أما من فساد فى الايمان واما من فساد فى العقل وما أكثر ما يكون منهما ولهذا نبذها رسول الله وراء ظهره هو وأصحابه وصرفوا عنها قلوبهم واطرحوها ولم يألفوها وهجورها ولم يميلوا اليها وعدوها سجنا لا جنة فزهدوا فيها حقيقة الزهد ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب لوصلوا منها الى كل مرغوب فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها وفاضت على أصحابه فآثروا بها ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر وأنها دار عبور لا دار سرور وانها سحابة صيف تنقشع عن قليل وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذن بالرحيل قال النبي مالى وللدنيا انما انا كراكب قال فى ظل شجرة ثم راح وتركها وقال ما الدنيا في الآخرة الا كما يدخل أحدكم أصبعه فى اليم فلينظر بما ترجع وقال خالقها سبحانه أنما مثل حياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس والأنعام حتى اذا أخذت الارض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالامس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون والله يدعو الى دار السلام ويهدى من يشاء الى صراط مستقيم فاخبر عن خسة الدنيا وزهد فيها وأخبر عن دار السلام ودعا اليها وقال تعالى واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا وقال تعالى اعلموا انما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفى الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور وقال تعالى
وزين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله وعنده حسن
المآب قل أؤنتبكم بخير منكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد وقال تعالي وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا فى الآخرة الا متاع
وقد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا وأطمأن بها وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه فقال ان الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون اولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون وعير سبحانه من رضى بالدنيا من المؤمنين فقال يا أيها الذين آمنوا مالكم اذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم الي الارض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة الا قليل وعلي قدر رغبة العبد فى الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة ويكفى في بالزهد فى الدنيا قوله تعالى أفرأيت ان متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يتمتعون وقوله ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا الا ساعة من النهار يتعارفون بينهم وقوله كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثو الا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك الا القوم الفاسقون وقوله تعالى يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها الى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا الا عشية اوضحاها وقوله ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة وقوله قال كم لبثتم فى الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال ان لبثتم الا قليلا لو انكم كنتم تعلمون وقوله يون ينفخ فى الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم ان لبثتم الا عشرا نحن أعلم بما يقولون اذ يقول أمثلهم طريقة ان لبثتم الا يوما والله المستعان وعليه التكلان
قاعدة أساس كل خير أن تعلم أن ما شاء الله كان وما لم
يشأ لم يكن فتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه فتشكره عليها وتتضرع اليه أن لا يقطعها عنك وان السيئات من خذلانه وعقوبته فتبتهل اليه أن يحول بينك وبينها ولا يكلك في فعل الحسنات وترك السيئات الى نفسك وقد أجمع العارفون على أن كل خير فأصله بتوفيق الله للعبد وكل شر فأصله خذلانه لعبده وأجمعوا أن التوفيق أن لا يكلك الله نفسكوان الخذلان أن يخلي بينك وبين نفسك فاذا كان كل خير فأصله التوفيق وهو بيد الله إلى نفسك وأن لا بيد العبد فمفتاحه الدعاء والافتقار وصدق اللجأ والرغبة والرهبة اليه فمتي أعطى العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له ومتي أضله عن المفتاح بقى باب الخير مرتجا دونه
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اني لا أحمل هم الاجابة ولكن هم الدعاء فاذا ألهمت الدعاء فان الاجابة معه وعلى قدرنية العبد وهمته ومراده ورغبته فى ذلك يكون توفيقه سبحانه واعانته فالمعونة من الله تنزل علي العباد علي قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به والخذلان في مواضعه اللائقة به هو العليم الحكيم وما أتي من أتي الا من قبل أضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه الا بقيامة بالشكر وصدق الافتقار والدعاء وملاك ذلك الصبر فانه من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد فاذا قطع الرأس فلا بقاء للجسد ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله خلقت النار لاذابة القلوب القاسية أبعد القلوب من الله القلب القاسي اذا قسي القلب قحطت العين قسوة القلب من أربعة أشياء اذا جاوزت قدر الحاجة الأكل والنوم والكلام والمخالطة كما
ان البدن اذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب فكذلك القلب اذا مرض بالشهوات لم تنجع فيه المواعظ ومن أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها القلوب آنية الله فى أرضه فأحبها اليه أرقها وأصلبها وأصفاها شغلوا قلوبهم بالدنيا ولو شغلوها بالله والدار الآخرة لجالت فى معاني كلامه وآياته المشهودة ورجعت الي أصحابها بغرائب الحكم وطرف الفوائد اذا غذى القلب بالتذكر وسقى بالتفكر ونقى من الدغل رأى العجائب وألهم الحكمة ليس كل من تحلى بالمعرفة والحكمة وانتحلها كان من أهلها بل أهل المعرفة والحكمة الذين أحيوا قلوبهم بقتل الهوى وأما من قتل قلبه فأحيى الهوى المعرفة والحكمة عارية على لسانه خراب القلب من الأمن والغفلة وعمارته من الخشية والذكر اذا زهدت القلوب فى موائد الدنيا قعدت علي موائد الآخرة بين أهل تلك الدعوة واذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد الشوق الي الله ولقائه نسيم يهب على القلب يروح عنه وهج الدنيا من وطن قلبه عند ربه سكن واستراح ومن أرسله فى الناس اضطرب واشتد به القلق لا تدخل محبة الله فى قلب فيه حب الدنيا الا كما يدخل الجمل فى سم الابرة اذ أحب الله عبدا اصطنعه لنفسه واجتباه لمحبته واستخلصه لعبادته فشغل همه به ولسانه بذكره وجوارحه بخدمته والقلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر ويعري كما يعري الجسم وزينته التقوى ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والانابة والخدمة إياك والغفلة عمن جعل لحياتك أجلا ولأيامك وأنفاسك أمدا ومن كل ما سواه بد ولا بذلك منه من ترك الاختيار والتدبير فى طلب زيادة دنيا أو جاه أو فى خوف نقصان أو فى التخلص من عدو توكلا علي الله وثقة بتدبيره له وحسن اختياره له فالقى كنفه بين يديه وسلم الأمر اليه ورضي بما يقضيه له استراح من
الهموم والغموم والأحزان ومن أبي الا تدبيره لنفسه وقع فى النكد والنصب وسوء الحال والتعب فلا عيش يصفو ولا قلب يفرح ولا عمل يزكو ولا أمل يقوم ولا راحة تدوم والله سبحانه سهل لخلقه السبيل اليه وحجبهم عنه بالتدبير فمن رضى بتدبير الله له وسكن الى اختياره وسلم لحكمه أزال ذلك الحجاب فأفضى القلب الى ربه واطمأن إليه وسكن المتوكل لا يسأل غير الله ولا يرد علي الله ولا يدخر مع الله من شبغل بنفسه شغل عن غيره ومن شغل بربه شغل عن نفسه الاخلاص هو ما لا يعلمه ملك فيكتبه ولا عدو فيفسده ولا يعجب به صاحبه فيبطله الرضا سكون القلب تحت مجارى الأحكام الناس فى الدنيا معذبون على قدر هممهم بها للقلب ستة مواطن يجول فيها لا سابع لها ثلاثة سافلة وثلاثة عالية فالسافلة دنيا تزين له ونفس تحدثه وعدو يوسوس له فهذه مواطن الأرواح السافلة التي لا تزال تجول فيها والثلاثة العالية علم يتبين له وعقل يرشده واله يعبده والقلوب جوالة فى هذه المواطن اتباع لهوى وطول الأمل مادة كل فساد فان اتباع الهوى يعمى عن الحق معرفة وقصدا وطول الأمل ينسى الآخرة ويصد عن الاستعداد لها لا يشم عبد رائحة الصدق ويداهن نفسه أو يداهن غيره اذا أراد الله بعبد خيرا جعله معترفا بذنبه ممسكا عن ذنب غيره جوادا بما عنده زاهدا فيما عنده محتملا لأذى غيره وان أراد به شرا عكس ذلك عليه الهمة العلية لا تزال حائمة حول ثلاثة أشياء تعرف لصفة من الصفات العليا تزداد بمعرفتها محبة وإرادة وملاحظة لمنة تزداد بملاحظتها شكر او اطاعة وتذكر لذنب تزداد بتذكره توبة وخشية فاذا تعلقت الهمة بسوى هذه الثلاثة جالت فى أودية الوساوس والخطرات من عشق الدنيا نظرت الي قدرها عنده فصيرته من خدمها وعبيدها واذلته ومن أعرض عنها نظرت الي كبر قدره فخدمته وذلت له انما يقطع السفر
ويصل المسافر بلزوم الجادة وسير الليل فاذا حاد المسافر عن الطريق ونام الليل كله فمتى يصل الى مقصده
فائدة جليلة كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها فلا بد أن
يقول علي الله غير الحق فى فتواه وحكمه فى خبره والزامه لان أحكام الرب سبحانه كثيرا ما تأتي على خلاف أغراض الناس ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشبهات فانهم لا تتم لهم أغراضهم الا بمخالفة الحق ودفعه كثيرا فاذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لما ذلك الا بدفع ما يضاده من الحق ولا سيما اذا قامت له شبهة فتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق وان كان الحق ظاهرا لا خفاء به ولا شبة فيه أقدم على مخالفته وقال لي مخرج بالتوبة وفى هؤلاء وأشباههم قال تعالى فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وقال تعالى فيهم أيضا فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدني ويقولون سيغفر لنا وان يأتيهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله الا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون فاخبر سبحانه أنهم اخذوا العرض الأدني مع علمهم بتحريمه عليهم وقالوا سيغفر لنا وان عرض لهم عرض آخر أخذوه فهم مصرون على ذلك وذلك هو الحامل لهم على ان يقولوا على الله غير الحق فيقولون هذا حكمه وشرعه ودينه وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك أولا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه فتارة يقولون على الله مالا يعلمون وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه
وأما الذين يتقون فيعلمون أن الدار الآخرة خير من الدنيا فلا يحملهم
حب الرياسة والشهوة على أن يؤثروا الدنيا على الآخرة وطريق ذلك أن يتمسكوا بالكتاب والسنة ويستعينوا بالصبر والصلاة ويتفكروا في الدنيا وزوالها وخستها والآخرة واقبالها ودوامها وهؤلاء لا بد أن يبتدعوا فى الدين مع الفجور في العمل فيجتمع لهم الأمران فان اتباع الهوى يعمى عين القلب فلا يميز بين السنة والبدعة أو ينكسه فيرى البدعة سنة والسنة بدعة فهذه آفة العلماء اذا آثروا الدنيا واتبعوا الرياسات والشهوات وهذه الآيات فيهم الى قوله
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد الي الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فهذا مثل عالم السوء الذي يعمل بخلاف علمه
وتأمل ما تضمنته هذه الآية من ذمة وذلك من وجوه أحدها انه ضل بعد العلم واختار الكفر على الايمان عمدا ولا جهلا وثانيها أنه فارق الايمان مفارقه من لا يعود اليه أبدا فانه انسلخ من الآيات بالجملة كما تنسلخ الحية من قشرها ولو بقى معه منها شيء لم ينسلخ منها وثالثها أن الشيطان أدركه ولحقه بحيث ظفر به وافترسه ولهذا قال فاتبعه الشيطان ولم يقل تبعه فان فى معنى اتبعه أدركه ولحقه وهو أبلغ من تبعه لفظا ومعنى ورابعها أنه غوى بعد الرشد والغى الضلال فى العلم والقصد وهو أخص بفساد القصد والعمل كما أن الضلال أخص فساد العلم والاعتقاد فاذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر وإن اقترنا فالفرق ما ذكر وخامسها أنه سبحانه لم يشأ أن يرفعه بالعلم فكان سبب هلاكه لأنه لم رفع به فصار وبالا عليه فلو لم يكن عالما كان خيرا له وأخف لعذابه وسادسها انه سبحانه اخبر عن خسة همته وأنه اختار الاسفل الادني على الاشرف الاعلى وسابعها أن اختياره للادني لم يكن عن خاطر وحديث نفس ولكنه كان عن اخلاد الى الارض وميل بكليته الى ما هناك وأصل الاخلاد اللزوم على الدوام
كأنه قيل لزم الميل الى الارض ومن هذا يقال أخلد فلان بالمكان اذا لزم الاقامة به قال مالك بن نويرة
بأبناء حى من قبائل مالك ... وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
وعبر عن ميله الى الدنيا باخلاده الى الارض لان الدنيا هي الارض وما فيها وما يستخرج منها من الزينة والمتاع وثامنها أنه رغب عن هداه واتبع هواه فجعل هواه اماما له يقتدي به ويتبعه وتاسعها أنه شبهه بالكلب الذي هو أخس الحيوانات همه وأسقطها نفسا وأبخلها وأشدها كلبا ولهذا سمى كلبا وعاشرها أنه شبه لهثه على الدنيا وعدم صبره عنها وجزعه لفقدها وحرصه على تحصيلها بلهث الكلب فى حالتي تركه والحمل عليه بالطرد وهكذا هذا ان ترك فهو لهثان على الدنيا وان وعظ وزجر فهو كذلك فاللهث لا يفارقه فى كل حال كلهث الكلب قال ابن قتيبة كل شيء يلهث فانما يلهث من اعياء أو عطش الا الكلب فانه يلهث فى حال الكلال وحال الراحة وحال الري وحال العطش فضربه الله مثلا لهذا الكافر فقال ان وعظته فهو ضال وان تركته فهو ضال كالكلب ان طردته لهث وان تركته على حاله لهث وهذا التمثيل لم يقع بكل كلب وانما وقع بالكلب اللاهث وذلك أخس ما يكون وأشنعه
فصل فهذا حال العالم المؤثر الدنيا علي الآخرة وأما العابد الجاهل
فآفته من إعراضه عن العلم وأحكامه وغلبة خياله وذوقه ووجده وما تهواه نفسه ولهذا قال سفيان ابن عيينة وغيره احذروا فتنة العالم الفاجر وفتنة العابد الجاهل فان فتنتهما فتنة لكل مفتون فهذا بجهله يصد عن العلم وموجبه وذاك بغية يدعو الى الفجور وقد ضرب الله سبحانه مثل النوع الآخر بقوله كمثل الشيطان اذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال اني برىء منك اني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما
أنهما فى النار خلدين فيها وذلك جزاء الظالمين وقصته معروفة فانه بنى أساس أمره على عبادة الله بجهل فاوقعه الشيطان بجهله وكفره بجهله فهذا امام كل عابد جاهل يكفر ولا يدري وذاك امام كل عالم فاجر يختار الدنيا على الآخرة وقد جعل سبحانه رضى العبد بالدنيا وطمأنينته وغفلته عن معرفة آياته وتدبرها والعمل بها سبب شقائه وهلاكه ولا يجتمع هذان أعنى الرضى بالدنيا والغفلة عن آيات الرب الا في قلب من لا يؤمن بالمعاد ولا يرجو لقاء رب العباد والا فلو رسخ قدمه فى الايمان بالمعاد لما رضى الدنيا ولا اطمأن اليها ولا أعرض عن آيات الله وأنت اذا تأملت احوال الناس وجدت هذا الضرب هو الغالب علي الناس وهم عمار الدنيا وأقل الناس عددا من هو على خلاف ذلك وهو من أشد الناس غربة بينهم لهم شان وله شأن علمه غير علومهم وإرادته غير إرادتهم وطريقه غير طريقهم فهو فى واد وهم فى واد قال تعالي ان الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون
ثم ذكر وصف ضد هؤلاء ومآلهم وعاقبتهم بقوله ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم تجري من تحتهم الانهار فى جنات النعيم فهؤلاء ايمانهم بلقاء الله أورثهم عدم الرضا بالدنيا والطمأنينة اليها ودوام ذكر آياته فهذه مواريث الايمان بالمعاد وتلك مواريث عدم الايمان به والغفلة عنه
فائدة عظيمة افضل ما اكتسبته النفوس وحصلته القلوب العبد ونال به
العبد الرفعة فى الدنيا والآخرة هو العلم والأيمان ولهذا قرن بينهما سبحانه فى قوله وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم فى كتاب الله الى يوم البعث وقوله يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وهؤلاهم خلاصة الوجود ولبه والمؤهلون للمراتب العالية ولكن أكثر الناس غالطون فى حقيقة مسمى العلم والايمان اللذين بهما
السعادة والرفقة وفى حقيقتهما حتي ان كل طائفة تظن ان ما معها من العلم والايمان هو هذا الذي به تنال السعادة وليس كذلك بل أكثرهم ليس معهم ايمان ينجى ولا علم يرفع بل قد سدوا على نفوسهم طرق العلم والايمان اللذين جاء بهما الرسول ودعا اليهما الأمة وكان عليهما هو وأصحابه من بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم
فكل طائفة اعتقدت ان العلم ما معها وفرحت وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون واكثر ما عندهم كلام وآراء وخرص والعلم وراء الكلام كما قال حماد بن زيد قلت لايوب العلم اليوم اكثر او فيما تقدم فقال الكلام اليوم اكثر والعلم فيما تقدم أكثر
ففرق هذا الراسخ بين العلم والكلام فالكتب كثيرة جدا والكلام والجدال والمقدرات الذهنية كثيرة والعلم بمعزل عن أكثرها وهو ما جاء به الرسول عن الله قال تعالى
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم وقال
ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من لعلم وقال فى القرآن انزله بعلمه أى وفيه علمه
ولما بعد العهد بهذا العلم آل الأمر بكثير من الناس الى أن اتخذوا هواجس الافكار وسوانح الخواطر والآراء علما ووضعوا فيها الكتب وأنفقوا فيها الانفاس فضيعوا فيها الزمان وملأوا بها الصحف مدادا والقلوب سوادا حتى صرح كثير منهم انه ليس فى القرآن والسنة علم وان أدلتها لفظية لا تفيد يقينا ولا علما وصرخ الشيطان بهذه الكلمة فيهم وأذن بها بين أظهرهم حتي أسمعها دانيهم لقاصيهم فانسلخت بها القلوب من العلم والايمان كانسلاخ الحية من قشرها والثوب عن لابسه قال الامام العلامة شمس الدين ابن القيم ولقد أخبرني بعض أصحابنا عن بعض اتباع اتباع تلاميذ هؤلاء انه رآه يشتغل في بعض كتبهم ولم يحفظ القرآن فقال له لو حفظت القرآن أولا كان أولي فقال وهل فى القرآن علم قال ابن القيم وقال لي بعض أئمة هؤلاء انما نسمع الحديث لاجل البركة لا لنستفيد
منه العلم لان غيرنا قد كفانا هذه المؤونة فعمدتنا على ما فهموه قرروه ولا شك ان من كان هذا مبلغه من العلم فهو كما قال القائل
نزلوا بمكة فى قبائل هاشم ... ونزلت بالبطحاء أبعد منزل
قال وقال لي شيخنا مرة فى وصف هؤلاء انهم طافوا على أرباب المذاهب ففازوا بأخس المطالب ويكفيك دليلا على ان هذا الذى عندهم ليس من عند الله ما ترى فيه من التنقائض والاختلاف ومصادمة بعضه لبعض قال تعالي ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وهذا يدل على ان ما كان من عنده سبحانه لا يختلف وأن ما اختلف وتناقض فليس من عنده وكيف تكون الآراء والخيالات وسوانح الافكار دينا يدان به ويحكم به على الله ورسوله سبحانك هذا بهتان عظيم
وقد كان علم الصحابة الذى يتذاكرون فيه غير علوم هؤلاء المختلفين الخراصين كما حكى الحاكم فى ترجمة أبى عبد الله البخارى قال كان أصحاب رسول الله اذا اجتمعوا انما يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم ليس بينهم رأى ولا قياس ولقد أحسن القائل
العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين الرسول وبين رأى فقيه
كلا ولا جحد الصفات ونفيها ... حذرا من التمثيل والتشبيه فصل
وأما الايمان فأكثر الناس أو كلهم يدعونه وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وأكثر المؤمنين انما عندهم ايمان مجمل وأما الايمان المفصل بما جاء به الرسول معرفة وعلما وإقرارا ومحبة ومعرفة بضده وكراهيته وبغضه فهذا ايمان
خواص الامة وخاصة الرسول وهو ايمان الصديق وحزبه وكثير من الناس حظهم من الايمان الاقرار بوجود الصانع وأنه وحده الذي خلق السموات والارض وما بينهما وهذا لم يكن ينكره عباد الأصنام من قريش ونحوهم وآخرون الايمان عندهم هو التكلم بالشهادتين سواء كان معه عمل أو لم يكن وسواء وافق تصديق القلب أو خالفه وآخرون عندهم الايمان مجرد تصديق القلب بأن الله سبحانه خالق السموات والارض وأن محمدا عبده ورسوله وان لم يقر بلسانه ولم يعمل شيئا بل ولو سب الله ورسوله وأتى بكل عظيمة وهو يعتقد وحدانية الله ونبوة رسوله فهو مؤمن وآخرون عندهم الايمان هو جحد صفات الرب تعالي من علوه على عرشه وتكلمه بكلماته وكتبه وسمعه وبصره ومشيئته وقدرته وارادته وحبه وبغضه وغير ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله فالايمان عندهم انكار حقائق ذلك كله وجحده والوقوف مع ما تقتضيه آراء المتهوكين وأفكار المخرصين الذين يرد بعضهم على بعض وينقض بعضهم قول بعض الذين هم كما قال عمر بن الخطاب والامام أحمد مختلفون فى الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب وآخرون عندهم الايمان عبادة الله بحكم أذواقهم ومواجيدهم وما تهواه نفوسهم من غير تقييد بما جاء به الرسول وآخرون الايمان عندهم ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم بحكم الاتفاق كائنا ما كان بل ايمانهم مبنى علي مقدمتين احداهما أن هذا قول أسلافنا وآبائنا والثانية أن ما قالوه فهو الحق وآخرون عندهم الايمان مكارم الاخلاق وحسن المعاملة وطلاقة الوجه واحسان الظن بكل أحد وتخلية الناس وغفلاتهم وآخرون عندهم الايمان التجرد من الدنيا وعلائقها وتفريغ القلب منها والزهد فيها فاذا رأوا رجلا هكذا جعلوه من سادات أهل الايمان وان كان منسلخا من الايمان علما وعملا وأعلي من هؤلاء من جعل الايمان هو مجرد العلم وان لم يقارنه عمل وكل هؤلاء لم يعرفوا حقيقة الايمان ولا قاموا به ولا قام بهم وهم أنواع منهم من جعل الايمان ما يضاد الايمان ومنهم
من جعل الايمان ما لا يعتبر فى الايمان ومنهم من جعله ما هو شرط فيه ولا يكفى في حصوله ومنهم من اشترط فى ثبوته ما يناقضه ويضاده ومنهم من اشترط فيه ما ليس منه بوجه الايمان
والايمان وراء ذلك كله وهو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول علما والتصديق به عقدا والاقرار به نطقا والانقياد له محبة وخضوعا والعمل به باطنا وظاهرا وتنفيذه والدعوة اليه بحسب الامكان وكماله في الحب فى الله والبغض فى الله والعطاء لله والمنع لله وأن يكون الله وحده الهه ومعبوده والطريق اليه تجريد متابعة رسوله ظاهرا وباطنا وتغميض عين القلب عن الالتفات الي سوى الله ورسوله وبالله التوفيق من اشتغل بالله عن نفسه كفاء الله مؤونة نفسه ومن اشتغل بالله عن الناس كفاه الله مؤونة الناس ومن اشتغل بنفسه عن الله وكله الله الي نفسه ومن اشتغل بالناس عن الله وكله الله اليهم
فائدة جليلة انما يجد المشقة فى ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير
الله فأما من تركها صادقا مخلصا من قلبه لله فانه لا يجد فى تركها مشقة الا فى أول وهلة ليمتحن اصادق هو فى تركها أم كاذب فان صبر على تلك المشقة قليلا استحالت لذة قال ابن سيرين سمعت شريحا يحلف بالله ما ترك عبد لله شيئا فوجد فقده وقولهم من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه حق والعوض أنواع مختلفة وأجل ما يعوض به الأنس بالله ومحبته وطمأنينة القلب به وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه تعالى
أغبى الناس من ضل في آخر سفره وقد قارب المنزل العقول المؤيدة
بالتوفيق ترى ان ما جاء به الرسول هو الحق الموافق للعقل والحكمة والعقول المضروبة بالخذلان تري المعارضة بين العقل والنقل وبين الحكمة والشرع أقرب الوسائل الى الله ملازمة السنة والوقوف معها فى الظاهر والباطن ودوام الافتقار الى الله وإرادة وجهه وحده بالاقوال والافعال وما وصل أحد الي الله الا من هذه الثلاثة وما انقطع عنه أحد الا بانقطاعه عنها أو عن أحدها الاصول التي انبنى عليها سعادة العبد ثلاثة ولكل واحد منها ضد فمن فقد ذلك الاصل حصل علي ضده التوحيد وضده الشرك والسنة وضدها البدعة والطاعة وضدها المعصية ولهذه الثلاثة ضد واحد وهو خلو القلب من الرغبة فى الله وفيما عنده ومن الرهبة منه ومما عنده
قاعدة جليلة قال الله تعالي
وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين وقال ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى الآية والله تعالى قد بين فى كتابه سبيل المؤمنين مفصلة وسبيل المجرمين مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء والاسباب التى وفق بها هؤلاء والاسباب التى خذل بها هؤلاء وجلا سبحانه الأمرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما وبينهما غاية البيان حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الابصار للضياء والظلام
فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية فاستبانت لهم السبيلان كما يستيبين للسالك الطريق الموصل الي مقصوده والطريق الموصل الى الهلكة فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم وهم الادلاء الهداة برز الصحابة علي جميع من أتي بعدهم الى يوم
القيامة فانهم نشأوا فى سبيل الظلال والكفر والشرك والسبل الموصلة الي الهلاك وعرفوها مفصلة ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات الى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم فخرجوا من الظلمة الشديدة الى النور التام ومن الشرك الى التوحيد ومن الجهل الى العلم ومن الغى الى الرشاد ومن الظلم الى العدل ومن الحيرة والعمى الى الهدى والبصائر فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به ومقدار ما كانوا فيه فان الضد يظهر حسنه الضد وانما تتبين الأشياء بأضدادها فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا اليه ونفرة وبغضا لما انتقلوا عنه وكانوا أحب الناس فى التوحيد والايمان والاسلام وأبغض الناس فى ضده عالمين بالسبيل على التفصيل
وأما من جاء بعد الصحابة فمنهم من نشأ فى الاسلام غير عالم تفصيل ضده فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين فان اللبس انما يقع اذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما كما قال عمر بن الخطاب انما تنقض عري الاسلام عروة اذا نشأ فى الاسلام من لم يعرف الجاهلية وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه فانه اذا لم يعرف الجاهلية وحكمها وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول فانه من الجاهلية فانها منسوبة الى الجهل وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل فمن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبن له أوشك أن يظن فى بعض سبيلهم انها من سبيل المؤمنين كما وقع فى هذه الأمة من أمور كثيرة فى باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل أدخلها من لم يعرف انها من سبيلهم في سبيل المؤمنين ودعا اليها وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله كما وقع لاكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم ممن ابتدع بدعة ودعا اليها وكفر من خالفها
والناس فى هذا الموضع أربع فرق الاولي من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علما وعملا وهؤلاء أعلم الخلق الفرقة الثانية من
عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر ولها أسلك الفرقة الثالثة من صرف عنايته الى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وان لم يتصوره على التفصيل بل اذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف سمعه عنه ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه وهو بمنزلة من سلمت نفسه من ارادة الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه اليها نفسه بخلاف الفرقة الأولى فانهم يعرفونها وتميل اليها نفوسهم ويجاهدونها علي تركها الله وقد كتبوا الى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسالة أيما أفضل رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله أو رجل نازعته اليها نفسه فتركها لله فكتب عمر ان الذى تشتهى نفسه المعاصي ويتركها لله تعالى من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مفغرة وأجر عظيم وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه فأبغضها لله وحذرها وحذر منها ودفعها عن نفسه ولم يدعها تخدش وجه ايمانه ولا تورثه شبهة ولا شكا بل يزداد بمعرفتها بصيرة فى الحق ومحبة له وكراهة لها ونفرة عنها أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه فانه كلما مرت بقلبه وتصورت له ازداد محبة للحق ومعرفة بقدره وسرورا به فيقوى ايمانه به كما ان صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلما مرت به فرغب عنها الى ضدها ازداد محبة لضدها ورغبة فيه وطلبا له وحرصا عليه فما ابتلي الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي وميل نفسه اليها الا ليسوقه بها الي محبة ما هو أفضل منها وخير له وأنفع وأدوم وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه فتورثه تلك المجاهدة الوصول الى المحبوب الأعلى فكلما نازعته نفسه الى تلك الشهوات وشتدت ارادته لها وشوقه اليها صرف ذلك الشوق والارادة والمحبة الى النوع العالي الدائم فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتم بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك فانها وان كانت طالبة للأعلى لكن بين الطلبين فرق عظيم ألا ترى ان من مشي الى محبوبة على الجمر
والشوك أعظم ممن مشي إليه راكبا على النجائب فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها الى غيره فهو سبحانه يبتلي عبده بالشهوات إما حجابا له عنه أو حاجبا له يوصله الى رضاه وقربه وكرامته الفرقة الرابعة فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة وسبيل المؤمنين مجملة وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع فعرفها على التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول كذلك بل عرفه معرفة مجملة وان تفصلت له في بعض الأشياء ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانا وكذلك من كان عارفا بطرق الشر والظلم والفساد على التفصيل سالكا لها اذا تاب ورجع عنها الى سبيل الأبرار يكون علمه بها مجملا غير عارف بها على التفصيل معرفة من أفنى عمره فى تصرفها وسلوكهاوالمقصود ان الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتجتنب تبغض كما يجب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك وفى هذه المعرفة من الفوائد والأسرار مالا يعلمه الا الله من معرفة عموم ربوبيته سبحانه وحكمته وكمال أسمائه وصفاته وتعلقها بمتعلقاتها واقتضائها لآثارها وموجباتها وذلك من أعظم الدلالة على ربوبيته وملكه وإلهيته وحبه وبغضه وثوابه وعقابه والله أعلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق