المثال الثانى والعشرون قوم سكنوا مدينة مدة من الزمان فكثرت فيها الأحداث والآفات وطرقها المحن وأغارت عليها عساكر الجور والفساد فبنى ملكهم مدينة فى محل لا يطرقه آفة ولاعاهة وعزم على تخريب المدينة الأولى فأرسل الى سكانها فنودى فيهم بالرحيل بعد ثلاث ولا يتخلف منهم أحد وأمرهم أن ينقلوا إلى مدينة الملك الثانية خير ما فى تلك المدينة وأنفعه وأجله من الجواهر واللآلى والذهب والفضة وما خف حمله من المتاع وعظم قدره وصلح للملوك وأرسل اليهم الأدلاء وآلات النقل ونهج لهم الطريق ونصب لهم الاعلام وتابع الرسل يستحثونهم بعضهم فى اثر بعض فانقسموا فرقا فالاقلون علموا قصر مدة مقامهم فى تلك المدينة وتيقنوا أنهم ان لم يبادروا بتحصيل خير ما فيها وحمله الى مدينة الملك والا فانهم ذلك فلم يقدروا عليه فرأوا غبنا أن يقطعوا تلك المدة فى جمع المفضول والاشتغال به عن الفاضل فسألوا عن خير مافى المدينة وأنفسه وأحبه الى الملك وأنفعه فى مدينته فلما عرفوه لم يلتفوا الى مادونه ورأوا أن أحدهم اذا وافى بجوهرة عظيمة كانت أحب الى الملك من أن يوافيه بأحمال كثيرة من الفلوس والحديد ونحوها فكان همهم فى تحصيل ما هو أحب الى الملك وأنفس عنده ولو قل فى رأى العين وأقبلت فرقة أخرى على تعبئة الاحمال المحملة وتنافسوا فى كثرتها وهم على مراتب فمنهم من أحماله أثمان ومنهم من أحماله دون ذلك على قدر هممهم وما يليق بهم لكن هممهم مصروفة الى تعبئة الاحمال والانتقال من المدينة وأقبلت فرقة أخرى على عمارة القصور فى تلك المدينة والاشتغال بطيباتها ولذاتها ونزهها وحاربوا العازمين على النقلة وقالوا لا ندعكم تأخذون من متاعنا شيئا فإن شاركتمونا فى عمارة المدينة واستيطانها وعيشنا فيها والا لم
نمكنكم من النقلة ولا من شيء من المتاع فوقعت الحرب بينهم فقاتلوا السائرين فعمدوا الى أكل أموالهم وأهليهم وما نقموا منهم الا بسيرهم الى دار الملك واجابة داعيه والرغبة عن تلك الدار متى أمرهم بتركها وأقبلت فرقة أخرى على التنزه والبطالة والراحة والدعة وقالوا لا نتعب أنفسنا فى عمارتها ولا ننقل منها ولا نعارض من أراد النقلة ولا نحاربهم ولا نعاونهم وكان للملك فيها قصر فيه حريم له وقد أحاط عليه سورا وأقام عليه حرسا ومنع أهل المدينة من قربانه وطاف به القاعدون فلم يجدوا فيه بابا يدخلون منه فغدوا على جدرانه فنقبوها ووصلوا الى حريمه فأفسدوهم ونالوا منهم ما أسخط الملك وأغضبه وشق عليه ولم يقتصروا على ذلك حتى دعوا غيرهم الى افساد حريمه والنيل منهم فبينما هم على تلك الحال واذا بالنفير قد صاح فيهم كله فلم يمكن أحد منهم من التخلف فحملوا على تلك الحال وأحضروا بين يدى الملك فاستعرضهم واحدا واحدا وعرضت بضائعهم وما قدموا به من تلك المدينة عليه فقبل منها ما يصلح له وأعاض أربابه أضعاف أضعاف قيمته وأنزلهم منازلهم من قربه ورد منها مالا يصلح له وضرب به وجوه أصحابه وقابل من نقب حماه وأفسد حريمه بما يقابل به المفسدون فسألوا الرجعة الى المدينة ليعمروا قصره ويحفظوا حريمه ويقدموا عليه من البضائع بمثل ما قدم به التجار فقال هيهات قد خربت المدينة خرابا لا تعمر بعده أبدا وليس بعدها الا المدينة التى لا تخرب أبدا فصل
وقد مثلت الدنيا بمنام والعيش فيها بالحلم والموت باليقظة ومثلت بمزرعة والعمل فيها بالبذر والحصاد يوم المعاد ومثلت بدار لها بابان باب يدخل منه الناس وباب يخرجون منه ومثلت بحية ناعمة الملمس حسنة اللون وضربتها الموت ومثلث بطعام مسموم لذيذ الطعم طيب الرائحة من تناول منه بقدر حاجته كان فيه شفاؤه ومن زاد على حاجته كان فيه حتفه ومثلت بالطعام فى المعدة اذا أخذت الاعضاء منه حاجتها فحبسه قاتل أو مؤذ ولا راحة لصاحبه الا فى خروجه كما أشار اليه النبى فى آكلة الخضر وقد تقدم ومثلت بامرأة من أقبح النساء قد انتقبت على
عينين فتنت بهما الناس وهى تدعو الناس إلى منزلها فإذا أجابوها كشفت لهم عن منظرها وذبحتهم بسكاكينها وألقتهم فى الحفر وقد سلطت على عشاقها تفعل بهم ذلك قديما وحديثا
والعجب أن عشاقها يرون إخوانهم صرعى قد حلت بهم الآفات وهم ينافسون فى مصارعهم وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ويكفى فى تمثيلها ما مئلها الله سبحانه فى كتابه فهو المثل المنطبق عليها
قالوا وإذا كان هذا شأنها فالتقلل منها والزهد فيها خير من الاستكثار منها والرغبة فيها قالوا ومن الملعوم أنه لا تجتمع الرغبة فيها مع الرغبة فى الله والدار الآخرة أبدا ولا تسكن هاتان الرغبتان فى مكان واحد إلا وطردت إحداهما الأخرى واستبدت بالمسكن ولا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا قالوا ويكفى أن رسول الله عرضت عليه مفاتيح كنوزها ولو أخذها لكان أشكر خلق الله بها ولم تنقصه مما له عند الله شيئا فاختار جوع يوم وشبع يوم ومات ودرعه مرهونة على طعام لأهله كما تقدم ذكره
قالوا وقد انقسم الناس بعد رسول الله اربعة أقسام قسم لم يريدو الدنيا ولم تردهم كالصديق ومن سلك سبيله وقسم أرادتهم الدنيا ولم يريدوها كعمر بن الخطاب ومن سلك سبيله وقسم ارادوا الدنيا وأرادتهم كخلفاء بنى أمية ومن سلك سبيلهم حاشا عمر بن عبد العزيز فإنها ارادته ولم يردها وقسم أرادوها ولم تردهم كمن أفقر الله منها يده وأسكنها فى قلبه وامتحنه بجمعها ولا يخفى أن خير الاقسام القسم الاول والثانى انما فضل لأنه لم يردها فالتحق بالاول
قالوا وقد سأل رجل رسول الله أن يدله على عمل اذا فعله أحبه الله وأحبه الناس فقال له ازهد فى الدنيا بحبك الله وازهد فيما فى أيدى الناس يحبك الناس فلو كان الغنى أفضل لدله عليه قالوا وقد شرع الله سبحانه قتال الكفار وشرع الكف عن الرهبان لاعتزالهم عن الدنيا وزهدهم فيها فمضت السنة بأن لا يقاتلوا ولا يضرب عليهم جزية هذا وهم أعداؤه وأعداء رسله ودينه فعلم أن الزهد
فيها عند الله بمكان قالوا وكذلك استقرت حكمته في شرعه على أن عقوبة الواجد أعظم من عقوبة الفاقد فهذا الزانى المحصن عقوبته الرجم وعقوبة من لم يحصن الجلد والتغريب وهكذا يكون ثواب الفاقد أعظم من ثواب الواجد
قالوا وكيف يستوى عند الله سبحانه ذلة الفقر وكسرته وخضوعه وتجرع مرارته وتحمل أعبائه ومشاقه وعزة الغنى ولذته وصولته والتمتع بلذاته ومباشرة حلاوته فبعين الله ما يتحمل الفقراء من مرارة فقرهم وصبرهم ورضاهم به عن الله ربهم تبارك وتعالى وأين أجر مشقة المجاهدين إلى أجر عبادة القاعدين فى الامن والدعة والراحة
قالوا وكيف يستوى أمران أحدهما حفت به الجنة والثانى حفت به النار فإن أصل الشهوات من قبل المال وأصل المكاره من قبل الفقر قالوا والفقير لا ينفك في خصاصة من مضض الفقر والجوع والعرى والحاجه وآلام الفقر وكل واحد منها يكفر ما يقاومه من السيئات وذلك زيادة على أجره بأعمال البر فقد شارك الاغنياء بأعمال البر وامتاز عنهم بما يكفر سيئاته وما امتازوا به عليه من الانفاق والصدقة والنفع المتعدي فله سبيل الى لحاقهم فيه وله مثل أجورهم وهو أن يعلم الله من نيته أنه لو أوتى مثل ما أوتوه لفعل كما يفعلون فيقول لو أن لى مالا لعملت بأعمالهم فهو بنيته وأجرهما سواء كما أخبر به الصادق المصدوق فى الحديث الصحيح الذى رواه الامام أحمد والترمذى من حديث أبى كبشه الانمارى قالوا والفقير فى الدنيا بمنزلة المسجون اذ هو ممنوع عن الوصول الى شهواته وملاذها والغنى منخلص من هذا السجن وقد قال النبى الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فالغنى ان لم يسجن نفسه عن دواعى الغنى وطغيانه وأرسلها فى ميادين شهواتها كانت الدنيا جنة له فانما نال الفضل بتشبهه بالفقير الذى هو فى سجن فقره
قالوا وقد ذم الله ورسوله من عجلت له طيباته فى الحياة الدنيا وانه لحرى أن يكون عوضا عن طيبات الآخرة أو منقصة لها ولا بد كما تقدم بيانه بخلاف من استكمل طيباته فى الآخرة لما منع منها فى الدنيا وأتى رسول الله بسويق لوز فأبى أن يشربه وقال هذا شراب المترفين
قالوا وقد سئل الحسن البصرى فقيل له رجلان أحدهما تارك للدنيا والآخر يكتسبها ويتصدق بها فقال التارك لها أحب الى قالوا وقد سئل المسيح قبله عن هذه المسألة عن رجلين مر أحدهما بلبنة ذهب فتخطاها ولم يلتفت اليها ومر بها الآخر فأخذها وتصدق بها فقال الذى لم يلتفت اليها أفضل ويدل على هذا أن رسول الله مر بها ولم يلتفت اليها ولو أخذها لأنفقها فى سبيل الله
قالوا والفقير الفقيه فى فقره يمكنه لحاق الغنى فى جميع ما ناله بغناه بنيته وقوله فيساويه فى أجره ويتميز عنه بعدم الحساب بعدم المال فساواه
بثوابه ويخلص من حسابه كما تميز عنه بسبقه إلى الجنة بخمسمائة عام وتميز عنه بثواب صبره على ألم الفقر وخصاصته
قال الإمام أحمد حدثنا عبادة بن مسلم حدثنى يونس بن خباب عن أبى البحترى الطائى عن أبى كبشة قال سمعت رسول الله يقول ثلاث أقسم عليهن واحدثكم حديثا فاحفظوه فأما الثلاث التى أقسم عليهن فإنه ما نقص مال عبد من صدقة ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزوجل بها عزا ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله له باب فقر وأما الذى أحدثكم حديثا فاحفظوه فإنه قال إنما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقى فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم فيه لله حقا فهذا بأفضل المنازل عند الله وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو يقول لو كان لى مال عملت فيه بعمل فلان قال فأجرهما سواء وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يتخبط فى ماله بغير علم لا يتقى فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم الله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل عند الله وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول لو كان لى مال لفعلت بفعل فلان قال فهو بنيته ووزرهما سواء فلما فضل الغنى بفعله ألحق الفقير الصادق بنيته والغنى هناك انما نقص بتخلفه عن العمل والفقير انما نقص بسوء نيته فلم ينفع الغنى غناه مع التخلف ولا ضر الفقير فقره مع حسن النية ولا نفعه فقره مع سوء نيته
قالوا ففى هذا بيان كان شاف فى المسألة حاكم بين الفريقين وبالله التوفيق
الباب الرابع والعشرون فى ذكر ما احتجت به الأغنياء من الكتاب والسنة
والآثار والاعتبار
قالت الأغنياء لقد أجلبتم علينا أيها الفقراء بخيل الأدلة ورجلها ونحن نعلم أن عندكم مثلها وأكثر من مثلها ولكن توسطتم بين التطويل والاختصار وظننتم أنها حكمت لكم بالفضل دون ذوى اليسار ونحن نحاكمكم الى ما حاكمتمونا اليه ونعرض بضاعتنا على من عرضتم بضاعتكم عليه ونضع أدلتنا وأدلتكم فى ميزان الشرع والعقل الذى لا يعزل فحيئذ يتبين لنا ولكم الفاضل من المفضول ولكن اخرجوا من بيننا من تشبه بالفقراء الصادقين الصابرين ولبس لباسهم على قلب أحرص الناس على الدنيا وأشحهم عليها وأبعدهم من الفقر والصبر من كل مظهر للفقر مبطن للحرص غافل عن ربه متبع لهواه مفرط فى أمر معاده قد جعل زى الفقر صناعة وتحلى بما هو أبعد الناس منه بضاعة أو فقير حاجة فقره اضطرارا لا اختيارا فزهده زهد افلاس لا زهد رغبة فى الله والدار الآخرة أو فقير يشكو ربه بلسان قاله وحاله غير راض عن ربه فى فقره بل ان أعطى رضى وان منع سخط شديد اللهف على الدنيا والحسرة عليها وهو أفقر الناس فيها فهو أرغب شئ فيها وهى أزهد شيء فيه وأخرجوا من بيننا ذى الثروة الجموع المنوع المتكاثر بماله المستأثر به الذى عض عليه بناجذه وثنى عليه خناصره يفرح بزيادته ويأسى على نقصانه فقلبه به مشغوف وهو على تحصيله ملهوف ان عرض سوق الانفاق والبذل أعطى قليلا وأكدى وان دعى الى الايثار أمعن فى الهرب جدا وأخلصونا واخواننا من سباق الطائفتين وسادات الفريقين الذين تسابقوا الى الله والدار الآخرة بإيمانهم وأحوالهم ونافسوا فى القرب منه بأعمالهم وأموالهم فقلوبهم عاكفة عليه وهمتهم الى المسابقة اليه ينظر غنيهم الى فقيرهم فإذا رآه قد سبقه الى عمل صالح شمر الى اللحاق به وينظر فقيرهم الى غنيهم فإذا رآه قد فاته بإنفاق فى طاعة الله أنفق هو من أعماله وأقواله وصبره وزهده نظير ذلك أو أكثر منه فهؤلاء اخواننا الذين تكلم
الناس فى التفضيل بينهم وأيهم أعلى درجة وأما أولئك فإنما ينظر أيهم تحت الآخر فى العذاب وأسفل منه والله المستعان
اذا عرف هذا فقد مدح الله سبحانه فى كتابه أعمالا وأثنى على أصحابها ولا تحصل الا بالغنى كالزكاة والانفاق فى وجوه البر والجهاد فى سبيل الله بالمال وتجهيز الغزاة واعانة المحاويج وفك الرقاب والاطعام فى زمن المسغبة وأين يقع صبر الفقير من فرحة الملهوف المضطر المشرف على الهلاك اذا أعانه الغنى ونصره على فقره ومخمصته وأين يقع صبره من نفع الغنى بماله فى نصرة دين الله واعلاء كلمته وكسر أعدائه وأين يقع صبر أبى ذر على فقره إلى شكر الصديق به وشرائه المعذبين فى الله وإعتاقهم وإنفاقه على نصرة الاسلام حين قال النبى ما نفعنى مال احد ما نفعنى مال أبى بكر وأين يقع صبر أهل الصفة من إنفاق عثمان بن عفان تلك النفقات العظيمة التى قال له رسول الله فى بعضها ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم ثم قال غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما أبديت أو كما قال
واذا تأملتم القرآن وجدتم الثناء فيه على المنفقين أضعاف الثناء على الفقراء الصابرين وقد شهد رسول الله بأن اليد العليا خير من اليد السفلى وفسر اليد العليا بالمعطية والسفلى بالمسائلة وقد عدد الله سبحانه على رسوله من نعمه أن أغناه بعد فقره وكان غناه هو الحالة التى نقله اليها وفقره الحالة التى نقله منها وهو سبحانه كان ينقله من الشئ الى ما هو خير منه وقد قيل فى قوله تعالى وللآخرة خير لك من الاولى ان المراد به الحالتان أى كل حالة خير لك مما قبلها ولهذا أعقبه بقوله ولسوف يعطيك ربك فترضى فهذا يدخل فيه عطاؤه فى الدنيا والأخرة
قالوا والغنى مع الشكر زيادة فضل ورحمة والله يخص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم قالوا والاغنياء الشاكرون سبب لطاعة الفقراء الصابرين لتقويتهم اياهم بالصدقة عليهم والاحسان عليهم واعانتهم على طاعتهم فلهم نصيب وافر من أجور الفقراء زيادة الى نصيبهم من أجر الانفاق وطاعاتهم التى تخصهم كما فى صحيح
ابن خزيمة من رواية سلمان الفارسى رضى الله عنه عن النبى وذكر شهر رمضان فقال من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شئ فقد جاز الغنى الشاكر أجر صيامه ومثل أجر الفقير الذى فطره قالوا ولو لم يكن للغنى الشاكر الا فضل الصدقة التى لما تفاخرت الاعمال كان الفخر لها عليهن كما ذكر النظر بن شميل عن قرة عن سعيد بن المسيب أنه حدث عن عمر بن الخطاب قال ذكر أن الاعمال الصالحة تتباهى فتقول الصدقة أنا أفضلكم قالوا والصدقة وقاية بين العبد وبين النار والمخلص المسر بها مستظل بها يوم القيامة فى ظل العرش
وقد روى عمرو بن الحارث ويزيد بن أبى حبيب عن أبى الخير عن عقبة بن عامر رضى الله عنه عن رسول الله قال ان الصدقه لتطفى على أهلها حر القبور وانما يستظل المؤمن يوم القيامه فى ظل صدقته
وقال يزيد بن أبى حبيب عن أبى الخير عن عقبة يرفعه كل امرئ فى ظل صدقته حتى يقضى بين الناس قال يزيد وكان أبو الخير لا يأتى عليه يوم الا تصدق فيه ولو بكعكة أو بصلة وفى حديث معاذ عن النبى والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار
وروى البيهقى من حديث ابى يوسف القاضى عن المختار بن فلفل عن أنس يرفعه باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يخطى الصدقه وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة عن النبى قال اذا تصدق العبد من كسب طيب ولا يقبل الله الا طيبا أخذها الله بيمينه فيربيها لأحدهم كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل العظيم وفى لفظ البيهقى فى هذا الحديث حتى ان التمرة أو اللقمة لتكون أعظم من أحد وقال محمد بن المنكدر من موجبات المغفرة اطعام المسلم السغبان وقد روى مرفوعا من غير وجه
واذا كان الله سبحانه قد غفر لمن سقى كلبا على شدة ظمأه فكيف بمن سقى العطاش وأشبع الجياع وكسى العراة من المسلمين وقد قال رسول الله اتقوا النار ولو بشق تمرة قال فان لم تجدوا فبكلمة طيبة فجعل الكلم الطيب عوضا عن
الصدقة لمن لا يقدر عليها قالوا واين لذة الصدقة والاحسان وتفريحهما القلب وتقويتهما إياه وما يلقى الله سبحانه للمتصدقين من المحبة والتعظيم فى قلوب عباده والدعاء لهم والثناء عليهم وادخال المسرات عليهم من أجر الصبر على الفقر نعم ان له لأجرا عظيما لكن الاجر درجات عند الله
قالوا وأيضا فالصدقه والاحسان والاعطاء وصف الرب تعالى وأحب عباده اليه من اتصف بذلك كما قال النبى الخلق عيال الله فأحب الخلق اليه انفعهم لعياله قالوا وقد ذكر الله سبحانه اصناف السعداء فبدأ بالمتصدقين أولهم فقال تعالى ان المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم فهؤلاء أصناف السعداء ومقدموهم المصدقين والمصدقات
قالوا وفى الصدقة فوائد ومنافع لا يحصيها الا الله فمنها انها تقى مصارع السوء وتدفع البلاء حتى انها لتدفع عن الظالم قال ابراهيم النخعى وكانوا يرون أن الصدقة تدفع عن الرجل المظلوم وتطفئ الخطيئة وتحفظ المال وتجلب الرزق وتفرح القلب وتوجب الثقة بالله وحسن الظن به كما أن البخل سوء الظن بالله وترغم الشيطان يعنى الصدقة وتزكى النفس وتنميها وتحبب العبد الى الله والى خلقه وتستر عليه كل عيب كما أن البخل يغطى عليه كل حسنة وتزيد فى العمر وتستجلب أدعية الناس ومحبتهم وتدفع عن صاحبها عذاب القبر وتكون عليه ظلا يوم القيامة وتشفع له عند الله وتهون عليه شدائد الدنيا والآخرة وتدعوه الى سائر أعمال البر فلا تستعصى عليه وفوائدها ومنافعها أضعاف ذلك
قالوا ولو لم يكن فى النفع والاحسان الا أنه صفة الله وهو سبحانه يحب من اتصف بموجب صفاته وآثارها فيحب العليم والجواد والحيي والستير والمؤمن القوى أحب اليه من المؤمن الضعيف ويحب العدل والعفو والرحيم والشكور والبر والكريم فصفته الغنى والجود ويحب الغنى الجواد قالوا ويكفى فى فضل النفع المتعدى بالمال أن الجزاء عليه من جنس العمل فمن كسى مؤمنا كساه الله من حلل الجنة ومن أشبع جائعا أشبعه الله من ثمار الجنة ومن سقى ظمآنا سقاه الله من شراب الجنة ومن أعتق
رقبة أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار حتى فرجه بفرجه ومن يسر على معسر يسر الله عليه فى الدنيا والآخرة ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه قالوا ونحن لا ننكر فضيلة الصبر على الفقر ولكن أين تقع من هذه الفضائل وقد جعل الله لكل شئ قدرا
قالوا وقد جعل رسول الله الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ومعلوم أنه اذا تعدى شكره الى الإحسان الى الغير ازداد أخرى فان الشكر يتضاعف الى ما لا نهاية له بخلاف الصبر فان له حدا يقف عليه
وهذا دليل مستقل فى المسألة يوضحه أن الشاكر أفضل من الراضى الذى هو أعلى من الصابر فاذا كان الشاكر أفضل من الراضى الذى هو أفضل من الصابر كان أفضل من الصابر فى درجتين
قالوا وفى الصحيحين من حديث الزهرى عن سالم عن ابيه قال قال رسول الله لا حسد الا فى اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل والنهار فجعل الغنى مع الانفاق بمنزلة القرآن مع القيام به قالوا وقد صرح فى حديث أبى كبشه الأنمارى أن صاحب المال إذا عمل فى ماله بعلمه واتقى فيه ربه ووصل به رحمه وأخرج منه حق الله فهو فى أعلى المنازل عند الله وهذا تصريح فى تفضيله وجعل الفقير الصادق اذا نوى أن يعمل بعمله وقال ذلك بلسانه ثانيا وانه بنيته وقوله وأجرهما سواء فإن كلا منهما نوى خيرا وعمل ما يقدر عليه فالغنى نواه ونفذه بعلمه والفقير العالم نواه ونفذه بلسانه فاستويا فى الاجر من هذه الجهة ولا يلزم من استوائهما فى أصل الاجر استواؤهما فى كيفيته وتفاصيله فإن الأجر على العمل والنيه له مزية على الاجر على مجرد النيه التى قارنها القول ومن نوى الحج ولم يكن له مال يحج به وان أثيب على ذلك فإن ثواب من باشر أعمال الحج مع النيه له مزية عليه
واذا اردت فهم هذا فتأمل قول النبى من سأل الله الشهادة صادقا من قلبه بلغه الله منازل الشهداء وان مات على فراشه ولا ريب أن ما حصل للمقتول فى سبيل
الله من ثواب الشهادة تزيد كيفيته وصفاته على ما حصل لناوى ذلك اذا مات على فراشه وان بلغ منزلة الشهيد فها هنا أجران أجر وقرب فان استويا فى اصل الاجر لكن الاعمال التى قام بها العامل تقتضى أثرا زائدا وقربا خاصا وهو فضل الله يؤتيه من يشاء وقد قال اذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار قالوا هذا القاتل فما بال المقتول قال انه أراد قتل صاحبه فاستويا فى دخول النار ولا يلزم استواؤهما فى الدرجة ومقدار العذاب فاعط الفاظ رسول الله حقها ونزلها منازلها يتبين لك المراد
يوضح هذا أن فقراء المهاجرين شكوا الى رسول الله وقالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالاجور يصلون كما نصلى ويصومون كما نصوم ولهم فضول أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون قال أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحدا أفضل منكم الا من صنع مثل ما صنعتم قالوا بلى يا رسول الله قال تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين فرجع فقراء المهاجرين الى رسول الله فقالوا سمع اخواننا أهل الاموال بما فعلنا ففعلوا مثله فقال رسول الله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فلو كانوا يلحقون بهم فى مقدار الاجر بمجرد النية لقال لهم أنووا أن تفعلوا مثل فعلهم فتنالوا مثل أجرهم فلما أعاضهم عما فاتهم من ثواب الصدقه والعتق والحج والاعتمار بما يحصل نظيره بالذكر علم أن الاغنياء قد فضلوهم بالانفاق فلما شاركوهم فى الذكر بقيت مزية الانفاق فشكوا الى رسول الله أن الامتياز لم يزل وانهم قد ساوونا فى الذكر كما ساوونا فى الصوم والصلاة فأخبرهم أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فلو كان لهم سبيل الى مساواتهم من كل وجه بالنيه والقول لدلهم عليها
قالت الفقراء هذا الحديث حجة لنا اذا فهم على الحقيقه وذلك أن معناه انهم وان كانوا قد ساووكم فى الايمان والاسلام والصلاة والصيام ثم فضلوكم فى الانفاق ففى التكبير والتسبيح والتهليل ما يلحقكم بدرجتهم وقد ساويتموهم أيضا بحسن النية إذ لو أمكنكم لأنفقتم مثلهم وفى بعض ألفاظ هذا الحديث ان أخذتم به سبقتم من قبلكم ولم يلحقكم من بعدكم وهذا يدل على أن الاغنياء لا يلحقونهم
وان قالوا مثل قولهم وقوله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء معناه ان فضل الله ليس مقصورا عليكم دونهم فكما آتاكم الله من فضله بالذكر كذلك يؤتيهم اياه اذا عملوا مثلكم أيضا فأنتم فهمتم من الفضل التخصيص فوضعتموه فى غير موضعه وانما معناه العموم والشمول وان فضله عام شامل للأغنياء والفقراء فلا تذهبون به دونهم فأين فى هذا الحديث التفضيل لكم علينا
قالوا ويحتمل قوله ذلك فضل الله ثلاثة أمور أحدها سبقهم لكم بالانفاق والثانى مساواتكم لهم فى فضيلة الذكر فلم تختصوا به دونهم والثالث سبقكم لهم الى الجنة بنصف يوم وهذا وان كان لا ذكر له فى هذه الروايه فهو مذكور فى بعض طرقه قال البزار فى مسنده حدثنا الوليد بن عمر حدثنا محمد ابن الزبرقان حدثنا موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال اشتكى فقراء المهاجرين الى رسول الله ما فضل به أغنياؤهم فقالوا يا رسول الله اخواننا صدقوا تصديقنا وآمنوا ايماننا وصاموا صيامنا ولهم أموال يتصدقون منها ويصلون منها الرحم وينفقونها فى سبيل الله ونحن مساكين لا نقدر على ذلك فقال ألا اخبركم بشئ اذا أنتم فعلتموه أدركتم مثل فضلهم قولوا الله اكبر فى كل صلاة احدى عشرة مرة والحمد لله مثل ذلك ولا اله الا الله مثل ذلك وسبحان الله مثل ذلك تدركون مثل فضلهم ففعلوا فذكروا ذلك للأغنياء ففعلوا مثل ما ذلك فرجع الفقراء الى رسول الله فذكروا ذلك له فقالوا هؤلاء اخواننا فعلموا مثل نقول فقال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء يا معشر الفقراء ألا أبشركم ان فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام وتلا موسى ابن عبيدة وان يوما عند ربك كألف سنه مما تعدون
قالوا فهذا خبر واحد وكلام متصل ذكره بشارة لهم عندما ذكروا مساواة الاغنياء لهم فى القول المذكور فأشبه أن يرجع الفضل الى سبق الفقراء للأغنياء وأنهم بهذه البشارة مخصصون فكان السبق لهم دون غيرهم وان ساووهم فى القول وساووهم فى الانفاق بالنيه كما فى حديث أبى كبشة المتقدم وحصلت لهم مزية الفقر
قالت الاغنياء لقد بالغتم فى صرف الحديث عن مقصوده الى جهتكم وهو صريح
فى تفضيل هذا الحديث لمن انصف فإن قوله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء خرج جوابا للفقراء عن قولهم إن أهل الدثور قد ساووهم فى الذكر كما ساووهم فى الصلاة والصوم والايمان وبقيت مزية الانفاق ولم يحصل لهم ما يلحقهم فيها وما علمتنا من الذكر قد لحقونا فيه فقال لهم حينئذ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وهذا صريح جدا فى مقصوده فلما انكسر القوم بتحقق السبق بالانفاق الذى عجزوا عنه أخبرهم بالبشارة بالسبق إلى دخول الجنة بنصف يوم وأن هذا السبق فى مقابلة ما فاتكم من فضيلة الغنى والانفاق ولكن لا يلزم من ذلك رفعتهم عليهم فى المنزلة والدرجة فهؤلاء السبعون ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب من الموقوفين للحساب من هو أفضل من أكثرهم وأعلى منه درجة
قالوا وقد سمى سبحانه المال خيرا فى غير موضع من كتابه كقوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ان ترك خيرا الوصية وقوله انه لحب الخير لشديد وأخبر رسول الله أن الخير لا يأتى الا بالخير كما تقدم وانما يأتى بالشر معصية الله فى الخير لا نفسه
وأعلم الله سبحانه أنه جعل المال قواما للأنفس وأمر بحفظها ونهى أن يأتى السفهاء من النساء والأولاد وغيرهم ومدحه النبى بقوله نعم المال الصالح مع المرء الصالح وقال سعيد بن المسيب لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله يكف به وجهه عن الناس ويصل به رحمه ويعطى حقه
وقال أبو اسحاق السبيعى كانوا يرون السعة عونا على الدين وقال محمد ابن المنكدر نعم العون على التقى الغنى وقال سفيان الثورى المال فى زماننا هذا سلاح المؤمن وقال يوسف بن سباط ما كان المال فى زمان منذ خلقت الدنيا أنفع منه فى هذا الزمان والخير كالخيل لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر
قالوا وقد جعل الله سبحانه المال سببا لحفظ البدن وحفظه سبب لحفظ النفس التى هى محل معرفة الله والايمان به وتصديق رسله ومحبته والانابة اليه فهو سبب عمارة الدنيا والآخرة وانما يذم منه ما استخرج من غير وجهه وصرف فى غير حقه واستعبد صاحبه وملك قلبه وشغله عن الله والدار الآخرة فيذم منه ما يتوسل
به صاحبه الى المقاصد الفاسدة أو شغله عن المقاصد المحمودة فالذم للجاعل لا للمجعول قال النبى تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم فذم عبدهما دونهما قال الامام أحمد حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان عن يزيد بن ميسرة قال كان رجل ممن مضى جمع مالا فأوعى ثم أقبل على نفسه وهو فى أهله فقال أنعم سنين فأتاه ملك الموت فقرع الباب فى صورة مسكين فخرجوا اليه فقال ادعو لى صاحب الدار فقالوا يخرج سيدنا الى مثلك ثم مكث قليلا ثم عاد فقرع الدار وصنع مثل ذلك وقال أخبروه أنى ملك الموت فلما سمع سيدهم قعد فزعا وقال لينوا له الكلام قالوا ما تريد غير سيدنا بارك الله فيك قال لا فدخل عليه فقال قم فأوص ما كنت موصيا فإنى قابض نفسك قبل أن أخرج قال فصرخ أهله وبكوا ثم قال افتحو الصناديق وافتحوا أوعية المال ففتحوها جميعا فأقبل على المال يلعنه ويسبه يقول لعنت من مال أنت الذى أنسيتنى ربى وشغلتنى عن العمل لآخرتى حتى بلغنى أجلى فتكلم المال فقال لا تسبنى ألم تكن وضيعا فى أعين الناس فرفعتك ألم ير عليك من أثرى وكنت تحضر سدد الملوك والسادة فتدخل ويحضر عباد الله الصالحون فلا يدخلون ألم تكن تخطب بنات الملوك والسادة فتنكح ويخطب عباد الله الصالحون فلا ينكحون ألم تكن تنفقنى فى سبيل الخبث فلا أتعاصى ولو أنفقتنى فى سبيل الله لم أتعاص عليك وأنت ألوم منى إنما خلقت أنا وأنتم يا بنى آدم من تراب فمنطلق ببر ومنطلق بإثم فهكذا يقول المال فاحذروا وفى أثر يقول الله تبارك وتعالى أموالنا رجعت الينا سعد بها من سعد وشقى بها من شقى
قالوا ومن فوائد المال أنه قوام العبادات والطاعات وبه قام سوق بر الحج والجهاد وبه حصل الانفاق الواجب والمستحب وبه حصلت قربات العتق والوقف وبناء المساجد والقناطر وغيرها وبه يتوصل الى النكاح الذى هو أفضل من التخلى لنوافل العبادة وعليه قام سوق المروءة وبه ظهرت صفة الجود والسخاء وبه وقيت الاعراض وبه اكتسبت الاخوان والاصدقاء وبه توصل الابرار الى الدرجات العلى ومرافقة الذين أنعم الله عليهم فهو مرقاة يصعد بها الى أعلى غرف
الجنة ويهبط منها إلى أسفل سافلين وهو مقيم مجد الماجد كان بعض السلف يقول لا مجد إلا بفعال ولا فعال إلا بمال وكان بعضهم يقول اللهم إنى من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى وهو من أسباب رضا الله عن العبد كما كان من أسباب سخطه عليه
وهؤلاء الثلاثة الذين ابتلاهم الله به الابرص والاقرع والاعمى قال به الاعمى رضا ربه ونالا به سخطه والجهاد ذروة سنام العمل وتارة يكون بالنفس وتارة يكون بالمال وربما كان الجهاد بالمال أنكى وأنفع وبأى شئ فضل عثمان على على وعلى أكثر جهادا بنفسه واسبق إسلاما من عثمان
وهذا الزبير وعبد الرحمن بن عوف أفضل من جمهور الصحابة مع الغنى الوافر وتأثيرهما فى الدين أعظم من تأثير أهل الصفة وقد نهى رسول الله عن إضاعته وأخبر أن ترك الرجل ورثته أغنياء خير له من تركهم فقراء وأخبر أن صاحب المال لن ينفق نفقة يبتغى بها وجه الله إلا ازداد بها درجة ورفعة وقد استعاذ رسول الله من الفقر وقرنه بالكفر فقال اللهم إنى أعوذ بك من الكفر والفقر فإن الخير نوعان خير الآخرة والكفر مضاده وخير الدنيا والفقر مضاده فالفقر سبب عذاب الدنيا والكفر سبب عذاب الآخرة والله سبحانه وتعالى جعل إعطاء الزكاة وظيفة الأغنياء وأخذها وظيفة الفقراء وفرق بين اليدين شرعا وقدرا وجعل يد المعطى أعلى من الآخذ وجعل الزكاة أوساخ المال ولذلك حرمها على أطيب خلقه وعلى آله صيانة لهم وتشريفا ورفعا لأقدارهم
ونحن لا ننكر أن رسول الله كان فقيرا ثم أغناه الله والله فتح عليه وخوله ووسع عليه وكان يدخر لأهله قوت سنة ويعطى العطايا التى لم يعطها أحد غيره وكان يعطى عطاء من لا يخاف الفقر ومات عن فدك والنضير وأموال خصه الله بها وقال تعالى ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول فنزهه ربه سبحانه عن الفقر الذى يسوغ الصدقة وعوضه عما نزهه عنه بأشرف المال وأحله وأفضله وهو ما أخذه بظل رمحه وقائم سيفه من أعداء الله الذين كان مال الله بأيديهم ظلما وعدوانا فإنه خلق المال ليستعان به على طاعته وهو بأيدى الكفار والفجار
ظلما وعدوانا فإذا رجع الى أوليائه وأهل طاعته فاءاليهم ما خلق لهم ولكن لم يكن غنى رسول الله وملكه من جنس غنى بنى الدنيا وأملاكهم فإن غناهم بالشيء وغناه عن الشئ وهو الغنى العالى وملكهم ملك يتصرفون فيه بحسب إرادتهم وهو انما يتصرف فى ملكه تصرف العبد الذى لا يتصرف الا بأمر سيده
وقد اختلف الفقهاء فى الفئ هل كان ملكا للنبى على قولين هما روايتان عن أحمد والتحقيق أن ملكه له كان نوعا آخر من الملك وهو ملك يتصرف فيه بالأمر كما قال والله لا أعطى أحدا ولا أمنع أحدا انما أنا قاسم اضع حيث امرت ذلك من كمال مرتبة عبوديته ولأجل ذلك لم يورث فإنه عبد محض من كل وجه لربه تعالى والعبد لا مال له فيورث عنه فجمع الله له سبحانه بين أعلى أنواع الغنى وأشرف أنواع الفقر فكمل له مراتب الكمال فليست احدى الطائفتين بأحق به من الأخرى فكان فى فقره أصبر خلق الله وأشكرهم وكذلك فى غناه والله تعالى جعله قدوة للأغنياء والفقراء وأى غنى أعظم من غنى من عرضت عليه مفاتيح كنوز الارض وعرض عليه أن يجعل له الصفا ذهبا وخير بين أن يكون ملكا نبيا وبين أن يكون عبدا نبيا فاختار أن يكون عبدا نبيا ومع هذا فجيبت اليه أموال جزيرة العرب واليمن فأنفقها كلها ولم يستأثر منها بشئ بل تحمل عيال المسلمين ودينهم فقال من ترك مالا فلورثته ومن ترك كلا فإلى وعلى فرفع الله سبحانه قدره أن يكون من جملة الفقراء الذين تحل لهم الصدقه كما نزهه أن يكون من جملة الاغنياء الذين أغناهم بالاموال الموروثة بل أغناه به عن سواه وأغنى قلبه كل الغنى ووسع عليه غاية السعة فأنفق غاية الانفاق وأعطى أجل العطايا ولا استأثر بالمال ولا اتخذ منه عقارا ولا ارضا ولا ترك شاة ولا بعيرا ولا عبدا ولا أمة ولا دينارا ولا درهما
فإذا احتج الغنى الشاكر بحاله لم يمكنه ذلك الا بعد أن يفعل فعله كما أن الفقير الصابر اذا احتج بحاله لم يمكنه ذلك الا بعد أن يصبر صبره ويترك الدنيا اختيارا لا اضطرارا فرسول الله وفى كل مرتبة من مرتبتى الفقر والغنى
حقها وعبوديتها وأيضا فإن الله سبحانه أغنى به الفقراء فما نالت أمته الغنى إلا به وأغنى الناس من صار غيره به غنيا
قال على بن أبى رباح اللخمى كنت عند مسلمة بن مخلد الأنصارى وهو يومئذ على مصر وعبد الله بن عمرو بن العاص جالس معه فتمثل مسلمة ببيت من شعر أبى طالب فقال لو أن ابا طالب رأى ما نحن فيه اليوم من نعمة الله وكرامته لعلم أن ابن أخيه سيد قد جاء بخير فقال عبد الله بن عمرو ويومئذ كان سيدا كريما قد جاء بخير فقال مسلمة ألم يقل الله تعالى ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى فقال عبد الله بن عمرو أما اليتيم فقد كان يتيما من أبويه وأما لعيلة فكل ما كان بأيدى العرب الى القله يقول إن العرب كانت كلها مقلة حتى فتح الله عليه وعلى العرب الذين اسلموا ودخلوا فى دين الله أفواجا ثم توفاه الله قبل أن يتلبس منها بشئ ومضى وتركها وحذر منها ومن فتنتها قال وذلك معنى قوله ولسوف يعطيك ربك فترضى فلم تكن الدنيا لترضيه وهو لا يرضاها كلها لأمته وهو يحذر منها وتعرض عليه فيأباها وانما هو ما يعطيه من الثواب وما يفتح عليه وعلى أمته من ملك كسرى وقيصر ودخول الناس فى الاسلام وظهور الدين إذا كان ذلك محبته ورضاه صلوات الله وسلامه عليه
وروى سفيان الثورى عن الاوزاعى عن اسماعيل بن عبد الله بن عباس عن النبى قال رأيت ما هو مفتوح بعدى كفرا كفرا فسرنى ذلك فنزلت والضحى والليل الى قوله ولسوف يعطيك ربك فترضى قال اعطى ألف قصر من لؤلؤ ترابها المسك فى كل قصر ما ينبغى له
قالوا وما ذكرتم من الزهد فىالدنيا والتقلل منها فالزهد لا ينافى الغنى بل زهد الغنى أكمل من زهد الفقير فإن الغنى زهد عن قدرة والفقير عن عجز وبينهما بعد بعيد وقد كان رسول الله فى حال غناه أزهد الخلق وكذلك ابراهيم الخليل كان كثير المال وهو أزهد الناس فى الدنيا
وقد روى الترمذى فى جامعه من حديث ابى ذر عن النبى قال الزهادة فى الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعته ولكن الزهادة فى الدنيا أن لا تكون بما
فى يديك أوثق بما فى يد الله وأن تكون فى ثواب المصيبة إذا أنت اصبت بها أرغب فى ثوابها لو أنها بقيت لك
وسئل الإمام أحمد عن الرجل يكون معه ألف دينار وهل يكون زاهدا قال نعم بشرط أن لا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت وقال بعض السلف الزاهد من لا يغلب الحلال شكره ولا الحرام صبره وهذا من أحسن الحدود حقيقة مركبة من الصبر والشكر فلا يستحق اسم الزاهد من لا يتصف بهما فمن غلب شكره لما وسع عليه من الحلال وصبره لما عرض له من الحرام فهو الزاهد على الحقيقة بخلاف من غلب عليه الحلال شكره والحرام صبره فكان شكره وصبره مغلوبين فإن هذا ليس بزاهد
وسمعت شيخ الاسلام يقول الزهد تركك مالا ينفعك والورع تركك ما يضرك فالزهد فراغ القلب من الدنيا لافراغ اليدين منها ويقابله الشح والحرص وهو ثلاثة أقسام زهد فى الحرام وزهد فى الشبهات والمكروهات وزهد فى الفضلات فالاول فرض والثانى فضل والثالث متوسط بينهما بحسب درجة الشبهة وان قويت التحق بالاول والا فبالثالث وقد يكون الثالث واجبا بمعنى انه لا بد منه وذلك لمن شمر الى الله والدار الآخرة فزهد الفضلة يكون ضرورة فإن إرادة الدنيا قادحة فى إرادة الآخرة ولا يصح للعبد مقام الارادة حتى يفرد طلبه وارادته ومطلوبه فلا ينقسم المطلوب ولا الطلب
أما توحيد المطلوب أن لا يتعلق طلبه وارادته بغير الله وما يقرب اليه ويدنى منه وأما توحيده فى الطلب أن يستأصل الطلب والارادة نوازع الشهوات وجواذب الهوى وتسكن الارادة فى أقطار النفس فتملأها فلا يدع فيها فضلا لغير الانجذاب الى جانب الحق جل جلاله فتتمحض الارادة له ومتى تمحضت كان الزهد لصاحبها ضرورة فإنه يفرغه لعمارة وقته وجمع قلبه على ماهو بصدده وقطع مواد طمعه اللاتى هى من أفسد شئ للقلب بل اصل المعاصى والفساد والفجور كله من الطمع فالزهد يقطع مواده ويفرغ البال ويملأ القلب ويستحث الجوارح ويذهب الوحشة التى بين العبد وبين ربه ويجلب الانس به ويقوى الرغبة فى ثوابه إن ضعف عن الرغبة فى قربه والدنو منه وذوق حلاوة معرفته ومحبته فالزاهد أروح
الناس بدنا وقلبا فإن كان زهده وفراغه من الدنيا قوة له فى إرادة الله والدار الآخرة بحيث فرغ قلبه لله وجعل حرصه على التقرب إليه وشحه على وقته أن يضيع منه شئ فى غير ما هو أرضى الله وأحب اليه كان من أنعم الناس عيشا واقرهم عينا وأطيبهم نفسا وأفرحهم قلبا فإن الرغبة فى الدنيا تشتت القلب وتبدد الشمل وتطيل الهم والغم والحزن فهى عذاب حاضر يؤدى الى عذاب منتظر أشد منه وتفوت على العبد من النعم اضعاف ما يروم تحصيله بالرغبه فى الدنيا
قال الامام أحمد حدثنا الهيثم بن جميل حدثنا يعنى بن مسلم عن ابراهيم يعنى بن ميسرة عن طاووس قال قال رسول الله ان الزهد فى الدنيا يريح القلب والبدن وأن الرغبة فى الدنيا تطيل الهم والحزن وانما تحصل الهموم والغموم والأحزان من جهتين احداهما الرغبة فى الدنيا والحرص عليها والثانى التقصير فى أعمال البر والطاعة
قال عبد الله بن أحمد حدثنى بيان بن الحكم حدثنا محمد بن حاتم عن بشر بن الحارث قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن ليث عن الحكم قال قال رسول الله اذا قصر العبد بالعمل ابتلاه الله تعالى بالهم
وكما أن الرغبة فى الدنيا أصل المعاصى الظاهرة فهى اصل معاصى القلب من التسخط والحسد والكبر والفخر والخيلاء والتكاثر وهذا كله من امتلاء القلب بها لا من كونها فى اليد وامتلاء القلب بها ينافى الشكر ورأس الشكر تفريغ القلب منها وامتداد المال كامتداد العمر والجاه فخيركم فى الدنيا من طال عمره وحسن عمله فهكذا من امتد ماله وكثر به خيره فنعم المرء وماله وجاهه اما أن يرفعه درجات واما أن يضعه درجات
وسر المسألة أن طريق الفقر والتقلل طريق سلامة مع الصبر وطريق الغنى والسعة فى الغالب طريق عطب فإن اتقى الله فى ماله ووصل به رحمه وأخرج منه حق الله وليس مقصورا على الزكاة بل من حقه اشباع الجائع وكسوة العارى واغاثة الملهوف واعانة المحتاج والمضطر فطريقه طريق غنيمة وهى فوق السلامة فمثل صاحب الفقر كمثل مريض قد حبس بمرضه عن أغراضه فهو يثاب على حسن صبره على حبسه
وأما الغنى فخطره عظيم فى جمعه وكسبه وصرفه فإذا سلم كسبه وحسن أخذه من وجهه وصرفه فى حقه كان أنفع له فالفقير كالمتعبد المنقطع عن الناس والغنى المنفق فى وجوه الخير كالمعين والمعلم والمجاهد ولهذا جعله النبى قرين الذى أتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها فهو أحد المحسودين الذين لا ثالث لهما والجهلة يغبطون المنقطع المتخلى المقصور النفع على نفسه ويجعلونه أولى بالحسد من المنفق والعالم المعلم
فإن قيل فأيهما افضل من يختار الغنى المتصدق والانفاق فى وجوه البر أم من يختار الفقر والتقلل ليبعد عن الفتنة ويسلم من الآفة ويرفه قلبه على الاستعداد للآخرة فلا يشغله بالدنيا أم من لا يختار لا هذا ولا ذاك بل يختار ما اختاره الله له فلا يعين باختباره واحدا من الامرين
قيل هذا موضع اختلف فيه حال السلف الصالح فمنهم من اختار المال للجهاد به والانفاق وصرفه فى وجوه البر كعبد الرحمن بن عوف وغيره من مياسير الصحابه وكان قيس بن سعد يقول اللهم انى من عبادك الذين لا يصلحهم الا الغنى ومنهم من اختار الفقر والتقلل كأبى ذر وجماعة من الصحابه معه وهؤلاء نظروا الى آفات الدنيا وخشوا الفتنة بها وأولئك نظروا الى مصالح الانفاق وثمراته العاجلة والآجلة والفرقة الثالثة لم تختر شيئا بل كان اختيارها ما اختاره الله لها وكذلك اختيار طول البقاء فى الدنيا لاقامة دين الله وعبادته فطائفة اختارته وتمنته وطائفة أحبت الموت ولقاء الله والراحة من الدنيا وطائفة ثالثة لم تختر هذا ولا ذاك بل اختارت ما يختاره الله لها وكان اختيارهم معلقا بما يريده الله دون مراد معين منهم وهى حال الصديق رضى الله عنه فإنهم قالوا له فى مرض موته ألا ندعو لك الطبيب فقال قد رآنى فقالوا فما قال لك قال قال لى انى فعال لما أريد والأولى حال موسى عليه السلام فإنه لما جاءه ملك الموت لطمه ففقأ عينه ولم يكن ذلك حبا منه للدنيا والعيش فيها ولكن لينفذ أوامر ربه ويقيم دينه ويجاهد أعداءه فكأنه قال لملك الموت أنت عبد مأمور وأنا عبد مأمور وأنا فى تنفيذ أوامر ربى
وإقامة دينه فلما عرضت عليه الحياة الطويلة وعلم أن الموت بعدها اختار ما اختاره الله له وأما نبينا صلوات الله وسلامه عليه فإن ربه أرسل إليه يخبره وكان أعلم الخلق بالله فعلم أن ربه تبارك وتعالى يحب لقاءه ويختاره له فاختار لقاء الله ولو علم أن ربه يحب له البقاء فى الدنيا لتنفيذ أوامره وإقامة دينه لما اختار غير ذلك فكان اختياره تابعا لاختيار ربه تعالى فكما أنه لما خيره ربه عزوجل بين أن يكون ملكا نبيا وبين أن يكون عبدا نبيا وعلم أن ربه يختار له أن يكون عبدا نبيا اختار ما اختاره الله له فكان اختياره فى جميع أموره تابعا لاختيار الله له ولهذا يوم الحديبية احتمل ما احتمل من تلك الحال فى ذاك الوقت ووفى هذا المقام حقه ولم يثبت عليه من كل وجه إلا الصديق فلم يكن له اختيار فى سوى ما اختاره الله له ولأصحابه من تلك الحال التى تقرر الأمر عليها فكان راضيا بها مختارا لها مشاهدا اختيار ربه لها وهذا غاية العبودية فشكر الله له ذلك وجعل شكرانه ما بشره به فى أول سورة الفتح حتى هنأه الصحابة به وقالوا هنيئا لك يا رسول الله وحق له أن يهنأ بأعظم ما هنأ به بشر صلوات الله وسلامه عليه
فصل ومما ينبغى أن يعلم أن كل حصلة من حصال الفضل قد أحل
الله رسوله فى أعلاها وخصه بذروة سنامها فإذا احتجت بحاله فرقة من فرق الأمة التى تعرفت تلك الخصال وتقاسمتها على فضلها على عيرها أمكن الفرقة الأخرى أن تحتج به على فضلها أيضا فإذا احتج به الغزاة والمجاهدون على أنهم افضل الطوائف احتج به العلماء والفقهاء على مثل ما احتج به أولئك واذا احتج به الزهاد والمتخلفون عن الدنيا على فضلهم احتج به الداخلون فى الدنيا والولايه وسياسة الرعيه لاقامة دين الله وتنفيذ أمره واذا احتج به الفقير الصابر احتج به الغنى الشاكر واذا احتج به أهل العبادة على فضل نوافل العبادة وترجيحها احتج به العارفون على فضل المعرفة واذا احتج به أرباب التواضع والحلم احتج به أرباب العز والقهر المبطلين والغلظه عليهم والبطش بهم واذا احتج به ارباب الوقار والهيبه والرزانة احتج به
أرباب الخلق الحسن والمزاح المباح الذى لا يخرج عن الحق وحسن العشرة للأهل والأصحاب وإذا احتج به أصحاب الصدع بالحق والقول به فى المشهد والمغيب احتج به أصحاب المدارة والحياء والكرم أن يبادروا الرجل بما يكرهه فى وجهه وإذا احتج به المتورعون على الورع المحمود احتج به الميسرون المسهلون الذين لا يخرجون عن سعة شريعته ويسرها وسهولتها وإذا احتج به من صرف عنايته إلى إصلاح دينه وقلبه احتج به من راعى إصلاح بدنه ومعيشته ودنياه فانه بعث لصلاح الدنيا والدين وإذا احتج به من لم يعلق قلبه بالاسباب ولا ركن إليها احتج به من قام بالاسباب ووضعها مواضعها وأعطاها حقها وإذا احتج به من جاع وصبر على الجوع احتج به من شبع وشكر ربه على الشبع واذا احتج به من اخذ بالعفو والصفح والاحتمال احتج به من انتقم فى مواضع الانتقام واذا احتج به من أعطى لله ووالى لله احتج به من منع لله وعادى لله واذا احتج به من لم يدخر شيئا لغد احتج به من يدخر لأهله قوت سنه واذا احتج به من يأكل الخشن من القوت والادم كخبز الشعير والخل احتج به من يأكل اللذيذ الطيب كالشوى والحلوى والفاكهة والبطيخ ونحوه وإذا احتج به من سرد الصوم احتج به من سرد الفطر فكان يصوم حتى يقال لا يفطر ويفطر حتى يقال لا يصوم واذا احتج به من رعب عن الطيبات والمشتهيات احتج به من أحب أطيب ما فى الدنيا وهو النساء والطيب وإذا احتج به من الان جانبه وخفض جناحه لنسائه احتج به من أدبهن وآلمهن وطلق وهجر وخيرهن واذا احتج به من ترك مباشرة أسباب المعيشة بنفسه احتج به من باشرها بنفسه فأجرو استأجر وباع واشترى واستسلف وادان ورهن واذا احتج به من يجتنب النساء بالكلية فى الحيض والصيام احتج به من يباشر امرأته وهى حائض بغير الوطء ومن يقبل امرأته وهو صائم واذا احتج به من رحم أهل المعاصى بالقدر احتج به من أقام عليهم حدود الله فقطع السارق ورجم الزانى وجلد الشارب واذا احتج به من أرباب الحكم بالظاهر احتج به ارباب السياسة العادلة المبنية على القرائن الظاهرة فإنه حبس فى تهمة وعاقب فى تهمة
وأخبر عن نبى الله سليمان أنه عليه السلام حكم بالولد للمرأة بالقرينة الظاهرة مع
اعترافها لصاحبتها به فلم يحكم بالاعتراف الذى ظهر له بطلائه بالقرينة وترجم أبو عبد الرحمن على الحديث ترجمتين احداهما قال التوسعه للحاكم أن يقول للشئ الذى لا يفعله افعله ليستبين به الحق ثم قال الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم عليه اذا تبين للحاكم أن الحق غير ما اعترف به وكذلك الصحابة عملوا بالقرائن فى حياته وبعده فقال على رضى الله عنه للمرأة التى حملت كتاب حاطب لتخرجن الكتاب أولا لاجردنك وحد عمر رضى الله عنه فى الزنا بالحبل وفى الخمر بالرائحه
وحكى الله سبحانه عن شاهد يوسف حكاية مقرر غير منكر أنه حكم بقرينة شق القميص من دبر على براءته وقال لابن أبى الحقيق وقد زعم ان النفقة أذهبت كنز حيي بن أخطب العهد قريب والمال أكثر من ذلك فاعتبر قرينتين دالتين على بقاء المال وعاقبه حتى اقر به وجوز لأولياء القتيل أن يحلفوا على رجل انه قتله ويقتلونه به بناء على القرائن المرجحة صدقهم وشرع الله سبحانه رجم المرأة اذا شهد عليها زوجها فى اللعان وأبت أن تلاعن للقرينه الظاهرة على صدقه
وشريعته طافحة بذلك لمن تأملها فالحكم بالقرائن الظاهرة من نفس شريعته وما جاء به فهو حجة لقضاة الحق وولاة العدل كما أنه حجة على قضاة السوء وولاة الجور والله المستعان
والمقصود بهذا الفصل أنه ليس الفقراء الصابرون بأحق به من الاغنياء الشاكرين وأحق الناس به أعلمهم بسنته وأتبعهم لها وبالله التوفيق
الباب الخامس والعشرون فى بيان الأمور المضادة للصبر والمنافية له
والقادحة فيه
لما كان الصبر حبس اللسان عن الشكوى الى غير الله والقلب عن التسخط والجوارح عن اللطم وشق الثياب ونحوها كان ما يضاده واقعا على هذه الجملة فمنه الشكوى الى المخلوق فإذا شكى العبد ربه الى مخلوق مثله فقد شكى من يرحمه الى من لا يرحمه ولا تضاده الشكوى الى الله كما تقدم فى شكاية يعقوب الى الله مع قوله
فصبر جميل وأما إخبار المخلوق بالحال فإن كان للاستعانة بإرشاده أو معاونته والتوصل الى زوال صرورة لم يقدح ذلك فى الصبر كإخبار المريض للطبيب بشكايته وإخبار المظلوم لمن ينتصر به بحاله وإخبار المبتلى ببلائه لمن كان يرجو أن يكون فرجه على يديه وقد كان النبى إذا دخل على المريض يساله عن حاله ويقول كيف نجدك وهذا استخبار منه واستعلام بحاله
وأما الأنين فهل يقدح في الصبر فيه روايتان عن الامام أحمد قال أبو الحسين أصحهما الكراهة لما روى عن طاوس أنه كان يكره الأنين في المرض وقال مجاهد كل شيء يكتب على ابن آدم مما يتكلم حتى أنينه في مرضه قال هؤلاء وإن الأنين شكوى بلسان الحال ينافي الصبر
وقال عبد الله بن الامام أحمد قال لي أبي في مرضه الذي توفي فيه اخرج إلي كتاب عبد الله بن ادريس فأخرجت الكتاب فقال أخرج أحاديث ليث بن أبي سليم فأخرجت أحاديث ليث فقال اقرا على أحاديث ليث قال قلت لطلحة إن طاووس كان يكره الأنين في المرض فلما سمع له أنين حتى مات فما سمعت أبي أن في مرضه ذلك إلى ان توفي والرواية الثانية أنه لا يكره ولا يقدح في الصبر قال بكر بن محمد عن أبيه سئل احمد عن المريض يشكو ما يجد من الوجع فقال تعرف فيه شيئا عن رسول الله قال نعم حديث عائشة وارأساه وجعل يستحسنه وقال المروذي دخلت على أبي عبد الله وهو مريض فسألته فتغرغرت عينيه وجعل يخبرني ما مر به في ليلته من العلة
والتحقيق أن الأنين على قسمين انين شكوى فيكره وأنين استراحة وتفريج فلا يكره والله أعلم
وقد روى في أثر ان المريض إذا بدأ بحمد الله ثم أخبر بحاله لم يكن شكوى وقال شقيق البلخي من شكى من مصيبة نزلت به إلى غير الله لم يجد في قلبه حلاوة لطاعة الله أبدا
فصل والشكوى نوعان شكوى بلسان القال وشكوى بلسان الحال ولعلها أعظمها
ولهذا امر النبي من أنعم عليه أن يظهر نعمة الله عليه واعظم من ذلك من يشتكي ربه وهو بخير فهذا امقت الخلق عند ربه
قال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن زيد حدثنا كهمس عن عبد الله بن شقيق قال قال كعب الاحبار أن من حسن العمل سبحة الحديث ومن شر العمل التحذيف قيل لعبد الله ما سبحة الحديث قال سبحان الله وبحمده في خلال الحديث قبل فما التحذيف قال يصبح الناس بخير فيسألون فيزعمون أنه بشر
فصل ومما ينافي الصبر في شق الثياب عند المصيبة ولطم الوجه والضرب
بإحدى اليدين على الأخرى وحلق الشعر والدعاء بالويل ولهذا بريء النبي ممن صلق وحلق وخرق صلق رفع صوته عند المصيبة وحلق رأسه وشق ثيابه ولا ينافيه البكاء والحزن قال الله تعالى عن يعقوب وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قال قتادة كظيم على الحزن فلم يقل إلا خيرا
وقال حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس عن النبي قال ما كان من العين والقلب فمن الله والرحمة وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان وقاتل هشيم عن عبد الرحمن بن يحيي عن حسان بن أبي جبلة قال قال رسول الله من بث فلم يصبر وقال خالد بن أبي عثمان مات ابن لي فرآني سعد بن جبير متقنعا فقال إياك والتقنيع فإنه من الاستكانة وقاتل بكر بن عبد الله المزني كان يقال من الاستكانة الجلوس في البيت بعد المصيبة وقال عبيد بن عمير ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب ولكن الجزع القول السيء والظن السيء
وسئل القاسم بن محمد عن الجزع فقال القول السيء والظن السيء ومات ابن لبعض قضاة البصرة فاجتمع إليه العلماء والفقهاء فتذاكروا ما يتبين به من جزع الرجل
من صبره فاجمعوا انه إذا ترك شيئا مما كان يصنعه فقد جزع وقال الحسين ابن عبد العزيز الحوري مات ابن لي نفيس فقلت لأمه اتقي الله واحتسبيه واصبري فقال مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع
وقال عبد الله بن المبارك أتى رجل يزيد بن يزيد وهو يصلي وإبنه في الموت فقال ابنك يقضي وانت تصلي فقال الرجل إذا كان له عمل يعمله فتركه يوما واحدا كان ذلك خللا في عمله
وقال ثابت أصيب عبد الله بن مطرف بمصيبة فرايته أحسن شئ شارة وأطيبه ريحا فذكرت له ما رأيت فقال تأمرنى يا أبا محمد أن أستكين للشيطان وأريه أنه قد أصابنى سوء والله يا أبا محمد لو كانت لى الدنيا كلها ثم أحذها منى ثم سقانى شربة يوم القيامة ما رايتها ثمنا لتلك الشربة
ومما يقدح فى الصبر اظهار المصيبة والتحدث بها وكتمانها رأس الصبر وقال الحسن بن الصباح فى مسنده حدثنا خلف بن تميم حدثنا زافر بن سليمان عن عبد العزيز بن أبى رواد عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله من البر كتمان المصائب والامراض والصدقة وذكر أنه من بث الصبر فلم يصبر وروى من وجه آخر عن الحسن يرفعه من البر كتمان المصائب وما صبر من بث ولما نزل فى احدى عينى عطاء الماء مكث عشرين سنة لا يعلم به أهله حتى جاء ابنه يوما من قبل عينيه فعلم أن الشيخ قد أصيب
ودخل رجل على داود الطائى فى فراشه فرآه يرجف فقال انا لله وانا اليه راجعون فقال مه لا تعلم بهذا أحدا وقد أقعد قبل ذلك اربعة أشهر لا يعلم بذلك أحد وقال مغيرة شكى الاحنف الى عمه وجع ضرسه فكرر ذلك عليه فقال ما تكرر على لقد ذهبت عينى منذ أربعين سنة فما شكوتها الى أحد فصل
ويضاد الصبر الهلع وهو الجزع عند ورود المصيبة والمنع عند ورود النعمة قال تعالى ان الانسان خلق هلوعا اذا مسه الشر جزوعا واذا مسه الخير منوعا
وهذا تفسير الهلوع قال الجوهرى الهلع أفحش الجزع وقد هلع بالكسر فهو هلع وهلوع وفى الحديث شر ما فى العبد شح هالع وجبن خالع
قلت هنا أمران أمر لفظى وأمر معنوى فأما اللفظى فإنه وصف الشح بكونه هالعا والهالع صاحبه وأكثر ما يسمى هلوعا ولا يقال هالع له فإنه لا يتعدى ففيه وجهان أحدهما أنه على النسب كقولهم ليل نائم وسر كاتم ونهار صائم ويوم عاصف كله عند سيبويه على النسب أى ذو كذا كما قالوا تامر ولابن والثانى أن اللفظه غيرت عن بابها للازدواج مع خالع وله نظير
وأما المعنوى فإن الشح والجبن أردى صفتين فى العبد ولا سيما اذا كان شحه هالما أى ملق له فى الهلع وجبنه خالعا اى قد خلع قلبه من مكانه فلا سماحة ولا شجاعة ولا نفع بماله ولا ببدنه كما يقال لا طعنة ولا جفنة ولا يطرد ولا يشرد بل قد قمعه وصغره وحقره ودساه الشح والخوف والطمع والفزع واذا أردت معرفة الهلوع فهو الذى اذا اصابه الجوع مثلا أظهر الاستجاعه واسرع بها واذا أصابه الالم اسرع الشكايه وأظهرها واذا أصابه القهر أظهر الاستطامه والاستكانه وباء بها سريعا واذا اصابه الجوع أسرع الانطراح على جنبه وأظهر الشكايه واذا بدا له مأخذ طمع طار اليه سريعا واذا ظفر به أحله من نفسه محل الروح فلا احتمال ولا أفضال وهذا كله من صغر النفس ودناءتها وتدسيسها فى البدن واخفائها وتحقيرها والله المستعان
الباب السادس والعشرون فى بيان دخول الصبر والشكر فى صفات الرب جل
جلاله وتسميته بالصبور والشكور ولو لم يكن للصبر والشكر من الفضيلة الا ذلك لكفى به
أما الصبر فقد أطلقه عليه أعرف الخلق به وأعظمهم تنزيها له بصيغة المبالغة ففى الصحيحين من حديث الاعمش عن سعيد بن جبير عن أبى عبد الرحمن السلمى عن ابى موسى عن النبى قال ما أحد أصبر على اذى سمعه من الله تعالى يدعون له ولدا وهو يعافيهم ويرزقهم
وفى أسمائه الحسنى الصبور وهو من أمثلة المبالغة أبلغ من الصابر والصبار وصبره تعالى يفارق صبر المخلوق ولا يماثله من وجوه متعددة منها أنه عن قدرة تامة ومنها أنه لا يخاف الغوث والعبد انما يستعجل الخوف الغوث ومنها أنه لا يلحقه بصبره ألم ولا حزن ولا نقص بوجه ما وظهور اثر الاسم فى العالم مشهود بالعيان كظهور اسمه الحليم والفرق بين الصبر والحلم أن الصبر ثمرة الحلم وموجبه فعلى قدر حلم العبد يكون صبره فالحلم فى صفات الرب تعالى أوسع من الصبر ولهذا جاء اسمه الحليم فى القرآن فى غير موضع ولسعته يقرنه سبحانه باسم العليم كقوله وكان الله عليما حليما والله عليم حليم
وفى أثر أن حملة العرش أربعة إثنان يقولان سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وإثنان يقولان سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك فإن المخلوق يحلم عن جهل ويعفو عن عجز والرب تعالى يحلم مع كمال علمه ويعفو مع تمام قدرته وما أضيف شئ الى شئ أزين من حلم الى علم ومن عفو الى اقتدار ولهذا كان فى دعاء الكرب وصف سبحانه بالحلم مع العظمة وكونه حليما من لوازم ذاته سبحانه
وأما صبره سبحانه فمتعلق بكفر العباد وشركهم ومسبتهم له سبحانه وأنواع معاصيهم وفجورهم فلا يزعجه ذلك كله الى تعجيل العقوبة بل يصبر على عبده ويمهله ويستصلحه ويرفق به ويحلم عنه حتى اذا لم يبق فيه موضع للصنيعه ولا يصلح على الامهال والرفق والحلم ولا ينيب الى ربه ويدخل عليه لا من باب الاحسان والنعم ولا من باب البلاء والنقم أخذه أخذ عزيز مقتدر بعد غاية الأعذار اليه وبذل النصيحة له ودعائه اليه من كل باب وهذا كله من موجبات صفة حلمه وهى صفة ذاتية له لا تزول
وأما الصبر فإذا زال متعلقه كان كسائر الأفعال التى توجد لوجود الحكمة وتزول بزوالها فتأمله فإنه فرق لطيف ما عثرت الحذاق بعشره وقل من تنبه له ونبه عليه وأشكل على كثير منهم هذا الاسم وقالوا لم يأت فى القرآن فأعرضوا عن الاشتغال به صفحا ثم اشتغلوا بالكلام فى صبر العبد وأقسامه ولو أنهم أعطوا هذا
الاسم حقه لعلموا أن الرب تعالى أحق به من جميع الخلق كما هو أحق باسم العليم والرحيم والقدير والسميع والبصير والحى وسائر أسمائه الحسنى من المخلوقين وأن التفاوت الذى بين صبره سبحانه وصبرهم كالتفاوت الذى بين حياته وحياتهم وعلمه وعلمهم وسمعه وأسماعهم وكذا سائر صفاته
ولما علم ذلك أعرف خلقه به قال لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله فعلم أرباب البصائر بصبره سبحانه كعلمهم برحمته وعفوه وستره مع أنه صبر مع كمال علم وقدرة وعظمة وعزة وهو صبر من أعظم مصبور عليه فإن مقابلة أعظم العظماء وملك الملوك وأكرم الأكرمين ومن احسانه فوق كل احسان بغاية القبح وأعظم الفجور وأفحش الفواحش ونسبته الى كل ما لا يليق به والقدح فى كماله وأسمائه وصفاته والإلحاد فى آياته وتكذيب رسله عليهم السلام ومقابلتهم بالسب والشتم والأذى وتحريق أوليائه وقتلهم واهانتهم أمر لا يصبر عليه الا الصبور الذى لا أحد اصبر منه ولا نسبة لصبر جميع الخلق من أولهم الى آخرهم الى صبره سبحانه
واذا اردت معرفة صبر الرب تعالى وحلمه والفرق بينهما فتأمل قوله تعالى ان الله يمسك السموات والارض أن تزولا ولئن زالتا ان أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا وقوله وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا ادا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وقوله وان كان مكرهم لتزول منه الجبال على قراءة من فتح اللام
فأخبر سبحانه أن حلمه ومغفرته يمنعان زوال السموات والارض فالحلم وامساكهما أن تزولا هو الصبر فبحلمه صبر عن معالجة أعدائه وفى الآية اشعار بأن السموات والارض تهم وتستأذن بالزوال لعظم ما يأتى به العباد فيمسكها بحلمه ومغفرته وذلك حبس عقوبته عنهم وهو حقيقة صبره تعالى فالذى عنه الامساك هو صفة الحلم والامساك هو الصبر وهو حبس العقوبة ففرق بين حبس العقوبة وبين ما صدر عنه حبسها فتأمله
وفى مسند الامام أحمد مرفوعا ما من يوم الا والبحر يستأذن ربه أن يغرق بنى آدم وهذا مقتضى الطبيعة لأن كرة الماء تعلو كرة التراب بالطبع ولكن الله
يمسكه بقدرته وحلمه وصبره وكذلك خرور الجبال وتفطير السموات الرب تعالى يحبسها عن ذلك بصبره وحلمه فإن ما يأتى به الكفار والمشركون والفجار فى مقابلة العظمة والجلال والإكرام يقتضى ذلك فجعل سبحانه فى مقابلة هذه الاسباب أسبابا يحبها ويرضاها ويفرح بها أكمل فرح وأتمه تقابل تلك الأسباب التى هي سبب زوال العالم وخرابه فدفعت تلك الأسباب وقاومتها وكان هذا من آثار مدافعة رحمته لغضبه وغلبتها له وسبقها اياه فغلب اثر الرحمة أثر الغضب كما غلبت الرحمة الغضب ولهذا استعاذ النبى بصفة الرضا من صفة السخط وبفعل المعافاة من فعل العقوبة ثم جمع الامرين فى الذات اذ هما قائمان بها فقال أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك فإن ما يستعاذ به هو صادر عن مشيئته وخلقه بإذنه وقضائه فهو الذى أذن فى وقوع الاسباب التى يستعاذ منها خلقا وكونا فمنه السبب والمسبب وهو الذى حرك الانفس والابدان وأعطاها قوى التاثير وهو الذى أوجدها وأعدها ومدها وسلطها على ما شاء وهو الذى يمسكها إذا شاء ويحول بينها وبين قواها وتأثيرها
فتأمل ما تحت قوله أعوذ بك منك من محض التوحيد وقطع الالتفات الى غيره وتكميل التوكل عليه تعالى والاستعانة به وحده وافراده بالخوف والرجاء ودفع الضر وجلب الخير وهو الذى يمس بالضر بمشيئته وهو الذى يدفعه بمشيئته وهو المستعاذ بمشيئته من مشيئته وهو المعيذ من فعله بفعله وهو الذى سبحانه خلق ما يصبر عليه وما يرضى به فاذا أغضبه معاصى الخلق وكفرهم وشركهم وظلمهم ارضاه تسبيح ملائكته وعبادة المؤمنين له وحمدهم اياه وطاعتهم له فيعيذ رضاه من غضبه
قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه ليس عند ربكم ليل ولا نهار نور السموات والارض من نور وجهه وان مقدار يوم من أيامكم عنده اثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالامس أول النهار اليوم فينظر فيها ثلاث ساعات فيطلع منها على ما يكره فيغضبه ذلك فأول ما يعلم بغضبه حملة العرش يجدونه يثقل عليهم فتسبحه حملة العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر
الملائكة حتى ينفخ جبريل فى القرن فلا يبقى شئ الا يسمع فيسبحون الرحمن ثلاث ساعات حتى يمتلئ الرحمن رحمة فتلك ست ساعات قال ثم يؤتى بالارحام فينظر فيها ثلاث ساعات فذلك قوله تعالى هو الذى يصوركم فى الارحام كيف يشاء ويهب لمن يشاء اناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا واناثا ويجعل من يشاء عقيما فتلك تسع ساعات ثم يؤتى بالارزاق فينظر فيها ثلاث ساعات فذلك قوله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وقوله كل يوم هو فى شأن قال هذا شأنكم وشأن ربكم رواه أبو القاسم الطبرانى فى السنة وعثمان بن سعيد الدارمى وشيخ الاسلام الانصارى وابن مندة وابن خزيمة وغيرهم
ولما ذكر سبحانه فى سورة الانعام أعداءه وكفرهم وشركهم وتكذيب رسله ذكر فى أثر ذلك شأن خليله ابراهيم وما اراه من ملكوت السموات والارض وما حاج به قومه فى اظهار دين الله وتوحيده ثم ذكر الانبياء من ذريته وأنه هداهم وآتاهم الكتاب والحكم والنبوة ثم قال فان يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين
فأخبر أنه سبحانه كما جعل فى الارض من يكفر به ويجحد توحيده ويكذب رسله كذلك جعل فيها من عباده من يؤمن بما كفر به أولئك ويصدق بما كذبوا به ويحفظ من حرماته ما أضاعوه وبهذا تماسك العالم العلوى والسفلى والا فلو تبع الحق أهواء أعدائه لفسدت السموات والارض ومن فيهن ولخرب العالم ولهذا جعل سبحانه من أسباب خراب العالم رفع الاسباب الممسكه له من الارض وهى كلامه وبيته ودينه والقائمون به فلا يبقى لتلك الاسباب المقتضية لخراب العالم أسباب تقاومها وتمانعها ولما كان اسم الحليم أدخل فى الاوصاف واسم الصبور فى الافعال كان الحلم أصل الصبر فوقع الاستغناء بذكره فى القرآن عن اسم الصبور والله أعلم فصل
وأما تسميته سبحانه بالشكور فهو فى حديث أبى هريرة وفى القرآن تسميته شاكرا قال الله تعالى وكان الله شاكرا عليما وتسميته أيضا شكور قال الله تعالى والله
شكور حليم وقال تعالى إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا فجمع لهم سبحانه بين الأمرين أن شكر سعيهم وأثابهم عليه والله تعالى يشكر عبده إذا أحسن طاعته ويغفر له اذا تاب اليه فيجمع للعبد بين شكره لإحسانه ومغفرته لاساءته انه غفور شكور
وقد تقدم فى الباب العشرين ذكر حقيقة شكر العبد وأسبابه ووجوهه وأما شكر الرب تعالى فله شأن آخر كشأن صبره فهو أولى بصفة الشكر من كل شكور بل هو الشكور على الحقيقة فإنه يعطى العبد ويوفقه لما يشكره عليه ويشكر القليل من العمل والعطاء فلا يستقله أن يشكره ويشكر الحسنة بعشر أمثالها الى أضعاف مضاعفة ويشكر عبده بقوله بأن يثنى عليه بين ملائكته وفى ملئه الأعلى ويلقى له الشكر بين عباده ويشكره بفعله فإذا ترك له شيئا أعطاه أفضل منه وإذا بذل له شيئا رده عليه أضعافا مضاعفة وهو الذى وفقه للترك والبذل وشكره على هذا وذاك ولما عقر نبيه سليمان الخيل غضبا له اذ شغلته عن ذكره فاراد ألا تشغله مرة أخرى أعاضه عنها متن الريح ولما ترك الصحابة ديارهم وخرجوا منها فى مرضاته أعاضهم عنها أن ملكهم الدنيا وفتحها عليهم ولما احتمل يوسف الصديق ضيق السجن شكر له ذلك بأن مكن له فى الارض يتبوأ منها حيث يشاء ولما بذل الشهداء أبدانهم له حتى مزقها أعداؤه شكر لهم ذلك بأن أعاضهم منها طيرا خضرا أقر أرواحهم فيها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها الى يوم البعث فيردها عليهم أكمل ما تكون وأجمله وأبهاه ولما بذل رسله أعراضهم فيه لأعدائهم فنالوا منهم وسبوهم أعاضهم من ذلك بأن صلى عليهم هو وملائكته وجعل لهم أطيب الثناء فى سمواته وبين خلقه فأخلصهم بخالصة ذكرى الدار
ومن شكره سبحانه أنه يجازى عدوه بما يفعله من الخير والمعروف فى الدنيا ويخفف به عنه يوم القيامة فلا يضيع عليه ما يعمله من الاحسان وهو من أبغض خلقه اليه ومن شكره أنه غفر للمرأة البغى بسقيها كلبا كان قد جهده العطش حتى أكل الثرى وغفر لآخر بتنحيته غصن شوك عن طريق المسلمين فهو سبحانه يشكر العبد على احسانه لنفسه والمخلوق انما يشكر من أحسن اليه
وأبلغ من ذلك أنه سبحانه هو الذى أعطى العبد ما يحسن به الى نفسه وشكره على قليله بالاضعاف المضاعفة التى لا نسبة لإحسان العبد اليها فهو المحسن بإعطاء الاحسان وإعطاء الشكر فمن أحق باسم الشكور منه سبحانه
وتأمل قوله سبحانه ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما كيف تجد فى ضمن هذا الخطاب أن شكره تعالى يأبى تعذيب عباده سدى بغير جرم كما يأبى اضاعة سعيهم باطلا فالشكور لا يضبع أجر محسن ولا يعذب غير مسئ وفى هذا رد لقول من زعم أنه سبحانه يكلفه مالا يطيقه ثم يعذبه على مالا يدخل تحت قدرته تعالى الله عن هذا الظن الكاذب والحسبان الباطل علوا كبيرا فشكره سبحانه اقتضى أن لا يعذب المؤمن الشكور ولا يضيع عمله وذلك من لوازم هذه الصفة فهو منزه عن خلاف ذلك كما ينزه عن سائر العيوب والنقائص التى تنافى كماله وغناه وحمده
ومن شكر سبحانه أنه يخرج العبد من النار بأدنى مثقال ذرة من خير ولا يضيع عليه هذا القدر ومن شكره سبحانه أن العبد من عباده يقوم له مقاما يرضيه بين الناس فيشكره له وينوه بذكره ويخبر به ملائكته وعباده المؤمنين كما شكر لمؤمن آل فرعون ذلك المقام وأثنى به عليه ونوه بذكره بين عباده وكذلك شكره لصاحب يس مقامه ودعوته اليه فلا يهلك عليه بين شكره ومغفرته الا هالك فإنه سبحانه غفور شكور يغفر الكثير من الزلل ويشكر القليل من العمل
ولما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة كان أحب خلقه اليه من اتصف بصفة الشكر كما أن أبغض خلقه اليه من عطلها واتصف بضدها وهذا شأن اسمائه الحسنى أحب خلقه اليه من اتصف بموجبها وأبغضهم اليه من اتصف باضدادها ولهذا يبغض الكفور الظالم والجاهل والقاسي القلب والبخيل والجبان والمهين واللئيم وهو سبحانه جميل يحب الجمال عليم يحب العلماء رحيم يحب الراحمين محسن يحب المحسنين شكور يحب الشاكرين صبور يحب الصابرين جواد يحب أهل الجود ستار يحب أهل الستر قادر يلوم على العجز والمؤمن القوى أحب اليه من المؤمن الضعيف عفو يحب العفو وتر يحب الوتر وكل ما يحبه فهو من آثار اسمائه وصفاته وموجبها وكل ما يبغضه فهو مما يضادها وينافيها
خاتمة
يا من عزم على السفر إلى الله والدار الآخرة قد رفع لك علم فشمر إليه فقد أمكن التشمير واجعل سيرك بين مطالعة منته ومشاهدة عيب النفس والعمل والتقصير فما ابقى مشهد النعمة والذنب للعارف من حسنة يقول هذه منجيتى من عذاب السعير ما المعول إلا على عفوه ومفغرته فكل أحد إليهما فقير أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لى أنا المذنب المسكين وأنت الرحيم الغفور ما تساوى أعمالك لو سلمت مما يبطلها أدنى نعمة من نعمه عليك وأنت مرتهن بشكرها من حين أرسل بها إليك فهل رعيتها بالله حق رعايتها وهى فى تصريفك وطوع يديك فتعلق بحبل الرجاء وادخل من باب التوبة والعمل الصالح انه غفور شكور نهج للعبد طريق النجاة وفتح له أبوابها وعرفه طرق تحصيل السعادة وأعطاه أسبابها وحذره من وبال معصيته وأشهده على نفسه وعلى غيره شؤمها وعقابها وقال إن أطعت فبفضلى وأنا أشكر وإن عصيت فبقضائى وأنا أغفر إن ربنا لغفور شكور أزاح عن العبد العلل وأمره أن يستعيذ به من العجز والكسل ووعده أن يشكر له القليل من العمل ويغفر له الكثير من الزلل إن ربنا لغفور شكور أعطاه ما يشكر عليه ثم يشكره على إحسانه إلى نفسه لا على إحسانه اليه ووعده على إحسانه لنفسه أن يحسن جزاءه ويقربه لديه وأن يغفر له خطاياه إذا تاب منها ولا يفضحه بين يديه ان ربنا لغفور شكور وثقت بعفوه هفوات المذنبين فوسعتها وعكفت بكرمه آمال المحسنين فما قطع طمعها وخرقت السبع الطباق دعوات التائبين والسائلين فسمعها ووسع الخلائق عفوه ومغفرته ورزقه فما من دابة فى الارض الا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ان ربنا لغفور شكور يجود على عبيده بالنوافل قبل السؤال ويعطى سائله ومؤمله فوق ما تعلقت به منهم الآمال ويغفر لمن تاب اليه ولو بلغت ذنوبه عدد الآمواج والحصى والتراب والرمال ان ربنا
لغفور شكور ارحم بعباده من الوالدة بولدها وأفرح بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التى عليها طعامه وشرابه فى الأرض المهلكة اذا وجدها وأشكر للقليل من جميع خلقه فمن تقرب اليه بمثقال ذرة من الخير شكرها وحمدها ان ربنا لغفور شكور تعرف الى عباده بأسمائه وأوصافه وتحبب اليهم بحلمه وآلائه ولم تمنعه معاصيهم بأن جاد عليهم بآلائه ووعد من تاب اليه وأحسن طاعته بمغفرة ذنوبه يوم لقائه ان ربنا لغفور شكور السعادة كلها فى طاعته والأرباح كلها فى معاملته والمحن والبلايا كلها فى معصيته ومخالفته فليس للعبد أنفع من شكره وتوبته ان ربنا لغفور شكور أفاض على خلقه النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذى كتبه ان رحمته تغلب غضبه ان ربنا لغفور شكور يطاع فيشكر وطاعته من توفيقه وفضله ويعصى فيحلم ومعصية العبد من ظلمه وجهله ويتوب اليه فاعل القبيح فيغفر له حتى كأنه لم يكن قط من أهله ان ربنا لغفور شكور الحسنة عنده بعشر أمثالها أو يضاعفها بلا عدد ولا حسبان والسيئة عنده بواحدة ومصيرها الى العفو والغفران وباب التوبة مفتوح لديه منذ خلق السموات والارض الى آخر الزمان ان ربنا لغفور شكور بابه الكريم مناخ الآمال ومحط الأوزار وسماء عطاه لا تقلع عن الغيث بل هى مدرار ويمينه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ان ربنا لغفور شكور لا يلقى وصاياه الا الصابرون ولا يفوز بعطاياه الا الشاكرون ولا يهلك عليه الا الهالكون ولا يشقى بعذابه الا المتمردون ان ربنا لغفور شكور
فإياك أيها المتمرد أن ياخذك على غرة فإنه غيور واذا أقمت على معصيته وهو يمدك بنعمته فاحذره فإنه لم يهملك لكنه صبور وبشراك ايها التائب بمغفرته ورحمته أنه غفور شكور من علم أن الرب شكور تفوع فى معاملته ومن عرف أنه واسع المغفرة تعلق بأذيال مغفرته ومن علم أن رحمته سبقت غضبه لم ييأس من رحمته ان ربنا لغفور شكور من تعلق بصفة من صفاته أخذته بيده حتى تدخله عليه ومن سار اليه بأسمائه الحسنى وصل اليه ومن أحبه أحب أسمائه وصفاته وكانت آثر شئ لديه حياة القلوب فى معرفته ومحبته وكمال الجوارح فى التقرب
إليه بطاعته والقيام بخدمته والألسنة بذكره والثناء عليه بأوصاف مدحته فأهل شكره أهل زيادته وأهل ذكره أهل مجالسته وأهل طاعته أهل كرامته وأهل معصيته لا يقنطهم من رحمته إن تابوا فهو حبيبهم وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم يبتليهم بأنواع المصائب ليكفر عنهم الخطايا ويطهرهم من المعائب انه غفور شكور
والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله حمدا يملا السموات والارض ومابينهما وما شاء ربنا من شيء بعد بمجامع حمده كلها ما علمنا منها وما لم نعلم على نعمه كلها ما علمنا منها وما لم نعلم عدد ما حمد الحامدون وغفل عن ذكره الغافلون وعدد ما جرى به قلمه واحصاه كتابه واحاط به علمه
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد واله وصحبه اجمعين وعلى سائر الانبياء والمرسلين ورضى الله عن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
| |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق