وأما التباريح فيقال تباريح الحب وتباريح الشوق وتباريح الجوى وبرح به الحب والشوق إذا اصابه منه البرح وهو الشدة قال في الصحاح لقيت منه برحا بارحا أي شدة وأذى قال الشاعر
أجد هذا عمرك الله كلما ... دعاك الهوى برح لعينيك بارح
ولقيت منه بنات برح وبني برح ولقيت منه البرحين والبرحين بكسر الباء وضمها أي الشدائد والدواهي فصل
وأما السدم بالتحريك فهو الحب الذي يتبعه ندم وحزن قال في الصحاح السدم بالتحريك الندم والحزن وقد سدم بالكسر ورجل نادم سادم وندمان سدمان وهو إتباع وما له هم ولا سدم إلا ذاك
فصل
وأما الغمرات فهي جمع غمرة والغمرة ما يغمر القلب من حب أو سكر أو غفلة قال الله تعالى قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون أي في غفلة قد غمرت قلوبهم وقال تعالى فذرهم في غمرتهم حتى حين ومنه الماء الغمر الكثير الذي يغطي من دخل فيه ومنه غمرات الموت أي شدائده وكذلك غمرات الحب وهو ما يغطي قلب المحب فيغمره ومنه قولهم رجل غمر الرداء كناية عن السخاء لأنه يغمر العيوب أي يغطيها فلا يظهر مع السخاء عيب قال كثير
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقاب المال
وقال القطامي يصف سفينة نوح
إلى الجودي حتى صار حجرا ... وكان لذلك الغمر انحسار
أي لذلك الماء الذي غمر الأرض ومن عليها فصل وأما الوهل فهو بتحريك الهاء وأصله الفزع والروع يقال وهل يوهل وهو وهل ومستوهل قال القطامي يصف إبلا
وترى لجيضتهن عند رحيلنا ... وهلا كأن بهن جنة أولق
وإنما كان الوهل من أسماء الحب لما فيه من الروع ومنه يقال جمال رائع فإن قيل ما سبب روعة الجمال ولأي شيء إذا رأى المحب محبوبه فجأة يرتاع لذلك ويصفر لونه ويبهت قال الشاعر
وما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى لا أكاد أجيب
وكثير من الناس يرى محبوبه فيصفر ويرتعد قيل هذا مما خفي سببه على أكثر المحبين فلا يدرون ما سببه فقيل سببه أن الجمال سلطان على القلوب وإذا بدا راع القلوب بسلطانه كما يروعها الملك ونحوه ممن له سلطان على الأبدان فسلطان الجمال والمحبة على القلوب وسلطان الملوك على الأبدان فإذا كان السلطان الذي على الأبدان يروع إذا بدا فكيف بالسلطان الذي هو أعظم منه قالوا وأيضا فإن الجمال يأسر القلب فيحس القلب بأنه أسير ولا بد لتلك الصورة التي بدت له فيرتاع كما يرتاع الرجل إذا أحس بمن يأسره ولهذا إذا أمن الناظر من ذلك لم تحصل له هذه الروعة قال الشاعر
علامة من كان الهوى بفؤاده ... إذا ما رأى محبوبه يتغير فصل
وأما الشجن فهو من أسمائه فإن الشجن الحاجة حيث كانت وحاجة المحب أشد شيء إلى محبوبه قال الراجز
إني سأبدي لك فيما أبدي ... لي شجنان شجن بنجد
وشجن لي ببلاد السند ...
والجمع شجون قال والنفس شتى شجونها ويجمع على أشجان قال الشاعر
تحمل أصحابي ولم يجدوا وجدي ... وللناس أشجان ولي شجن وحدي
قد شجنتني الحاجة تشجنني شجنا إذا حبستك ووجه آخر أيضا وهو أن الشجن الحزن والجمع أشجان وقد شجن بالكسر فهو شاجن وأشجنه غيره وشجنه أي أحزنه والحب فيه الأمران هذا وهذا فصل
وأما اللاعج فهو اسم فاعل من قولهم لعجه الضرب إذا آلمه وأحرق جلده قال الهذلي
ضربا أليما بسبت يلعج الجلدا ...
ويقال هو لاعج لحرقة الفؤاد من الحب فصل
وأما الاكتئاب فهو افتعال من الكآبة وهي سوء الحال والانكسار من الحزن وقد كئب الرجل يكأب كأبة وكآبة كرأفة ورآفة ونشأة
ونشاءة فهو كئيب وامرأة كئيبة وكأباء أيضا قال الراجز
أو أن ترى كأباء لم تبر نشقي ...
واكتأب الرجل مثله ورماد مكتئب اللون إذا ضرب إلى السواد كما يكون وجه الكئيب والكآبة تتولد من حصول الحب وفوت المحبوب فتحدث بينهما حالة سيئة تسمى الكآبة فصل
وأما الوصب فهو ألم الحب ومرضه فإن أصل الوصب المرض وقد وصب الرجل يوصب فهو وصب وأوصبه الله فهو موصب والموصب بالتشديد الكثير الأوجاع وفي الحديث الصحيح لا يصيب المؤمن من هم ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ووصب الشيء يصب وصوبا إذا دام تقول وصب الرجل على الأمر إذا داوم عليه قال الله تعالى ولهم عذاب واصب وقال تعالى وله الدين واصبا أي الطاعة دائمة فصل
وأما الحزن فقد عد من أسماء المحبة والصواب أنه ليس من أسمائها وإنما هو حالة تحدث للمحب وهي ورود المكروه عليه وهو خلاف المسرة ولما كان الحب لا يخلو من ورود مالا يسر على قلب المحب كان الحزن من لوازمه
وفي الحديث الصحيح أن النبي كان يقول اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال فاستعاذ من ثمانية أشياء كل شيئين منهما قرينان فالهم والحزن قرينان فإن ورود المكروه على القلب إ نكان لما مضى فهو الحزن وإن كان لما يستقبل فهو الهم والعجز والكسل قرينان فإن تخلف العبد عن كماله إن كان من عدم القدرة فهو العجز وإن كان من عدم الإرادة فهو الكسل والجبن والبخل قرينان فإن الرجل يراد منه النفع بماله أو ببدنه فالجبان لا ينفع ببدنه والبخيل لا ينفع بماله وضلع الدين وغلبة الرجال قرينان فإن قهر الناس نوعان نوع بحق فهو ضلع الدين ونوع بباطل فهو غلبة الرجال وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن أهل الجنة الخوف والحزن فلا يحزنون على ما مضى ولا يخافون مما يأتي ولا يطيب العيش إلا بذلك والحب يلزمه الخوف والحزن فصل
وأما الكمد فمن أحكام المحبة في الحقيقة وليس من أسمائها ولكن المتكلمون في هذا الباب لا يفرقون بين اسم الشيء ولازمه وحكمه والكمد الحزن المكتوم تقول منه كمد الرجل فهو كمد وكميد والكمدة تغير اللون وأكمد القصار الثوب إذا لم ينقه فصل
وأما اللذع فهو من أحكام المحبة أيضا وأصله من لذع النار يقال
لذعته النار لذعا أحرقته ثم شبهوا لذع اللسان بلذع النار فقالوا لذعه بلسانه أي أحرقه بكلامه يقال أعوذ بالله من لواذعه فصل
وأما الحرق فهي أيضا من عوارض الحب وآثاره والحرقة تكون من الحب تارة ومنه قولهم مالك حرقة على هذا الأمر وتكون من الغيظ ومنه في الحديث تركتهم يتحرقون عليكم فصل
وأما السهد فهو أيضا من آثار المحبة ولوازمها فالسهاد الأرق وقد سهد الرجل بالكسر يسهد سهدا والسهد بضم السين والهاء القليل النوم قال أبو كبير الهذلي
فأتت به حوش الجنان مبطنا ... سهدا إذا ما نام ليل الهوجل
وسهدته أنا فهو مسهد ... فصل وأما الأرق فهو أيضا من آثار المحبة ولوازمها فإنه السهر وقد أرقت بالكسر أي سهرت وكذلك ائترقت على افتعلت فأنا أرق وأرقني كذا تأريقا أي سهرني فصل وأما اللهف فمن أحكامها وآثارها أيضا يقال لهف بالكسر يلهف
لهفا أي حزن وتحسر وكذلك التلهف على الشيء وقولهم يا لهف فلان كلمة يتحسر بها على ما فات واللهفان المتحسر واللهيف المضطر فصل
وأما الحنين فقال في الصحاح الحنين الشوق وتوقان النفس تقول منه حن إليه يحن حنينا فهو حان والحنان الرحمة تقول منه حن عليه يحن حنانا ومنه قوله تعالى وحنانا من لدنا وتحنن عيه ترحم والعرب تقول حنانك يا رب وحنانيك بمعنى واحد أي رحمتك قال امرؤ القيس
ويمنحها بنو شمجى بن جرم ... معيزهم حنانك ذا الحنان
وقال طرفة
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وفي الحقيقة الحنين من آثار الحب وموجباته وحنين الناقة صوتها في نزاعها إلى ولدها وحنة الرجل امرأته قال
وليلة ذات دجى سريت ... ولم تضرني حنة وبيت
قلت سميت حنة لأن الرجل يحن إليها أين كان فصل
وأما الاستكانة فهي أيضا من لوازم الحب وأحكامه لا من أسمائه المختصة
به وأصلها الخضوع قال الله تعالى فما استكانوا لربهم وما يتضرعون وقال تعالى فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا وأصلها استفعل من الكون وهذا الاشتقاق والتصريف يطابق اللفظ وأما المعنى فالمستكن ساكن خاشع ضد الطائش ولكن لا يوافق السكون تصريف اللفظة فإنه إن كان افتعل كان ينبغي أن يقال استكن لأنه ليس في كلامهم افتعال والحق أنه استفعل من الكون فنقلوا حركة الواو إلى الكاف قبلها فتحركت الواو أصلا وانفتح ما قبلها تقديرا فقلبت ألفا كاستقام والكون الحالة التي فيها إنابة وذل وخضوع وهذا يحمد إذا كان لله ويذم إذا كان لغيره ومنه الحديث أعوذ بك من الحور بعد الكور أي الرجوع عن الاستقامة بعد ما كنت عليها فصل وأما التبالة فهي فعالة من تبله إذا أفناه قال الجوهري تبلهم الدهر وأتبلهم إذا أفناهم قال الأعشى
أأن رأت رجلا أعشى أضر به ... ريب الزمان ودهر متبل خبل
أي يذهب بالأهل والولد وتبله الحب أي أسقمه وأفسده قلت ومنه قول كعب بن زهير بن أبي سلمى
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم عندها لم يفد مكبول
فصل
وأما اللوعة فقال في الصحاح لوعة الحب حرقته وقد لاعه الحب يلوعه والتاع فؤاده أي احترق من الشوق ومنه قولهم أتان لاعة الفؤاد إلى جحشها قال الأصمعي أي لائعة الفؤاد وهي التي كأنها ولهى من الفزع فصل
وأما الفتون فهو مصدر فتنه يفتنه فتونا قال الله تعالى وفتناك فتونا أي امتحناك واختبرناك والفتنة يقال على ثلاثة معان أحدها الامتحان والاختبار ومنه قوله تعالى إن هي إلا فتنتك أي امتحانك واختبارك والثاني الافتتان نفسه يقال هذه فتنة فلان أي افتتانه ومنه قوله تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة يقال أصابته الفتنة وفتنته الدنيا وفتنته المرأة وأفتنته قال الأعشى
لئن فتنتني ولهى بالأمس أفتنت ... سعيدا فأضحى قد قلى كل مسلم
وأنكر الأصمعي أفتنته والثالث المفتون به نفسه يسمى فتنة قال الله تعالى إنما أموالكم وأولادكم فتنة وأما قوله تعالى ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين أي لم تكن عاقبة شركهم إلا أن تبرأوا منه وأنكروه وأما قوله تعالى يوم هم على النار
يفتنون ذوقوا فتنتكم فقيل المعنى يحرقون ومنه فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته ودينار مفتون قال الخليل والفتن الإحراق قال الله تعالى يوم هم على النار يفتنون وورق فتين أي فضة محرقة وافتتن الرجل وفتن إذا اصابته فتنة فذهب ماله أو عقله وفتنته المرأة إذا ولهته وقوله تعالى فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم أي لا تفتنون على عبادته إلا من سبق في علم الله أنه يصلى الجحيم فذلك الذي يفتن بفتنتكم إياه وأما قوله تعالى فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون فقيل الباء زائدة وقيل المفتون مصدر كالمعقول والميسور والمحلوف والمعسور والصواب أن يبصر مضمن معنى يشعر ويعلم قال الله تعالى أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر فعدى فعل الرؤية بالباء وفي الحديث المؤمن أخو المؤمن يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفتان يروى بفتح الفاء وهو واحد وبضمها وهو جمع فاتن كتاجر وتجار والمقصود أن الحب موضع الفتون فما فتن من فتن إلا بالمحبة فصل وأما الجنون فمن الحب ما يكون جنونا ومنه قوله
قالت جننت بمن تهوى فقلت لها ... ألعشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين
وأصل المادة من الستر في جميع تصاريفها ومنه أجنه الليل وجن عليه إذا ستره ومنه الجنين لاستتاره في بطن أمه ومنه الجنة لاستتارها بالأشجار ومنه المجن لاستتار الضارب به والمضروب ومنه الجن لاستتارهم عن العيون بخلاف الإنس فإنهم يؤنسون أي يرون ومنه الجنة بالضم وهي ما استترت به واتقيت ومنه قوله تعالى اتخذوا أيمانهم جنة وأجننت الميت واريته في القبر فهو جنين والحب المفرط يستر العقل فلا يعقل المحب ما ينفعه ويضره فهو شعبة من الجنون فصل وأما اللمم فهو طرف من الجنون ورجل ملموم أي به لمم ويقال أيضا أصابت فلانا من الجن لمة وهو المس والشيء القليل قاله الجوهري قلت وأصل اللفظة من المقاربة ومنه قوله تعالى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم وهي الصغائر قال ابن عباس رضي الله عنهما ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة رضي الله عنه إن العين تزني وزناها النظر واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والفم يزني وزناه القبل ومنه ألم بكذا أي قاربه ودنا منه وغلام ملم أي قارب
البلوغ وفي الحديث إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم أي يقرب من ذلك وبالجملة فلا يستبين كون اللمم من أسماء الحب وإن كان قد ذكره جماعة إلا أن يقال إن المحبوب قد ألم بقلب المحب أي نزل به ومنه ألمم بنا أي انزل بنا ومنه قوله
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا فصل
وأما الخبل فمن موجبات العشق وآثاره لا من أسمائه وإن ذكر من أسمائه فإن أصله الفساد وجمعه خبول والخبل بالتحريك الجن يقال به خبل أي شيء من أهل الأرض وقد خبله وخبله واختبله إذا أفسد عقله أو عضوه ورجل مخبل وهو نوع من الجنون والفساد فصل
وأما الرسيس فقد كثر في كلامهم رسيس الهوى والشوق ورسيس الحب فظن من أدخله في أماء الحب أنه منها وليس كذلك بل الرسيس الشيء الثابت فرسيس الحب ثباته ودوامه ويمكن أن يكون من رس الحمى ورسيسها وهو أول مسها فشبهوا رسيس الحب بحرارته وحرقته برسيس الحمى وكان الواجب على هؤلاء أن يجعلوا الأوار من أسماء الحب لأنه يضاف إليه قال الشاعر
إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد
وقد وقع إضافة الرسيس إلى الهوى في شعر ذي الرمة حيث يقول
إذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح
وفيه إشكال نحوي ليس هذا موضعه فصل
وأما الداء المخامر فهو من أوصافه وسمي مخامرا لمخالطته القلب والروح يقال خامره قال الجوهري والمخامرة المخالطة وخامر الرجل المكان إذا لزمه وقد يكون أخذ من قولهم استخمر فلان فلانا إذا استعبده وكأن العشق داء مستعبد للعاشق ومنه حديث معاذ من استخمر قوما أي أخذهم قهرا وتملك عليهم فالحب داء مخالط مستعبد فصل وأما الود فهو خالص الحب وألطفه وأرقه وهو من الحب بمنزلة الرأفة من الرحمة قال اجلوهري وددت الرجل أوده ودا إذا أحببته والود والود والود المودة تقول بودي أن يكون كذا وأما قول الشاعر
أيها العائد المسائل عنا ... وبوديك أن ترى أكفاني
فإنما أشبع كسرة الدال ليستقيم له البيت فصارت ياء والود الوديد بمعنى المودود والجمع أود مثل قدح وأقدح وذئب وأذؤب وهما يتوادان وهم أوداء والودود المحب ورجال ودداء يستوي فيه المذكر والمؤنث لكونه وصفا
داخلا على وصف للمبالغة قلت الودود من صفات الله سبحانه وتعالى أصله من المودة واختلف فيه على قولين فقيل هو ودود بمعنى واد كضروب بمعنى ضارب وقتول بمعنى قاتل ونؤوم بمعنى نائم ويشهد لهذا القول أن فعولا في صفات الله سبحانه وتعالى فاعل كغفور بمعنى غافر وشكور بمعنى شاكر وصبور بمعنى صابر وقيل بل هو بمعنى مودود وهو الحبيب وبذلك فسره البخاري في صحيحه فقال الودود الحبيب والأول أظهر لاقترانه بالغفور في قوله وهو الغفور الودود وبالرحيم في قوله إن ربي رحيم ودود وفيه سر لطيف وهو أنه يحب التوابين وأنه يحب عبده بعد المغفرة فيغفر له ويحبه كما قال إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فالتائب حبيب الله فالود أصفى الحب وألطفه فصل وأما الخلة فتوحيد المحبة فالخليل هو الذي توحد حبه لمحبوبه وهي رتبة لا تقبل المشاركة ولهذا اختص بها في العالم الخليلان إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما كما قال الله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا وصح عن النبي أنه قال إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا وفي الصحيح عنه لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الرحمن وفي الصحيح أيضا إني أبرأ إلى كل خليل
من خلته ولما كانت الخلة مرتبة لا تقبل المشاركة امتحن الله سبحانه إبراهيم الخليل بذبح ولده لما أخذ شعبة من قلبه فأراد سبحانه أن يخلص تلك الشعبة له ولا تكون لغيره فامتحنه بذبح ولده والمراد ذبحه من قلبه لا ذبحه بالمدية فلما أسلما لأمر الله وقدم محبة الله تعالى على محبة الولد خلص مقام الخلة وفدى الولد بالذبح
وقيل إنما سميت خلة لتخلل المحبة جميع أجزاء الروح قال
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا
والخلة الخليل يستوي فيه المذكر والمؤنث لأنه في الأصل مصدر قولك خليل بين الخلة والخلولة قال
ألا أبلغا خلتي جابرا ... بأن خليلك لم يقتل
ويجمع على خلال مثل قلة وقلال والخل الود والصديق والخلال أيضا مصدر بمعنى الخالة ومنه قوله تعالى لا بيع فيه ولا خلال وقال في الآية الأخرى لا بيع فيه ولا خلة قال امرؤ القيس
ولست بمقلي الخلال ولا قالي ...
والخليل الصديق والأنثى خليلة والخلالة والخلالة والخلالة بكسر الخاء وفتحها وضمها الصداقة والمودة قال
وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب
وقد ظن بعض من لا علم عنده أن الحبيب أفضل من الخليل وقال محمد حبيب الله وإبراهيم خليل الله وهذا باطل من وجوه كثيرة منها إن الخلة خاصة والمحبة عامة فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقال في عباده المؤمنين يحبهم ويحبونه ومنها أن النبي نفى أن يكون له من أهل الأرض خليل وأخبر أن أحب النساء إليه عائشة ومن الرجال أبوها ومنها أنه قال إن الله اتخذني وخليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ومنها أنه قال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام ومودته فصل
وأما الخلم فهو مأخوذ من المخالمة وهي المصادقة والمودة والخلم الصديق والأخلام الأصحاب قال الكميت
إذا ابتسر الحرب أخلامها ... كشافا وهيجت الأفحل فصل
وأما الغرام فهو الحب اللازم يقال رجل مغرم بالحب أي قد لزمه الحب وأصل المادة من اللزوم ومنه قولهم رجل مغرم من الغرم أو الدين قال في الصحاح والغرام الولوع وقد أغرم بالشيء أي أولع به والغريم
الذي عليه الدين يقال خذ من غريم السوء ما سنح ويكون الغريم أيضا الذي له الدين قال كثير عزة
قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها
ومن المادة قوله تعالى في جهنم إن عذابها كان غراما والغرام الشعر ! الدائم اللازم والعذاب قال بشر
ويوم النسار ويوم الجفا ... ركانا عذابا وكانا غراما
وقال الأعشى
إن يعاقب يكن غراما وإن يع ... ط جزيلا فإنه لا يبالي
وقال أبو عبيدة إن عذابها كان غراما كان هلاكا ولزاما لهم وللطف المحبة عندهم واستعذابهم لها لم يكادوا يطلقون عليها لفظ الغرام وإن لهج به المتأخرون فصل
وأما الهيام قال في الصحاح هام على وجهه يهيم هيما وهيمانا ذهب من العشق أو غيره وقلب مستهام أي هائم والهيام بالضم أشد العطش والهيام كالجنون من العشق والهيام داء يأخذ الإبل فتهيم لا ترعى يقال ناقة هيماء قال والهيام بالكسر الإبل العطاش الواحد هيمان وناقة هيمى
مثل عطشان وعطشى وقوم هيم أي عطاش وقد هاموا هياما وقوله تعالى فشاربون شرب الهيم هي الإبل العطاش قلت جمع أهيم هيم مثل أحمر وحمر وهو جمع فعلاء أيضا كصفراء وصفر فصل
وأما التدليه ففي الصحاح التدليه ذهاب العقل من الهوى يقال دلهه الحب أي حيره وأدهشه ودله هو يدله قال أبو زيد الدلوه الناقة لا تكاد تحن إلى إلف ولا ولد وقد دلهت عن إلفها وعن ولدها تدله دلوها فصل
وأما الوله فقال في الصحاح الوله ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد ورجل واله وامرأة واله ووالهة قال الأعشى
فأقبلت والها ثكلى على عجل ... كل دهاها وكل عندها اجتمعا
وقد وله يوله ولها وولهانا وتوله واتله وهو افتعل أدغم
قال الشاعر
واتله الغيور ...
والتوليه أن يفرق بين الأم وولدها وفي الحديث لا توله والدة
بولدها أي لا تجعل والها وذلك في السبايا وناقة واله إذااشتد وجدها على ولدها والميلاه التي من عادتها أن يشتد وجدها على ولدها صارت الواو يا لكسرة ما قبلها وماء موله وموله أرسل في الصحراء فذهب وقول رؤبة
به تمطت غول كل ميلة ... بنا حراجيج المهارى النفة
أراد البلاد التي توله الإنسان أي تحيره فصل
وأما التعبد فهو غاية الحب وغاية الذل يقال عبده الحب أي ذلله وطريق معبد بالأقدام أي مذلل وكذلك المحب قد ذلله الحب ووطأه ولا تصلح هذه المرتبة لأحد غير الله تعالى ولا يغفر الله سبحانه لمن أشرك به في عبادته ويغفر ما دون ذلك لمن شاء فمحبة العبودية هي أشرف أنواع المحبة وهي خالص حق الله على عباده وفي الصحيح عن معاذ أنه قال كنت سائرا مع رسول الله فقال يا معاذ فقلت لبيك يا رسول الله وسعديك قال ثم سار ساعة ثم قال يا معاذ قلت لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة فقال يا معاذ قلت لبيك رسول الله وسعديك قال أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم قال حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا
فعلوا ذلك أن لا يعذبهم بالنار وقد ذكر الله سبحانه رسوله بالعبودية في أشرف مقاماته وهي مقام التحدي ومقام الإسراء ومقام الدعوة فقال في التحدي وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وقال في مقام الإسراء سبحان الذي أسرى بعيده ليلا من المسجد الحرام وقال في مقام الدعوة وأنه لما قام عبدالله يدعوه وإذا تدافع أولو العزم الشفاعة الكبرى يوم القيامة يقول المسيح لهم اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فنال ذلك المقام بكمال العبودية لله وكمال مغفرة الله له فأشرف صفات العبد صفة العبودية وأحب أسمائه إلى الله اسم العبودية كما ثبت عن النبي أنه قال أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة وإنما كان حارث وهمام أصدقها لأن كل أحد لا بد له من هم وإرادة وعزم ينشأ عنه حرثه وفعله وكل أحد حارث وهمام وإنما كان أقبحها حرب ومرة لما في مسمى هذين الإسمين من الكراهة ونفور العقل عنهما وبالله التوفيق
الباب الثالث في نسبة هذه الأسماء بعضها إلى بعض هل هي بالترادف أو
التباين
فالأسماء الدالة على مسمى واحد نوعان أحدهما أن يدل عليه باعتبار الذات فقط فهذا النوع هو المترادف ترادفا محضا وهذا كالحنطة والقمح والبر والإسم والكنية واللقب إذا لم يكن فيه مدح ولا ذم وإنما أتي به لمجرد التعريف والنوع الثاني أن يدل على ذات واحده باعتبار تباين صفاتها كأسماء الرب تعالى وأسماء كلامه وأسماء نبيه وأسماء اليوم الآخر فهذا النوع مترادف بالنسبة إلى الذات متباين بالنسبة إلى الصفات فالرب والرحمن والعزيز والقدير والملك يدل على ذات واحدة باعتبار صفات متعددة وكذلك البشير والنذير الحاشر والعاقب والماحي وكذلك يوم القيامة ويوم البعث ويوم الجمع ويوم التغابن ويوم الآزفة ونحوها وكذلك القرآن والفرقان والكتاب والهدى ونحوها وكذلك أسماء السيف فإن تعددها بحسب أوصاف وإضافات مختلفة كالمهند والعضب الصارم ونحوها وقد عرفت تباين الأوصاف في أسماء المحبة وقد أنكر كثير من الناس الترادف في اللغة وكأنهم أرادوا هذا المعنى وأنه ما من إسمين لمسمى واحد إلا وبينهما فرق في صفة أو نسبة أو إضافة سواء علمت لنا أو لم تعلم وهذا الذي قالوه صحيح باعتبار الواضع الواحد ولكن قد يقع الترادف باعتبار واضعين مختلفين بسمى أحدهما المسمى باسم ويسميه الواضع الآخر باسم غيره ويشتهر الوضعان عند القبيلة الواحدة وهذا كثير ومن ههنا يقع الاشتراك أيضا فالأصل في اللغة هو التباين وهو أكثر اللغة والله أعلم
الباب الرابع في أن العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها وأن
حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم وحركات الملائكة والحيوانات وحركة كل متحرك إنما وجدت بسبب الحب
وهذا باب شريف من أشرف أبواب الكتاب وقبل تقريره لا بد من بيان مقدمة وهي أن الحركات ثلاث حركة إرادية وحركة طبيعية وحركة قسرية وبيان الحصر أن مبدأ الحركة إما أن يكون من المتحرك أو من غيره فإن كان من المتحرك فإما أن يقارنها شعوره وعلمه بها أولا فإن قارنها الشعور والعلم فهي الإرادية وإن لم يقارنها الشعور والعلم فهي الطبيعية وإن كانت من غيره فهي القسرية وإن شئت أن تقول المتحرك إما أن يتحرك بإرادته أو لا فإن تحرك بإرادته فحركته إرادية وإن تحرك بغير إرادته فإما أن تكون حركته إلى نحو مركزه أولا فإن تحرك إلى جهة مركزه فحركته طبيعية وإن تحرك إلى غير جهة مركزه فحركته قسرية إذا ثبت هذا فالحركة الإرادية تابعة لإرادة المتحرك والمراد إما أن يكون مرادا لنفسه أو لغيره ولا بد أن ينتهي المراد لغيره إلى مراد لنفسه دفعا للدور والتسلسل الإرادة إما أن تكون لجلب منفعة ولذة إما للمتحرك وإما لغيره أو دفع ألم ومضرة إما عن المتحرك أو عن غيره والعاقل لا يجلب لغيره منفعة ولا يدفع عنه مضرة إلا لما له في ذلك من اللذة ودفع الألم فصارت حركته الإرادية تابعة لمحبته بل هذا حكم كل حي متحرك وأما الحركة الطبيعية فهي حركة الشيء إلى مستقره ومركزه وتلك تابعة للحركة التي اقتضت خروجه عن مركزه وهي القسرية التي إنما تكون بقسر قاسر أخرجه عن مركزه إما باختياره كحركة الحجر إلى اسفل إذا رمى به
إلى جهة فوق وإما بغير اختيار محركه كتحريك الرياح للأجسام إلى جهة مهابها وهذه الحركة تابعة للقاسر وحركة القاسر ليست منه بل مبدؤها من غيره فإن الملائكة موكلة بالعالم العلوي والسفلي تدبره بأمر الله تعالى كما قال الله تعالى فالمدبرات أمرا وقال فالمقسمات أمر وقال تعالى والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا وقال والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا وقد وكل الله سبحانه بالأفلاك والشمس والقمر ملائكة تحركها ووكل بالرياح ملائكة تصرفها بأمره وهم خزنتها قال الله تعالى وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية وقال غير واحد من السلف عتت على الخزان فلم يقدروا على ضبطها ذكره البخاري في صحيحه ووكل بالقطر ملائكة وبالسحاب ملائكة تسوقه إلى حيث أمرت به وقد ثيت في الصحيح عن النبي أنه قال بينا رجل بفلاة من الأرض إذ سمع صوتا في سحابة يقول اسق حديقة فلان فتتبع السحابة حتى انتهت إلى حديقة فأفرغت ماءها فيها فنظر فإذا رجل في الحديقة يحول الماء بمسحاة فقال له ما اسمك يا عبدالله فقال فلان الإسم الذي سمعه في السحابة فقال إني سمعت قائلا يقول في هذه السحابة اسق حديقة فلان فما تصنع في هذه الحديقة فقال إنى أنظر ما يخرج منها فأجعله ثلاثة أثلاث
ثلث أتصدق به وثلث انفقه على عيالي وثلث أرده فيها ووكل الله سبحانه بالجبال ملائكة وثبت عن النبي أنه جاءه ملك الجبال يسلم عليه ويستأذنه في هلاك قومه إن أحب فقال بل أستأني لهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا ووكل بالرحم ملكا يقول يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة يا رب ذكر أم أنثى فما الرزق فم الأجل وشقي أم سعيد ووكل بكل عبد أربعة من الملائكة في هذه الدنيا حافظان عن يمينه وعن شماله يكتبان أعماله ومعقبات من بين يديه ومن خلفه أقلهم اثنان يحفظونه من أمر الله ووكل بالموت ملائكة ووكل بمساءلة الموتى ملائكة في القبور ووكل بالرحمة ملائكة وبالعذاب ملائكة وبالمؤمن ملائكة يثبتونه ويؤزونه إلى الطاعات أزا ووكل بالنار ملائكة يبنونها ويوقدونها ويصنعون أغلالها وسلاسلها ويقومون بإمرها ووكل بالجنة ملائكة يبنونها ويفرشونها ويصنعون أرائكها وسررها وصحافها ونمارقها وزرابيها فأمر العالم العلوي والسفلي والجنة والنار بتدبير الملائكة بإذن ربهم تبارك وتعالى وأمره لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون و لا يعصون الله ما أمرهم
ويفعلون ما يؤمرون فأخبر أنهم لا يعصونه في أمره وأنهم قادرون على تنفيذ أوامره ليس بهم عجز عنها بخلاف من يترك ما أمر به عجزا فلا يعصى الله ما أمره وإن لم يفعل ما أمره به وكذلك البحار قد وكلت بها ملائكة تسجرها وتمنعها أن تفيض على الأرض فتغرق أهلها وكذلك أعمال بني آدم خيرها وشرها قد وكلت بها ملائكة تحصيها وتحفظها وتكتبها ولهذا كان الإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الذي لا يتم إلا به وهي خمس الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
وإذا عرف ذلك عرف أن كل حركة في العالم فسببها الملائكة وحركتهم طاعة الله بأمره وإرادته فيرجع الأمر كله إلى تنفيذ مراد الرب تعالى شرعا وقدرا والملائكة هم المنفذون ذلك بأمره ولذلك سموا ملائكة من الألوكة وهي الرسالة فهم رسل الله في تنفيذ أوامره
والمقصود أن حركات الأفلاك وما حوته تابعة للحركة الإرادية المستلزمة للمحبة فالمحبة والإرادة أصل كل فعل ومبداه فلا يكون الفعل إلا عن محبة وإرادة حتى دفعه للأمور التي يبغضها ويكرهها فإنما يدفعها بإرادته ومحبته لأضدادها واللذة التي يجدها بالدفع كما يقال شفى غيظه وشفى صدره والشفاء والعافية يكون للمحبوب وإن كان كريها مثل شرب الدواء الذي يدفع به ألم المرض فإنه وإن كان مكروها من وجه فهو محبوب لما فيه من زوال المكروه وحصول المحبوب وكذلك فعل الأشياء المخالفة للهوى فإنها وإن كانت مكروهة فإنما تفعل لمحبة وإرادة وإن لم تكن محبوبة لنفسها فإنها
مستلزمة للمحبوب لنفسه فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه ولكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما محبة ولذلك كانت المحبة والإرادة أصلا للبغض والكراهة فإن البغيض المكروه ينافي وجود المحبوب والفعل إما أن يتناول وجود المحبوب أو دفع المكروه المستلزم لوجود المحبوب فعاد الفعل كله إلى وجود المحبوب
والحركة الاختيارية أصلها الإرادة والقسرية والطبيعية تابعتان لها فعاد الأمر إلى الحركة الإرادية فجميع حركات العالم العلوي والسفلي تابعة للإرادة والمحبة وبها تحرك العالم ولأجلها فهي العلة الفاعلية والغائية بل هي التي بها ولأجلها وجد العالم فما تحرك في العالم العلوي والسفلي حركة إلا والإرادة والمحبة سببها وغايتها بل حقيقة المحبة حركة نفس المحب إلى محبوبه فالمحبة حركة بلا سكون وكمال المحبة هو العبودية والذل والخضوع والطاعة للمحبوب وهو الحق الذي به وله خلقت السموات والأرض والدنيا والآخرة قال تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وقال الله تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا وقال تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا
والحق الذي خلق به ولأجله الخلق هو عبادة الله وحده التي هي كمال محبته والخضوع والذل له ولوازم عبوديته من الأمر والنهى والثواب والعقاب ولأجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب وخلق الجنة والنار والسموات والأرض إنما قامت بالعدل الذي هو صراط الله الذي هو عليه وهو أحب
الأشياء إلى الله تعالى قال الله تعالى حاكيا عن نبيه شعيب عليه السلام إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فهو على صراط مستقيم في شرعه وقدره وهو العدل الذي به ظهر الخلق والأمر والثواب والعقاب وهو الحق الذي به وله خلقت السموات والأرض وما بينهما ولهذا قال المؤمنون في عبادتهم ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فنزهوا ربهم سبحانه أن يكون خلق السموات عبثا لغير حكمة ولا غاية محمودة وهو سبحانه يحمد لهذه الغايات المحمودة كما يحمد لذاته وأوصافه فالغايات المحمودة في أفعاله هي الحكمة التي يحبها ويرضاها وخلق ما يكره لاستلزامه ما يحبه وترتب المحبوب له عليه ولذلك يترك سبحانه فعل بعض ما يحبه لما يترتب عليه من فوات محبوب له أعظم منه أو حصول مكروه أكره إليه من ذلك المحبوب وهذا كما ثبط قلوب أعدائه عن الأيمان به وطاعته لأنه يكره طاعاتهم ويفوت بها ما هو أحب إليه منها من جهادهم وما يترتب عليه من الموالاة فيه والمعاداة وبذل أوليائه نفوسهم فيه وإيثار محبته ورضاه على نفوسهم ولأجل هذا حلق الموت والحياة وجعل ما على الأرض زينة لها قال تعالى الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وقال إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا
وقال تعالى وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء لبلوكم أيكم أحسن عملا فأخبر سبحانه عن خلق العالم والموت والحياة وتزيين الأرض بما عليها أنه للابتلاء والامتحان ليختبر خلقه أيهم أحسن عملا فيكون عمله موافقا لمحاب الرب تعالى فيوافق الغاية التي خلق هو لها وخلق لأجلها العالم وهي عبوديته المتضمنة لمحبته وطاعته وهي العمل الأحسن وهو مواقع محبته ورضاه وقدر سبحانه مقادير تخالفها بحكمته في تقديرها وامتحن خلقه بين أمره وقدره ليبلوهم أيهم أحسن عملا
فانقسم الخلق في هذاالابتلاء فريقين فريقا داروا مع أوامره ومحابه ووقفوا حيث وقف بهم الأمر وتحركوا حيث حركهم الأمر واستعملوا الأمر في القدر وركبو سفينة الأمر في بحر القدر وحكموا الأمر على القدر ونازعوا القدر بالقدر امتثالا لأمره واتباعا لمرضاته فهؤلاء هم الناجون
والفريق الثاني عارضوا بين الأمر والقدر وبين ما يحبه ويرضاه وبين ما قدره وقضاه ثم افترقوا أربع فرق
فرقة كذبت بالقدر محافظة على الأمر فأبطلت الأمر من حيث حافظت على القدر فإن الإيمان بالقدر أصل الإيمان بالأمر وهو نظام التوحيد فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه إيمانه
وفرقة ردت الأمر بالقدر وهؤلاء من أكفر الخلق وهم الذين حكى الله قولهم في القرآن إذ قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا
من شيء وقالوا أيضا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء وقالوا ايضا لو شاء الرحمن ما عبدناهم وقالوا أيضا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه
فجعلهم الله سبحانه وتعالى بذلك مكذبين خارصين ليس لهم علم وأخبر أنهم في ضلال مبين
وفرقة دارت مع القدر فسارت بسيره ونزلت بنزوله ودانت به ولم تبال وافق الأمر أو خالفه بل دينها القدر فالحلال ما حل بيدها قدرا والحرام ما حرمته قدرا وهم مع من غلب قدرا من مسلم أو كافر برا كان أو فاجرا وخواص هؤلاء وعبادهم لما شهدوا الحقيقة الكونية القدرية صاروا مع الكفار المسلطين بالقدر وهم خفراؤهم فهؤلاء أيضا كفار
وفرقة وقفت مع القدر مع اعترافها بأنه خلاف الأمر ولم تدن به ولكنها استرسلت معه ولم تحكم عليه الأمر وعجزت عن دفع القدر بالقدر اتباعا للأمر فهؤلاء مفرطون وهم بين عاجز وعاص لله وهؤلاء الفرق كلهم مؤتمون بشيخهم إبليس فإنه أول من قدم القدر على الأمر وعارضه به وقال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين وقال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم فرد أمر الله بقدره واحتج على ربه بالقدر وانقسم أتباعه أربع فرق كما رأيت فإبليس
وجنوده أرسلوا بالقدر إرسالا كونيا فالقدر دينهم قال الله تعالى ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا فدينهم القدر ومصيرهم سقر فبعث الله الرسل بالأمر وأمرهم أن يحاربوا به أهل القدر وشرع لهم من أمره سفنا وأمرهم أن يركبوا فيها هم وأتباعهم في بحر القدر وخص بالنجاة من ركبها كما خص بالنجاة أصحاب السفينة وجعل ذلك آية للعالمين فأصحاب الأمر حرب لأصحاب القدر حتى يردوهم إلى الأمر وأصحاب القدر يحاربون أصحاب الأمر حتى يخرجوهم منه فالرسل دينهم الأمر مع إيمانهم بالقدر وتحكيم الأمر عليه وإبليس وأتباعه دينهم القدر ودفع الأمر به فتأمل هذه المسألة في القدر والأمر وانقسام العالم فيها إلى هذه الأقسام الخمسة وبالله التوفيق
فحركات العالم العلوي والسفلي وما فيهما موافقة للأمر إما الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه وإما الأمر الكوني الذي قدره وقضاه وهو سبحانه لم يقدره سدى ولا قضاه عبثا بل لما فيه من الحكمة والغايات الحميدة وما يترتب عليه من أمور يحب غاياتها وإن كره أسبابها ومادئها فإنه سبحانه وتعالى يحب المغفرة وإن كره معاصي عباده ويحب الستر وإن كره ما يستر عبده عليه ويحب العتق وإن كره السبب الذي يعتق عليه من النار ويحب العفو كما في الحديث أللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني وإن كره ما يعفو عنه من الأوزار ويحب التوابين وتوبتبهم وإن كره معاصيهم
التي يتوبون إليه منها منها ويحب الجهاد وأهله بل هم أحب خلقه إليه وإن كره أفعال من يجاهدونه وهذا باب واسع قد فتح لك فادخل منه يطلعك على رياض من المعرفة مونقة مات من فاتته بحسرتها وبالله التوفيق
وهذا موضع يضيق عنه عدة أسفار واللبيب يدخل إليه من بابه وسر هذا الباب أنه سبحانه كامل في أسمائه وصفاته فله الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه ما وهو يحب أسماءه وصفاته ويحب ظهور آثارها في خلقه فإن ذلك من لوازم كماله فإنه سبحانه وتر يحب الوتر جميل يحب الجمال عليم يحب العلماء جواد يحب الأجواد قوي والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف حيي يحب أهل الحياء وفي يحب أهل الوفاء شكور يحب الشاكرين صادق يحب الصادقين محسن يحب المحسنين
فإذا كان يحب العفو والمغفرة والحلم والصفح والستر لم يكن بد من تقديره للأسباب التي تظهر آثار هذه الصفات فيها ويستدل بها عباده على كما أسمائه وصفاته ويكون ذلك أدعى لهم إلى محبته وحمده وتمجيده والثناء عليه بما هو أهله فتحصل الغاية التي خلق لها الخلق وإن فاتت من بعضهم فذلك لفوات سبب لكمالها وظهورها فتضمن ذلك الفوات المكروه له أمرا هو أحب إليه من عدمه فتأمل هذا الموضع حق التأمل وهذا ينكشف يوم القيامة للخليفة بأجمعهم حين يجمعهم في صعيد واحد ويوصل إلى كل نفس ما ينبغي إيصاله إليها من الخير والشر واللذة والألم حتى مثقال الذرة ويوصل كل نفس إلى غاياتها التي تشهد هي أنها أولى بها فحينئذ ينطق الكون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق