بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ محي الدين السنة قامع البدعة أبو عبد الله الشهير بابن قيم الجوزية رحمه الله ورضى عنه
قاعدة جليلة اذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه
والق سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه اليه فانه خاطب منه لك على لسان رسوله قال تعالي ان في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد وذلك ان تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتض ومحل قابل وشرط لحصول الأثر وانتفاء المانع الذي يمنع منه تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد فقوله ان في ذلك لذكري اشار الى ما تقدم من أول السورة الى ههنا وهذا هو المؤثر وقوله لمن كان له قلب فهذا هو المحل القابل والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله كما قال تعالى إن هو الا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا أي حي القلب وقوله أو ألقى السمع أي وجه سمعه وأصغى حاسة سمعه الى ما يقال له وهذا شرط التأثر بالكلام وقوله وهو شهيد أي شاهد القلب حاضر غير غائب قال ابن قتيبة استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم ليس بغافل ولا ساه وهو اشارة الى المانع من حصول التأثير وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له والنظر فيه وتأمله فاذا حصل المؤثر وهو القرآن والمحل القابل وهو القلب الحي ووجد الشرط وهو الاصغاء وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه الي شيء آخر حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر
فان قيل اذا كان التأثير إنما يتم بمجموع هذه فما وجه دخول أداة أو في قوله
أو القى السمع والموضع موضع واو الجمع لا موضع أو التي هي لأحد الشيئين قيل هذا سؤال جيد والجواب عنه أن يقال خرج الكلام بأو باعتبار حال المخاطب المدعو فأن من الناس من يكون حي القلب واعيه تام الفطرة فإذا فكر بقلبه وجال بفكره دله قلبه وعقله على صحة القرآن وأنه الحق وشهد قلبه بما أخبر به القرآن فكان ورود القرآن على قلبه نورا على نور الفطرة وهذا وصف الذين قيل فيهم ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق وقال في حقهم الله نور السموات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء فهذا نور الفطرة على نور الوحي وهذا حال صاحب القلب الحي الواعي قال ابن القيم وقد ذكرنا ما تضمنت هذه الآية من الأسرار والعبر في كتاب اجتماع الجيوش الاسلامية على غزو المعطلة والجهمية فصاحب القلب يجمع بين قلبه وبين معاني القرآن فيجدها كأنها قد كتبت فيه فهو يقرأها عن ظهر قلب ومن الناس من لا يكون تام الاستعداد واعي القلب كامل الحياة فيحتاج الى شاهد يميز له بين الحق والباطل ولم تبلغ حياة قلبه ونوره وزكاء فطرته مبلغ صاحب القلب الحي الواعي فطريق حصول هدايته ان يفرغ سمعه للكلام وقلبه لتأمله والتفكير فيه وتعقل معانيه فيعلم حينئذ انه الحق فالأول حال من رأى بعينه ما دعى اليه وأخبر به والثاني حال من علم صدق المخبر وتيقنه وقال يكفيني خبره فهو في مقام الايمان والأول في مقام الاحسان هذا قد وصل الى علم اليقين وترقي قلبه منه الى فنزلة عين اليقين وذاك معه التصديق الجازم الذي خرج به من الكفر ودخل به في الاسلام فعين اليقين نوعان نوع في الدنيا ونوع في الآخرة فالحاصل في الدنيا نسبته الى القلب كنسبة الشاهد
الى العين وما أخبرت به الرسل من الغيب يعاين في الآخرة بالابصار وفي لدنيا بالبصائر فهو عين يقين في المرتبتين
فصل وقد جمعت هذه السورة من أصول الايمان ما يكفي ويشفي ويغني عن
كلام أهل الكلام ومعقول أهل المعقول فانها تضمنت تقرير المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوة والايمان بالملائكة وانقسام الناس الى هالك شقي وفائز سعيد وأوصاف هؤلاء وهؤلاء وتضمنت اثبات صفات الكمال لله وتنزيهه عما يضاد كمله من النقائص والعيوب وذكر فيها القيامتين الصغرى والكبرى والعالمين الأكبر وهو عالم الآخرة والأصغر وهو عالم الدنيا وذكر فيها خلق الانسان ووفاته واعادته وحاله عند وفاته ويوم معاده واحاطته سبحانه به من كل وجه حتى علمه بوساوس نفسه واقامة الحفظة عليه يحصون عليه كل لفظة يتكلم بها وانه يوافيه يوم القيامة ومعه سائق يسوقه اليه وشاهد يشهد عليه فاذا أحضره السائق قال هذا ما لدى عتيد أي هذا الذي أمرت باحضاره قد احضرته فيقال عند احضاره القيا في جهنم كل كفار عنيد كما يحضر الجاني الي حضرة السلطان فيقال هذا فلان قد أحضرته فيقول اذهبوا به الى السجن وعاقبوه بما يستحقه
وتأمل كيف دلت السورة صريحا على أن الله سبحانه يعيد هذا الجسد بعينه الذي أطاع وعصى فينعمه ويعذبه كما ينعم الروح التي آمنت بعينها ويعذب التي كفرت بعينها لا انه سبحانه يخلق روحا أخرى غير هذه فينعمها ويعذبها كما قاله من لم يعرف المعاد الذي أخبرت به الرسل حيث زعم ان الله سبحانه يخلق بدنا غير هذا البدن من كل وجه عليه يقع النعيم والعذاب والروح عنده عرض من أعراض البدن فيخلق روحا غير هذه الروح وبدنا غير هذا البدن
وهذا غير ما اتفقت عليه الرسل ودل عليه القرآن والسنة وسائر كتب الله تعالي وهذا في الحقيقة انكار للمعاد وموافقة لقول من أنكره من المكذبين فانهم لم ينكروا قدرة الله علي خلق أجسام أخر غير هذه الأجسام يعذبها وينعمها كيف وهم يشهدون النوع الانساني يخلق شيئا بعد شيء فكل وقت يخلق الله سبحانه أجساما وأرواحا غير الأجسام التي فنيت فكيف يتعجبون من شيء يشاهدونه عيانا وانما تعجبوا من عودهم باعيانهم بعد أن مزقهم البلي وصاروا عظاما ورفاتا فتعجبوا ان يكونوا هم باعيانهم مبعوثين للجزاء ولهذا قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون وقالوا ذلك رجع بعيد ولو كان الجزاء انما هو لاجسام غير هذه ل يكن ذلك بعثا ولا رجعا بل يكون ابتداء ولم يكن لقوله قد علمنا ما تنقص الأرض منهم كبير معني فأنه سبحانه جعل هذا جوابا لسؤال مقدر وهو انه يميز تلك الأجزاء التي اختلطت بالارض واستحالت الي العناصر بحيث لا تتميز فأخبر سبحانه انه قد علم ما تنقصه الارض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم وانه كما هو عالم بتلك الأجزاء فهو قادر على تحصيلها وجمعها بعد تفرقها وتأليفها خلقا جديدا وهو سبحانه يقرر المعاد بذكر كمال علمه وكمال قدرته وكمال حكمته فان شبه المنكرين له كلها تعود الى ثلاثة أنواع أحدها اختلاط اجزائهم بأجزاء الارض علي وجه لا يتميز ولا يحصل معها تميز شخص عن شخص الثاني ان القدرة لا تتعلق بذلك الثالث ان ذلك أمر لا فائدة فيه أو انما الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الانساني شيئا بعد شيء هكذا ابدا كلما مات جيل خلفه جيل آخر فأما ان يميت النوع الانساني كله ثم يحيه بعد ذلك فلا حكمة في ذلك فجاءت براهين المعاد في القرآن مبينة على ثلاثة أصول أحدها تقرير كمال علم الرب سبحانه كما قال في جواب من قال من يحي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم وقال وان الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل ان ربك هو الخلاق العليم وقال قد علمنا
ما تنقص الأرض منهم والثاني تقرير كمال قدرته كقوله أو ليس الذي خلق السموات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم وقوله بلي قادرين على أن نسوي بنانه وقوله ذلك بأن الله هو الحق وانه يحي الموتى وانه على كل شيء قدير ويجمع سبحانه بين الأمرين كما في قوله أو ليس الذي خلق السموات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم الثالث كمال حكمته كقوله وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لاعبين وقوله وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا وقوله أيحسب الانسان أن يترك سدى وقوله أفحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم الينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق وقوله أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ولهذا كان الصواب ان المعاد معلوم بالعقل مع الشرع وان كمال الرب تعالي وكمال اسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه وأنه منزه عما يقوله منكروه كما ينزه كماله عن سائر العيوب والنقائص ثم أخبر سبحانه أن المنكرين لذلك لما كذبوا بالحق اختلط عليهم أمرهم فهم في أمر مريج مختلط لا يحصلون منه على شيء ثم دعاهم الي النظر في العالم العلوي وبنائه وارتفاعه واستوائه وحسنه والتئامه ثم الى العالم السفلي وهو الارض وكيف بسطها وهيأها بالبسط لما يراد منها وثبتها بالجبال وأودع فيها المنافع وأنبت فيها من كل صنف حسن من أصناف النبات على اختلاف أشكاله وألوانه ومقاديره ومنافعه وصفاته وأن ذلك تبصرة اذا تأملها العبد المنيب وتبصر بها تذكر ما دلت عليه مما اخبرت به الرسل من التوحيد والمعاد فالناظر فيها يتبصر أولا ثم يتذكر ثانيا وان هذا لا يحصل الا لعبد منيب الي الله بقلبه وجوارحه ثم دعاهم الي التفكر في مادة أرزاقهم وأقواتهم وملابسهم ومراكبهم وجناتهم وهو الماء الذي أنزله من السماء وبارك فيه حتي أنبت به جنات مختلفة الثمار والفواكه ما بين أبيض وأسود وأحمر وأصفر وحلو وحامض وبين ذلك مع اختلاف منابعها وتنوع أجناسها وأنبت به
الحبوب كلها علي تنوعها واختلاف منافعها وصفاتها واشكالها ومقاديرها ثم أفرد النخل لما فيه من موضع العبرة والدلالة التي لا تخفي علي المتأمل وأحيا به الارض بعد موتها ثم قال كذلك الخروج أي مثل هذا الاخراج من الارض الفواكه والثمار والأقوات والحبوب خروجكم من الارض بعد ما غيبتم فيها وقد ذكرنا هذا القياس وامثاله من المقاييس الواقعة في القرآن في كتابنا المعالم وبينا بعض ما فيها من الاسرار والعبر ثم انتقل سبحانه الي تقرير النبوة باحسن تقرير وأوجر لفظ وأبعده عن كل شبهه وشك فأخبر انه ارسل الى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون رسلا فكذبوهم فاهلكهم بأنواع الهلاك وصدق فيهم وعيده الذي أو عدتهم به رسله ان لم يؤمنوا وهذا تقرير لنبوتهم ولنبوة من أخبر بذلك عنهم من غير أن يتعلم ذلك من معلم ولا قرأه في كتاب بل أخبر به إخبارا مفصلا مطابقا لما عند أهل الكتاب ولا يرد على هذا الا سؤال البهت والمكابرة على جحد الضروريات بانه لم يكن شيء من ذلك أو أن حوادث الدهر ونكباته أصابتهم كما أصابت غيرهم وصاحب هذا السؤال يعلم من نفسه انه باهت مباحث جاحد لما شهد به العيان وتناقلته القرن قرنا بعد قررن فانكاره بمنزلة انكار وجود المشهورين من الملوك والعلماء والبلاد النائية ثم عاد سبحانه الي تقرير المعاد بقوله أفعيينا بالخلق الأول يقال لكل من عجز عن شيء عيى به وعيى فلان بهذا الأمر قال الشاعر
عيوا بأمرهم كما ... عييت ببيضتها الحمامة ومنه قوله تعالى ولم يعي بخلقهن قال ابن عباس يريد افعجزنا وكذلك قال مقاتل قلت هذا تفسير بلازم اللفظة وحقيقتها أعم من ذلك فان العرب تقول أعياني أن اعرف كذا وعييت به اذا لم تهتد له لوجهه ولم تقدر على معرفته وتحصيله فتقول أعياني دواؤك اذا لم تهتد ولم تقف عليه ولازم هذا المعنى العجز عنه والبيت الذي استشهدوا به شاهد لهذا المعنى فان الحمامة لم تعجز عن
بيضتها ولكن أعيادها اذا أرادت أن تبيض أين ترمي بالبيضة فهي تدور وتجول حتى ترمي بها فاذا باضت أعياها أين تحفظها وتودعها حتى لا تنال فهي تنقلها من مكان الى مكان وتحار أين تجعل مقرها كما هو حال من عي بأمره فلم يدر من أين يقصد له ومن أين يأتيه وليس المراد بالاعياء في هذه الآية التعب كما يظنه من لم يعرف تفسير القرآن بل هذا المعنى هو الذي نفاه سبحانه عن نفسه في آخر السورة بقوله وما مسنا من لغوب ثم أخبر سبحانه انهم في لبس من خلق جديد أي أنهم التبس عليهم اعادة الخلق خلقا جديدا ثم نبههم على ما هو من أعظم آيات قدرته وشواهد ربوبيته وأدلة المعاد وهو خلق الانسان فانه من أعظم الأدلة علي التوحيد والمعاد وأي دليل أوضح من تركيب هذه الصورة الآدمية بأعضائها وقواها وصفاتها وما فيها من اللحم والعظم والعروق والأعصاب والرباطات والمنافذ والآلات والعلوم والارادات والصناعات كل ذلك من نطفة ماء فلو أنصف العبد ربه لاكتفى بفكره في نفسه واستدل بوجوده على جميع ما أخبرت به الرسل عن الله واسمائه وصفاته ثم أخبر سبحانه عن احاطة علمه به حتى علم وساوس نفسه ثم أخبر عن قربه إليه بالعلم والاحاطه وان ذلك أدنى إليه من العرق الذي هو داخل بدنه فهو أقرب إليه بالقدرة عليه والعلم به من ذلك العرق وقال شيخنا المراد بقول نحن أى ملائكتنا كما قال فاذا قرأناه فاتبع قرآنه اى اذا قرأه عليك رسولنا جبريل قال ويدل عليه قوله اذ يتلقى المتلقيان فقيد القرب المذكور بتلقي الملكين ولو كان المراد به قرب الذات لم يتقيد بوقت تلقي الملكين فلا في صحبه الآية لحلولى ولا معطل ثم أخبر سبحانه أن على يمينه وشماله ملكين يكتبان أعماله وأقواله ونبه باحصاء الاقوال وكتابتها على كتابة الاعمال التي هي أقل وقوعا وأعظم أثرا من الاقوال وهي غايات الاقوال ونهايتها ثم أخبر عن القيامة الصغرى وهي سكرة الموت وانها تجيء بالحق وهو لقاؤه سبحانه والقدوم عليه وعرض الروح عليه والثواب والعقاب الذي تعجل
لها قبل القيامة الكبرى ثم ذكر القيامة الكبرى بقول ونفخ فى الصور ذلك يوم الوعيد ثم أخبر عن أحوال الخلق فى هذا اليوم وان كل أحد يأتي الله سبحانه ذلك اليوم ومعه سائق يسوقه وشهيد يشهد عليه وهذا غير شهادة جوارحه وغير شهادة الأرض التي كان عليها له عليه وغير شهادة رسوله والمؤمنين فان الله سبحانه يستشهد على العبد الحفظة والأنبياء والأمكنة التى عملوا عليها الخير والشر والجلود التى عصوه بها ولا يحكم بينهم بمجرد علمه وهو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين
ولهذا أخبر نبيه أنه يحكم بين الناس بما سمعه من اقرارهم وشهادة البينة لا بمجرد علمه فكيف يسوغ لحاكم أن يحكم بمجرد علمه من غير بينة ولا اقرار ثم أخبر سبحانه ان الانسان فى غفلة من هذا الشأن الذى هو حقيق بأن لا يغفل عنه وان لا يزال على ذكره وباله وقال فى غفلة من هذا ولم يقل عنه كما قال وانهم لفى شك منه مريب ولم يقل فى شك فيه وجاء هذا فى المصدر وان لم يجىء فى الفعل فلا يقال غفلت منه ولا شككت منه كأن غفلته وشكه ابتداء منه فهو مبدأ غفلته وشكه وهذا أبلغ من أن يقال فى غفلة عنه وشك فيه فإنه جعل ما ينبغى أن يكون مبدأ التذكرة واليقين ومنشأهما مبدأ للغفلة والشك ثم أخبر أن غطاء الغفلة والذهول يكشف عنه ذلك اليوم كما يكشف غطاء النوم عن القلب فيستيقظ وعن العين فتنفتح فنسبه كشف هذا الغطاء عن العبد عند المعاينة كنسبه كشف غطاء النوم عنه عند الانتباه ثم أخبر سبحانه أن قرينه وهو الذى قرن به فى الدنيا من الملائكة يكتب عمله وقوله يقول لما يحضره هذا الذى كنت وكلتنى به في الدنيا قد أحضرته وأتيتك به هذا قول مجاهد وقال ابن قتيبة المعنى هذا ما كتبته عليه وأحصيته من قوله وعمله حاضر عندى والتحقيق ان الآية نتضمن الأمرين اى هذا الشخص الذي وكلت به وهذا عمله الذي أحصيته عليه فحينئذ يقال ألقيا فى جهنم وهذا اما أن يكون خطابا للسائق والشهيد
أو خطابا للملك الموكل بعذابه وان كان واحدا وهو مذهب معروف من مذاهب العرب فى خطابها أو تكون الالف منقلبة عن نون التأكيد الخفيفة ثم أجري الوصل مجري الوقف ثم ذكر صفات هذا الملقى فذكر له ست صفات أحدها أنه كفار لنعم الله وحقوقه كفار بدينه وتوحيده واسمائه وصفاته كفار برسله وملائكته كفار بكتبه ولقائه الثانية انه معاند للحق بدفعه جحدا وعنادا الثالثة انه مناع للخير وهذا يعم منعه للخير الذى هو احسان الى نفسه من الطاعات والقرب الى الله والخير الذى هو احسان الى الناس فليس فيه خير لنفسه ولا لبنى جنسه كما هو الحال أكثر الخلق الرابعة أنه مع منعه للخير معتد على الناس ظلوم غشوم معتد عليهم بيده ولسانه الخامسة انه مريب أي صاحب ريب وشك ومع هذا فهو آت لكل ريبة يقال فلان مريب اذا كان صاحب ريبة السادسة انه مع ذلك مشرك بالله قد اتخذ مع الله الها آخر يعبده ويحبه ويغضب له ويرضي له ويحلف باسمه وينذر له ويوالي فيه ويعادى فيه فيختصم هو وقرينه من الشياطين ويحيل الامر عليه وانه هو الذى أطغاه وأضله فيقول قرينه لم يكن لى قوة أن أضله وأطغيه ولكن كان فى ضلال بعيد اختاره لنفسه وآثره على الحق كما قال ابليس لاهل النار وما كان لى عليكم من سلطان الا ان دعوتكم فاستجبتم لي وعلي هذا فالقرين هنا هو شيطانه يختصمان عند الله وقالت طائفة بل قرينه ههنا هو الملك فيدعى عليه انه زاد عليه فيما كتبه عليه وطغى وانه لم يفعل ذلك كله وانه أعجله بالكتابة عن التوبة ولم يمهله حتى يتوب فيقول الملك ما زدت فى الكتابة على ما عمل ولا أعجلته عن التوبة ولكن كان فى ضلال بعيد فيقول الرب تعالي لا تختصموا لدى وقد أخبر سبحانه عن اختصام الكفار والشياطين بين يديه فى سورة الصافات والأعراف واخبر عن اختصام الناس بين يديه فى سورة الزمر وأخبر عن اختصام أهل النار فيها فى سورة الشعراء وسورة ص ثم اخبر سبحانه انه لا يبدل القول لديه فقيل المراد بذلك قوله لاملأن جهنم من الجنة والناس
أجمعين ووعده لاهل الايمان بالجنة وان هذا لا يبدل ولا يخلف قال ابن عباس يريد مالو عدي خلف لاهل طاعتى ولا أهل معصيتي قال مجاهد قد قضيت ما أنا قاض وهذا اصح القولين فى الآية وفيها قول آخر ان المعنى ما يغير القول عندى بالكذب والتلبيس كما يغير عند الملوك والحكام فيكون المراد بالقول قول المختصمين وهو اختيار الفراء وابن قتيبة قال الفراء المعني ما يكذب عندى لعلمى بالغيب وقال ابن قتيبة اى ما يحرف القول عندى ولا يزاد فيه ولا ينقص منه قال لانه قال القول عندى ولم يقل قولي وهذا كما يقال لا يكذب عندى فعلي القول الاول يكون قوله وما انا بظلام للعبيد من تمام قوله ما يبدل القول لدى فى المعنى أى ما قلته ووعدت به لا بد من فعله ومع هذا فهو عدل لا ظلم فيه ولا جور وعلى الثاني يكون قد وصف نفسه بأمرين أحدهما ان كمال علمه واطلاعه يمنع من تبديل القول بين يديه وترويج الباطل عليه وكمال عدله وغناه يمنع من ظلمه لعبيده ثم أخبر عن سعة جهنم وانها كلما القى فيها تقول هل من مزيد وأخطأ من قال ان ذلك للنفى اى ليس من مزيد والحديث الصحيح يرد هذا التأويل ثم أخبر عن تقريب الجنة من المتقين وان أهلها هم الذين اتصفوا بهذه الصفات الاربع أحداها ان يكون أوابا أي رجاعا الى الله من معصيته الى طاعته ومن الغفلة عنه الي ذكره قال عبيد بن عمير الاواب الذي يتذكر ذنوبه ثم يستغفر منها وقال مجاهد هو الذي اذا ذكر ذنبه في الخلاء استغفر منه وقال سعيد بن المسيب هو الذى يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب الثانية ان يكون حفيظا قال ابن عباس لما ائتمنه الله عليه وافترضه وقال قتادة حافظ لما استودعه الله من حقه ونعمته ولما كانت النفس لها قوتان قوة الطلب وقوة الامساك كان الأواب مستعملا لقوة الطلب فى رجوعه الى الله ومرضاته وطاعته والحفيظ مستعملا لقوة الحفظ فى الامساك عن معاصيه ونواهيه فالحفيظ الممسك نفسه عما حرم عليه والأواب المقبل على الله بطاعته الثالثة
قوله من خشى الرحمن بالغيب يتضمن الاقرار بوجوده وربوبيته وقدرته وعلمه واطلاعه على تفاصيل أحوال العبد ويتضمن الاقرار بكتبه ورسله وأمره ونهيه ويتضمن الاقرار بوعده ووعيده ولقائه فلا تصح خشية الرحمن بالغيب الا بعد هذا كله الرابعة قوله وجاء بقلب منيب قال ابن عباس راجع عن معاصى الله مقبل علي طاعة الله وحقيقة الانابة عكوف القلب علي طاعة الله ومحبته والاقبال عليه ثم ذكر سبحانه جزاء من قامت به هذه الأوصاف بقوله ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ثم خوفهم بان يصيبهم من الهلاك ما أصاب من قبلهم وانهم كانوا أشد منهم بطشا ولم يدفع عنهم الهلاك شدة بطشهم ولهم عند الهلاك تقلبوا وطافوا فى البلاد وهل يجدون محيصا ومنجى من عذاب الله قال قتادة حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله لهم مدركا وقال الزجاج طوفوا وفتشوا فلم يرو محيصا من الموت وحقيقة ذلك أنهم طلبوا المهرب من الموت فلم يجدوه ثم أخبر سبحانه ان فى هذا الذى ذكر ذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد ثم أخبر انه خلق السموات والارض وما بينهما فى ستة أيام ولم يمسه من تعب ولا اعياء تكذيب لاعدائه من اليهود حيث قالوا انه استراح فى اليوم السابع ثم أمر نبيه بالتأسى به سبحانه فى الصبر على ما يقول اعداؤه فيه كما انه سبحانه صبر على قول اليهود انه استراح ولا أحد أصبر علي أذى يسمعه منه ثم أمره بما يستعين به على الصبر وهو التسبيح بحمد ربه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وبالليل وأدبار السجود فقيل هو الوتر وقيل الركعتان بعد المغرب والاول قول ابن عباس والثاني قول عمر وعلي وأبي هريرة والحسن بن على واحدي الروايتين عن ابن عباس وعن ابن عباس رواية ثالثة انه التسبيح باللسان أدبار الصلاة المكتوبات ثم ختم السورة بذكر المعاد ونداء المنادى برجوع الأرواح الي أجسادها للحشر وأخبر ان هذا النداء من مكان قريب يسمعه كل أحد يوم يسمعون الصيحة بالحق
بالبعث ولقاء الله يوم تشقق الارض عنهم كما تشقق عن النبات فيخرجون سراعا من غير مهلة ولا بطء ذلك حشر يسير عليه سبحانه ثم أخبر سبحانه انه عالم بما يقول اعداؤه وذلك يتضمن مجازاته لهم بقولهم اذ لم يخف عليه وهو سبحانه يذكر علمه وقدرته لتحقيق الجزاء ثم أخبره انه ليس بمسلط عليهم ولا قهار ولم يبعث ليجبرهم على الاسلام ويكرههم عليه وأمره أن يذكر بكلامه من يخاف وعيده فهو الذي ينتفع بالتذكير وأما من لا يؤمن بلقائه ولا يخاف وعيده ولا يرجو ثوابه فلا ينتفع بالتذكير فائدة
قول النبى لعمر وما يدريك ان الله اطلع علي أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم أشكل علي كثير من الناس معناه فأن ظاهره
إباحة كل الأعمال لهم وتخييرهم فيما شاؤا منها وذلك ممتنع فقالت طائفة منهم ابن الجوزي ليس المراد من قوله اعملوا الاستقبال وانما هو للماضي وتقديره أي عمل كان لكم فقد غفرته قال ويدل على ذلك شيئان أحدهما أنه لو كان للمستقبل كان جوابه قوله فسأغفر لكم والثانى انه كان يكون اطلاقا فى الذنوب ولا وجه لذلك وحقيقة هذا الجواب اني قد غفرت لكم بهذه الغزوة ما سلف من ذنوبكم لكنه ضعيف من وجهين أحدهما ان لفظ اعملوا يأباه فانه للاستقبال دون الماضى وقوله قد غفرت لكم لا يوجب أن يكون اعملوا مثله فان قوله قد غفرت تحقيق لوقوع المغفرة فى المستقبل كقوله أتي أمر الله وجاء ربك ونظائره الثاني أن نفس الحديث يرده فان سببه قصة حاطب
وتجسسه علي النبى وذلك ذنب واقع بعد غزوة بدر لا قبلها وهو سبب الحديث فهو مراد منه قطعا فالذي نظن فى ذلك والله أعلم ان هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينهم بل يموتون على الاسلام وانهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب ولكن لا يتركهم سبحانه مصرين عليها بل يوفقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو أثر ذلك ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم لانه قد تحقق ذلك فيهم وأنهم مغفور لهم ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم كما لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض وثوقا بالمغفرة فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار علي القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك الى صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة ولا جهاد وهذا محال ومن أوجب الواجبات التوبة بعد الذنب فضمان المغفرة لا يوجب تعطيل اسباب المغفرة ونظير هذا قوله فى الحديث الآخر أذنب عبد ذنبا فقال أى رب أذنبت ذنبا فاغفره لى فغفر له ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنبا آخر فقال أى رب أصبت ذنبا فاغفر لى فغفر له ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنبا آخر فقال رب أصبت ذنبا فاغفره لى فقال الله علم عبدى ان له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدى فليعمل ما شاء فليس فى هذا اطلاق واذن منه سبحانه له فى المحرمات والجرائم وانما يدل على أنه يغفر له ما دام كذلك اذا أذنب تاب
واختصاص هذا العبد بهذا لانه قد علم انه لا يصر على ذنب وانه كلما أذنب تاب حكم يعم كل من كانت حاله حاله لكن ذلك العبد مقطوع له بذلك كما قطع به لاهل بدر وكذلك كل من بشره رسول الله بالجنة أو أخبره بأنه مغفور له لم يفهم منه هو ولا غيره من الصحابة اطلاق الذنوب والمعاصى له ومسامحته بترك الواجبات بل كان هؤلاء أشد اجتهادا وحذرا وخوفا بعد البشارة منهم قبلها كالعشرة المشهود لهم بالجنة وقد كان الصديق شديد الحذر والمخافة وكذلك عمر فلهم علموا أن البشارة المطلقة مقيدة بشروطها والاستمرار عليها الى الموت ومقيدة بانتقاء موانعها ولم يفهم أحد منهم من ذلك الاطلاق الاذن فيما شاؤا من الأعمال
فائدة جليلة قوله تعالى
هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور أخبر سبحانه أنه جعل الارض ذلولا منقادة للوطء عليها وحفرها وشقها والبناء عليها ولم يجعلها مستصعبة ممتنعة على من أراد ذلك منها واخبر سبحانه انه جعلها مهادا وفراشا وبساطا وقرارا وكفاتا وأخبر أنه دحاها وطحاها واخرج منها ماءها ومرعاها وثبتها بالجبال ونهج فيها الفجاج والطرق وأجرى فيها الأنهار والعيون وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ومن بركتها ان الحيوانات كلها وأرزاقها وأقواتها تخرج منها ومن بركاتها انك تودع فيها الحب فتخرجه لك أضعاف أضعاف ما كان ومن بركاتها انها تحمل الأذى علي ظهرها وتخرج لك من بطنها أحسن الأشياء وأنفعها فتواري منه كل قبيح وتخرج له كل مليح ومن بركتها أنها تستر قبائح العبد وفضلات بدنه وتواريها وتضمه وتؤويه وتخرج له طعامه وشرابه فهى أحمل شىء للأذى وأعوده بالنفع فلا كان من التراب خير منه وأبعد من الأذى وأقرب الى الخير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق