فصل
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين جالسا تارة وتارة يقرأ فيهما جالسا فإذا أراد أن يركع قام فركع وفي صحيح مسلم عن أبي سلمة قال : سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان يصلي ثلاث عشرة ركعة يصلي ثمان ركعات ثم يوتر ثم يصلي ركعتين وهو جالس فإذا أراد أن يركع قام فركع ثم يصلي ركعتين بعد النداء والإقامة من صلاة الصبح وفي المسند عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس وقال الترمذي : روي نحو هذا عن عائشة وأبي أمامة وغير واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم
وفي المسند عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس يقرأ فيهما ب { إذا زلزلت } و { قل يا أيها الكافرون }
وروى الدارقطني نحوه من حديث أنس رضي الله عنه
وقد أشكل هذا على كثير من الناس فظنوه معارضا لقوله صلى الله عليه وسلم : [ اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا ] وأنكر مالك رحمه الله هاتين الركعتين وقال أحمد : لا أفعله ولا أمنع من فعله قال : وأنكره مالك وقالت طائفة : إنما فعل هاتين الركعتين ليبين جواز الصلاة بعد الوتر وأن فعله لا يقطع التنفل وحملوا قوله : [ اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا ] على الاستحباب وصلاة الركعتين بعده على الجواز
والصواب : أن يقال : إن هاتين الركعتين تجريان مجرى السنة وتكميل الوتر فإن الوتر عبادة مستقلة ولا سيما إن قيل بوجوبه فتجري الركعتان بعده مجرى سنة المغرب من المغرب فإنها وتر النهار والركعتان بعدها تكميل لها فكذلك الركعتان بعد وتر الليل والله أعلم
فصل
ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الوتر إلا في حديث رواه ابن ماجه عن علي بن ميمون الرقي حدثنا مخلد بن يزيد عن سفيان عن زبيد اليامي عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله : أختار القنوت بعد الركوع إن كل شيء ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت إنما هو في الفجر لما رفع رأسه من الركوع وقنوت الوتر أختاره بعد الركوع ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الوتر قبل أو بعد شئ وقال الخلال : أخبرني محمد بن يحيى الكحال أنه قال لأبي عبد الله في القنوت في الوتر ؟ فقال : ليس يروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شئ ولكن كان عمر يقنت من السنة إلى السنة
وقد روى أحمد وأهل السنن من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر : [ اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت ] زاد البيهقي والنسائي : [ ولا يعز من عاديت ]
وزاد النسائي في روايته : [ وصلى الله على النبي ]
وزاد الحاكم في المستدرك وقال : [ علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود ] ورواه ابن حبان في صحيحه ولفظه : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ]
قال الترمذي : وفي الباب عن علي رضي الله عنه وهذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي واسمه ربيعة بن شيبان ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الوتر شيئا أحسن من هذا انتهى
والقنوت في الوتر محفوظ عن عمر وابن مسعود والرواية عنهم أصح من القنوت في الفجر والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الفجر أصح من الرواية في قنوت الوتر والله أعلم
وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره : [ اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ] وهذا يحتمل أنه قبل فراغه منه وبعده وفي إحدى الروايات عن النسائي : كان يقول إذا فرغ من صلاته وتبوأ مضجعه وفي هذه الرواية : [ لا أحصي ثناء عليك ولو حرصت ] وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك في السجود فلعله قاله في الصلاة وبعدها وذكر الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ووتره : ثم أوتر فلما قضى صلاته سمعته يقول : [ اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا وعن يميني نورا وعن شمالي نورا وفوقي نورا وتحتي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا واجعل لي يوم لقائك نورا ] قال كريب : وسبع في القنوت فلقيت رجلا من ولد العباس فحدثني بهن فذكر : [ لحمي ودمي وعصبي وشعري وبشري ] وذكر خصلتين وفي رواية النسائي في هذا الحديث وكان يقول في سجوده وفي رواية لمسلم في هذا الحديث : فخرج إلى الصلاة يعني صلاة الصبح وهو يقول فذكر هذا الدعاء وفي رواية له أيضا [ وفي لساني نورا واجعل في نفسي نورا وأعظم لي نورا ] وفي رواية له أيضا [ واجعلني نورا ] وذكر أبو داود والنسائي من حديث أبي بن كعب قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر بـ { سبح اسم ربك الأعلى } و { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } فإذا سلم قال : سبحان الملك القدوس ثلاث مرات يمد بها صوته في الثالثة ويرفع ] وهذا لفظ النسائي زاد الدارقطني [ رب الملائكة والروح ]
وكان صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته ويقف عند كل آية فيقول : [ الحمد لله رب العالمين ويقف : الرحمن الرحيم ويقف : مالك يوم الدين ]
وذكر الزهري أن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت آية آية وهذا هو الأفضل الوقوف على رؤوس الآيات وإن تعلقت بما بعدها وذهب بعض القراء إلى تتبع الأغراض والمقاصد والوقوف عند انتهائها واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته أولى وممن ذكر ذلك البيهقي في شعب الإيمان وغيره ورجح الوقوف على رؤوس الآي وإن تعلقت بما بعدها
وكان صلى الله عليه وسلم يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها وقام بآية يرددها حتى الصباح وقد اختلف الناس في الأفضل من الترتيل وقلة القراءة أو السرعة مع كثرة القراءة : أيهما أفضل ؟ على قولين
فذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما إلى أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها واحتج أرباب هذا القول بأن المقصود من القراءة فهمه وتدبره والفقه فيه والعمل به وتلاوته وحفظه وسيلة إلى معانيه كما قال بعض السلف : نزل القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملا ولهذا كان أهل القرآن هم العالمون به والعاملون بما فيه وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم
قالوا : ولأن الإيمان أفضل الأعمال وفهم القرآن وتدبره هو الذي يثمر الإيمان وأما مجرد التلاوة من غير فهم ولا تدبر فيفعلها البر والفاجر والمؤمن والمنافق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ]
والناس في هذا أربع طبقات : أهل القرآن والإيمان وهم أفضل الناس والثانية : من عدم القرآن والإيمان الثالثة : من أوتي قرآنا ولم يؤت إيمانا الرابعة : من أوتي إيمانا ولم يؤت قرآنا قالوا : فكما أن من أوتي إيمانا بلا قرآن أفضل ممن أوتي قرآنا بلا إيمان فكذلك من أوتي تدبرا وفهما في التلاوة أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر قالوا : وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول منها وقام بآية حتى الصباح
وقال أصحاب الشافعي رحمه الله : كثرة القراءة أفضل واحتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من قرأ في كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ] رواه الترمذي وصححه
قالوا : ولأن عثمان بن عفان قرأ القرآن في ركعة وذكروا آثارا عن كثير من السلف في كثرة القراءة
والصواب في المسألة أن يقال : إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدرا وثواب كثرة القراءة أكثر عددا فالأول : كمن تصدق بجوهرة عظيمة أو أعتق عبدا قيمته نفيسة جدا والثاني : كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم أو أعتق عددا من العبيد قيمتهم رخيصة وفي صحيح البخاري عن قتادة قال : سألت أنسا عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كان يمد مدا
وقال شعبة : حدثنا أبو جمرة قال : قلت لابن عباس : إني رجل سريع القراءة وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين فقال ابن عباس : لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إلي من أن أفعل ذلك الذي تفعل فإن كنت فاعلا ولا بد فاقرأ قراءة تسمع أذنيك ويعيها قلبك وقال إبراهيم : قرأ علقمة على ابن مسعود وكان حسن الصوت فقال : رتل فداك أبي وأمي فإنه زين القرآن
وقال ابن مسعود : لا تهذوا القرآن هذ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل وقفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة
وقال عبد الله أيضا : إذا سمعت الله يقول : { يا أيها الذين آمنوا } فأصغ لها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تصرف عنه
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : دخلت علي امرأة وأنا أقرأ ( سورة هود ) فقالت : يا عبد الرحمن : هكذا تقرأ سورة هود ؟ ! والله إني فيها منذ ستة أشهر وما فرغت من قراءتها
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسر بالقراءة في صلاة الليل تارة ويجهر بها تارة ويطيل القيام تارة ويخففه تارة ويوتر آخر الليل - وهو الأكثر - وأوله تارة وأوسطه تارة
وكان يصلي التطوع بالليل والنهار على راحلته في السفر قبل أي جهة توجهت به فيركع ويسجد عليها إيماء ويجعل سجوده أخفض من ركوعه وقد روى أحمد وأبو داود عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوعا استقبل القبلة فكبر للصلاة ثم خلى عن راحلته ثم صلى أينما توجهت به فاختلف الرواة عن أحمد : هل يلزمه أن يفعل ذلك إذا قدر عليه ؟ على روايتين : فإن أمكنه الاستدارة إلى القبلة في صلاته كلها مثل أن يكون في محمل أو عمارية ونحوها فهل يلزمه أو يجوز له أن يصلي حيث توجهت به الراحلة ؟ فروى محمد بن الحكم عن أحمد فيمن صلى في محمل : أنه لا يجزئه إلا أن يستقبل القبلة لأنه يمكنه أن يدور وصاحب الراحلة والدابة لا يمكنه وروى عنه أبو طالب أنه قال : الاستدارة في المحمل شديدة يصلي حيث كان وجهه واختلفت الرواية عنه في السجود في المحمل فروى عنه ابنه عبد الله أنه قال : وإن كان محملا فقدر أن يسجد في المحمل فيسجد وروى عنه الميموني إذا صلى في المحمل أحب إلي أن يسجد لأنه يمكنه وروى عنه الفضل بن زياد : يسجد في المحمل إذا أمكنه وروى عنه جعفر بن محمد : السجود على المرفقة إذا كان في المحمل وربما أسند على البعير ولكن يومىء ويجعل السجود أخفض من الركوع وكذا روى عنه أبو داود
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الضحى
روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى وإني لأسبحها وروى أيضا من حديث مورق العجلي قلت لابن عمر : أتصلي الضحى ؟ قال : لا قلت : فعمر ؟ قال : لا قلت : فأبو بكر ؟ قال : لا قلت : فالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا إخاله
وذكر عن ابن أبي ليلى قال : ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أم هانىء فإنها قالت : إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثمان ركعات فلم أر صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن شقيق قال : سألت عائشة هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ؟ قالت : لا إلا أن يجيء من مغيبه
قلت : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بين السور ؟ قالت : من المفصل
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله وفي الصحيحين عن أم هانىء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح ثمان ركعات وذلك ضحى
وقال الحاكم في المستدرك : حدثنا الأصم حدثنا الصغاني حدثنا ابن أبي مريم حدثنا بكر بن مضر حدثنا عمرو بن الحارث عن بكر بن الأشج عن الضحاك بن عبد الله عن أنس رضي الله عن قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر سبحة الضحى صلى ثمان ركعات فلما انصرف قال : [ إني صليت صلاة رغبة ورهبة فسألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته ألا يقتلوا أمتي بالسنين ففعل وسألته ألا يظهر عليهم عدوا ففعل وسألته أن لا يلبسهم شيعا فأبى علي ] قال الحاكم صحيح قلت : الضحاك بن عبد الله هذا ينظر من هو وما حاله ؟ وقال الحاكم : في كتاب فضل الضحى : حدثنا أبو بكر الفقيه أخبرنا بشر بن يحيى حدثنا محمد بن صالح الدولابي حدثنا خالد بن عبد الله بن الحصين عن هلال بن يساف عن زاذان عن عائشة رضي الله عنها قالت : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الضحى ثم قال : [ اللهم اغفر لي وارحمني وتب علي إنك أنت التواب الرحيم الغفور ] حتى قالها مائة مرة
حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا أسد بن عاصم حدثنا حصين بن حفص عن سفيان عن عمر بن ذر عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ركعتين وأربعا وستا وثمانيا
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عثمان بن عبد الملك العمري حدثتنا عائشة بنت سعد عن أم ذرة قالت : رأيت عائشة رضي الله عنها تصلي الضحى وتقول : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلا أربع ركعات
وقال الحاكم أيضا : أخبرنا أبو أحمد بكر بن محمد المروزي حدثنا أبو قلابة حدثنا أبو الوليد حدثنا أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن عن عمرو بن مرة عن عمارة بن عمير عن ابن جبير بن مطعم عن أبيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الضحى
قال الحاكم أيضا : حدثنا إسماعيل بن محمد حدثنا محمد بن عدي بن كامل حدثنا وهب بن بقية الواسطي حدثنا خالد بن عبد الله عن محمد بن قيس عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ست ركعات
ثم روى الحاكم عن إسحاق بن بشير المحاملي حدثنا عيسى بن موسى عن جابر عن عمر بن صبح عن مقاتل بن حيان عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الضحى ثنتي عشرة ركعة وذكر حديثا طويلا
وقال الحاكم : أخبرنا أبو أحمد بن محمد الصيرفي حدثنا أبو قلابة الرقاشي حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى
وبه إلى أبي الوليد : حدثنا أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن عمرو بن مرة عن عمارة بن عمير العبدي عن ابن جبير بن مطعم عن أبيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى
قال الحاكم : وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وأبي ذر الغفاري وزيد بن أرقم وأبي هريرة وبريدة الأسلمي وأبي الدرداء وعبد الله أبي أوفى وعتبان بن مالك وأنس بن مالك وعتبة بن عبد الله السلمي ونعيم بن همار الغطفاني وأبي أمامة الباهلي رضي الله عنهم ومن النساء عائشة بنت أبي بكر وأم هانىء وأم سلمة رضي الله عنهن كلهم شهدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها
وذكر الطبراني من حديث علي وأنس وعائشة وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى ست ركعات
فاختلف الناس في هذه الأحاديث على طرق منهم من رجح رواية الفعل على الترك بأنها مثبتة تتضمن زيادة علم خفيت على النافي قالوا : وقد يجوز أن يذهب علم مثل هذا على كثير من الناس ويوجد عند الأقل قالوا : وقد أخبرت عائشة وأنس وجابر وأم هانىء وعلي بن أبي طالب أنه صلاها قالوا : ويؤيد هذا الأحاديث الصحيحة المتضمنة للوصية بها والمحافظة عليها ومدح فاعلها والثناء عليه ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أوصاني خليلي محمد صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام
وفي صحيح مسلم نحوه عن أبي الدرداء
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر يرفعه قال : [ يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزىء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ]
وفي مسند الإمام أحمد عن معاذ بن أنس الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرا غفر الله له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر ]
وفي الترمذي و سنن ابن ماجه عن أبي هريرة رضي لله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من حافظ على سبحة الضحى غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر ]
وفي المسند و السنن عن نعيم بن همار قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ قال الله تعالى : يا ابن آدم لا تعجزن عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره ] ورواه الترمذي من حديث أبي الدرداء وأبي ذر
وفي جامع الترمذي و سنن ابن ماجه عن أنس مرفوعا [ من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا من ذهب في الجنة ]
وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أنه رأى قوما يصلون من الضحى في مسجد قباء فقال : أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ]
وقوله : ترمض الفصال أي : يشتد حر النهار فتجد الفصال حرارة الرمضاء وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى في بيت عتبان بن مالك ركعتين
وفي مستدرك الحاكم من حديث خالد بن عبد الله الواسطي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب ] وقال : هذا إسناد قد احتج بمثله مسلم بن الحجاح وأنه حدث عن شيوخه عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ما أذن الله لشئ ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن ] قال : ولعل قائلا يقول : قد أرسله حماد بن سلمة وعبد العزيز بن محمد الدراوردي عن محمد بن عمرو فيقال له : خالد بن عبد الله ثقة والزيادة من الثقة مقبولة
ثم روى الحاكم : حدثنا عبدان بن يزيد حدثنا محمد بن المغيرة السكري حدثنا القاسم بن الحكم العرني حدثنا سليمان بن داود اليمامي حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إن للجنة بابا يقال له باب الضحى فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين كانوا يداومون على صلاة الضحى هذا بابكم فادخلوه بC ] وقال الترمذي في الجامع : حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال : حدثني موسى بن فلان عن عمه ثمامة بن أنس بن مالك عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا من ذهب في الجنة ] قال الترمذي : حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وكان أحمد يرى أصح شئ في هذا الباب حديث أم هانئ قلت : وموسى ابن فلان هذا هو موسى بن عبد الله بن المثنى بن أنس بن مالك
وفي جامعه أيضا من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها ويدعها حتى نقول : لا يصليها قال : هذا حديث حسن غريب
وقال الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو اليمان حدثنا إسماعيل بن عياش عن يحيى بن الحارث الذماري عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهر كان له كأجر الحاج المحرم ومن مشى إلى سبحة الضحى كان له كأجر المعتمر وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين ] قال أبو أمامة : الغدو والرواح إلى هذه المساجد من الجهاد في سبيل الله تعالى وقال الحاكم : حدثنا أبو العباس حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا أبو المورع محاضر بن المورع حدثنا الأحوص بن حكيم حدثني عبد الله بن عامر الألهاني عن منيب بن عيينة بن عبد الله السلمي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : [ من صلى الصبح في مسجد جماعة ثم ثبت فيه حتى الضحى ثم يصلي سبحة الضحى كان له كأجر حاج أو معتمر تام له حجته وعمرته ]
وقال ابن أبي شيبة : حدثني حاتم بن إسماعيل عن حميد بن صخر عن المقبري عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشا فأعظموا الغنيمة وأسرعوا الكرة فقال رجل : يا رسول الله ! ما رأينا بعثا قط أسرع كرة ولا أعظم غنيمة من هذا البعث فقال : [ ألا أخبركم يأسرع كرة وأعظم غنيمة : رجل توضأ في بيته فأحسن وضوءه ثم عمد إلى المسجد فصلى فيه صلاة الغداة ثم أعقب بصلاة الضحى فقد أسرع الكرة وأعظم الغنيمة ]
وفي الباب أحاديث سوى هذه لكن هذه أمثلها قال الحاكم : صحبت جماعة من أئمة الحديث الحفاظ الأثبات فوجدتهم يختارون هذا العدد يعني أربع ركعات ويصلون هذه الصلاة أربعا لتواتر الأخبار الصحيحة فيه وإليه أذهب وإليه أدعوا اتباعا للأخبار المأثورة واقتداء بمشايخ الحديث فيه
قال ابن جرير الطبري - وقد ذكر الأخبار المرفوعة في صلاة الضحى واختلاف عددها : وليس في هذه الأحاديث حديث يدفع صاحبه وذلك أن من حكى أنه صلى الضحى أربعا جائز أن يكون رآه في حال فعله ذلك ورآه غيره في حال أخرى صلى ركعتين ورآه آخر في حال أخرى صلاها ثمانيا وسمعه آخر يحث على أن يصلي ستا وآخر يحث على أن يصلي ركعتين وآخر على عشر وآخر على ثنتي عشرة فأخبر كل واحد منهم عما رأى وسمع قال : والدليل على صحة قولنا ما روى عن زيد بن أسلم قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول لأبي ذر : أوصني يا عم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال : [ من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين ومن صلى أربعا كتب من العابدين ومن صلى ستا لم يلحقه ذلك اليوم ذنب ومن صلى ثمانيا كتب من القانتين ومن صلى عشرا بنى الله له بيتا في الجنة ]
وقال مجاهد : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الضحى ركعتين ثم يوما أربعا ثم يوما ستا ثم يوما ثمانيا ثم ترك فأبان هذا الخبر عن صحة ما قلنا من احتمال خبر كل مخبر ممن تقدم أن يكون إخباره لما أخبر عنه في صلاة الضحى على قدر ما شاهده وعاينه والصواب : إذا كان الأمر كذلك : أن يصليها من أراد على ما شاء من العدد وقد روي هذا عن قوم من السلف حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن إبراهيم سأل رجل الأسود كم أصلي الضحى ؟ قال : كم شئت
وطائفة ثانية ذهبت إلى أحاديث الترك ورجحتها من جهة صحة إسنادها وعمل الصحابة بموجبها فروى البخاري عن ابن عمر أنه لم يكن يصليها ولا أبو بكر ولا عمر قلت : فالنبي صلى الله عليه وسلم قال : لا إخاله وقال وكيع : حدثنا سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الضحى إلا يوما واحدا وقال علي بن المديني : حدثنا معاذ بن معاذ حدثنا شعبة حدثنا فضيل بن فضالة عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال : رأى أبو بكرة ناسا يصلون الضحى قال : إنكم لتصلون صلاة ما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عامة أصحابه
وفي الموطأ : عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط وإني لأسبحها وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم
وقال أبو الحسن علي بن بطال : فأخذ قوم من السلف بحديث عائشة ولم يروا صلاة الضحى وقال قوم : إنها بدعة روى الشعبي عن قيس بن عبيد قال : كنت اختلف إلى ابن مسعود السنة كلها فما رأيته مصليا الضحى وروى شعبة عن سعد بن ابراهيم عن أبيه أن عبد الرحمن بن عوف كان لا يصلي الضحي وعن مجاهد قال : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا ابن عمر جالس عند حجرة عائشة وإذا الناس في المسجد يصلون صلاة الضحى فسألناه عن صلاتهم فقال : بدعة وقال مرة : ونعمت البدعة
وقال الشعبي : سمعت ابن عمر يقول : ما ابتدع المسلمون أفضل صلاة من الضحى وسئل أنس بن مالك عن صلاة الضحى فقال : الصلوات خمس
وذهبت طائفة ثالثة إلى استحباب فعلها غبا فتصلى في بعض الأيام دون بعض وهذا أحد الروايتين عن أحمد وحكاه الطبري عن جماعة قال : واحتجوا بما روى الجريري عن عبد الله بن شقيق قال : قلت لعائشة : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى الضحى ؟ قالت : لا إلا أن يجئ من مغيبه ثم ذكر حديث أبي سعيد : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول : لا يدعها ويدعها حتى نقول : لا يصليها وقد تقدم ثم قال : كذا ذكر من كان يفعل ذلك من السلف وروى شعبة عن حبيب بن الشهيد عن عكرمة قال : كان ابن عباس يصليها يوما ويدعها عشرة أيام يعنى صلاة الضحى وروى شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه كان لا يصلي الضحى فإذا أتى مسجد قباء صلى وكان يأتيه كل سبت وروى سفيان عن منصور قال : كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة ويصلون ويدعون يعني صلاة الضحى وعن سعيد بن جبير : إني لأدع صلاة الضحى وأنا أشتهيها مخافة أن أراها حتما علي وقال مسروق : كنا نقرأ في المسجد فنبقى بعد قيام ابن مسعود ثم نقوم فنصلي الضحى فبلغ ابن مسعود ذلك فقال : لم تحملون عباد الله ما لم يحملهم الله ؟ ! إن كنتم لا بد فاعلين ففي بيوتكم وكان أبو مجلز يصلي الضحى في منزله
قال هؤلاء : وهذا أولى لئلا يتوهم متوهم وجوبها بالمحافظة عليها أو كونها سنة راتبة ولهذا قالت عائشة : لو نشر لي أبواي ما تركتهما فإنها كانت تصليها في البيت حيث لا يراها الناس
وذهبت طائفة رابعة إلى أنها تفعل بسبب من الأسباب وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعلها بسبب قالوا : وصلاته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ثمان ركعات ضحى إنما كانت من أجل الفتح وأن سنة الفتح أن تصلى عنده ثمان ركعات وكان الأمراء يسمونها صلاة الفتح وذكر الطبرى في تاريخه عن الشعبي قال : لما فتح خالد بن الوليد الحيرة صلى صلاة الفتح ثمان ركعات لم يسلم فيهن ثم انصرف قالوا : وقول أم هانئ : وذلك ضحى تريد أن فعله لهذه الصلاة كان ضحى لا أن الضحى اسم لتلك الصلاة قالوا : وأما صلاته في بيت عتبان بن مالك فإنما كانت لسبب أيضا فإن عتبان قال له : إني أنكرت بصري وإن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي فوددت أنك جئت فصليت في بيتي مكانا أتخذه مسجدا فقال : [ أفعل إن شاء الله تعالى ] قال : فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت له فلم يجلس حتى قال : [ أين تحب أن أصلي من بيتك ] ؟ فأشرت إليه من المكان الذي أحب أن يصلي فيه فقام وصففنا خلفه وصلى ثم سلم وسلمنا حين سلم متفق عليه
فهذا أصل هذه الصلاة وقصتها ولفظ البخاري فيها فاختصره بعض الرواة عن عتبان فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيتي سبحة الضحى فقاموا وراءه فصلوا
وأما قول عائشة : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا أن يقدم من مغيبه فهذا من أبين الأمور أن صلاته لها إنما كانت لسبب فإنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين
فهذا كان هديه وعائشة أخبرت بهذا وهذا وهى القائلة : ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى قط فالذي أثبتته فعلها بسبب كقدومه من سفر وفتحه وزيارته لقوم ونحوه وكذلك إتيانه مسجد قباء للصلاة فيه وكذلك ما رواه يوسف بن يعقوب حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا سلمة بن رجاء حدثتنا الشعثاء قالت : رأيت ابن أبي أوفى صلى الضحى ركعتين يوم بشر برأس أبي جهل فهذا إن صح فهي صلاة شكر وقعت وقت الضحى كشكر الفتح والذي نفته هو ما كان يفعله الناس يصلونها لغير سبب وهي لم تقل : إن ذلك مكروه ولا مخالف لسنته ولكن لم يكن من هديه فعلها لغير سبب وقد أوصي بها وندب إليها وحض عليها وكان يستغني عنها بقيام الليل فإن فيه غنية عنها وهي كالبدل منه قال تعالى : { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا } ( الفرقان : 62 ) قال ابن عباس والحسن وقتادة : عوضا وخلفا يقوم أحدهما مقام صاحبه فمن فاته عمل في أحدهما قضاه في الآخر
قال قتادة : فأدوا لله من أعمالكم خيرا في هذا الليل والنهار فإنهما مطيتان يقحمان الناس إلى آجالهم ويقربان كل بعيد ويبليان كل جديد ويجيئان بكل موعود إلى يوم القيامة
وقال شقيق : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : فاتتني الصلاة الليلة فقال : أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك فإن الله تعالى جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا
قالوا : وفعل الصحابة رضي الله عنهم يدل على هذا فإن ابن عباس كان يصليها يوما ويدعها عشرة وكان ابن عمر لا يصليها فإذا أتى مسجد قباء صلاها وكان يأتيه كل سبت وقال سفيان عن منصور : كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة ويصلون ويدعون قالوا : ومن هذا الحديث الصحيح عن أنس أن رجلا من الأنصار كان ضخما فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني لا أستطيع أن أصلي معك فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما ودعاه إلى بيته ونضح له طرف حصير بماء فصلى عليه ركعتين قال أنس : ما رأيته صلى الضحى غير ذلك اليوم رواه البخاري
ومن تأمل الأحاديث المرفوعة وآثار الصحابة وجدها لا تدل إلا على هذا القول وأما أحاديث الترغيب فيها والوصية بها فالصحيح منها كحديث أبي هريرة وأبي ذر لا يدل على أنها سنة راتبة لكل أحد وإنما أوصى أبا هريرة بذلك لأنه قد روى أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة فأمره بالضحى بدلا من قيام الليل ولهذا أمره ألا ينام حتى يوتر ولم يأمر بذلك أبا بكر وعمر وسائر الصحابة
وعامة أحاديث الباب في أسانيدها مقال وبعضها منقطع وبعضها موضوع لا يحل الاحتجاج به كحديث يروى عن أنس مرفوعا [ من داوم على صلاة الضحى ولم يقطعها إلا عن علة كنت أنا وهو في زورق من نور في بحر من نور ] وضعه زكريا بن دويد الكندي عن حميد
وأما حديث يعلى بن أشدق عن عبد الله بن جراد عن النبى صلى الله عليه وسلم [ من صلى منكم صلاة الضحى فليصلها متعبدا فإن الرجل ليصليها السنة من الدهر ثم ينساها ويدعها فتحن إليه كما تحن الناقة إلى ولدها إذا فقدته ] فيا عجبا للحاكم كيف يحتج بهذا الحديث فى كتاب أفرده للضحى وهذه نسخة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني نسخة يعلى بن الأشدق وقال ابن عدي : روى يعلى بن الأشدق عن عمه عبد الله بن جراد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة منكرة وهو وعمه غير معروفين وبلغني عن أبي مسهر قال : قلت ليعلى بن الأشدق : ما سمع عمك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : جامع سفيان وموطأ مالك وشيئا من الفوائد وقال أبو حاتم بن حبان : لقي يعلى عبد الله بن جراد فلما كبر اجتمع عليه من لا دين له فوضعوا له شهبا بمائتي حديث فجعل يحدث بها وهو لا يدري وهو الذي قال له بعض مشايخ أصحابنا : أي شئ سمعته من عبد الله بن جراد ؟ فقال : هذه النسخة وجامع سفيان - لا تحل الرواية عنه بحال
وكذلك حديث عمر بن صبح عن مقاتل بن حيان حديث عائشة المتقدم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ثنتي عشرة ركعة وهو حديث طويل ذكره الحاكم في صلاة الضحى وهو حديث موضوع المتهم به عمر بن صبح قال البخاري : حدثني يحيى عن علي بن جرير قال : سمعت عمر بن صبح يقول : أنا وضعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن عدي : منكر الحديث وقال ابن حبان : يضع الحديث على الثقات لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب منه وقال الدارقطني : متروك وقال الأزدي : كذاب
وكذلك حديث عبد العزيز بن أبان عن الثوري عن حجاج بن فرافصة عن مكحول عن أبي هريرة مرفوعا : [ من حافظ على سبحة الضحى غفرت ذنوبه وإن كانت بعدد الجراد وأكثر من زبد البحر ] ذكره الحاكم أيضا وعبد العزيز هذا قال ابن نمير : هو كذاب وقال يحيى : ليس بشئ كذاب خبيث يضع الحديث وقال البخاري والنسائي والدارقطني : متروك الحديث وكذلك حديث النهاس بن قهم عن شداد عن أبي هريرة يرفعه [ من حافظ على شفعة الضحى غفرت ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر ] والنهاس قال يحيى : ليس بشئ ضعيف كان يروي عن عطاء عن ابن عباس أشياء منكرة وقال النسائي : ضعيف وقال ابن عدي : لا يساوي شيئا وقال ابن حبان : كان يروي المناكير عن المشاهير ويخالف الثقات لا يجوز الاحتجاج به وقال الدارقطني : مضطرب الحديث تركه يحيي القطان
وأما حديث حميد بن صخر عن المقبري عن أبي هريرة : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا الحديث وقد تقدم فحميد هذا ضعفه النسائي ويحيى بن معين ووثقه آخرون وأنكر عليه بعض حديثه وهو ممن لا يحتج به إذا انفرد والله أعلم
وأما حديث محمد بن إسحاق عن موسى عن عبد الله بن المثنى عن أنس عن عمه ثمامة عن أنس يرفعه [ من صلى الضحى بنى الله له قصرا في الجنة من ذهب ] فمن الأحاديث الغرائب وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
وأما حديث نعيم بن همار : [ ابن آدم لا تعجز لي عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره ] وكذلك حديث أبي الدرداء وأبي ذر فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هذه الأربع عندي هي الفجر وسنتها
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه سجود الشكر عند تجدد نعمة تسر أو اندفاع نقمة كما في المسند عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره خر لله ساجدا شكرا لله تعالى
وذكر ابن ماجه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر بحاجة فخر لله ساجدا
وذكر البيهقي بإسناد على شرط البخاري أن عليا رضي الله عنه لما كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام همدان خر ساجدا ثم رفع رأسه فقال : [ السلام على همدان السلام على همدان ] وصدر الحديث في صحيح البخاري وهذا تمامه بإسناده عند البيهقي
وفي المسند من حديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد شكرا لما جاءته البشرى من ربه أنه من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه
وفي سنن أبي داود من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه فسأل الله ساعة ثم خر ساجدا ثلاث مرات ثم قال : [ إني سألت ربي وشفعت لأمتي فأعطاني ثلث أمتي فخررت ساجدا شكرا لربي ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي فأعطاني الثلث الثاني فخررت ساجدا شكرا لربي ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي فأعطاني الثلث الآخر فخررت ساجدا لربي ]
وسجد كعب بن مالك لما جاءته البشرى بتوبة الله عليه ذكره البخاري
وذكر أحمد عن علي رضي الله عنه أنه سجد حين وجد ذا الثدية في قتلى الخوارج
وذكر سعيد بن منصور أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سجد حين جاءه قتل مسيلمة
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سجود القرآن
كان صلى الله عليه وسلم إذا مر بسجدة كبر وسجد وربما قال في سجوده [ سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته ]
وربما قال : [ اللهم احطط عني بها وزرا واكتب لي بها أجرا واجعلها لي عندك ذخرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود ] ذكرهما أهل السنن
ولم يذكر عنه أنه كان يكبر للرفع من هذا السجود ولذلك لم يذكره الخرقي ومتقدمو الأصحاب ولا نقل فيه عنه تشهد ولا سلام البتة وأنكر أحمد والشافعي السلام فيه فالمنصوص عن الشافعي : إنه لا تشهد فيه ولا تسليم وقال أحمد : أما التسليم فلا أدري ما هو وهذا هو الصواب الذي لا ينبغي غيره
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سجد في ( الم تنزيل ) وفي ( ص ) وفي ( النجم ) وفي ( إذا السماء انشقت ) وفي ( اقرأ باسم ربك الذي خلق )
وذكر أبو داود عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج سجدتان
وأما حديث أبي الدرداء سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة ليس فيها من المفصل شئ : ( الأعراف ) و ( الرعد ) و ( النحل ) و ( بنى اسرائيل ) و ( مريم ) و ( الحج ) و ( سجدة الفرقان ) و ( النمل ) و ( السجدة ) و ( ص ) و ( سجدة الحواميم ) فقال أبو داود : روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة وإسناده واه
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة رواه أبو داود فهو حديث ضعيف في إسناده أبو قدامة الحارث بن عبيد لا يحتج بحديثه قال الإمام أحمد : أبو قدامة مضطرب الحديث وقال يحيى بن معين : ضعيف وقال النسائي : صدوق عنده مناكير وقال أبو حاتم البستي : كان شيخا صالحا ممن كثر وهمه وعلله ابن القطان بمطر الوراق وقال : كان يشبهه في سوء الحفظ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وعيب على مسلم إخراج حديثه انتهى كلامه
ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثقة ومن ضعف جميع حديث سئ الحفظ فالأولى : طريقة الحاكم وأمثاله والثانية : طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن والله المستعان وقد صح عن أبي هريرة أنه سجد مع النبي صلى الله عليه وسلم في ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) وفي ( إذا السماء انشقت ) وهو إنما أسلم بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بست سنين أو سبع فلو تعارض الحديثان من كل وجه وتقاوما في الصحة لتعين تقديم حديث أبي هريرة لأنه مثبت معه زيادة علم خفيت على ابن عباس فكيف وحديث أبي هريرة في غاية الصحة متفق على صحته وحديث ابن عباس فيه من الضعف ما فيه والله أعلم
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الجمعة وذكر خصائص يومها
ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ نحن الآخرون الأولون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له والناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد ]
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وكان للنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة فجعل الجمعة والسبت والأحد وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق ]
وفي المسند والسنن من حديث أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق الله آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي قالوا : يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ ( يعني : قد بليت ) قال : إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ] ورواه الحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق الله آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة ] قال : حديث حسن صحيح وصححه الحاكم
وفي المستدرك أيضا عن أبي هريرة مرفوعا [ سيد الأيام يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة ]
وروى مالك في الموطأ عن أبي هريرة مرفوعا [ خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه مات وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه قال كعب : ذلك في كل سنة يوم فقلت : بل في كل جمعة فقرأ كعب التوراة فقال : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو هريرة ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب قال : قد علمت أية ساعة هي قلت : فأخيرني بها قال : هي آخر ساعة في يوم الجمعة فقلت : كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلى فيها ؟ فقال ابن سلام : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي ] ؟
وفي صحيح ابن حبان مرفوعا [ لا تطلع الشمس على يوم خير من يوم الجمعة ] وفي مسند الشافعي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه [ قال : أتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرآة بيضاء فيها نكتة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما هذه ؟ فقال : هذه يوم الجمعة فضلت بها أنت وأمتك والناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى ولكم فيها خير وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له وهو عندنا يوم المزيد فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا جبريل ! ما يوم المزيد ؟ قال : إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب من مسك فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله سبحانه ما شاء من ملائكته وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين وحف تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد عليها الشهداء والصديقون فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب فيقول الله تعالى : أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فسلوني أعطكم فيقولون : ربنا نسألك رضوانك فيقول : قد رضيت عنكم ولكم ما تمنيتم ولدي مزيد فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير وهو اليوم الذي استوى فيه ربك تبارك وتعالى على العرش وفيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة ]
رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد حدثني موسى بن عبيدة قال : حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبد الله بن عبيد عن عمير بن أنس
ثم قال : وأخبرنا إبراهيم قال : حدثني أبو عمران إبراهيم بن الجعد عن أنس شبيها به
وكان الشافعي حسن الرأي في شيخه إبراهيم هذا لكن قال فيه الإمام أحمد رحمه لله : معتزلي جهمي قدري كل بلاء فيه
ورواه أبو اليمان الحكم بن نافع حدثنا صفوان : قال : قال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : أتاني جبريل فذكره ورواه محمد بن شعيب عن عمر مولى غفرة عن أنس ورواه أبوظبية عن عثمان بن عمير عن أنس وجمع أبو بكر بن أبي داود طرقه
وفي مسند أحمد من حديث علي بن أبي طلحة عن أبي هريرة قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لأي شئ سمي يوم الجمعة ؟ قال : [ لأن فيه طبعت طينة أبيك آدم وفيه الصعقة والبعثة وفيه البطشة وفي آخره ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها استجيب له ] وقال الحسن بن سفيان النسوي في مسنده حدثنا أبو مروان هشام بن خالد الأزرق حدثنا الحسن بن يحيى الخشني حدثنا عمر بن عبد الله مولى غفرة حدثني أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ أتاني جبريل وفي يده كهيئة المرآة البيضاء فيها نكتة سوداء فقلت : ما هذه يا جبريل ؟ فقال : هذه الجمعة بعثت بها إليك تكون عيدا لك ولأمتك من بعدك فقلت : وما لنا فيها يا جبريل ؟ قال : لكم فيها خير كثير أنتم الآخرون السابقون يوم القيامة وفيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه قلت : فما هذه النكتة السوداء يا جبريل ؟ قال : هذه الساعة تكون في يوم الجمعة وهو سيد الأيام ونحن نسميه عندنا يوم المزيد قلت : وما يوم المزيد يا جبريل ؟ قال : ذلك بأن ربك اتخذ في الجنة واديا أفيح من مسك أبيض فإذا كان يوم الجمعة من أيام الآخرة هبط الرب تعالى من عرشه إلى كرسيه ويحف الكرسي بمنابر من النور فيجلس عليها النبيون وتحف المنابر بكراسي من ذهب فيجلس عليها الصديقون والشهداء ويهبط أهل الغرف من غرفهم فيجلسون على كثبان المسك لا يرون لأهل المنابر والكراسي فضلا في المجلس ثم يتبدى لهم ذو الجلال والإكرام تبارك وتعالى فيقول : سلوني فيقولون بأجمعهم : نسألك الرضى يا رب فيشهد لهم على الرضى ثم يقول : سلوني فيسألونه حتى تنتهى نهمة كل عبد منهم قال : ثم يسعى عليهم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم يرتفع الجبار من كرسيه إلى عرشه ويرتفع أهل الغرف إلى غرفهم وهي غرفة من لؤلؤة بيضاء أو ياقوتة حمراء أو زمردة خضراء ليس فيها فصم ولا وصم منورة فيها أنهارها أو قال : مطردة متدلية فيها ثمارها فيها أزواجها وخدمها ومساكنها قال : فأهل الجنة يتباشرون في الجنة بيوم الجمعة كما يتباشر أهل الدنيا في الدنيا بالمطر ]
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب صفة الجنة : حدثني أزهر بن مروان الرقاشي حدثني عبد الله بن عرادة الشيباني حدثنا القاسم بن مطيب عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ آتاني جبريل وفي كفه مرآة كأحسن المرائي وأضوئها وإذا في وسطها لمعة سوداء فقلت : ما هذه اللمعة التي أرى فيها ؟ قال : هذه الجمعة قلت : وما الجمعة ؟ قال : يوم من أيام ربك عظيم وسأخبرك بشرفه وفضله في الدنيا وما يرجى فيه لأهله وأخبرك باسمه في الآخرة فأما شرفه وفضله في الدنيا فإن الله تعالى جمع فيه أمر الخلق وأما ما يرجى فيه لأهله فإن فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم أو أمة مسلمة يسألان الله تعالى فيها خيرا إلا أعطاهما إياه وأما شرفه وفضله في الآخرة واسمه فإن الله تبارك وتعالى إذا صير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جرت عليهم هذه الأيام وهذه الليالي ليس فيها ليل ولا نهار إلا قد علم الله تعالى مقدار ذلك وساعاته فإذا كان يوم الجمعة حين يخرح أهل الجمعة إلى جمعتهم نادى أهل الجنة مناد ياأهل الجنة ! اخرجوا إلى وادي المزيد ووادي المزيد لا يعلم سعة طوله وعرضه إلا الله فيه كثبان المسك رؤوسها في السماء قال : فيخرج غلمان الأنبياء بمنابر من نور ويخرج غلمان المؤمنين بكراسي من ياقوت فإذا وضعت لهم وأخذ القوم مجالسهم بعث الله عليهم ريحا تدعى المثيرة تثير ذلك المسك وتدخله من تحت ثيابهم وتخرجه في وجوههم وأشعارهم تلك الريح أعلم كيف تصنع بذلك المسك من إمرأة أحدكم لو دفع إليها كل طيب على وجه الأرض قال : ثم يوحي الله تبارك وتعالى إلى حملة عرشه : ضعوه بين أظهرهم فيكون أول ما يسمعونه منه : إلي يا عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني وصدقوا رسلي واتبعوا أمري سلوني فهذا يوم المزيد فيجتمعون على كلمة واحدة رضينا عنك فارض عنا فيرجع الله إليهم : أن يا أهل الجنة إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم داري فسلوني فهذا يوم المزيد فيجتمعون على كلمة واحدة : يا ربنا وجهك ننظر إليه فيكشف تلك الحجب فيتجلى لهم تعالى فيغشاهم من نوره شئ لولا أنه قضى ألا يحترقوا لاحترقوا لما يغشاهم من نوره ثم يقال لهم : ارجعوا إلى منازلكم فيرجعون إلى منازلهم وقد أعطى كل واحد منهم الضعف على ما كانوا فيه فيرجعون إلى أزواجهم وقد خفوا عليهن وخفين عليهم مما غشيهم من نوره فإذا رجعوا تراد النور حتى يرجعوا إلى صورهم التي كانوا عليها فتقول لهم أزواجهم : لقد خرجتم من عندنا على صورة ورجعتم على غيرها فيقولون : ذلك لأن الله تعالى تجلى لنا فنظرنا منه قال : وإنه والله ما أحاط به خلق ولكنه قد أراهم من عظمته وجلاله ما شاء أن يريهم قال : فذلك قولهم فنظرنا منه قال : فهم يتقلبون في مسك الجنة ونعيمها في كل سبعة أيام الضعف على ما كانوا فيه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذلك قوله تعالى : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } ( السجدة : 17 ) ] ورواه أبو نعيم في صفة الجنة من حديث عصمة بن محمد حدثنا موسى بن عقبة عن أبي صالح عن أنس شبيها به وذكر أبو نعيم في صفة الجنة من حديث المسعودي عن المنهال عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : سارعوا إلى الجمعة في الدنيا فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة في كل جمعة على كثيب من كافور أبيض فيكونون منه سبحانه بالقرب على قدر سرعتهم إلى الجمعة ويحدث لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك فيرجعون إلى أهليهم وقد أحدث لهم
فصل في مبدأ الجمعة
قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال : حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال : كنت قائد أبي حين كف بصره فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان بها استغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة فمكث حينا على ذلك فقلت : إن هذا لعجز ألا أسأله عن هذا فخرجت به كما كنت أخرج فلما سمع الأذان للجمعة استغفر له فقلت : يا أبتاه ! أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلما سمعت الأذان يوم الجمعة ؟ قال : أي بني ! كان أسعد أول من جمع بنا بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له : نقيع الخضمات قلت : فكم كنتم يومئذ ؟ قال : أربعون رجلا قال البيهقي ومحمد بن إسحاق إذا ذكر سماعه من الراوي وكان الراوي ثقة استقام الإسناد وهذا حديث حسن صحيح الإسناد انتهى
قلت : وهذا كان مبدأ الجمعة ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأقام بقباء في بني عمرو بن عوف كما قاله ابن إسحاق يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة وذلك قبل تأسيس مسجده
قال ابن إسحاق : وكانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن - ونعوذ بالله أن نقول على رسول الله ما لم يقل - أنه قام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : [ أما بعد أيها الناس فقدموا لأنفسكم تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس له راع ثم ليقولن له ربه وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه : ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك فلينظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا ثم ينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ] قال ابن إسحاق : ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال : [ إن الحمد لله أحمده وأستعينه نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إن أحسن الحديث كتاب الله قد أفلح من زينه الله في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر فاختاره على ما سواه من أحاديث الناس إنه أحسن الحديث وأبلغه أحبوا ما أحب الله أحبوا الله من كل قلوبكم ولا تملوا كلام الله وذكره ولا تقس عنه قلوبكم فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي قد سماه الله خيرته من الأعمال ومصطفاه من العباد والصالح من الحديث ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم وتحابوا بروح الله بينكم إن الله يغضب أن ينكث عهده والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ]
وقد تقدم طرف من خطبته عليه السلام عند ذكر هديه في الخطب
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعظيم هذا اليوم وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره وقد اختلف العلماء : هل هو أفضل أم يوم عرفة ؟ على قولين : هما وجهان لأصحاب الشافعي
وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجره بسورتي ( آلم تنزيل ) و ( هل أتى على الإنسان ) ويظن كثير ممن لا علم عنده أن المراد تخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة ويسمونها سجدة الجمعة وإذا لم يقرأ أحدهم هذه السورة استحب قراءة سورة أخرى فيها سجدة ولهذا كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة دفعا لتوهم الجاهلين وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة لأنهما تضمنتا ما كان ويكون في يومها فإنهما اشتملتا على خلق آدم وعلى ذكر المعاد وحشر العباد وذلك يكون يوم الجمعة وكان في قراءتهما في هذا اليوم تذكير للأمة بما كان فيه ويكون والسجدة جاءت تبعا ليست مقصودة حتى يقصد المصلي قراءتها حيث اتفقت فهذه خاصة من خواص يوم الجمعة
الخاصة الثانية : استحباب كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه وفي ليلته لقوله صلى الله عليه وسلم : [ أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة ]
ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأنام ويوم الجمعة سيد الأيام فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره مع حكمة أخرى وهي أن كل خير نالته أمته في الدنيا والآخرة فإنما نالته على يده فجمع الله لأمته به بين خيري الدنيا والآخرة فأعظم كرامة تحصل لهم فإنما تحصل يوم الجمعة فإن فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنة وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة وهو يوم عيد لهم في الدنيا ويوم فيه يسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم ولا يرد سائلهم وهذا كله إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده فمن شكره وحمده وأداء القليل من حقه صلى الله عليه وسلم أن نكثر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته
الخاصة الثالثة : صلاة الجمعة التي هي من آكد فروض الإسلام ومن أعظم مجامع المسلمين وهي أعظم من كل مجع يجمعون فيه وأفرضه سوى مجمع عرفة ومن تركها تهاونا بها طبع الله على قلبه وقرب أهل الجنة يوم القيامة وسبقهم إلى الزيارة يوم المزيد بحسب قربهم من الإمام يوم الجمعة وتبكيرهم
الخاصة الرابعة : الأمر بالاغتسال في يومها وهو أمر مؤكد جدا ووجوبه أقوى من وجوب الوتر وقراءة البسملة في الصلاة ووجوب الوضوء من مس النساء ووجوب الوضوء من مس الذكر ووجوب الوضوء من القهقهة في الصلاة ووجوب الوضوء من الرعاف والحجامة والقيء ووجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير ووجوب القراءة على المأموم
وللناس في وجوبه ثلاثة أقوال : النفي والإثبات والتفصل بين من به رائحة يحتاح إلى إزالتها فيجب عليه ومن هو مستغن عنه فيستحب له والثلاثة لأصحاب أحمد
الخاصة الخامسة : التطيب فيه وهو أفضل من التطيب في غيره من أيام الأسبوع
الخاصة السادسة : السواك فيه وله مزية على السواك في غيره
الخاصة السابعة : التبكير للصلاة
الخاصة الثامنة : أن يشتغل بالصلاة والذكر والقراءة حتى يخرج الإمام
الخاصة التاسعة : الإنصات للخطبة إذا سمعها وجوبا في أصح القولين فإن تركه كان لاغيا ومن لغا فلا جمعة له وفي المسند مرفوعا [ والذي يقول لصاحبه : أنصت فلا جمعة له ]
الخاصة العاشرة : قراءة سورة الكهف في يومها فقد روي عن النبى صلى الله عليه وسلم [ من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضئ به يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين ]
وذكره سعيد بن منصور من قول أبي سعيد الخدري وهو أشبه
الحادية عشرة : أنه لا يكره فعل الصلاة فيه وقت الزوال عند الشافعي رحمه الله ومن وافقه وهو اختيار شيخنا أبي العباس بن تيمية ولم يكن اعتماده على حديث ليث عن مجاهد عن أبي الخليل عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة وقال : إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة - وإنما كان اعتماده على أن من جاء إلى الجمعة يستحب له أن يصلي حتى يخرج الإمام وفي الحديث الصحيح [ لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ] رواه البخاري فندبه إلى الصلاة ما كتب له ولم يمنعه عنها إلا في وقت خروج الإمام ولهذا قال غير واحد من السلف منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتبعه عليه الإمام أحمد بن حنبل : خروج الإمام يمنع الصلاة وخطبته تمنع الكلام فجعلوا المانع من الصلاة خروج الإمام لا انتصاف النهار
وأيضا فإن الناس يكونون في المسجد تحت السقوف ولا يشعرون بوقت الزوال والرجل يكون متشاغلا بالصلاة لا يدري بوقت الزوال ولا يمكنه أن يخرج ويتخطى رقاب الناس وينظر إلى الشمس ويرجع ولا يشرع له ذلك
وحديث أبي قتادة هذا قال أبو داود : هو مرسل لأن أبا الخليل لم يسمع من أبي قتادة والمرسل إذا اتصل به عمل وعضده قياس أو قول صحابي أو كان مرسله معروفا باختيار الشيوخ ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين ونحو ذلك مما يقتضي قوته عمل به
وأيضا فقد عضده شواهد أخر منها ما ذكره الشافعي في كتابه فقال : روي عن إسحاق بن عبد الله عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة هكذا رواه رحمه الله في كتاب اختلاف الحديث ورواه في كتاب الجمعة : حدثنا إبراهيم بن محمد عن إسحاق ورواه أبو خالد الأحمر عن شيخ من أهل المدينة يقال له : عبد الله بن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه البيهقي في المعرفة من حديث عطاء بن عجلان عن أبي نضرة عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا : كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة ولكن إسناده فيه من لا يحتج به قاله البيهقي قال : ولكن إذا انضمت هذه الأحاديث إلى حديث أبي قتادة أحدثت بعض القوة
قال الشافعي : من شأن الناس التهجير إلى الجمعة والصلاة إلى خروج الإمام قال البيهقي : الذي أشار إليه الشافعي موجود في الأحاديث الصحيحة وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رغب في التبكير إلى الجمعة وفي الصلاة إلى خروج الإمام من غير استثناء وذلك يوافق هذه الأحاديث التي أبيحت فيها الصلاة نصف النهار يوم الجمعة وروينا الرخصة في ذلك عن عطاء وطاووس و الحسن ومكحول
قلت : اختلف الناس في كراهة الصلاة نصف النهار على ثلاثة أقوال أحدها : أنه ليس وقت كراهة بحال وهو مذهب مالك
الثاني : أنه وقت كراهة في يوم الجمعة وغيرها وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب أحمد
والثالث : أنه وقت كراهة إلا يوم الجمعة فليس بوقت كراهة وهذا مذهب الشافعي
الثانية عشرة : قراءة ( سورة الجمعة ) و ( المنافقين ) أو ( سبح والغاشية ) في صلاة الجمعة فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهن في الجمعة ذكره مسلم في صحيحه وفيه أيضا : أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيها بـ ( الجمعة ) و ( هل أتاك حديث الغاشية ) ثبت عنه ذلك كله
ولا يستحب أن يقرأ من كل سورة بعضها أو يقرأ إحداهما في الركعتين فإنه خلاف السنة وجهال الأئمة يداومون على ذلك
الثالثة عشرة : أنه يوم عيد متكرر في الأسبوع وقد روى أبو عبد الله بن ماجه في سننه من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر فيه خمس خلال : خلق الله فيه آدم وأهبط فيه آدم إلى الأرض وفيه توفى الله آدم وفيه ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئا إلا أعطاه ما لم يسأل حراما وفيه تقوم الساعة ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا شجر إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة ]
الرابعة عشرة : إنه يستحب أن يلبس فيه أحسن الثياب التي يقدر عليها فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أيوب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان له ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد ثم يركع إن بدا له ولم يؤذ أحدا ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة لما بينهما ] وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن سلام أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر في يوم الجمعة : [ ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته ]
وفي سنن ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة فرأى عليهم ثياب النمار فقال : [ ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته ]
الخامسة عشرة : أنه يستحب فيه تجمير المسجد فقد ذكر سعيد بن منصور عن نعيم بن عبد الله المجمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أن يجمر مسجد المدينة كل جمعة حين ينتصف النهار
قلت : ولذلك سمي نعيم المجمر
السادسة عشرة : أنه لا يجوز السفر في يومها لمن تلزمه الجمعة قبل فعلها بعد دخول وقتها وأما قبله فللعلماء ثلاثة أقوال وهي روايات منصوصات عن أحمد أحدها : لا يجوز والثاني : يجوز والثالث : يجوز للجهاد خاصة
وأما مذهب الشافعي رحمه الله فيحرم عنده إنشاء السفر يوم الجمعة بعد الزوال ولهم في سفر الطاعة وجهان أحدهما : تحريمه وهو اختيار النووي والثاني : جوازه وهو اختيار الرافعي وأما السفر قبل الزوال فللشافعي فيه قولان : القديم : جوازه والجديد : أنه كالسفر بعد زوال
وأما مذهب مالك فقال صاحب التفريع : ولا يسافر أحد يوم الجمعة بعد الزوال حتى يصلي الجمعة ولا بأس أن يسافر قبل الزوال والاختيار : أن لا يسافر إذا طلع الفجر وهو حاضر حتى يصلي الجمعة
وذهب أبو حنيفة إلى جواز السفر مطلقا وقد روى الدارقطني في الأفراد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ من سافر من دار إقامته يوم الجمعة دعت عليه الملائكة ألا يصحب في سفره ] وهو من حديث ابن لهيعة
وفي مسند الإمام أحمد من حديث الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة قال : فغدا أصحابه وقال : أتخلف وأصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ألحقهم فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم رآه فقال : ما منعك أن تغدو مع أصحابك ؟ فقال : أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم فقال : [ لو انفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم ]
وأعل هذا الحديث بأن الحكم لم يسمع من مقسم هذا إذا لم يخف المسافر فوت رفقته فإن خاف فوت رفقته وانقطاعه بعدهم جاز له السفر مطلقا لأن هذا عذر يسقط الجمعة والجماعة
ولعل ما روي عن الأوزاعي - أنه سئل عن مسافر سمع أذان الجمعة وقد أسرج دابته فقال : ليمض على سفره - محمول على هذا وكذلك قول ابن عمر رضي الله عنه : الجمعة لا تحبس عن السفر وإن كان مرادهم جواز السفر مطلقا فهي مسألة نزاع والدليل : هو الفاصل على أن عبد الرزاق قد روى في مصنفه عن معمر عن خالد الحذاء عن ابن سيرين أو غيره أن عمر بن الخطاب رأى رجلا عليه ثياب سفر بعدما قضى الجمعة فقال : ما شأنك ؟ قال : أردت سفرا فكرهت أن أخرج حتى أصلي فقال عمر : إن الجمعة لا تمنعك السفر ما لم يحضر وقتها فهذا قول من يمنع السفر بعد الزوال ولا يمنع منه قبله
وذكره عبد الرزاق أيضا عن الثوري عن الأسود بن قيس عن أبيه قال : أبصر عمر بن الخطاب رجلا عليه هيئة السفر وقال الرجل : إن اليوم يوم جمعة ولولا ذلك لخرجت فقال عمر : إن الجمعة لا تحبس مسافرا فاخرج ما لم يحن الرواح
وذكر أيضا عن الثوري عن ابن أبي ذئب عن صالح بن كثير عن الزهري قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسافرا يوم الجمعة ضحى قبل الصلاة
وذكر عن معمر قال : سألت يحيى بن أبي كثير : هل يخرج الرجل يوم الجمعة ؟ فكرهه فجعلت أحدثه بالرخصة فيه فقال لي : قلما يخرج رجل في يوم الجمعة إلا رأى ما يكرهه لو نظرت في ذلك وجدته كذلك
وذكر ابن المبارك عن الأوزاعي عن حسان بن أبي عطية قال : إذا سافر الرجل يوم الجمعة دعا عليه النهار أن لا يعان على حاجته ولا يصاحب في سفره
وذكر الأوزاعي عن ابن المسيب أنه قال : السفر يوم الجمعة بعد الصلاة قال ابن جريج : قلت لعطاء : أبلغك أنه كان يقال : إذا أمسى في قرية جامعة من ليلة الجمعة فلا يذهب حتى يجمع ؟ قال : إن ذلك ليكره قلت : فمن يوم الخميس ؟ قال : لا ذلك النهار فلا يضره
السابعة عشرة : أن للماشي إلى الجمعة بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها قال عبد الرزاق : عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس قال : قال رسول لله صلى الله عليه وسلم : [ من غسل واغتسل يوم الجمعة وبكر وابتكر ودنا من الإمام فأنصت كان له بكل خطوة يخطوها صيام سنة وقيامها وذلك على الله يسير ] ورواه الإمام أحمد في مسنده
وقال الإمام أحمد : غسل بالتشديد : جامع أهله وكذلك فسره وكيع
الثامنة عشرة : أنه يوم تكفير السيئات فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن سلمان قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ أتدري ما يوم الجمعة ؟ ] قلت : هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم آدم قال : [ ولكني أدري ما الجمعة لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كانت كفارة لما بينه وبين الجمعة ما اجتنبت المقتلة ]
وفي المسند أيضا من حديث عطاء الخراساني عن نبيشة الهذلي أنه كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة أقبل إلى المسجد لا يؤذي أحدا فإن لم يجد الإمام صلى ما بدا له وإن وجد الإمام قد خرج جلس فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أن تكون كفارة للجمعة التي تليها ] وفي صحيح البخاري عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ]
وفي مسند أحمد من حديث أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من اغتسل يوم الجمعة ثم لبس ثيابه ومس طيبا إن كان عنده ثم مشى إلى الجمعة وعليه السكينة ولم يتخط أحدا ولم يؤذه وركع ما قضي له ثم انتظر حتى ينصرف الإمام غفر له ما بين الجمعتين ]
التاسعة عشرة : أن جهنم تسجر كل يوم إلا يوم الجمعة وقد تقدم حديث أبي قتادة في ذلك وسر ذلك - والله أعلم - أنه أفضل الأيام عند الله ويقع فيه من الطاعات والعبادات والدعوات والابتهال إلى الله سبحانه وتعالى ما يمنع من تسجير جهنم فيه ولذلك تكون معاصي أهل الإيمان فيه أقل من معاصيهم في غيره حتى إن أهل الفجور ليمتنعون فيه مما لا يمتنعون منه في يوم السبت وغيره
وهذا الحديث الظاهر منه أن المراد سجر جهنم في الدنيا وأنها توقد كل يوم إلا يوم الجمعة وأما يوم القيامة فإنه لا يفتر عذابها ولا يخفف عن أهلها الذين هم أهلها يوما من الأيام ولذلك يدعون الخزنة أن يدعوا ربهم ليخفف عنهم يوما من العذاب فلا يجيبونهم إلى ذلك
العشرون : أن فيه ساعة الإجابة وهي الساعة التي لا يسأل الله عبد مسلم فيها شيئا إلا أعطاه ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه وقال : بيده يقللها ] وفي المسند من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ سيد الأيام يوم الجمعة وأعظمها عند الله وأعظم عند الله من يوم الفطر ويوم الأضحى وفيه خمس خصال : خلق الله فيه آدم وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض وفيه توفى الله تعالى آدم وفيه ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئا إلا آتاه الله إياه ما لم يسأل حراما وفيه تقوم الساعة ما من ملك مقرب ولا أرض ولا رياح ولا بحر ولا جبال ولا شجر إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة ]
فصل
وقد اختلف الناس في هذه الساعة : هل هي باقية أو قد رفعت ؟ على قولين حكاهما ابن عبد البر وغيره والذين قالوا : هي باقية ولم ترفع اختلفوا هل هي في وقت من اليوم بعينه أم هي غير معينة ؟ على قولين ثم اختلف من قال تعيينها : هل هي تنتقل في ساعات اليوم أو لا ؟ على قولين أيضا والذين قالوا بتعيينها اختلفوا على أحد عشر قولا
قال ابن المنذر : روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : هي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس
الثاني : أنها عند الزوال ذكره ابن المنذر عن الحسن البصري وأبي العالية
الثالث : أنها إذا أذن المؤذن بصلاة الجمعة قال ابن المندز : روينا ذلك عن عائشة رضي الله عنها
الرابع : أنها إذا جلس الإمام على المنبر يخطب حتى يفرغ قال ابن المنذر : رويناه عن الحسن البصري
الخامس : قاله أبو بردة : هي الساعة التي اختار الله وقتها للصلاة
السادس : قاله أبو السوار العدوي وقال : كانوا يرون أن الدعاء مستجاب ما بين زوال الشمس إلى أن تدخل الصلاة
السابع : قاله أبو ذر : إنها ما بين أن ترتفع الشمس شبرا إلى ذراع
الثامن : أنها ما بين العصر إلى غروب الشمس قاله أبو هريرة وعطاء وعبد الله بن سلام وطاووس حكى ذلك كله ابن المنذر
التاسع : أنها آخر ساعة بعد العصر وهو قول أحمد وجمهور الصحابة والتابعين
العاشر : أنها من حين خروح الإمام إلى فراغ الصلاة حكاه النووي وغيره
الحادي عشر : أنها الساعة الثالثة من النهار حكاه صاحب المغني فيه وقال كعب : لو قسم الإنسان جمعة في جمع أتى على تلك الساعة وقال عمر : إن طلب حاجة في يوم ليسير
وأرجح هذه الأقوال : قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة وأحدهما أرجح من الآخر
الأول : أنها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة وحجة هذا القول ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة بن أبي موسى أن عبد الله بن عمر قال له : أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ساعة الجمعة شيئا ؟ قال : نعم سمعته يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة ] وروى ابن ماجه والترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إن في الجمعة ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئا إلا آتاه الله إياه قالوا : يا رسول الله ! أية ساعة هي ؟ قال : حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها ]
والقول الثانى : أنها بعد العصر وهذا أرجح القولين وهو قول عبد الله بن سلام وأبي هريرة والإمام أحمد وخلق وحجة هذا القول ما رواه أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : [ إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه وهي بعد العصر ]
وروى أبو داود والنسائي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ يوم الجمعة اثنا عشر ساعة فيها ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر ]
وروى سعيد بن منصور في سننه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة فتفرقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة
وفي سنن ابن ماجه : [ عن عبد الله بن سلام قال : قلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس : إنا لنجد في كتاب الله ( يعني التوراة ) في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله تعالى شيئا إلا قضى الله له حاجته قال عبد الله : فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعض ساعة قلت : صدقت يا رسول الله أو بعض ساعة قلت : أي ساعة هي ؟ قال : هي آخر ساعة من ساعات النهار قلت : إنها ليست ساعة صلاة قال : بلى إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة ] وفي مسند أحمد من حديث أبي هريرة قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لأي شئ سمي يوم الجمعة ؟ قال : [ لأن فيها طبعت طينة أبيك آدم وفيها الصعقة والبعثة وفيها البطشة وفي آخر ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها استجيب له ]
وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه مات وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله تعالى حاجة إلا أعطاه إياها قال كعب : ذلك في كل سنة يوم ؟ فقلت : بل في كل جمعة قال : فقرأ كعب التوراة فقال : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو هريرة : ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب فقال عبد الله بن سلام : وقد علمت أية ساعة هي قال أبو هريرة : فقلت : أخبرني بها فقال عبد الله بن سلام : هي آخر ساعة من يوم الجمعة فقلت : كيف هي آخر ساعة من يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلى فيها ؟ فقال عبد الله بن سلام : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي ؟ قال : فقلت : بلى فقال : هو ذاك ]
قال الترمذي : حديث حسن صحيح وفي الصحيحين بعضه وأما من قال : إنها من حين يفتتح الإمام الخطبة إلى فراغه من الصلاة فاحتج بما رواه مسلم في صحيحه عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال : قال عبد الله بن عمر : أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ساعة الجمعة ؟ قال : قلت : نعم سمعته يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن يقضي الإمام الصلاة ]
وأما من قال : هي ساعة الصلاة فاحتج بما رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن عوف المزني قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ إن في الجمعة لساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئا إلا آتاه الله إياه ] قالوا : يا رسول الله ! أية ساعة هي ؟ قال : حين تقام الصلاة إلى الإنصراف منها ولكن هذا الحديث ضعيف قال أبو عمر بن عبد البر : هو حديث لم يروه فيما علمت إلا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده وليس هو ممن يحتج بحديثه وقد روى روح بن عبادة عن عوف عن معاوية بن قرة عن أبي بردة عن أبي موسى أنه قال لعبد الله بن عمر : هي الساعة التي يخرج فيها الإمام إلى أن تقضى الصلاة فقال ابن عمر : أصاب الله بك
وروى عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي ذر أن امرأته سألته عن الساعة التي يستجاب فيها يوم الجمعة للعبد المؤمن فقال لها : هي مع رفع الشمس بيسير فإن سألتني بعدها فأنت طالق
واحتج هؤلاء أيضا بقوله في حديث أبي هريرة [ وهو قائم يصلي ] وبعد العصر لا صلاة في ذلك الوقت والأخذ بظاهر الحديث أولى قال أبو عمر : يحتج أيضا من ذهب إلى هذا بحديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ إذا زالت الشمس وفاءت الأفياء وراحت الأرواح فاطلبوا إلى الله حوائجكم فإنها ساعة الأوابين ثم تلا : { فإنه كان للأوابين غفورا } ( الإسراء : 25 ) ]
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الساعة التي تذكر يوم الجمعة : ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وكان سعيد بن جبير إذا صلى العصر لم يكلم أحدا حتى تغرب الشمس وهذا هو قول أكثر السلف وعليه أكثر الأحاديث ويليه القول : بأنها ساعة الصلاة وبقية الأقوال لا دليل عليها
وعندى أن ساعة الصلاة ساعة ترجى فيها الإجابة أيضا فكلاهما ساعة إجابة وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد العصر فهى ساعة معينة من اليوم لا تتقدم ولا تتأخر وأما ساعة الصلاة فتابعة للصلاة تقدمت أو تأخرت لأن لاجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرعهم وابتهالهم إلى الله تعالى تأثيرا في الإجابة فساعة اجتماعهم ساعة ترجى فيها الإجابة وعلى هذا تتفق الأحاديث كلها ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حض أمته على الدعاء والابتهال إلى الله تعالى في هاتين الساعتين
ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن المسجد الذى أسس على التقوى فقال : [ هو مسجدكم هذا ] وأشار إلى مسجد المدينة وهذا لا ينفي أن يكون مسجد قباء الذي نزلت فيه الآية مؤسسا على التقوى بل كل منهما مؤسس على التقوى وكذلك قوله في ساعة الجمعة [ هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة ] لا ينافي قوله في الحديث الآخر [ فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر ]
ويشبه هذا في الأسماء قوله [ ما تعدون الرقوب فيكم ؟ قالوا : من لم يولد له قال : الرقوب من لم يقدم من ولده شيئا ]
فأخبر أن هذا هو الرقوب إذ لم يحصل له من ولده من الأجر ما حصل لمن قدم منهم فرطا وهذا لا ينافي أن يسمى من لم يولد له رقوبا
ومثله قوله ما تعدون المفلس فيكم ؟ قالوا : من لا درهم له ولا متاع قال : [ المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ويأتي وقد لطم هذا وضرب هذا وسفك دم هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته ] الحديث
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم : [ ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس ولا يتفطن له فيتصدق عليه ] وهذه الساعة هي آخر ساعة بعد العصر يعظمها جميع أهل الملل وعند أهل الكتاب هي ساعة الإجابة وهذا مما لاغرض لهم في تبديله وتحريفه وقد اعترف به مؤمنهم
وأما من قال بتنقلها فرام الجمع بذلك بين الأحاديث كما قيل ذلك في ليلة القدر وهذا ليس بقوي فإن ليلة القدر قد قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : [ فالتمسوها في خامسة تبقى في سابعة تبقى في تاسعة تبقى ] ولم يجىء مثل ذلك في ساعة الجمعة
وأيضا فالأحاديث التي في ليلة القدر ليس فيها حديث صريح بأنها ليلة كذا وكذا بخلاف أحاديث ساعة الجمعة فظهر الفرق بينهما
وأما قول من قال : إنها رفعت فهو نظير قول من قال : إن ليلة القدر رفعت وهذا القائل إن أراد أنها كانت معلومة فرفع علمها عن الأمة فيقال له : يرفع علمها عن كل الأمة وإن رفع عن بعضهم وإن أراد أن حقيقتها وكونها ساعة إجابة رفعت فقول باطل مخالف للأحاديث الصحيحة الصريحة فلا يعول عليه والله أعلم
الحادية والعشرون : أن فيه صلاة الجمعة التي خصت من بين سائر الصلوات المفروضات بخصائص لا توجد في غيرها من الاجتماع والعدد المخصوص واشترط الإقامة والاستيطان والجهر بالقراءة وقد جاء من التشديد فيها ما لم يأت نظيره إلا في صلاة العصر ففي السنن الأربعة من حديث أبي الجعد الضمري - وكانت له صحبة - إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه ] قال الترمذي : حديث حسن وسألت محمد بن إسماعيل عن اسم أبي الجعد الضمري فقال : لم يعرف اسمه وقال : لا أعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث
وقد جاء في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر لمن تركها أن يتصدق بدينار فإن لم يجد فنصف دينار رواه أبو داود والنسائي من رواية قدامة بن وبرة عن سمرة بن جندب ولكن قال أحمد : قدامة بن وبرة لا يعرف وقال يحيى بن معين : ثقة وحكي عن البخاري أنه لا يصح سماعه من سمرة
وأجمع المسلمون على أن الجمعة فرض عين إلا قولا يحكى عن الشافعي أنها فرض كفاية وهذا غلط عليه منشؤه أنه قال : وأما صلاة العيد فتجب على كل من تجب عليه صلاة الجمعة فظن هذا القائل أن العيد لما كانت فرض كفاية كانت الجمعة كذلك وهذا فاسد بل هذا نص من الشافعي أن العيد واجب على الجميع وهذا يحتمل أمرين أحدهما : أن يكون فرض عين كالجمعة وأن يكون فرض كفاية فإن فرض الكفاية على الجميع كفرض الأعيان سواء وإنما يختلفان بسقوطه عن البعض بعد وجوبه بفعل الآخرين
الثانية والعشرون : أن فيه الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده والشهادة له بالوحدانية ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة وتذكير العباد بأيامه وتحذيرهم من بأسه ونقمته ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جنانه ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها
الثالثة والعشرون : أنه اليوم الذي يستحب أن يتفرغ فيه للعبادة وله على سائر الأيام مزية بأنواع من العبادات واجبة ومستحبة فالله سبحانه جعل لأهل كل ملة يوما يتفرغون فيه للعبادة ويتخلون فيه عن أشغال الدنيا فيوم الجمعة يوم عبادة وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان ولهذا من صح له يوم جمعته وسلم سلمت له سائر جمعته ومن صح له رمضان وسلم سلمت له سائر سنته ومن صحت له حجته وسلمت له صح له سائر عمره فيوم الجمعة ميزان الأسبوع ورمضان ميزان العام والحج ميزان العمر وبالله التوفيق
الرابعة والعشرون : أنه لما كان في الأسبوع كالعيد في العام و كان العيد مشتملا على صلاة وقربان وكان يوم الجمعة يوم صلاة جعل الله سبحانه التعجيل فيه إلى المسجد بدلا من القربان وقائما مقامه فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاة والقربان كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ]
وقد اختلف الفقهاء في هذه الساعة على قولين :
أحدهما : أنها من أول النهار وهذا هو المعروف في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما
والثاني : أنها أجزاء من الساعة السادسة بعد الزوال وهذا هو المعروف في مذهب مالك واختاره بعض الشافعية واحتجوا عليه بحجتين
إحداهما : أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال وهو مقابل الغدو الذي لا يكون إلا قبل الزوال قال تعالى : { ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر } ( سبأ : 12 ) قال الجوهري : ولا يكون إلا بعد الزوال
الحجة الثانية : أن السلف كانوا أحرص شئ على الخير ولم يكونوا يغدون إلى الجمعة من وقت طلوع الشمس وأنكر مالك التبكير إليها في أول النهار وقال : لم ندرك عليه أهل المدينة
واحتج أصحاب القول الأول بحديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة ] قالوا : والساعات المعهودة هي الساعات التي هي ثنتا عشرة ساعة وهي نوعان : ساعات تعديلية وساعات زمانية قالوا : ويدل على هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بلغ بالساعات إلى ست ولم يزد عليها ولو كانت الساعة أجزاء صغارا من الساعة التي تفعل فيها الجمعة لم تنحصر في ستة أجزاء بخلاف ما إذا كان المردذ بها الساعات المعهودة فإن الساعة السادسة متى خرجت ودخلت السابعة خرج الإمام وطويت الصحف ولم يكتب لأحد قربان بعد ذلك كما جاء مصرحا به في سنن أبي داود من حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم [ إذا كان يوم الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق فيرمون الناس بالترابيث أو الربائث ويثبطونهم عن الجمعة وتغدو الملائكة فتجلس على أبواب المساجد فيكتبون الرجل من ساعة والرجل من ساعتين حتى يخرج الإمام ] قال أبو عمر بن عبد البر : اختلف أهل العلم في تلك الساعات فقالت طائفة منهم : أراد الساعات من طلوع الشمس وصفائها والأفضل عندهم التبكير في ذلك الوقت إلى الجمعة وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأكثر العلماء بل كلهم يستحب البكور إليها
قال الشافعي رحمه الله : ولو بكر إليه بعد الفجر وقبل طلوع الشمس كان حسنا وذكر الأثرم قال : قيل لأحمد بن حنبل : كان مالك بن أنس يقول : لا ينبغي التهجير يوم الجمعة باكرا فقال : هذا خلاف حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقال : سبحان الله إلى أي شئ ذهب في هذا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : [ كالمهدى جزورا ] قال : وأما مالك فذكر يحيي بن عمر عن حرملة أنه سأل ابن وهب عن تفسير هذه الساعات : أهو الغدو من أول ساعات النهار أو إنما أراد بهذا القول ساعات الرواح ؟ فقال ابن وهب : سألت مالكا عن هذا فقال : أما الذي يقع بقلبي فإنه إنما أراد ساعة واحدة تكون فيها هذه الساعات من راح من أول تلك الساعة أو الثانيه أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة أو السادسة ولو لم يكن كذلك ما صليت الجمعة حتى يكون النهار تسع ساعات في وقت العصر أو قريبا من ذلك وكان ابن حبيب ينكر مالك هذا ويميل إلى القول الأول وقال : قول مالك هذا تحريف في تأويل الحديث ومحال من وجوه وقال : يدلك أنه لا يجوز ساعات في ساعة واحدة : أن الشمس إنما تزول في الساعة السادسة من النهار وهو وقت الأذان وخروج الإمام إلى الخطبة فدل ذلك على أن الساعات في هذا الحديث هي ساعات النهار المعروفات فبدأ بأول ساعات النهار فقال : من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ثم قال : في الساعة الخامسة بيضة ثم انقطع التهجير وحان وقت الأذان فشرح الحديث بين في لفظه ولكنه حرف عن موضعه وشرح بالخلف من القول وما لا يكون وزهد شارحه الناس فيما رغبهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التهجير من أول النهار وزعم أن ذلك كله إنما يجتمع في ساعة واحدة قرب زوال الشمس قال : وقد جاءت الآثار بالتهجير إلى الجمعة في أول النهار وقد سقنا ذلك في موضعه من كتاب واضح السنن بما فيه بيان وكفاية
هذا كله قول عبد الملك بن حبيب ثم رد عليه أبو عمر وقال : هذا تحامل منه على مالك رحمه الله تعالى فهو الذي قال القول الذي أنكره وجعله خلفا وتحريفا من التأويل والذي قاله مالك تشهد له الآثار الصحاح من رواية الأئمة ويشهد له أيضا العمل بالمدينة عنده وهذا مما يصح فيه الاحتجاج بالعمل لأنه أمر يتردد كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء فمن الآثار التي يحتج بها مالك ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إذا كان يوم الجمعة قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس الأول فالأول فالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ثم الذي يليه كالمهدي بقرة ثم الذي يليه كالمهدي كبشا حتى ذكر الدجاجة والبيضة فإذا جلس الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة ] قال : ألا ترى إلى ما في هذا الحديث فإنه قال : يكتبون الأول فالأول فالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ثم الذي يليه فجعل الأول مهجرا وهذه اللفظة إنما هي مأخوذة من الهاجرة والتهجير وذلك وقت النهوض إلى الجمعة وليس ذلك وقت طلوع الشمس لأن ذلك الوقت ليس بهاجرة ولا تهجير وفي الحديث : [ ثم الذي يليه ثم الذي يليه ] ولم يذكر الساعة قال : والطرق بهذا اللفظ كثيرة مذكورة في التمهيد وفي بعضها [ المتعجل إلى الجمعة كالمهدى بدنة ] وفي أكثرها [ المهجر كالمهدى جزورا ] الحديث وفي بعضها ما يدل على أنه جعل الرائح إلى الجمعة في أول الساعة كالمهدي بدنة وفي آخرها كذلك وفي أول الساعة الثانية كالمهدي بقرة وفي آخرها كذلك وقال بعض أصحاب الشافعي : لم يرد صلى الله عليه وسلم بقوله : [ المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ] الناهض إليها في الهجير والهاجرة وإنما أراد التارك لأشغاله وأعماله من أغراض أهل الدنيا للنهوض إلى الجمعة كالمهدي بدنة وذلك مأخوذ من الهجرة وهو ترك الوطن والنهوض إلى غيره ومنه سمي المهاجرون وقال الشافعي رحمه الله : أحب التبكير إلى الجمعة ولا تؤتى إلا مشيا هذا كله كلام أبي عمر
قلت : ومدار إنكار التبكير أول النهار على ثلاثة أمور أحدها : عل لفظة الرواح وإنها لا تكون إلا بعد الزوال والثاني : لفظة التهجير وهي إنما تكون بالهجرة وقت شدة الحر والثالث : عمل أهل المدينة فإنهم لم يكونوا يأتون من أول النهار
فأما لفظة الرواح فلا ريب أنها تطلق على المضي بعد الزوال وهذا إنما يكون في الأكثر إذا قرنت بالغدو كقوله تعالى : { غدوها شهر ورواحها شهر } ( سبأ : 12 ) وقوله صلى الله عليه وسلم : [ من غدا إلى المسجد وراح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح ] وقول الشاعر :
( نروح ونغدوا لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضي )
وقد يطلق الرواح بمعنى الذهاب والمضي وهذا إنما يجئ إذا كانت مجردة عن الاقتران بالغدو
وقال الأزهري في التهذيب : سمعت بعض العرب يستعمل الرواح في السير في كل وقت يقال : راح القوم : إذا ساروا وغدوا كذلك ويقول أحدهم لصاحبه : تروح ويخاطب أصحابه فيقول : روحوا أي : سيروا ويقول الآخر : ألا تروحون ؟ ومن ذلك ما جاء في الأخبار الصحيحة الثابتة وهو بمعنى المضي إلى الجمعة والخفة إليها لا بمعنى الرواح بالعشي
وأما لفظ التهجير والمهجر فمن الهجير والهاجرة قال الجوهري : هي نصف النهار عند اشتداد الحر تقول منه : هجر النهار قال امرؤ القيس :
( فدعها وسل الهم عنها بجسرة ... ذمول إذا صام النهار وهجرا )
ويقال : أتينا أهلنا مهجرين أي : في وقت الهاجرة والتهجير والتهجر : السير في الهاجرة فهذا ما يقرر به قول أهل المدينة قال الآخرون : الكلام في لفظ التهجير كالكلام في لفظ الرواح فإنه يطلق ويراد به التبكير
قال الأزهري في التهذيب : روى مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ لو يعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه ]
وفي حديث آخر مرفوع : [ المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ] قال : ويذهب كثير من الناس إلى أن التهجير في هذه الأحاديث تفعيل من الهاجرة وقت الزوال وهو غلط والصواب فيه ما روى أبو داود المصاحفي عن النضر بن شميل أنه قال : التهجير إلى الجمعة وغيرها : التبكير والمبادرة إلى كل شئ قال : سمعت الخليل يقول ذلك قاله في تفسير هذا الحديث
قال الأزهري : وهذا صحيح وهي لغة أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس قال لبيد :
أهل المدينة حجة فإن هذا ليس فيه إلا ترك الرواح إلى الجمعة من أول النهار وهذا جائز بالضرورة وقد يكون اشتغال الرجل بمصالحه ومصالح أهله ومعاشه وغير ذلك من أمور دينه ودنياه أفضل من رواحه إلى الجمعة من أول النهار ولا ريب أن انتظار الصلاة بعد الصلاة وجلوس الرجل في مصلاه حتى يصلي الصلاة الأخرى أفضل من ذهابه وعوده في وقت آخر للثانية كما قال صلى الله عليه وسلم : [ والذي ينتظر الصلاة ثم يصليها مع الإمام أفضل من الذي يصلي ثم يروح إلى أهله ] وأخبر [ أن الملائكة لم تزل تصلي عليه ما دام في مصلاه ] وأخبر [ أن انتظار الصلاة بعد الصلاة مما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات وأنه الرباط ] وأخبر [ أن الله يباهي ملائكته بمن قضى فريضة وجلس ينتظر أخرى ] وهذا يدل على أن من صلى الصبح ثم جلس ينتظر الجمعة فهو أفضل ممن يذهب ثم يجيء في وقتها وكون أهل المدينة وغيرهم لا يفعلون ذلك لا يدل على أنه مكروه فهكذا المجيء إليها والتبكير في أول النهار والله أعلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق