في إبطال هذا التعليق فإنه لو صح لأفضى ثبوته إلى
بطلانه فإنه لو صح لزم منه وقوع طلقة مسبوقة بثلاث وسبقها بثلاث يمنع وقوعها فبطل التعليق من أصله للزوم المحال فهذه الصور التي استشهدتم بها من أقوى حججهم عليكم على بطلان التعليق
وأدلتكم في هذه المسألة نوعان أدلة صحيحة وهي إنما تقتضي بطلان التعليق
وأما الادلة التي تقتضى بطلان المنجز فليس منها دليل صحيح فإنه طلاق صدر من أهله في محله فوجب الحكم بوقوعه أما أهلية المطلق فلأنه زوج مكلف مختار وأما محلية المطلقة فلأنها زوجة والنكاح صحيح فيدخل في قوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره وفي سائر نصوص الطلاق إذ لو لم يلحقها طلاق لزم واحد من ثلاثة وكلها منتفية إما عدم أهلية المطلق وإما عدم قبول المحل وإما قيام مانع يمنع من نفوذ الطلاق والمانع مفقود إذ ليس مع مدعى قيامه إلا التعليق المحال الباطل شرعا وعقلا وذلك لا يصح ان يكون مانعا
يوضحه ان المانع من اقتضاء السبب لمسببه انما هو وصف ثابت يعارض سببيته فيوقفها عن اقتضائها فأما المستحيل فلا يصح ان يكون مانعا معارضا للوصف الثابت وهذا في غاية الوضوح ولله الحمد
فصل السريجيون يعترضون
قال السريجيون لقد ارتقيتم مرتقى صعبا وأسأتم الظن بمن قال بهذه المسألة وهم أئمة علماء لا يشق غبارهم ولا تغمز قناتهم كيف وقد أخذوها من نص الشافعي رحمه الله تعالى وبنوها على اصوله ونظروا لها النظائر واتوا لها بالشواهد فنص الشافعي على انه إذا قال أنت طالق قبل موتي بشهر ثم مات لأكثر من شهر بعد هذا التعليق وقع الطلاق قبل موته بشهر وهذا إيقاع
طلاق في زمن ماض سابق لوجود الشرط وهو موته فإذا وجد الشرط تبينا وقوع الطلاق قبله وايضاح ذلك بإخراج الكلام مخرج الشرط كقوله إن مت أو إذا مت فأنت طالق قبل موتي بشهر ونحن نلزمكم بهذه المسألة على هذا الأصل فإنكم موافقون عليه وكذا قوله قبل دخوله أنت طالق طلقة قبلها طلقة فإنه يقع بها طلقتان وإحداهما وقعت في زمن ماض سابق على التطليق وبهذا خرج الجواب عن قوله إن الوقوع كما لم يسبق الايقاع فلا يسبق الطلاق التطليق فكذا لا يسبق شرطه فإن الحكم لا يتقدم عليه ويجوز تقدمه على شرطه واحد سببيه او أسبابه فإن الشرط معرف محض ولا يمتنع تقديم المعرف عليه وأما تقديمه على أحد سببيه فكتقدم الكفارة على الحنث بعد اليمين وتقديم الزكاة على الحول بعد ملك النصاب وتقديم الكفارة على الجرح قبل الزهوق ونظائرها
وأما قولكم إن الشرط يجب تقديمه على المشروط فممنوع بل مقتضى الشرع توقف المشروط على وجوده وأنه لا يوجد بدونه وليس مقتضاه تأخر المشروط عنه وهذا يتعلق باللغة والعقل والشرع ولا سبيل لكم الى نص عن أهل اللغة في ذلك ولا الى دليل شرعي ولا عقلي فدعواه غير مسموعة ونحن لا ننكر ان من الشروط ما يتقدم مشروطه ولكن دعوى ان ذلك حقيقة الشرط وأنه إن لم يتقدم خرج عن أن يكون شرطا دعوى لا دليل عليها وحتى لو جاء عن أهل اللغة ذلك لم يلزم مثله في الاحكام الشرعية لان الشروط في كلامهم تتعلق بالافعال كقوله إن زرتني أكرمتك وإذا طلعت الشمس جئتك فيقتضى الشرط ارتباطا بين الاول والثاني فلا يتقدم المتأخر ولا يتأخر المتقدم وأما الاحكام فتقبل التقدم والتأخر والانتقال كما لو قال إذا مت فأنت طالق قبل موتي بشهر ومعلوم انه لو قال مثل هذا في الحسيات كان محالا فلو قال إذا زرتني أكرمتك قبل ان تزورني بشهر كان محالا إلا ان يحمل كلامه على معنى صحيح وهو إذا أردت او عزمت على زيارتي أكرمتك قبلها
وسر المسألة ان نقل الحقائق عن مواضعها ممتنع والاحكام قابلة للنقل والتحويل والتقديم والتأخير ولهذا لو قال اعتق عبدك عنى ففعل وقع العتق عن القائل وجعل الملك متقدما على العتق حكما وإن لم يتقدم عليه حقيقة
وقولكم يلزمنا تجويز تقديم الطلاق على التطليق فذلك غير لازم فإنه انما يقع بإيقاعه فلا يسبق إيقاعه بخلاف الشرط فانه لا يوجب وجود المشروط وإنما يرتبط به والارتباط أعم من السابق والمقارن والمتأخر والاعم لا يستلزم الاخص
ونكتة الفرق أن الايقاع موجب للوقوع فلا يجوز ان يسبقه أثره وموجبه والشرط علامة على المشروط فيجوز ان يكون قبله وبعده فوزان الشرط وزان الدليل ووازن الايقاع وزان العلة فافترقا
وأما قولكم إن هذا التعليق يتضمن المحال الى آخره فجوابه ان هذا التعليق تضمن شرطا ومشروطا وقد تعقد القضية الشرطية في ذلك للوقوع وقد تعقد للإبطال فلا يوجد فيها الشرط ولا الجزاء بل تعليق ممتنع بممتنع فتصدق الشرطية وإن انتفى كل من جزئيها كما تقول لو كان مع الله إله آخر لفسد العالم وكما في قوله إن كنت قلته فقد علمته ومعلوم انه لم يقله ولم يعلمه الله وهكذا قوله ان وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا فقضية عقدت لامتناع وقوع طرفيها وهما المنجز والمعلق
ثم نذكر في ذلك قياسا آخر حرره الشيخ ابو إسحاق رحمه الله تعالى فقال طلاقان متعارضان يسبق أحدهما الآخر فوجب ان ينفى السابق منهما المتأخر نظيره ان يقول لامرأته إن قدم زيد فانت طالق ثلاثا وإن قدم عمرو فأنت طالق طلقة فقدم زيد بكرة وعمرو عشية ونكتة المسألة أنا لو أوقعنا
الطلاق المباشر لزمنا ان نوقع قبله ثلاثا ولو أوقعنا قبله ثلاثا لامتنع وقوعه في نفسه فقد أدى الحكم بوقوعه الحكم بعدم وقوعه فلا يقع
وقولكم إن هذه اليمين تفضى الى سد باب الطلاق وذلك تغيير لشرع الله فإن الله ملك الزوج الطلاق رحمة به إلى آخره جوابه ان هذا ليس فيه تغيير للشرع وإنما هو إتيان بالسبب الذي ضيق به على نفسه ما وسعه الله عليه وهو هذه اليمين وهذا ليس تغيير للشرع ألا ترى ان الله تعالى وسع عليه أمر الطلاق فجعلة واحده بعد واحدة ثلاث مرات لئلا يندم فإذا ضيق على نفسه وأوقعها بفم واحد حصر نفسه وضيق عليها ومنعها ما كان حلالا لها وربما لم يبق له سبيل الى عودها اليه ولذلك جعل الله تعالى الطلاق الى الرجال ولم يجعل للنساء فيه حظا لنقصان عقولهن وأديانهن فلو جعله إليهن لكان فيه فساد كبير تأباه حكمة الرب تعالى ورحمته بعباده فكانت المرأة لا تشاء ان تتبدل بالزوج الا استبدلت به بخلاف الرجال فانهم اكمل عقولا واثبت فلا يستبدل بالزوجة إلا إذا عيل صبره ثم إن الزوج قد يجعل طلاق امرأته بيدها بأن يملكها ذلك او يحلف عليها ان لا تفعل كذا فتختار طلاقه متى شاءت ويبقى الطلاق بيدها وليس في هذا تغيير للشرع لأنه هو الذي ألزم نفسه هذا الحرج بيمينه وتمليكه ونظير هذا ما قاله فقهاء الكوفة قديما وحديثا إنه لو قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق لم يمكنه ان يتزوج بعد ذلك امرأة حتى قيل إن اهل الكوفة أطبقوا على هذا القول ولم يكن في ذلك تغيير للشريعة فإنه هو الذي ضيق على نفسه ما وسع الله عليه ونظير هذا لو قال كل عبد وأمة أملكها فهما حران لم يكن له سبيل بعد هذا الى ملك رقيق اصلا وليس في هذا تغيير للشرع بل هو المضيق على نفسه والضيق والحرج الذي يدخله المكلف على نفسه لا يلزم ان يكون الشارع قد شرعه له وإن الزمه به بعد ان ألزم نفسه ألا ترى ان
من كان معه الف دينار فاشترى بها جارية فأولدها ثم ساءت العشرة بينهما لم يبق له طريق الى الاستبدال بها وعليه ضرر في إعتاقها او تزويجها او إمساكها ولا بد له من أحدها
ثم نقول في معارضة ما ذكرتم بل يكون في هذه اليمين مصلحة له وغرض صحيح بأن يكون محبا لزوجته شديد الإلف بها وهو مشفق من ان ينزع الشيطان بينهما فيقع منه طلاقها من غضبة او موجدة او يحلف يمينا بالطلاق أو يبلى بمن يستحلفه بالطلاق ويضطر الى الحنث او يبلى بظالم يكرهه على الطلاق ويرفعه الى حاكم ينفذه او يبلى بشاهدي زور يشهدان عليه بالطلاق وفي ذلك ضرر عظيم به وكان من محاسن الشريعة ان يجعل له طريقا الى الامن من ذلك كله ولا طريق احسن من هذه فلا ينكر من محاسن هذه الشريعة الكاملة أن تأتى بمثل ذلك ونحن لا ننكر ان في ذلك نوع ضرر عليه لكن رأى احتماله لدفع ضرر الفراق الذي هو أعظم من ضرر البقاء وما ينكر في الشريعة من دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما
فصل الجواب على الشبه السريجية
قال الموقعون لقد دعوتم الشبه الجفلي الى وليمة هذه المسألة فلم تدعوا منها داعيا ولا مجيبا واجتهدتم في تقريرها ظانين إصابة الاجتهاد وليس كل مجتهد مصيبا ونثرتم عليها ما لا يصلح مثله للنثار وزينتموها بأنواع الحلي ولكنه حلى مستعار فإذا استردت العارية زال الالتباس والاشتباه وهناك تسمع بالمعيدي خير من أن تراه
فأما قولكم إنا ارتقينا مرتقي صعبا وأسأنا الظن بمن قال بهذه المسألة فإن أردتم بإساءة الظن بهم تأثيما او تبديعا فمعاذ الله بل انتم أسأتم بنا الظن وإن أردتم بإساءة الظن أنا لم نصوبهم في هذه المسألة ورأينا الصواب في خلافهم فيها فهذا قدر مشترك بيننا وبينكم في كل ما تنازعنا فيه بل سائر المتنازعين بهذه المثابة وقد صرح الاربعة الائمة بأن الحق في واحد من الاقوال المختلفة وليست كلها صوابا
وأما قولكم إن هذه المسألة مأخوذة من نص الشافعي لجوابه من وجهين
أحدهما أنها لوكانت منصوصة له فقوله بمنزلة قول غيره من الائمة يحتج له ولا يحتج به وقد نازعه الجمهور فيها والحجة تفصل ما بين المتنازعين
الثاني ان الشافعي رضي الله تعالى عنه لم ينص عليها ولا على ما يستلزمها
وغاية ما ذكرتم نصه على صحة قوله انت طالق قبل موتي بشهر فإذا مات لأكثر من شهر من وقت هذا التعليق تبينا وقوع الطلاق وهذا قد وافقه عليه من يبطل هذه المسألة وليس فيه ما يدل على صحة هذه المسألة ولا هو نظيرها وليس فيه سبق الطلاق لشرطه ولا هو متضمن للمحال إذ حقيقته إذا بقى من حياتي شهر فأنت طالق
وهذا الكلام معقول غير متناقض ليس فيه تقديم الطلاق على زمن التطليق ولا على شرط وقوعه وانما نظير المسألة المتنازع فيها ان يقول إذا مت فأنت طالق قبل موتي بشهر وهذا المحال بعينه وهو نظير قوله إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا او يقول انت طالق عام الاول فمسألة الشافعي شيء ومسألة ابن سريج شيء ويدل عليه ان الشافعي إنما أوقع عليه الطلاق إذا مات لأكثر من شهر من حين التعليق فلو مات عقيب اليمين لم تطلق وكانت بمنزلة قوله انت طالق في الشهر الماضي وبمنزلة قوله أنت طالق قبل ان
أنكحك فإن كلا الوقتين ليس بقابل للطلاق لأنها في أحدهما لم تكن محلا وفي الثاني لم تكن فيه طالقا قطعا فقوله انت طالق في وقت قد مضى ولم تكن فيه طالقا إما إخبار كاذب أو إنشاء باطل وقد قيل يقع عليه الطلاق ويلغو قوله أمس لأنه أتى بلفظ الطلاق ثم وصل به ما يمنع وقوعه أو يرفعه فلا يصلح ويقع لغوا وكذلك قوله انت طالق طلقة قبلها طلقة ليس فيه إيقاع الطلقة الموصوفة بالقبلية في الزمن الماضي ولا تقدمها على الايقاع وإنما فيه إيقاع طلقتين احداهما قبل الاخرى فمن ضرورة قوله قبلها طلقة إيقاع هذه السابقة أولا ثم إيقاع الثانية بعدها فالطلقتان إنما وقعتا بقوله انت طالق لم تتقدم إحداهما على زمن الايقاع وإن تقدمت على الاخرى تقديرا فأين هذا من التعليق المستحيل فان أبيتم وقلتم قد وصل الطلقة المنجزة بتقدم مثلها عليها والسبب هو قوله انت طالق فقد تقدم وقوع الطلقة المعلقة بالقبلية على المنجزة ولما كان هذا نكاحا صح وهكذا قوله إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا اكثر ما فيه تقدم الطلاق السابق على المنجز ولكن المحل لا يحتملهما فتدافعا وبقيت الزوجية بحالها ولهذا لو قال إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله واحدة صح لاحتمال المحل لهما
فالجواب أنه أوقع طلقتين واحدة قبل واحدة ولم تسبق إحداهما إيقاعه ولم يتقدم شرط الايقاع فلا محذور وهو كما لو قال بعدها طلقة او معها طلقة وكأنه قال أنت طالق طلقتين معا أو واحدة بعد واحدة ويلزم من تأخر واحدة عن الأخرى سبق إحداهما للأخرى فلا إحالة اما وقوع طلقة مسبوقة بثلاث فهو محال وقصده باطل والتعبير عنه إن كان خبرا فهو كذب وإن كان إنشاء فهو منكر فالتكلم به منكر من القول وزور في إخباره منكر في إنشائه وأما كون المعلق تمام الثلاث فههنا لمنازعيكم قولان تقدم حكايتهما وهما وجهان في مذهب احمد والشافعي
أحدهما يصح هذا التعليق ويقع المنجز والمعلق وتصير المسألة على وزان ما نص عليه الشافعي من قوله إذا مات زيد فأنت صالق قبله بشهر فمات بعد شهر فهكذا إذا قال إذا وقع عليك طلاقي فانت طالق قبله واحدة ثم مضى زمن تمكن فيه القبيلة ثم طلقها تبينا وقوع المعلق في ذلك الزمان وهو متأخر عن الايقاع فكأنه قال أنت طالق في الوقت السابق على تنجيز الطلاق أو وقوعه معلقا فهو تطليق في زمن متأخر
والقول الثاني أن هذا محال ايضا ولا يقع المعلق إذ حقيقته انت طالق الزمن السابق على تطليقك تنجيزا او تعليقا فيعود الى سبق الطلاق للتطليق وسبق الوقوع للإيقاع وهو حكم بتقديم المعلول على علته
يوضحه ان قوله إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله إما ان يريد طالق قبله بهذا الايقاع او بإيقاع متقدم والثاني ممتنع لانه لم يسبق هذا الكلام منه شيئا والثاني كذلك لانه لا يتضمن انت طالق قبل ان اطلقك وهذا عين المحال فهذا كشف حجاب هذه المسألة وسر ما اخذها وقد تبين ان مسالة الشافعي لون وهذه لون آخر
وأما قولكم إن الحكم لا يجوز تقدمه على علته ويجوز تقدمه على شرطه كما يجوز تقدمه على احد سببيه الى آخره فجوابه ان الشرط إما ان يوجد جزءا من المقتضى او يوجد خارجا عنه وهما قولان للنظار والنزاع لفظي فإن اريد بالمقتضى التام فالشرط جزء منه وان اريد به المقتضى الذي يتوقف اقتضاؤه على وجود شرطه وعدم مانعه فالشرط ليس جزءا منه ولكن اقتضاؤه يتوقف عليه والطريقة الثانية طريقة القائلين بتخصيص العلة والاولى طريقة المانعين من التخصيص وعلى التقديرين فيمتنع تأخر الشرط عن وقوع المشروط لانه يستلزم
وقوع الحكم بدون سببه التام فإن الشرط ان كان جزءا من المقتضى فظاهر وان كان شرطا لاقتضائه فالمعلق على الشرط لا يوجد عند عدمه وإلا لم يكن شرطا فإنه لوكان يوجد بدونه لم يكن شرطا فلو ثبت الحكم قبله لثبت بدون سببه التام فإن سببه لا يتم إلا بالشرط فعاد الامر الى سبق الاثر لمؤثره والمعلول لعلته وهذا محال ولهذا لما لم يكن لكم حيلة في دفعه وعلمتم لزومه فررتم الى ما لا يجدى عليكم شيئا وهو جعل الشرط مجرد علامة ودليل ومعرف وهذا إخراج للشرط عن كونه شرطا وإبطال لحقيقته فإن العلامة والدليل والمعرف ليست شروطا في المدلول المعرف ولا يلزم من نفيها نفيه فإن الشيء يثبت بدون علامة ومعرف له والمشروط ينتفى لانتقاء شرطه وان لم يوجد لوجوده وكل العقلاء متفقون على الفرق بين الشرط والامارة المحضة وان حقيقة احدهما وحكمه دون حقيقة الآخر وحكمه وإن كان قد يقال إن العلامة شرط في العلم بالمعلم والدليل شرط في العلم بالمدلول فذاك امر وراء الشرط في الوجود الخارجي فهذا شئ وذلك شئ آخر وهذا حق ولهذا ينتفى العلم بالمدلول عند انتفاء دليله ولكن هل يقول أحد أن المدلول ينتفي لانتفاء دليله
فإن قيل نعم قد قاله غير واحد وهو انتفاء الحكم الشرعي لانتفاء دليله
قيل نعم فإن الحكم الشرعي لا يثبت بدون دليله فدليله موجب لثبوته فإذا انتفى الموجب انتفى الموجب ولهذا يقال لا موجب فلا موجب أما شرط اقتضاء السبب لحكمه فلا يجوز اقتضاؤه بدون شرطه ولو تأخر الشرط عنه لكان مقتضيا بدون شرطه وذلك يستلزم إخراج الشرط عن حقيقته وهو محال
وأما تقديم الحكم على احد سببيه في الصور التي ذكرتموها على إحدى الطريقتين او تقديمه على شرط بعد وجود سببه على الطريقة الاخرى فالتنظير به
مغلطة فإن الحكم لم يتقدم على سببه ولا شرطه وهذا محال وإن وقع تسامح في عبارة الفقهاء فإن انقضاء الحول مثلا والحنث والموت بعد الجرح شرط للوجوب ونحن لم نقدم الوجوب على شرطه ولا سببه وإنما قدمنا فعل الواجب والفرق بين تقدم الحكم بالوجوب وبين تقدم اداء الواجب فظهر ان هذا وهم او إيهام وقد ظهر ان تقديم شرط علة الحكم وموجبه على الحكم امر ثابت عقلا وشرعا ونحن لم نأخذ ذلك عن نص اهل اللغة حتى تطالبونا بنقله بل ذلك أمر ثابت لذات الشرط وحكم من احكامه وليس ذلك متلقى من اللغة بل هو ثابت في نفس الامر لا يختلف بتقدم لفظ ولا تأخره حتى لو قال انت طالق إن دخلت الدار أو قال يبعثك الله إذا مت او تجب عليك الصلاة اذا دخل وقتها ونحو ذلك فالشرط متقدم عقلا وطبعا وشرعا وإن تأخر لفظا
وأما قولكم إن الاحكام تقبل النقل عن مواضعها فتتقدم وتتأخر فتطويل بلا تحصيل وتهويل بلا تفصيل فهل تقبل النقل عن ترتيبها على أسبابها وموجباتها بحيث يثبت الحكم بدون سببه ومقتضيه نعم قد يتقدم ويتأخر وينتقل لقيام سبب آخر يقتضى ذلك فيكون مرتبا على سببه الثاني بعد انتقاله كما كان مرتبا على الاول قبل انتقاله وفي كل من الموضعين هو مرتب على سببه هذا في حكمه وذاك في محله وأما تنظيركم بنقل الاحكام وتقدمها على أسبابها بقوله انت طالق قبل موتي بشهر وقولكم إن نظيره في الحسيات ان تقول إن زرتني أكرمتك قبل زيارتك بشهر فوهم أيضا أو إيهام فإن قوله أنت طالق قبل موتى بشهر إنما تطلق إذا مضى شهر بعد هذه اليمين حتى يتبين وقوع الطلاق بعد إيقاعه فلو مات قبل مضي شهر لم تطلق على الصحيح لانه يصير بمنزلة انت طالق عام الاول وليس كذلك قوله إن زرتني أكرمتك قبله بشهر فإن الطلاق حكم يمكن تقدير وقوعه قبل الموت والإكرام فعل حتى
لا يكون إكراما بالتقدير وإنما يكون إكراما بالوقوع وأما استشهادكم بقوله اعتق عبدك عني فهو حجة عليكم فإنه يستلزم تقدم الملك التقديري على العتق الذي هو اثره وموجبه والملك شرطه ولو جاز تأخر الشرط لقدر الملك له بعد العتق وهذا محال فعلم ان الاسباب والشروط يجب تقدمها سواء كانت محققة او مقدرة
وقولكم إن هذا التعليق يتصمن شرطا ومشروطا والقضية الشرطية قد تعقد للوقوع وقد تعقد لنفي الشرط والجزاء الى آخره فجوابه ايضا ان هذا من الوهم أو الايهام فإن القضية الشرطية هي التي يصح الارتباط بين جزءيها سواء كانا ممكنين او ممتنعين ولا يلزم من صدقها شرطية صدق جزءيها جملتين فالاعتبار إنما هو بصدقها في نفسها ولهذا كان قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا من أصدق الكلام وجزاء الشرطية ممتنعان لكن أحدهما ملزوم للآخر فقامت القضية الشرطية من التلازم الذي بينهما فإن تعدد الآلهة مستلزم لفساد السموات والارض فوجود آلهة مع الله ملزوم لفساد السموات والارض والفساد لازم فإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه فصدقت الشرطية دون مفرديها وأما الشرطية في مسألتنا فهي كاذبة في نفسها لانها عقدت للتلازم بين وقوع الطلاق المنجز وسبق الطلاق الثلاث عليه وهذا كذب في الإخبار باطل في الانشاء فالشرطية نفسها باطلة لا تصح بوجه فظهر ان تنظيرها بالشرطية الصادقة الممتنعة الجزءين وهم او إيهام ظاهر لاخفاء به
وأما قياسكم المحرر وهو قولكم طلاقان متعارضان يسبق أحدهما الآخر فوجب ان ينفى السابق منهما المتأخر كقوله إن قدم زيد إلى آخره فجوابه أنه لما قدم زيد طلقت ثلاثا فقدم عمرو بعده وهي أجنبية فلم يصادف الطلاق الثاني محلا فهذا معقول شرعا ولغة وعرفا فأين هذا من تعلق مستحيل
شرعا وعرفا ولقد وهنت كل الوهن مسألة الى مثل هذا القياس استنادها وعليه اعتمادها
وأما قولكم نكتة المسألة انا لو أوقعنا المنجز لزمنا ان نوقع قبله ثلاثا الى آخره فجوابه ان يقال هذا كلام باطل في نفسه فلا يلزم من إيقاع المنجز ايقاع الثلاث قبله لا لغة ولا عقلا ولا شرعا ولا عرفا فإن قلتم لانه شرط للمعلق قبله فقد تبين فساد المعلق بما فيه كفاية ثم نقلب عليكم هذه النكتة قلبا أصح منها شرعا وعقلا ولغة فنقول إذا أوقعنا المنجز لم يمكنا ان نوقع قبله ثلاثا قطعا وقد وجد سبب وقوع المنجز وهو الايقاع فيستلزم موجبه وهو الوقوع وإذا وقع موجبه استحال وقوع الثلاث فهذه النكتة اصح واقرب الى الشرع والعقل واللغة وبالله التوفيق
وأما قولكم إن المكلف أتى بالسبب الذي ضيق به على نفسه فألزمناه حكمه إلى آخره فجوابه ان هذا إنما يصح فيما يملكه من الاسباب شرعا فلا بد ان يكون السبب مقدورا ومشروعا وهذا السبب الذي أتى به غير مقدور ولا مشروع فإن الله تعالى لم يملكه طلاقا ينجزه تسبقه ثلاث قبله ولا ذلك مقدور له فالسبب لا مقدور ولا مأمور بل هو كلام متناقض فاسد فلا يترتب عليه تغيير أحكام الشرع وبهذا خرج الجواب عما نظرتم به من المسائل أما المسألة الاولى وهي إذا طلق أمراته ثلاثا جملة فهذة مما يحتج لها ولا يحتج بها وللناس فيها أربعة أقوال أحدها الالزام بها والثاني إلغاءها جملة وإن كان هذا إنما يعرف عن الفقهاء الشيعة والثالث إنها واحدة وهذا قول أبى بكر الصديق وجميع الصحابة في زمانه وإحدى الروايتين عن ابن عباس واختيار أعلم الناس بسيرة النبي ص - محمد بن إسحاق والحارث العكلى وغيره وهو احد القولين في مذهب مالك حكاه التلمساني في شرح تفريع ابن الجلاب واحد القولين في مذهب احمد اختاره شيخ الاسلام ابن تيمية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق