بينهما
لما كانت العين رائدا والقلب باعثا وطالبا وهذه لها لذة الرؤية وهذا له لذة الظفر كانا في الهوى شريكي عنان ولما وقعا في العناء واشتركا في البلاء أقبل كل منهما يلوم صاحبه ويعاتبه
فقال القلب للعين أنت التي سقتني إلى موارد الهلكات وأوقعتني في الحسرات بمتابعتك اللحظات ونزهت طرفك في تلك الرياض وطلبت الشفاء من الحدق المراض وخالفت قول أحكم الحاكمين قل للمؤمنين وقول رسوله النظر إلى المرأة سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركه من خوف الله تعالى أثابه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه رواه الإمام أحمد حدثنا هشيم حدثنا عبدالرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار عن صلة عن حذيفة
وقال عمر بن شبة حدثنا أحمد بن عبدالله بن يونس حدثنا عنبسة بن عبدالرحمن القرشي حدثنا أبو الحسن المدني حدثنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله نظر الرجل في محاسن المرأة سهم مسموم من سهام إبليس مسموم فمن أعرض عن ذلك السهم أعقبه الله عبادة تسره فمن الملوم سوى من رمى صاحبه بالسهم المسموم أو ما علمت أنه ليس شيء أضر على الإنسان من العين واللسان فما عطب
أكثر من عطب إلا بهما وما هلك أكثر من هلك إلا بسببهما فلله كم من مورد هلكة أورداه ومصدر ردى عنه أصدراه فمن أحب أن يحيا سعيدا أو يعيش حميدا فليغض من عنان طرفه ولسانه ليسلم من الضرر فإنه كامن في فضول الكلام وفضول النظر وقد صرح الصادق المصدوق بأن العينين تزنيان وهما أصل زنى الفرج فإنهما له رائدان وإليه داعيان وقد سئل رسول الله عن نظرة الفجأة فأمر السائل أن يصرف بصره فأرشده إلى ما ينفعه ويدفع عنه ضرره وقال لابن عمه علي رضي الله عنه محذرا له مما يوقع في الفتنة ويورث الحسرة لا تتبع النظرة النظرة أوما سمعت قول العقلاء من سرح ناظره أتعب خاطره ومن كثرت لحظاته دامت حسراته وضاعت عليه أوقاته وفاضت عبراته وقول الناظم
نظر العيون إلى العيون هو الذي ... جعل الهلاك إلى الفؤاد سبيلا
ما زالت اللحظات تغزو قلبه ... حتى تشحط فيهن قتيلا
وقال آخر
تمتعتما يا مقلتي بنظرة ... وأوردتما قلبي أمر الموارد
أعيني كفا عن فؤادي فإنه ... من الظلم سعى اثنين في قتل واحد فصل
قالت العين ظلمتني أولا وآخرا وبؤت بإثمي باطنا وظاهرا وما أنا
إلا رسولك الداعي إليك ورائدك الدال عليك
وإذا بعثت برائد نحو الذي ... تهوى وتعتبه ظلمت الرائدا
فأنت الملك المطاع ونحن الجنود والأتباع أركبتني في حاجتك خيل البريد ثم أقبلت علي بالتهديد والوعيد فلو أمرتني أن أغلق علي بابي وأرخي علي حجابي لسمعت وأطعت ولما رعيت في الحمى ورتعت أرسلتني لصيد قد نصيت لك حبائله وأشراكه واستدارت حولك فخاخه وشباكه فغدوت أسيرا بعد أن كنت أميرا وأصبحت مملوكا بعد أن كنت مليكا هذا وقد حكم لي عليك سيد الأنام وأعدل الحكام حيث يقول إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب وقال أبو هريرة رضي الله عنه القلب ملك والأعضاء جنوده فإن طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده ولو أنعمت النظر لعلمت أن فساد رعيتك بفسادك وصلاحها ورشدها برشادك ولكنك هلكت وأهلكت رعيتك وحملت على العين الضعيفة خطيئتك وأصل بليتك أنه خلا منك حب الله وحب ذكره وكلامه وأسمائه وصفاته وأقبلت على غيره وأعرضت عنه وتعوضت بحب من سواه والرغبة فيه منه هذا وقد سمعت ما قص عليك من إنكاره سبحانه على بني إسرائيل استبدالهم طعاما بطعام أدنى منه فذمهم على ذلك ونعاه عليهم وقال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير
فكيف بمن استبدل بمحبة خالقه وفاطره ووليه ومالك أمره الذي لا صلاح له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور ولا فرحة ولا نجاة إلا بأن يوحده في الحب ويكون أحب إليه مما سواه فانظر بالله بمن استبدلت وبمحبة من تعوضت رضيت لنفسك بالحبس في الحش وقلوب محبيه تجول حول العرش فلو أقبلت عليه وأعرضت عمن سواه لرأيت العجائب ولأمنت من المتالف والمعاطب أوما علمت أنه خص بالفوز والنعيم من أتاه بقلب سليم أي سليم مما سواه ليس فيه غير حبه واتباع رضاه قالت وبين ذنبي وذنبك عند الناس كما بين عماي وعماك في القياس وقد قال من بيده أزمة الأمور فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمىالقلوب التي في الصدور فصل
فلما سمعت الكبد تحاورهما الكلام وتناولهما الخصام قالت أنتما على هلاكي تساعدتما وعلى قتلي تعاونتما ولقد أنصف من حكى مناظرتكما وعلى لساني متظلما منكما
يقول طرفي لقلبي هجت لي سقما ... والعين تزعم أن القلب أنكاها
والجسم يشهد أن العين كاذبة ... وهي التي هيجت للقلب بلواها
لولا العيون وما يجنين من سقم ... ما كنت مطرحا من بعض قتلاها
فقالت الكبد المظلومة اتئدا ... قطعتماني وما راقبتما الله
وقال آخر
يقول قلبي لطرفي أن بكى جزعا ... تبكي وأنت الذي حملتني الوجعا
فقال طرفي له فيما يعاتبه ... بل أنت حملتني الآمال والطمعا
حتى إذا ما خلا كل بصاحبه ... كلاهما بطويل السقم قد قنعا
نادتهما كبدي لا تبعدا فلقد ... قطعتماني بما لاقيتما قطعا
وقال آخر
عاتبت قلبي لما ... رأيت جسمي نحيلا
فألزم القلب طرفي ... وقال كنت الرسولا
فقال طرفي لقلبي ... بل كنت أنت الدليلا
فقلت كفا جميعا ... تركتماني قتيلا
ثم قالت أنا أتولى الحكم بينكما أنتما في البلية شريكا عنان كما أنكما في اللذة والمسرة فرسا رهان فالعين تلتذ والقلب يتمنى ويشتهي ولهذا قال فيكما القائل
ولما سلوت الحب بشر ناظري ... لقلبي فقال القلب لي ولك الهنا
تخلصت من إحياء ليلك ساهرا ... وخلصتني من لوعة الهجر والضنا
كلانا مهنا بالبقاء فإن تعد ... فلا أنت يبقيك الغرام ولا أنا
وإن لم تدرككما عناية مقلب القلوب والأبصار وإلا فما لك من قرة ولا للقلب من قرار قال الشاعر
فوالله ما أدري أنفسي ألومها ... على الحب أم عيني المشومة أم قلبي
فإن لمت قلبي قال لي العين أبصرت ... وإن لمت عيني قالت الذنب للقلب
فعيني وقلبي قد تقاسمتما دمي ... فيا رب كن عونا على العين والقلب
قالت هذه ولما سقيت القلب ماء المحبة بكؤوسك أوقدت عليه نار الشوق فارتفع إليك البخار فتقاطر منك فشرقت بشربه أولا وشرقت بحر ناره ثانيا قال
خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري ... ضنى جسدي لكنني أتستر
وليس الذي يجري من العين ماؤها ... ولكنها روح تذوب فتقطر
قالت والحاكم بينكما الذي يحكم بين الروح والجسد إذا اختصما بين يديه فإن في الأثر المشهور لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلائق حتى تختصم الروح والجسد فيقول الجسد للروح أنت الذي حركتني وأمرتني وصرفتني وإلا فأنا لم أكن أتحرك ولا أفعل بدونك فتقول الروح له وأنت ألذي أكلت وشربت وباشرت وتنعمت فأنت الذي تستحق العقوبة فيرسل الله سبحانه إليهما ملكا يحكم بينهما فيقول مثلكما مثل مقعد بصير وأعمى يمشي دخلا بستانا فقال المقعد للأعمى أنا أرى ما فيه من الثمار ولكن لا أستطيع القيام وقال الأعمى أنا أستطيع القيام ولكن لا أبصر شيئا فقال له المقعد تعال فاحملني فأنت تمشي وأنا أتناول فعلى من تكون العقوبة فيقول عليهما قال فكذلك أنتما وبالله التوفيق
الباب الثامن في ذكر الشبه التي احتج بها من أباح النظر إلى من لا يحل
له الاستمتاع به وأباح عشقه
قالت هذه الطائفة بيننا وبينكم الكتاب والسنة وأقوال أئمة الإسلام والمعقول الصحيح
أما الكتاب فقوله تعالى أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وهذا يعم جميع ما خلق الله فما الذي أخرج من عمومه الوجه المليح وهو من أحسن ما خلق وموضع الاستدلال به والاعتبار أقوى ولذلك يسبح الخالق سبحانه عند رؤيته كما قال بعض الناظرين إلى جميل الصورة
ذي طلعة سبحان فالق صبحه ... ومماطف جلت يمين الغارس
مرت بأرجاء الخيال طيوفه ... فبكت على رسم السلو الدارس
ورؤية الجمال البديع تنطق ألسنة الناظرين بقولهم سبحان الله رب العالمين وتبارك الله أحسن الخالقين والله تعالى لم يخلق هذه المحاسن عبثا وإنما أظهرها ليستدل الناظر إليها على قدرته ووحدانيته وبديع صنعه فلا تعطل عما خلقت له
وأما السنة فالحديث المشهور النظر إلى الوجه المليح عبادة
وفي الحديث الآخر اطلبوا الخير من حسان الوجوه وفي هذا إرشاد إلى تصفح الوجوه وتأملها وخطب رجل امرأة فاستشار النبي في نكاحها فقال هل نظرت إليها فقال لا قال اذهب فانظر إليها ولو كان النظر حراما لما أطلق له أن ينظر فإنه لا يأمن الفتنة
وأما أقوال الأئمة فحكى السمعاني أن الشافعي رضي الله عنه كتب إليه رجل في رقعة
سل المفتى المكي هل في تزاور ... ونظرة مشتاق الفؤاد جناح
فأجابه الشافعي
معاذ إله العرش أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراح
وذكر الخرائطي هذا السؤال والجواب عن عطاء بن أبي رباح وأوله سألت عطاء المكي وذكر الحاكم في مناقب الشافعي رضي الله عنه من شعره
يقولون لا تنظر وتلك بلية ... ألا كل ذي عينين لا بد ناظر
وليس اكتحال العين بالعين ريبة ... إذا عف فيما بين الضمائر
وذكر الاسترباذي في كتاب مناقب الشافعي أن رجلا كتب إلى سعيد ابن المسيب
يا سيد التابعين والبرره ... نسيت في العشق سورة البقره
فكن بفتواك مشفقا رفقا ... باهى بك الله أكرم البرره
هل حرم الله لثم خد فتى ... أوصافه بالجمال مشتهره
فأجابه سعيد
يا سائلي عن خفي لوعته ... عليك بالصبر تحمدن أثره
ولا تكن طالبا لفاحشة ... أو كالذي ساق سيله مطره
وراقب الله واخش سطوته ... وخالف الفاسقين والفجره
وقبل الخد من حبيبك ذا ... في كل يوم وليلة عشره
وقال أبو العباس المبرد في الكامل قال أعرابي أنشدنيه أبو العالية
سألت الفتى المكي ذا العلم ما الذي ... يحل من التقبيل في رمضان
فقال لي المكي أما لزوجة ... فسبع وأما خلة فثمان
وذكر أبو بكر الخطيب في كتاب رواه مالك عن بعضهم
أقول لمفت بين مكة والصفا ... لك الخير هل في وصلهن حرام
وهل في صموت الحجل مهضومة الحشا ... عذاب الثنايا إن لثمت أثام
فقال لي المفتي وسالت دموعه ... على الخد من عينيه فهي تؤام
ألا ليتني قبلت تلك عشية ... ببطن منى والمحرمون نيام
وقال الحاكم في كتاب مناقب الشافعي حدثنا أبو العلاء بن كوشيار الحاري أنبأنا علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن الجهم قال سمعت الربيع يقول حضرت الشافعي بمكة وقد دفع إليه رجل رقعة فيها
أقول لمفتي خيف مكة والصفا ... لك الخير هل في وصلهن حرام
وهل في صموت الحجل مهضومة الحشا ... عذاب الثنايا إن لثمت أثام
قال فوقع الشافعي فيها
فقال لي المفتي وفاضت دموعه ... على الخد من عين وهن تؤام
ألا ليتني قبلت تلك عشية ... ببطن منى والمحرمون قيام
وقال عمرو بن سفيان ابن ابنة جامع بن مرخية
إنا سألنا مالكا وقرينه ... ليث بن سعد عن لثام الوامق
أيجوز قالا والذي خلق الورى ... ما حرم الرحمن قبلة عاشق
ذكر ذلك صاحب كتاب رستاق الاتفاق وهو شاعر المصريين وأنشد فيه لعمرو بن سفيان هذا وكتب بها إلى ابن عيينة
قلنا لسفيان الهلالي مرة ... حرمت ضم العاشق المشتاق
لحبيبه من بعد نأي ناله ... فأجاب لا والواحد الخلاق
وأنشد فيه لجده جامع وكتب بها إلى علي بن زيد بن جدعان
سألنا ابن جدعان بن عمر وأخا العلا ... أيحرم لثم الحب في ليلة القدر
فقال لنا المكي وناهيك علمه ... ألا لا ومن قد جاء بالشفع والوتر
وأنشد لإبراهيم بن المدبر وكتب بها إلى أبي بكر بن عياش أحد أئمة القراء
سألت ابن عياش وكان معلما ... لك الخير هل في ضمة الحب من وزر
فقال أبو بكر ولا في لثامه ... ألم يأتنا التنزيل بالوضع للإصر
وأنشد لآخر وكتب بها إلى الإمام أحمد بن حنبل قال وزعم بعضهم أنه إسحاق بن معاذ بن زهير شاعر أهل مصر في وقته
سألت إمام الناس نجل ابن حنبل ... عن الضم والتقبيل هل فيه من باس
فقال إذا جل العزاء فواجب ... لأنك قد أحييت عبدا من الناس
وأنشد لابن مرخية وكتب بها إلى أبي حنيفة
كتبت إلى النعمان يوما رسالة ... نسائله عن لثم حب ممنع
فقال لنا لا إثم فيه وإنه ... شهي إذا كانت لعشر وأربع
وكتب رجل إلى أبي جعفر الطحاوي
أبا جعفر ماذا تقول فإنه ... إذا نابنا خطب عليك المعول
فلا تنكرن قولي وأبشر برحمة ال ... إله عن الأمر الذي عنه نسأل
أب الحب عار أم من الحب مهرب ... وهل من لحا أهل الصبابة يجهل
وهل بمباح فيه قتل متيم ... يهاجره أحبابه وهو يوصل
فرأيك في رد الجواب فإنني ... بما فيه تقضي أيها الشيخ أفعل
فأجابه الطحاوي
سأقضي قضاء في الذي عنه تسأل ... وأحكم بين العاشقين فأعدل
فديتك ما بالحب عار علمته ... وللعار ترك الحب إن كنت تعقل
ومهما لحا في الحب لاح فإنه ... لعمرك عندي من ذوي الجهل أجهل
وليس مباحا عندنا قتل مسلم ... بلا ترة بل قاتل النفس يقتل
ولكنه إن مات في الحب لم يكن ... له قود فيه ولا عنه يعقل
وصالك من تهوى وإن صد واجب ... عليك كذا حكم المتيم يفعل
فهذا جواب فيه عندي قناعة ... لما جئت عنه أيها الصب تسأل
ويكفي أن المعتزلة من أشد الناس تعظيما للذنوب وهم يخلدون أصحاب الكبائر ولا يرون تحريم ذلك كما ذكره الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه المشهور لبعض المعتزلة
سألنا أبا عثمان عمرا وواصلا ... عن الضم والتقبيل للخد والجيد
فقالا جميعا والذي هو عادل ... يجوز بلا إثم فدع قول تفنيد
وقال إسحاق بن شبيب
سألنا شيوخ الواسطيين كلهم ... عن الرشف والتقبيل هل فيهما إثم
فقالوا جميعا ليس إثما لزوجة ... ولا خلة والضم من هذه غنم
وأنشد أبو الحسن علي بن إبراهيم بن محمد بن سعد الخير في كتابه شرح الكامل
فلما أن أبيح لنا التلاقي ... تعانقنا كما اعتنق الصديق
وهل حرجا تراه أو حراما ... مشوق ضمه صب مشوق
وقال الخطيب في تاريخ بغداد حدثنا أبو الحسن علي بن أيوب بن الحسن إملاء حدثنا أبو عبدالله المرزباني وابن حيويه وابن شاذان قالوا حدثنا
أبو عبدالله إبراهيم بن محمد بن عرفة نفطويه بقرطبة قال دخلت على محمد بن داود الأصبهاني في مرضه الذي مات فيه فقلت له كيف تجدك قال حب من تعلم أورثني ما ترى فقلت له ما منعك عن الاستمتاع به مع القدرة عليه قال الاستمتاع على وجهين أحدهما النظر المباح والثاني اللذة المحظورة فأما النظر المباح فأورثني ما ترى وذكر القصة وستأتي في باب عفاف العشاق والمقصود أنه لم ير النظر إلى معشوقه ولا عشقه حراما وجرى على هذا المذهب أبو محمد بن حزم في كتاب طوق الحمامة له قالوا ونحن نحاكمكم إلى واحد يعد بآلاف مؤلفة وهو شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه سئل
ما تقول السادة الفقهاء رضي الله عنهم في رجل عاشق في صورة وهي مصرة على هجره منذ زمن طويل لا تزيده إلا بعدا ولا يزداد لها إلا حبا وعشقه لهذه الصورة من غير فسق ولا خنى ولا هو ممن يدنس عشقه بزنى وقد أفضى به الحال إلى الهلاك لا محالة إن بقي مع محبوبه على هذه الحالة فهل يحل لمن هذه حاله أن يهجر وهل يجب وصاله علىالمحبوب المذكور وهل يأثم ببقائه على هجره وما يجب من تفاصيل أمرهما وما لكل واحد منهما على الآخر من الحقوق مما يوافق الشرع الشريف
فأجاب بخطه بجواب طويل قال في أثنائه فالعاشق له ثلاث مقامات ابتداء وتوسط ونهاية أما ابتداؤه فواجب عليه فيه كتمان ذلك وعدم إفشائه للخلق مراعيا في ذلك شرائط الفتوة من العفة مع القدرة فإن زاد به الحال إلىالمقام الأوسط فلا بأس بإعلام محبوبه بمحبته إياه فيخف بإعلامه وشكواه إليه ما يجد منه ويحذر من اطلاع الناس على ذلك فإن زاد به الأمر حتى خرج عن الحدود والضوابط التحق بالمجانين والموسوسين فانقسم العشاق
قسمين قسم قنعوا بالنظرة بعد النظرة فمنهم من يموت وهو كذلك ولا يظهر سره لأحد حتى محبوبه لا يدري به وقد روي عن النبي من عشق فعف فكتم فمات فهو شهيد والقسم الثاني أباحوا لمن وصل إلى حد يخاف على نفسه منه القبلة في الحين قالوا لأن تركها قد يؤدي إلى هلاك النفس والقبلة صغيرة وهلاك النفس كبيرة وإذا وقع الإنسان في مرضين داوى الأخطر ولا خطر أعظم من قتل النفس حتى أوجبوا على المحبوب مطاوعته على ذلك إذا علم أن ترك ذلك يؤدي إلى هلاكه واحتجوا بقول الله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وبقوله تعالى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم وبحديث الذي قال يا رسول الله إني لقيت امرأة أجنبية فأصبت منها كل شيء إلا النكاح قال أصليت معنا قال نعم قال إن الله قد غفر لك فأنزل الله تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ثم قال فإن كان هذا السائل كما زعم ممن لا يدنس عشقه بزنى ولا يصحبه بخنى فينظر في حاله فإن كان من الطبقة الأولى
فالنظر كاف لهم إن صدقت دعواهم وإن كان من الطبقة الثانية فلا بأس بشكواه إلى محبوبه كي يرق عليه ويرحمه وإن غلب عليه الحال فالتحق بالثالثة أبيح له ما ذكرنا بشرط أن لا يكون أنموذجا لفعل القبيح المحرم فيلتحق بالكبائر ويستحق القتل عند ذلك ويزول عنه العذر ويحق عليه كلمة العذاب انتهى ما ذكرناه من جوابه
قالوا وقد جوزت طائفة من فقهاء السلف والخلف والعلماء استمناء الإنسان بيده إذا خاف الزنى وقد جوزت طائفة من الفقهاء لمن خاف على نفسه في الصوم الواجب من شدة الشبق أن تتشقق أنثياه أن يجامع امرأته وبنوا على ذلك فرعا وهو إذا كان له امرأتان حائض وصائمة فهل يطأ هذه أو هذه على وجهين ولا ريب أن النظر والقبلة والضم إذا تضمن شفاءه من دائه كان أسهل من الاستمناء باليد والوطء في نهار رمضان
وقد جوز بعض الفقهاء للمرأة إذا خافت الزنى أن تتخذ لها شيئا تدخله في فرجها وتخرجه لئلا تقع في محظور الزنى
ولا ريب أن الشريعة جاءت بالتزام الدخول في أدنى المفسدتين دفعا لأعلاهما وتفويت أدنى المصلحتين تحصيلا لأعلاهما فأين مفسدة النظر والقهلة والضم من مفسدة المرض والجنون أو الهلاك جملة فهذا ما احتجت به هذه الفرقة ونحن نذكر ما لها وما عليها في ذلك بحول الله وقوته وعونه
الباب التاسع في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة وما لها وما عليها في
هذا الاحتجاج
وشبههم التي ذكروها دائرة بين ثلاثة أقسام أحدها نقول صحيحة لا حجة لهم فيها والثاني نقول كاذبة عمن نسبت إليه من وضع الفساق والفجار كما سنبينه الثالث نقول مجملة محتملة لخلاف ما ذهبوا إليه
فأما احتجاجهم بقوله تعالى أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء فهو نظير احتجاجهم بعينه على إباحة السماع الشيطاني الفسقي بقوله تعالى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه قالوا والقول عام فحملوا لفظه ومعناه ما هو بريء منه وإنما القول هاهنا ما أمرهم الله باستماعه وهو وحيه الذي أنزله على رسوله وهو الذي قال فيه أفلم يدبروا القرآن وقال تعالى ولقد وصلنا لهم القول فهذا هو القول الذي أمروا باتباع أحسنه كما قال واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم والنظر الذي أمرنا سبحانه به المؤدي إلى معرفته والإيمان به ومحبته والاستدلال على صدق رسله فيما أخبروا به عنه من أسمائه وصفاته وأفعاله وعقابه وثوابه لا النظر الذي يوجب تعلق الناظر
بالصورة التي يحرم عليه الاستمتاع بها نظرا ومباشرة فهذا النظر الذي أمر الله سبحانه وتعالى صاحبه بغض بصره هذا مع أن القوم لم يبتلوا بالمردان وهم كانوا أشرف نفوسا وأطهر قلوبا من ذلك فإذا أمرهم بغض أبصارهم عن الصورة التي تباح لهم في بعض الأحوال خشية الافتتان فكيف النظر إلى صورة لا تباح بحال ثم يقال لهذه الطائفة النظر الذي ندب الله إليه نظر يثاب عليه الناظر وهو نظر موافق لأمره يقصد به معرفة ربه ومحبته لا النظر الشيطاني ويشبه هذا الاستدلال استدلال بعض الزنادقة المنتسبين إلى الفقه على حل الفاحشة بمملوك الرجل بقوله تعالى إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ومعتقد ذلك كافر حلال الدم بعد قيام الحجة عليه وإنما تسترت هذه الطائفة لهواها وشهواتها وأوهمت أنها تنظر عبرة واستدلالا حتى آل ببعضهم الأمر إلى أن ظنوا أن نظرهم عبادة لأنهم ينظرون إلى مظاهر الجمال الإلهي ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى عن قول إخوان النصارى يظهر في تلك الصورة الجميلة ويجعلون هذا طريقا إلى الله كما وقع فيه طوائف كثيرة ممن يدعي المعرفة والسلوك
قال شيخنا رحمه الله تعالى وكفر هؤلاء شر من كفر قوم لوط وشر من كفر عباد الأصنام فإن أولئك لم يقولوا إن الله سبحانه يتجلى في تلك الصورة وعباد الأصنام غاية ما قالوه ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وهؤلاء قالوا نعبدهم لأن الله ظهر في صورهم وحكى لي شيخنا أن
رجلا من هؤلاء مر به شاب جميل فجعل يتبعه بصره فأنكر عليه جليس له وقال لا يصلح هذا لمثلك فقال إني أرى فيه صفات معبودي وهو مظهر من مظاهر جماله فقال لقد فعلت به وصنعت فقال وإن قال شيخنا فلعن الله أمة معبودها موطوؤها قال وسئل أفضل متأخريهم العفيف التلمساني فقيل له إذا كان الوجود واحدا فما الفرق بين الأخت والبنت والأجنبية حتى تحل هذه فقال الجميع عندنا سواء ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم ومن هؤلاء الزنادقة من يخص ذلك ببعض الصور فهؤلاء من جنس النصارى بل هم إخوانهم فالنظر عند هؤلاء إلى الصور المحرمة عبادة ويشبه أن يكون هذا الحديث من وضع بعض هؤلاء الزنادقة أو مجان الفساق وإلا فرسول الله بريء منه وسئل شيخنا عمن يقول النظر إلى الوجه الحسن عبادة ويروى ذلك عن النبي فهل ذلك صحيح أم لا فأجاب بأن قال هذا كذب باطل ومن روى ذلك عن النبي أو ما يشبهه فقد كذب عليه فإن هذا لم يروه أحد من أهل الحديث لا بإسناد صحيح ولا ضعيف بل هو من الموضوعات وهو مخالف لإجماع المسلمين فإنه لم يقل أحد إن النظر إلى المرأة الأجنبية والصبي الأمرد عبادة ومن زعم ذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل فإن النظر منه ما هو حرام ومنه ما هو مكروه ومنه ما هو مباح والله أعلم وأما الحديث الآخر وهو أطلبواالخير من
حسان الوجوه فهذا وإن كان قد روي بإسناد إلا أنه باطل لم يصح عن رسول الله ولو صح لم يكن فيه حجة لهذه الطائفة فإنه إنما أمر بطلب الخير منهم لا بطلب وصالهم ونيل المحرم منهم فإن الوجه الجميل مظنة الفعل الجميل فإن الأخلاق في الغالب مناسبة للخلقة بينهما نسب قريب وأما أمر النبي للخاطب بأن ينظر إلى المخطوبة فذلك نظر للحاجة وهو مأمور به أمر استحباب عند الجمهور وأمر إيجاب عند بعض أهل الظاهر وهو من النظر المأذون فيه لمصلحة راجحة وهو دخول الزوج على بصيرة وأبعد من ندمه ونفرته عن المرأة فالنظر المباح أنواع هذا أحدها بخلاف النظر إلى الصورة المحرمة فصل
وأما ما ذكره السمعاني عن الشافعي رحمه الله تعالى فمن تحريف الناقل والسائل لم يذكر لفظ الشافعي والبيتان هكذا هما
سألت الفتى المكي في تزاور ... ونظرة مشتاق الفؤاد جناح
فقال معاذ الله أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراح
فهذا السائل هو الذي ذكر السؤال والجواب وهو مجهول لا يعرف هل هو ثقة أم لا ثم إن الجواب لا يدل على مقصود هذه الفرقة بوجه ما بل هو حجة عليها فإنه نهى أن يذهب التقى تلاصق هذه الأكباد فكأنه قال
لا تتلاصق هذه الأكباد لئلا يذهب تلاصقها التقى فالتلاصق المذكور فاعل والتقى مفعول فكأنه قال لا يفعل لئلا يذهب التلاصق التقى وجواب آخر وهو أن هذا التلاصق إنما يكون غير مذهب للتقى إذا كان في عشق مباح بل مستحب كعشق الزوجة والأمة
وأما ما ذكروا عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى فقد أجاب عنه سعيد نفسه فإنه لما مر به مرخية هذا السائل وكان من بني كلاب قال سعيد هذا من أكذب العرب قيل كيف يا أبا محمد قال أليس الذي يقول
سألت سعيد بن المسيب مفتي المدينة ... هل في حب دهماء من وزر
فقال سعيد بن المسيب إنما ... تلام على ما تستطيع من الأمر
كذب والله ما سألني عن شيء من هذا قط ولا أفتيته وإذا كان هذا جواب سعيد في مثل هذا فما جوابه لمن سأله أن يقبل حبيبا أجنبيا كل يوم وليلة عشرة فقبح الله الفسقة الكذابين على العلماء لا سيما على مثل سعيد فهؤلاء كلهم فسقة كاذبون أرادوا تنفيق فسقهم بالكذب على علماء وقتهم كما نفق الفاسق أبو نواس كذبه على إسحاق بن يوسف الأزرق قال عبدالله
ابن محمد بن عائشة أتيت إسحاق بن يوسف الأزرق يوما فلما رآني بكى قلت ما يبكيك قال هذا أبو نواس قلت ماله قال يا جارية ائتيني بالقرطاس فإذا فيه مكتوب
يا ساحر المقلتين والجيد ... وقاتلي منه بالمواعيد
توعدني الوصل ثم تخلفني ... ويلاه من مخلف لموعودي
حدثني الأزرق المحدث عن ... شمر وعوف عن ابن مسعود
لا يخلف الوعد غير كافرة ... أو كافر في الجحيم مصفود
كذب والله علي وعلى التابعين وعلى الصحابة ولو صح عن سعيد لم يكن لكم فيه حجة فإن سعيدا أمره بالصبر أولا ومراقبة الله وخوف سطوته ومخالفة الفسقة ثم أمره بتقبيل خد من يحبه كل يوم عشر مرات وهذا قطعا إنما أراد به من يحل له تقبيله من زوجة أو سرية فأمره أن يعتاض بقبلتها من لا يحل له ولا يظن بعلماء الإسلام غير هذا إلا مفرط في الجهل أو متهم على الدين
وأما ذكره المبرد عن الأعرابي الذي سأل المفتي المكي عن القبلة في رمضان فقال للزوجة سبع وللخلة ثمان فهذا المستفتي والمفتي لا يعرف واحد منهما حتى يقبل خيره ولو صح ذلك وعرف المستفتي والمفتي لكانت الخلة هي أمته الجميلة وهي التي يحل تقبيلها ثمانيا فأكثر
وأما أن يفتي أحد من أهل الإسلام بأنه يحل تقبيل المرأة الأجنبية المحرمة عليه ثمانيا في رمضان أو غيره فمعاذ الله من ذلك وهكذا حكم الأثر الذي ذكره الخطيب في كتاب رواه مالك ولا يظن بعالم أنه تمنى أن يقبل امرأة أجنبية وهو محرم ببطن منى فإن القبلة المذكورة تعرض الحج للفساد وتبطله عند طائفة فإن صح هذا فإنما اراد امرأته أو أمته
وأما الأثر الذي ذكره الحاكم في مناقب الشافعي رحمه الله تعالى فليس بين الحاكم وبين الربيع من يحتج به ويدل على أن القصة كذب ظاهر أن المستفتي زعم أن الشافعي أجاب بقوله فقال لي المفتي وفاضت دموعه وهذا إنما هو حكاية المستفتي قول المفتي فمن هو الحاكي عن الشافعي فدعوا هذه الأكاذيب والترهات
وأما ما ذكرتم عن عمرو بن سفيان ابن بنت جامع فمن ذكر هذا عن عمرو ابن سفيان ومن هو عمرو بن سفيان ابن بنت جامع بن مرخية هذا وهذا موضع البيتين المشهورين
سألنا عن ثمالة كل حي ... فقال القائلون ومن ثماله
فقلت محمد بن يزيد منهم ... فقالوا زدتنا بهم جهاله
وهل يحل لأحد أن يصدق عن مالك والليث بن سعد أنهما أجازا تقبيل خد المرأة الأجنبية المعشوقة أو خد الأمرد الجميل الصورة هذا وقصة مالك مع الذي ضم صبياإليه فأفتى بضربه ستمائة سوط فمات فقال له أبو الفتى قتلت ابني فقال قتله الله فمن هذا تشديده وفتواه هل يفتي بجواز تقبيل خدود المرد الحسان نعم ما حرم الرحمن قبلة عاشق يحل لمعشوقه مواصلته ولا قبلة الرجل خد ولده كما قبل الصديق رضي الله عنه خد ابنته عائشة رضي الله عنها ورأى أعرابي النبي يقبل أحد ابني ابنته فقال وإنكم لتقبلون الصبيان إن لي عشرة من الولد ما قبلتهم فقال
أو أملك لك إن نزع الله الرحمة من قلبك
وأما صاحب كتاب رستاق الاتفاق وهو شاعر المصريين فلعمر الله لقد أفسدت إذ أسندت فإنه الفاسق الماجن المسمى أبا الرقعمق ولكن لا ينكر هذا المتن بهذا الإسناد فإنه لا يليق إلا به
وأما قصة إبراهيم بن المدبر عن أبي بكر بن عياش فنقل غير مصدق عن قائل غير معصوم
وأما ما ذكروا عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى فوالذي لا إله غيره إنه لمن أقبح الكذب عليه ولو أن هذا الكاذب الفاسق نفق هذه الكذبة بغيره لراج أمرها بعض الرواج ولكن من شدة جهله نفقها بأحمد ابن حنبل وهو كمن نسب إليه القول بأن القرآن مخلوق أو تقديم علي على أبي بكر أو تقديم الرأي على السنة وأمثال ذلك وكذلك ما ذكره عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولو صح لم يكن فيه حجة لهذه الطائفة فإنه قال لا إثم فيه إذا كانت لعشر وأربع ولم يقل إذا كانت أجنبية ونحن نقول بما قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إذا كان المعشوق حلالا
وأما ما ذكر عن الطحاوي فلا نعلم صحته وإن صح فإنما أراد به التقبيل المباح فإن الرجل قد يبتلى بهجر زوجته أو أمته له فيسأل أطباء الدين وأطباء الجسم وأطباء الحب عن دوائه فيجيبه كل منهم بمقتضى علمه وما عنده وقد شكى مغيث زوج بريرة حبه لها فشفع عندها النبي أن
تراجعه فلم تفعل وشكى إليه رجل أن امرأته لا ترد يد لامس فقال طلقها فقال إني أخاف أن تتبعها نفسي فقال استمتع بها ذكره الإمام أحمد والنسائي قال بعض أهل العلم راعى النبي دفع أعلى المفسدتين بأدناهما فإنه لما شكى إليه أنها لا ترد يد لامس أمره بطلاقها فلما أخبره عن حبها وأنه يخاف أن لا يصبر عنها ولعل حبه لها يدعوه إلى معصية أمره أن يمسكها مداواة لقلبه ودفعا للمفسدة التي يخافها باحتمال المفسدة التي شكا منها وأجاب أبو عبيدة عنه بأنها كانت لا ترد يد لامس يطلب منها العطاء فكانت لا ترد يد من سألها شيئا من مال الزوج ورد عليه هذا التأويل بأنه لا يقال لطالب العطاء لامس وإنما يقال له ملتمس وأجابت طائفة أخرى عنه بأن طرآن المعصية على النكاح لا توجب فساده وقال النسائي هذا الحديث منكر وعندي أن له وجها غير هذا كله فإن الرجل لم يشك من المرأة أنها تزني بكل من اراد ذلك منها ولو سأل عن ذلك لما أقره رسول الله على أن يقيم مع بغي ويكون زوج بغي ديوثا وإنما شكى إليه أنها لا تجذب نفسها ممن لاعبها ووضع يده عليها أو جذب ثوبها ونحو ذلك فإن من النساء من تلين عند الحديث واللعب ونحوه وهي حصان عفيفة إذا أريد منها الزنى وهذا كان عادة كثير من نساء العرب ولا يعدون ذلك عيبا بل كانوا في الجاهلية يرون للزوج النصف الأسفل وللعشيق النصف الأعلى
فللحب ما ضمت عليه نقابها ... وللبعل ما ضمت عليه المآزر
والمقصود أن القوم كانوا مع العاشق على معشوقه إذا كان يباح له وصاله وسنذكر ذلك في باب مساعدة العشاق بالمباح من التلاق إن شاء الله تعالى
وأما ما ذكروا عن شيوخ المعتزلة وشيوخ الواسطيين فأما أبو عثمان المذكور وهو عمرو بن عبيد وواصل وهو واصل بن عطاء وهما شيخا القوم ولو أفتيا بذلك لكانت فتيا من مبتدعين مذمومين عند السلف والخلف فكيف والمخبر بذلك رجل مجهول من المعتزلة كذب على من يعظمهما المعتزلة لينفق فسقه
وأما قصة محمد بن داود الأصبهاني فغايتها أن تكون من سعيه المعفو المغفور لا من عمله المشكور وسلط الناس بذلك على عرضه والله يغفر لنا وله فإنه تعرض بالنظر إلى السقم الذي صار به صاحب فراش وهذا لو كان ممن يباح له لكان نقصا وعيبا فكيف من صبي أجنبي وأرضاه الشيطان بحبه والنظر إليه عن مواصلته إذا لم يطمع في ذلك منه فنال منه ما عرف أن كيده لا يتجاوزه وجعله قدوة لمن يأتم به بعده كأبي محمد بن حزم الظاهري وغيره وكيد الشيطان أدق من هذا
وأما أبو محمد فإنه على قدر يبسه وقسوته في التمسك بالظاهر وإلغائه للمعاني والمناسبات والحكم والعلل الشرعية انماع في باب العشق والنظر وسماع الملاهي المحرمة فوسع هذا الباب جدا وضيق باب المناسبات والمعاني والحكم الشرعية جدا وهو من انحرافه في الطرفين حين رد الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في تحريم آلات اللهو بأنه معلق غير مسند وخفي عليه أن البخاري لقي من علقه عنه وسمع منه وهو هشام بن عمار وخفي عليه أن الحديث قد أسنده غير واحد من أئمة الحديث غير هشام بن عمار فأبطل سنة صحيحة
ثابتة عن رسول الله لا مطعن فيها بوجه
وأما من حاكمتمونا إليه وهو شيخ الإسلام ابن تيمية فنحن راضون بحكمه فأين أباح لكم النظر المحرم وعشق المردان والنساء الأجانب وهل هذه إلا كذب ظاهر عليه وهذه تصانيفه وفتاواه كلها ناطقة بخلاف ما حكيتموه عنه وأما الفتيا التي حكيتموها فكذب عليه لا تناسب كلامه بوجه ولولا الإطالة لذكرناها جميعها حتى يعلم الواقف عليها أنها لا تصدر عمن دونه فضلا عنه وقلت لمن أوقفني عليها هذه كذب عليه لا يشبه كلامه وكان بعض الأمراء قد أوقفني عليها قديما وهي بخط رجل متهم بالكذب وقال لي ما كنت أظن الشيخ برقة هذه الحاشية ثم تأملتها فإذا هي كذب عليه ولولا الإطالة لذكرنا من فتاويه ما يبين أن هذه كذب
وأما ما ذكرتم من مسألة التزام أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما فنحن لا ننكر هذه القاعدة بل هي من أصح قواعد الشريعة ولكن الشأن في إدخال هذه الصورة فيها بل نحاكمكم إلى هذه القاعدة نفسها فإن احتمال مفسدة ألم الحب مع غض البصر وعدم تقبيل المحبوب وضمه ونحو ذلك أقل من مفسدة النظر والتقبيل فإن هذه المفسدة تجر إلى هلاك القلب وفساد الدين وغاية ما يقدر من مفسدة الإمساك عن ذلك سقم الجسد أو الموت تفاديا عن التعرض للحرام فأين إحدى المفسدتين من الأخرى على أن النظر والقبلة
والضم لا يمنع السقم والموت الحاصل بسبب الحب فإن العشق يزيد بذلك ولا يزول
فما صبابة مشتاق على أمل ... من الوصال كمشتاق بلا أمل
ولا ريب في أن محبة من له طمع أقوى من محبة من يئس من محبوبه ولهذا قال الشاعر
وأبرح ما يكن الحب يوما ... إذا دنت الديار من الديار
فإن قيل فقد أباح الله سبحانه للمضطر الميتة والدم ولحم الخنزير وتناولها في هذه الحال واجب عليه قال مسروق والإمام أحمد رحمهما الله تعالى من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل فمات دخل النار فغاية النظرة والقبلة والضمة أن تكون محرمة فإذا اضطر العاشق إليها فإن لم تكن واجبة فلا أقل من أن تكون مباحة فهذا قياس واعتبار صحيح وأين مفسدة موت العاشق إلى مفسدة ضمه ولمه
فالجواب أن هذا يتبين بذكر قاعدة وهي أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل في العبد اضطرارا إلى الجماع بحيث إن لم يفعله مات بخلاف اضطراره إلى الأكل والشرب واللباس فإنه من قوام البدن الذي إن لم يباشره هلك ولهذا لم يبح من الوطء الحرام ما أباح من تناول الغذاء والشراب المحرم فإن هذا من قبيل الشهوة واللذة التي هي تتمة وفضلة ولهذا يمكن الإنسان أن يعيش طول عمره بغير تزوج وغير تسر ولا يمكنه أن يعيش بغير طعام ولا شراب ولهذا أمر النبي الشباب أن يداووا هذه الشهوة بالصوم وقال تعالى عن عشاق المردان إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون
النساء فأخبر أن الحامل على ذلك مجرد الشهوة لا الحاجة فضلا عن الضرورة والشهوة المجردة لا تلتحق بالضروريات ولا بالحاجات والحمية عنها خشية إفضائها إلى مرض أصعب منها جار مجرى الحمية عن تناول ما يضر من الأطعمة والأشربة وذلك لا تدعو الضرورة إلى تناوله وإن كانت النفس قد تشتهيه فالقبلة والنظر والضم ونحوها جار مجرى تناول الفاكهة المضرة والزفرة المضر للمحموم ومن به مرض يضره معه تناول ذلك فإذا قال المريض أنا إن لم أتناول ذلك وإلا خشيت الموت لم يكن صادقا في قوله وإنما الحامل له على ذلك مجرد الشهوة وربما زاد تناول ذلك في مرضه فالطبيب الناصح لا يفسح له فيه فكيف يفسح الشارع الحكيم الذي شريعته غاية طب القلوب والأديان وبها تحفظ صحتها وتدفع موادها الفاسدة في تناول ما يزيد الداء ويقويه ويمده هذا من المحال بل الشريعة تأمر بالحمية عن أسباب هذا الداء خوفا من استحكامه وتولد داء آخر أصعب منه
وأما مسألة من خاف تشقق أنثييه وأنه يباح له الوطء في رمضان فهذا ليس على إطلاقه بل إن أمكنه إخراج مائه بغير الوطء لم يجز له الوطء بلا نزاع وإن لم يمكنه ذلك إلا بالوطء المباح فإنه يجري مجرى الإفطار لعذر المرض ثم يقضي ذلك اليوم والإفطار بالمرض لا يتوقف على خوف الهلاك فكيف إذا خاف تلف عضو من أعضائه القاتلة بل هذا نظير من اشتد عطشه وخاف إن لم يشرب أن يحدث له داء من الأدواء أو يتلف عضو
من أعضائه فإنه يجوز له الشرب ثم يقضي يوما مكانه فإن قيل فلو اتفق له ذلك ولم يكن عنده إلا أجنبية هل يباح له وطؤها لئلا تتلف أنثياه قيل لا يباح له ذلك ولكن له أن يخرج ماءه باستمنائه فإن تعذر عليه فهل يجوز له أن يمكنها من استخراج مائه بيدها هذا فيه نظر فإن أبيح جرى مجرى تطبيب المرأة الأجنبية للرجل ومسها منه ما تدعو الحاجة إلى مسه وكذلك تطبيب الرجل للمرأة الأجنبية ومسه ما تدعو الحاجة إليه والله أعلم
وقد سئل أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني في رقعة
قل لأبي الخطاب نجم الهدى ... وقدوة العالم في عصره
لا زلت في فتواك مستأمنا ... من خدع الشيطان أو مكره
ماذا ترى في رشإ أغيد ... حاز اللمى والدرر في ثغره
لم يحك بدر التم في حسنه ... حتى حكى الزنبور في حضره
فهل يجيز الشرع تقبيله ... لمستهام خاف من وزره
أم هل على المشتاق في ضمه ... من غير إدناء إلى صدره
إثم إذا ما لم يكن مضمرا ... غير الذي قدم من ذكره
فأجاب
يا أيها الشيخ الأديب الذي ... قد فاق أهل العصر في شعره
تسأل عن تقبيل بدر الدجى ... وعطف زنديك على نحره
هل ورد الشرع بتحليله ... لمستهام خاف من وزره
من قارف الفتنة ثم ادعى ال ... عصمة قد نافق في أمره
هل فتنة المرء سوى الضم والت ... قبيل للحب على ثغره
وهل دواعي ذلك المشتهى ... إلا عناق البدر في خدره
وبذله ذاك لمشتاقه ... يزري على هاروت في سحره
ولا يجيز الشرع أسباب ما ... يورط المسلم في حظره
فانج ودع عنك صداع الهوى ... عساك أن تسلم من شره
هذا جواب الكلوزاني قد ... جاءك يرجو الله في أجره
فهذا جواب أهل العلم وهو مطابق لما ذكرناه والله تعالى أعلم
وسئل الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله بأبيات
يا أيها العالم ماذا ترى ... في عاشق ذاب من الوجد
من حب ظبي أغيد أهيف ... سهل المحيا حسن القد
فهل ترى تقبيله جائزا ... في الفم والعينين والخد
من غير ما فحش ولا ريبة ... بل بعناق جائز الحد
إن كنت ما تفتي فإني إذا ... أصيح من وجدي وأستعدي
فكتب رحمه الله تعالى الجواب
ياذا الذي ذاب من الوجد ... وظل في ضر وفي جهد
إسمع فدتك النفس من ناصح ... بنصحه يهدي إلى الرشد
لو صح منك العشق ما جئتني ... تسألني عنه وتستعدي
فالعاشق الصادق في حبه ... ما باله يسأل ما عندي
غيبه العشق فما إن يرى ... يعيد في العشق ولا يبدي
وكل ما تذكر مستفتيا ... حرمه الله على العبد
إلا لما حلله ربنا ... في الشرع بالإبرام والعقد
فعد من طرق الهوى معرضا ... وقف بباب الواحد الفرد
وسله يشفيك ولا يبتلي ... قلبك بالتعذيب والصد
وعف في العشق ولا تبده ... واصبر وكاتم غاية الجهد
فإن تمت محتسبا صابرا ... تفز غدا في جنة الخلد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق