فصول في هديه صلى الله عليه وسلم في العبادات
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الوضوء
كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة في غالب أحيانه وربما صلى الصلوات بوضوء واحد وكان يتوضأ بالمد تارة وبثلثيه تارة وبأزيد منه تارة وذلك نحو أربع أواق بالدمشقي إلى أوقيتين وثلاث وكان من أيسر الناس صبا لماء الوضوء وكان يحذر أمته من الإسراف فيه وأخبر أنه يكون في أمته من يعتدي في الطهور وقال : [ إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء ] ومر على سعد وهو يتوضأ فقال له : [ لا تسرف في الماء ] فقال : وهل في الماء من إسراف ؟ قال : [ نعم وإن كنت على نهر جار ]
وصح عنه أنه توضأ مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا وفي بعض الأعضاء مرتين وبعضها ثلاثا
وكان يتمضمض ويستنشق تارة بغرفة وتارة بغرفتين وتارة بثلاث وكان يصل بين المضمضة والاستنشاق فيأخذ نصف الغرفة لفمه ونصفها لأنفه ولا يمكن في الغرفة إلا هذا وأما الغرفتان والثلاث فيمكن فيهما الفصل والوصل إلا أن هديه صلى الله عليه وسلم كان الوصل بينهما كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ تمضمض واستنشق من كف واحدة فعل ذلك ثلاثا ] وفي لفظ : [ تمضمض واستنثر بثلاث غرفات ] فهذا أصح ما روي في المضمضة والاستنشاق ولم يجئ الفصل بين المضمضة والاستنشاق في حديث صحيح البتة لكن في حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق ولكن لا يروى إلا عن طلحة عن أبيه عن جده ولا يعرف لجده صحبة وكان يستنشق بيده اليمنى ويستنثر باليسرى وكان يمسح رأسه كله وتارة يقبل بيديه ويدبر وعليه يحمل حديث من قال : مسح برأسه مرتين والصحيح أنه لم يكرر مسح رأسه بل كان إذا كرر غسل الأعضاء أفرد مسح الرأس هكذا جاء عنه صريحا ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم خلافه البتة بل ما عدا هذا إما صحيح غير صريح كقول الصحابي : توضأ ثلاثا ثلاثا وكقوله : مسح برأسه مرتين وإما صريح غير صحيح كحديث ابن البيلماني عن أبيه عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ من توضأ فغسل كفيه ثلاثا ] ثم قال : [ ومسح برأسه ثلاثا ] وهذا لا يحتج به وابن البيلماني وأبوه مضعفان وإن كان الأب أحسن حالا وكحديث عثمان الذي رواه أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم : [ مسح رأسه ثلاثا ] وقال أبو داود : أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة ولم يصح عنه في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة فأما حديث أنس الذي رواه أبو داود : [ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة ] فهذا مقصود أنس به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الشعر كله ولم ينف التكميل على العمامة وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه ولم يتوضأ صلى الله عليه وسلم إلا تمضمض واستنشق ولم يحفظ عنه أنه أخل به مرة واحدة وكذلك كان وضوؤه مرتبا متواليا لم يخل به مرة واحدة البتة وكان يمسح على رأسه تارة وعلى العمامة تارة وعلى الناصية والعمامة تارة
وأما اقتصاره على الناصية مجردة فلم يحفظ عنه كما تقدم وكان يغسل رجليه إذا لم يكونا في خفين ولا جوربين ويمسح عليهما إذا كانا في الخفين أو الجوربين وكان يمسح أذنيه مع رأسه وكان يمسح ظاهرهما وباطنهما ولم يثبت عنه أنه أخذ لهما ماء جديدا وإنما صح ذلك عن ابن عمر ولم يصح عنه في مسح العنق حديث البتة ولم يحفظ عنه أنه كان يقول على وضوئه شيئا غير التسمية وكل حديث فى أذكار الوضوء الذي يقال عليه فكذب مختلق لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا منه ولا علمه لأمته ولا ثبت عنه غير التسمية في أوله وقوله : [ أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ] في آخره وفي حديث آخر في سنن النسائي مما يقال بعد الوضوء أيضا : [ سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ]
و لم يكن يقول في أوله : نويت رفع الحدث ولا استباحة الصلاة لا هو ولا أحد من أصحابه البتة ولم يرو عنه في ذلك حرف واحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولم يتجاوز الثلاث قط وكذلك لم يثبت عنه أنه تجاوز المرفقين والكعبين ولكن أبوهريرة كان يفعل ذلك ويتأول حديث إطالة الغرة وأما حديث أبي هريرة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه غسل يديه حتى أشرع في العضدين ورجليه حتى أشرع في الساقين فهو إنما يدل على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء ولا يدل على مسألة الإطالة
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتاد تنشيف أعضائه بعد الوضوء ولا صح عنه في ذلك حديث البتة بل الذي صح عنه خلافه وأما حديث عائشة كان للنبي صلى الله عليه وسلم خرقة ينشف بها بعد الوضوء وحديث معاذ بن جبل : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح على وجهه بطرف ثوبه فضعيفان لا يحتج بمثلهما في الأول سليمان بن أرقم متروك وفي الثاني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي ضعيف قال الترمذي : ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شئ
ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم أن يصب عليه الماء كلما توضأ ولكن تارة يصب على نفسه وربما عاونه من يصب عليه أحيانا لحاجة كما في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أنه صب عليه في السفر لما توضأ
وكان يخلل لحيته أحيانا ولم يكن يواظب على ذلك وقد اختلف أئمة الحديث فيه فصحح الترمذي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته وقال أحمد وأبو زرعة : لا يثبت في تخليل اللحية حديث
وكذلك تخليل الأصابع لم يكن يحافظ عليه وفي السنن عن المستورد بن شداد : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره وهذا إن ثبت عنه فإنما كان يفعله أحيانا ولهذا لم يروه الذين اعتنوا بضبط وضوئه كعثمان وعلي وعبد الله بن زيد والربيع وغيرهم على أن في إسناده عبد الله بن لهيعة
وأما تحريك خاتمه فقد روي فيه حديث ضعيف من رواية معمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ حرك خاتمه ومعمر وأبوه ضعيفان ذكر ذلك الدارقطني
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين
صح عنه أنه مسح في الحضر والسفر ولم ينسخ ذلك حتى توفي ووقت للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن في عدة أحاديث حسان وصحاح وكان يمسح ظاهر الخفين ولم يصح عنه مسح أسفلهما إلا في حديث منقطع والأحاديث الصحيحة على خلافه ومسح على الجوربين والنعلين ومسح على العمامة مقتصرا عليها ومع الناصية وثبت عنه ذلك فعلا وأمرا في عدة أحاديث لكن في قضايا أعيان يحتمل أن تكون خاصة بحال الحاجة والضرورة ويحتمل العموم كالخفين وهو أظهر والله أعلم
ولم يكن يتكلف ضد حاله التي عليها قدماه بل إن كانتا في الخف مسح عليهما ولم ينزعهما وإن كانتا مكشوفتين غسل القدمين ولم يلبس الخف ليمسح عليه وهذا أعدل الأقوال في مسألة الأفضل من المسح والغسل قاله شيخنا والله أعلم
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في التيمم
كان صلى الله عليه وسلم يتيمم بضربة واحدة للوجه والكفين ولم يصح عنه أنه تيمم بضربتين ولا إلى المرفقين قال الإمام أحمد : من قال : إن التيمم إلى المرفقين فإنما هو شئ زاده من عنده وكذلك كان يتيمم بالأرض التي يصلي عليها ترابا كانت أو سبخة أو رملا وصح عنه أنه قال : [ حيثما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره ] وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل فالرمل له طهور ولما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك قطعوا تلك الرمال في طريقهم وماؤهم في غاية القلة ولم يرو عنه أنه حمل معه التراب ولا أمر به ولا فعله أحد من أصحابه مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب وكذلك أرض الحجاز وغيره ومن تدبر هذا قطع بأنه كان يتيمم بالرمل والله أعلم وهذا قول الجمهور
وأما ما ذكر في صفة التيمم من وضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور اليمنى ثم إمرارها إلى المرفق ثم إدارة بطن كفه على بطن الذراع وإقامة إبهامه اليسرى كالمؤذن إلى أن يصل إلى إبهامه اليمنى فيطبقها عليها فهذا مما يعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولاعلمه أحدا من أصحابه ولا أمر به ولا استحسنه وهذا هديه إليه التحاكم وكذلك لم يصح عنه التيمم لكل صلاة ولا أمر به بل أطلق التيمم وجعله قائما مقام الوضوء وهذا يقتضي أن يكون حكمه حكمه إلا فيما اقتضى الدليل خلافه
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة
كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال : [ الله أكبر ] ولم يقل شيئا قبلها ولا تلفظ بالنية البتة ولا قال : أصلي لله صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماما أو مأموما ولا قال : أداء ولا قضاء ولا فرض الوقت وهذه عشر بدع لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدة منها البتة ولا عن أحد من أصحابه ولا استحسنه أحد من التابعين ولا الأئمة الأربعة وإنما غر بعض المتأخرين قول الشافعي رضي الله عنه في الصلاة : إنها ليست كالصيام ولا يدخل فيها أحد إلا بذكر فظن أن الذكر تلفظ المصلي بالنية وإنما أراد الشافعي رحمه الله بالذكر : تكبيرة الإحرام ليس إلا وكيف يستحب الشافعى أمرا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة واحدة ولا أحد من خلفائه وأصحابه وهذا هديهم وسيرتهم فإن أوجدنا أحد حرفا واحدا عنهم في ذلك قبلناه وقابلناه بالتسليم والقبول ولا هدي أكمل من هديهم ولا سنة إلا ما تلقوه عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم
وكان دأبه في إحرامه لفظة : الله أكبر لا غيرها ولم ينقل أحد عنه سواها
وكان يرفع يديه معها ممدودة الأصابع مستقبلا بها القبلة إلى فروع أذنيه وروي إلى منكبيه فأبو حميد الساعدي ومن معه قالوا : حتى يحاذي بهما المنكبين وكذلك قال ابن عمر وقال وائل بن حجر : إلى حيال أذنيه وقال البراء : قريبا من أذنيه وقيل : هو من العمل المخير فيه وقيل : كان أعلاها إلى فروع أذنيه وكفاه إلى منكبيه فلا يكون اختلافا ولم يختلف عنه في محل هذا الرفع
ثم يضع اليمنى على ظهر اليسرى
وكان يستفتح تارة بـ [ اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد اللهم نقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ]
وتارة يقول : [ وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعها إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئ الأخلاق لايصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله بيديك والشر ليس إليك أنا بك وإليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك ] ولكن المحفوظ أن هذا الاستفتاح إنما كان يقوله في قيام الليل
وتارة يقول : [ اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ]
وتارة يقول : [ اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ] الحديث وسيأتي في بعض طرقه الصحيحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كبر ثم قال ذلك
وتارة يقول : [ الله أكبر الله أكبر الله أكبر الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا سبحان الله بكرة وأصيلا سبحان الله بكرة وأصيلا اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ]
وتارة يقول : [ الله أكبر عشر مرات ثم يسبح عشر مرات ثم يحمد عشرا ثم يهلل عشرا ثم يستغفر عشرا ] ثم يقول : [ اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني عشرا ] ثم يقول : [ اللهم إني أعوذ بك من ضيق المقام يوم القيامة عشرا ]
فكل هذه الأنواع صحت عنه صلى الله عليه وسلم
وروي عنه أنه كان يستفتح بـ [ سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ] ذكر ذلك أهل السنن من حديث علي بن علي الرفاعي عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد على أنه ربما أرسل وقد روي مثله من حديث عائشة رضي الله عنها والأحاديث التي قبله أثبت منه ولكن صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستفتح به في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ويجهر به ويعلمه الناس وقال الإمام أحمد : أما أنا فأذهب إلى ما روى عن عمر ولو أن رجلا استفتح ببعض ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الاستفتاح كان حسنا
وإنما اختار الإمام أحمد هذا لعشرة أوجه قد ذكرتها في مواضع أخرى منها جهر عمر به يعلمه الصحابة
ومنها اشتماله على أفضل الكلام بعد القرآن فإن أفضل الكلام بعد القرآن : سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر وقد تضمنها هذا الاستفتاح مع تكبيرة الإحرام
ومنها أنه استفتاح أخلص للثناء على الله وغيره متضمن للدعاء والثناء أفضل من الدعاء ولهذا كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن لأنها أخلصت لوصف الرحمن تبارك وتعالى والثناء عليه ولهذا كان سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أفضل الكلام بعد القرآن فيلزم أن ما تضمنها من الاستفتاحات أفضل من غيره من الاستفتاحات
ومنها أن غيره من الاستفتاحات عامتها إنما هي في قيام الليل في النافلة وهذا كان عمر يفعله ويعلمه الناس في الفرض
ومنها أن هذا الاستفتاح إن شاء للثناء على الرب تعالى متضمن للإخبار عن صفات كماله ونعوت جلاله والاستفتاح بـ وجهت وجهي إخبار عن عبودية العبد وبينهما من الفرق ما بينهما
ومنها أن من اختار الاستفتاح بـ وجهت وجهي لا يكمله وإنما يأخذ بقطعة من الحديث ويذر باقيه بخلاف الاستفتاح بـ سبحانك اللهم وبحمدك فإن من ذهب إليه يقوله كله إلى آخره
وكان يقول بعد ذلك : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يقرأ الفاتحة وكان يجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم تارة ويخفيها أكثر مما يجهر بها ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائما في كل يوم وليلة خمس مرات أبدا حضرا وسفرا ويخفي ذلك على خلفائه الراشدين وعلى جمهور أصحابه وأهل بلده في الأعصار الفاضلة هذا من أمحل المحال حتى يحتاج إلى التشبث فيه بألفاظ مجملة وأحاديث واهية فصحيح تلك الأحاديث غير صريح وصريحها غير صحيح وهذا موضع يستدعي مجلدا ضخما
وكانت قراءته مدا يقف عند كل آية ويمد بها صوته
فإذا فرغ من قراءة الفاتحة قال : آمين فإن كان يجهر بالقراءة رفع بها صوته وقالها من خلفه وكان له سكتتان سكتة بين التكبير والقراءة وعنها سأله أبو هريرة واختلف في الثانية فروي أنها بعد الفاتحة وقيل : إنها بعد القراءة وقبل الركوع وقيل : هي سكتتان غير الأولى فتكون ثلاثا والظاهر إنما هي اثنتان فقط وأما الثالثة فلطيفة جدا لأجل تراد النفس ولم يكن يصل القراءة بالركوع بخلاف السكتة الأولى فإنه كان يجعلها بقدر الاستفتاح والثانية قد قيل : إنها لأجل قراءة المأموم فعلى هذا : ينبغي تطويلها بقدر قراءة الفاتحة وأما الثالثة فللراحة والنفس فقط وهي سكتة لطيفة فمن لم يذكرها فلقصرها ومن اعتبرها جعلها سكتة ثالثة فلا اختلاف بين الروايتين وهذا أظهر ما يقال في هذا الحديث وقد صح حديث السكتتين من رواية سمرة وأبي بن كعب وعمران بن حصين ذكر ذلك أبو حاتم في صحيحه وسمرة هو ابن جندب وقد تبين بذلك أن أحد من روى حديث السكتتين سمرة بن جندب وقد قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين : سكتة إذا كبر وسكتة إذا فرغ من قراءة { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } وفي بعض طرق الحديث : فإذا فرغ من القراءة سكت وهذا كالمجمل واللفظ الأول مفسر مبين ولهذا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : للإمام سكتتان فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب إذا افتتح الصلاة وإذا قال : ولا الضالين على أن تعيين محل السكتتين إنما هو من تفسير قتادة فإنه روى الحديث عن الحسن عن سمرة قال : سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر ذلك عمران فقال : حفظناها سكتة فكتبنا إلى أبي بن كعب بالمدينة فكتب أبي أن قد حفظ سمرة قال سعيد : فقلنا لقتادة ما هاتان السكتتان قال : إذا دخل في الصلاة وإذا فرغ من القراءة ثم قال بعد ذلك : وإذا قال : ولا الضالين قال : وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يتراد إليه نفسه ومن يحتج بالحسن عن سمرة يحتج بهذا
فإذا فرغ من الفاتحة أخذ في سورة غيرها وكان يطيلها تارة ويخففها لعارض من سفر أو غيره ويتوسط فيها غالبا
وكان يقرأ في الفجر بنحو ستين آية إلى مائة آية وصلاها بسورة ( ق ) وصلاها بـ ( الروم ) وصلاها بـ ( إذا الشمس كورت ) وصلاها بـ ( إذا زلزلت ) في الركعتين كليهما وصلاها بـ ( المعوذتين ) وكان في السفر وصلاها فافتتح بـ ( سورة المؤمنين ) حتى إذا بلغ ذكر موسى وهارون في الركعة الأولى أخذته سعلة فركع
وكان يصليها يوم الجمعة بـ ( ألم تنزيل السجدة ) وسورة ( هل أتى على الإنسان ) كاملتين ولم يفعل ما يفعله كثير من الناس اليوم من قراءة بعض هذه وبعض هذه في الركعتين وقراءة السجدة وحدها في الركعتين وهو خلاف السنة وأما ما يظنه كثير من الجهال أن صبح يوم الجمعة فضل بسجدة فجهل عظيم ولهذا كره بعض الأئمة قراءة سورة السجدة لأجل هذا الظن وإنما كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين لما اشتملتا عليه من ذكر المبدإ والمعاد وخلق آدم ودخول الجنة والنار وذلك مما كان ويكون في يوم الجمعة فكان يقرأ في فجرها ما كان ويكون في ذلك اليوم تذكيرا للأمة بحوادث هذا اليوم كما كان يقرأ في المجامع العظام كالأعياد والجمعة بسورة ( ق ) و ( و اقتربت ) و ( سبح ) و ( الغاشية )
فصل
وأما الظهر فكان يطيل قراءتها أحيانا حتى قال أبو سعيد : [ كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطيلها ] رواه مسلم
وكان يقرأ فيها تارة بقدر ( ألم تنزيل ) وتارة بـ ( سبح اسم ربك الأعلى ) و ( الليل إذا يغشى ) وتارة بـ ( السماء ذات البروج ) و ( السماء والطارق )
وأما العصر فعلى النصف من قراءة صلاة الظهر إذا طالت وبقدرها إذا قصرت
وأما المغرب فكان هديه فيها خلاف عمل الناس اليوم فإنه صلاها مرة بـ ( الأعراف ) فرقها في الركعتين ومرة بـ ( الطور ) ومرة بـ ( المرسلات )
قال أبو عمر بن عبد البر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بـ ( المص ) وأنه قرأ فيها بـ ( الصافات ) وأنه قرأ فيها بـ ( حم الدخان ) وأنه قرأ فيها بـ ( سبح اسم ربك الأعلى ) وأنه قرأ فيها بـ ( التين والزيتون ) وأنه قرأ فيها بـ ( المعوذتين ) وأنه قرأ فيها بـ ( المرسلات ) وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل قال : وهى كلها آثار صحاح مشهورة انتهى
وأما المداومة فيها على قراءة قصار المفصل دائما فهو فعل مروان بن الحكم ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت وقال : ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل ؟ ! وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولى الطوليين قال : قلت : وما طولى الطوليين ؟ قال : ( الأعراف ) وهذا حديث صحيح رواه أهل السنن
وذكر النسائي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بسورة ( الأعراف ) فرقها في الركعتين فالمحافظة فيها على الآية القصيرة والسورة من قصار المفصل خلاف السنة وهو فعل مروان بن الحكم
وأما العشاء الآخرة فقرأ فيها صلى الله عليه وسلم بـ ( التين والزيتون ) ووقت لمعاذ فيها بـ ( الشمس وضحاها ) و ( سبح اسم ربك الأعلى ) و ( الليل إذا يغشى ) ونحوها وأنكر عليه قراءته فيها بـ ( البقرة ) بعدما صلى معه ثم ذهب إلى بني عمرو بن عوف فأعادها لهم بعدما مضى من الليل ما شاء الله وقرأ بهم بـ ( البقرة ) ولهذا قال له : [ أفتان أنت يا معاذ ] فتعلق النقارون بهذه الكلمة ولم يلتفتوا إلى ما قبلها ولا ما بعدها
وأما الجمعة فكان يقرأ فيها بسورتي ( الجمعة ) و ( المنافقين ) كاملتين و ( سورة سبح ) و ( الغاشية )
وأما الاقتصار على قراءة أواخر السورتين من { يا أيها الذين آمنوا } إلى آخرها فلم يفعله قط وهو مخالف لهديه الذي كان يحافظ عليه
وأما قراءته في الأعياد فتارة كان يقرأ سورتي ( ق ) و ( اقتربت ) كاملتين وتارة سورتي ( سبح ) و ( الغاشية ) وهذا هو الهدي الذي استمر صلى الله عليه وسلم عليه إلى أن لقي الله تعالى لم ينسخه شئ
ولهذا أخذ به خلفاؤه الراشدون من بعده فقرأ أبو بكر رضي الله عنه في الفجر بسورة ( البقرة ) حتى سلم منها قريبا من طلوع الشمس فقالوا : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ كادت الشمس تطلع فقال : لو طلعت لم تجدنا غافلين
وكان عمر رضي الله عنه يقرأ فيها بـ ( يوسف ) و ( النحل ) و بـ ( هود ) و ( بني إسرائيل ) ونحوها من السور ولو كان تطويله صلى الله عليه وسلم منسوخا لم يخف على خلفائه الراشدين ويطلع عليه النقارون
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر { ق والقرآن المجيد } وكانت صلاته بعد تخفيفا فالمراد بقوله بعد أي : بعد الفجر أي : إنه كان يطيل قراءة الفجر أكثر من غيرها وصلاته بعدها تخفيفا ويدل على ذلك قول أم الفضل وقد سمعت ابن عباس يقرأ و ( المرسلات عرفا ) فقالت : يا بني لقد ذكرتني بقراءة هذه السورة إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب فهذا في آخر الأمر
وأيضا فإن قوله : وكانت صلاته بعد غاية قد حذف ما هي مضافة إليه فلا يجوز إضمار ما لا يدل عليه السياق وترك إضمار ما يقتضيه السياق والسياق إنما يقتضي أن صلاته بعد الفجر كانت تخفيفا ولا يقتضي أن صلاته كلها بعد ذلك اليوم كانت تخفيفا هذا ما لا يدل عليه اللفظ ولو كان هو المراد لم يخف على خلفائه الراشدين فيتمسكون بالمنسوخ ويدعون الناسخ
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : [ أيكم أم الناس فليخفف ] وقول أنس رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف الناس صلاة في تمام فالتخفيف أمر نسبي يرجع إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه لا إلى شهوة المأمومين فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمرهم بأمر ثم يخالفه وقد عالم أن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة فالذي فعله هو التخفيف الذي أمر به فإنه كان يمكن أن تكون صلاته أطول من ذلك بأضعاف مضاعفة فهي خفيفة بالنسبة إلى أطول منها وهديه الذي كان واظب عليه هو الحاكم على كل ما تنازغ فيه المتنازعون ويدل عليه ما رواه النسائي وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بـ ( الصافات ) فالقرءاة بـ ( الصافات ) من التخفيف الذي كان يأمر به والله أعلم
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم لا يعين سورة في الصلاة بعينها لا يقرأ إلا بها إلا في الجمعة والعيدين وأما في سائر الصلوات فقد ذكر أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال : ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس بها في الصلاة المكتوبة وكان من هديه قراءة السورة كاملة وربما قرأها في الركعتين وربما قرأ أول السورة وأما قراءة أواخر السور وأوساطها فلم يحفظ عنه وأما قراءة السورتين في ركعة فكان يفعله في النافلة وأما في الفرض فلم يحفظ عنه وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه : إني لأعرف النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن السورتين في الركعة ( الرحمن ) و ( النجم ) في ركعة و ( اقتربت ) و ( الحاقة ) في ركعة و ( الطور ) و ( الذرايات ) في ركعة و ( إذا وقعت ) و ( ن ) في ركعة الحديث فهذا حكاية فعل لم يعين محله هل كان في الفرض أو النفل ؟ وهو محتمل وأما قراءة سورة واحدة في ركعتين معا فقلما كان يفعله وقد ذكر أبو داود عن رجل من جهينة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح ( إذا زلزلت ) في الركعتين كلتيهما قال : فلا أدري أنسي رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قرأ ذلك عمدا
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم يطيل الركعة الأولى على الثانية من صلاة الصبح ومن كل صلاة وربما كان يطيلها حتى لا يسمع وقع قدم وكان يطيل صلاة الصبح أكثر من سائر الصلوات وهذا لأن قرآن الفجر مشهود يشهده الله تعالى وملائكته وقيل : يشهده ملائكة الليل والنهار والقولان مبنيان على أن النزول الإلهي هل يدوم إلى انقضاء صلاة الصبح أو إلى طلوع الفجر ؟ وقد ورد فيه هذا وهذا وأيضا فإنها لما نقص عدد ركعاتها جعل تطويلها عوضا عما نقصته من العدد
وأيضا فإنها تكون عقيب النوم والناس مستريحون
وأيضا فإنهم لم يأخذوا بعد في استقبال المعاش وأسباب الدنيا
وأيضا فإنها تكون في وقت تواطأ فيه السمع واللسان والقلب لفراغه وعدم تمكن الاشتغال فيه فيفهم القرآن ويتدبره
وأيضا فإنها أساس العمل وأوله فأعطيت فضلا من الاهتمام بها وتطويلها وهذه أسرار إنما يعرفها من له إلتفات إلى أسرار الشريعة ومقاصدها وحكمها والله المستعان
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من القراءة سكت بقدر ما يتراد إليه نفسه ثم رفع يديه كما تقدم وكبر راكعا ووضع كفيه على ركبتيه كالقابض عليهما ووتر يديه فنحاهما عن جنبيه وبسط ظهره ومده واعتدل ولم ينصب رأسه ولم يخفضه بل يجعله حيال ظهره معادلا له
وكان يقول : سبحان ربي العظيم وتارة يقول مع ذلك أو مقتصرا عليه : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي وكان ركوعه المعتاد مقدار عشر تسبيحات وسجوده كذلك وأما حديث البراء بن عازب رضى الله عنه : رمقت الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم فكان قيامه فركوعه فاعتداله فسجدته فجلسته ما بين السجدتين قريبا من السواء فهذا قد فهم منه بعضهم أنه كان يركع بقدر قيامه ويسجد بقدره ويعتدل كذلك وفي هذا الفهم شئ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح بالمائة آية أو نحوها وقد تقدم أنه قرأ في المغرب بـ ( الأعراف ) و ( الطور ) و ( المرسلات ) ومعلوم أن ركوعه وسجوده لم يكن قدر هذه القراءة ويدل عليه حديث أنس الذي رواه أهل السنن أنه قال : ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز قال : فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات هذا مع قول أنس أنه كان يؤمهم بـ ( الصافات ) فمراد البراء - والله أعلم - أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت معتدلة فكان إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود وإذا خفف القيام خفف الركوع والسجود وتارة يجعل الركوع والسجود بقدر القيام ولكن كان يفعل ذلك أحيانا في صلاة الليل وحدها وفعله أيضا قريبا من ذلك في صلاة الكسوف وهديه الغالب صلى الله عليه وسلم تعديل الصلاة وتناسبها
وكان يقول أيضا في ركوعه [ سبوح قدوس رب الملائكة والروح ] وتارة يقول : [ اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي ] وهذا إنما حفظ عنه في قيام الليل
ثم كان يرفع رأسه بعد ذلك قائلا : [ سمع الله لمن حمده ] ويرفع يديه كما تقدم وروى رفع اليدين عنه في هذه المواطن الثلاثة نحو من ثلاثين نفسا واتفق على روايتها العشرة ولم يثبت عنه خلاف ذلك البتة بل كان ذلك هديه دائما إلى أن فارق الدنيا ولم يصح عنه حديث البراء : ثم لا يعود بل هي من زيادة يزيد بن زياد فليس ترك ابن مسعود الرفع مما يقدم على هديه المعلوم فقد ترك من فعل ابن مسعود في الصلاة أشياء ليس معارضها مقاربا ولا مدانيا للرفع فقد ترك من فعله التطبيق والافتراش في السجود ووقوفه إماما بين الإثنين في وسطهما دون التقدم عليهما وصلاته الفرض في البيت بأصحابه بغير أذان ولا إقامة لأجل تأخير الأمراء وأين الأحاديث في خلاف ذلك من الأحاديث التى في الرفع كثرة وصحة وصراحة وعملا وبالله التوفيق
وكان دائما يقيم صلبه إذا رفع من الركوع وبين السجدتين ويقول [ لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل صلبه في الركوع والسجود ] ذكره ابن خزيمة في صحيحه
وكان إذا استوى قائما قال : ربنا ولك الحمد وربما قال : ربنا لك الحمد وربما قال : اللهم ربنا لك الحمد صح ذلك عنه وأما الجمع بين اللهم و الواو فلم يصح
وكان من هديه إطالة هذا الركن بقدر الركوع والسجود فصح عنه أنه كان يقول : [ سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شئ بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد - وكلنا لك عبد - : لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ]
وصح عنه أنه كان يقول فيه : [ اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ونقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ]
وصح عنه أنه كرر فيه قوله : [ لربي الحمد لربي الحمد ] حتى كان بقدر الركوع
وصح عنه أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع يمكث حتى يقول القائل : قد نسي من إطالته لهذا الركن وذكر مسلم عن أنس رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال : سمع الله لمن حمده قام حتى نقول : قد أوهم ثم يسجد ثم يقعد بين السجدتين حتى نقول : قد أوهم
وصح عنه في صلاة الكسوف أنه أطال هذا الركن بعد الركوع حتى كان قريبا من ركوعه وكان ركوعه قريبا من قيامه
فهذا هديه المعلوم الذي لا معارض له بوجه
وأما حديث البراء بن عازب : كان ركوع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجوده بين السجدتين وإذا رفع رأسه من الركوع - ما خلا القيام والقعود - قريبا من السواء رواه البخاري فقد تشبث به من ظن تقصير هذين الركنين ولا متعلق له فإن الحديث مصرح فيه بالتسوية بين هذين الركنين وبين سائر الأركان فلو كان القيام والقعود المستثنيين هو القيام بعد الركوع والقعود بين السجدتين لناقض الحديث الواحد بعضه بعضا فتعين قطعا أن يكون المراد بالقيام والقعود قيام القراءة وقعود التشهد ولهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم فيهما إطالتهما على سائر الأركان كما تقدم بيانه وهذا بحمد الله واضح وهو مما خفي من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته على من شاء الله أن يخفى عليه
قال شيخنا : وتقصير هذين الركنين مما تصرف فيه أمراء بني أمية في الصلاة وأحدثوه فيها كما أحدثوا فيها ترك إتمام التكبير وكما أحدثو التأخير الشديد وكما أحدثوا غير ذلك مما يخالف هديه صلى الله عليه وسلم وربي في ذلك من ربي حتى ظن أنه من السنة
فصل
ثم كان يكبر ويخر ساجدا ولا يرفع يديه وقد روي عنه أنه كان يرفعهما أيضا وصححه بعض الحفاظ كأبي محمد بن حزم رحمه الله وهو وهم فلا يصح ذلك عنه البتة والذي غره أن الراوي غلط من قوله : كان يكبر في كل خفض ورفع إلى قوله : كان يرفع يديه عند كل خفض ورفع وهو ثقة ولم يفطن لسبب غلط الراوي ووهمه فصححه والله أعلم
وكان صلى الله عليه وسلم يضع ركبتيه قبل يديه ثم يديه بعدهما ثم جبهته وأنفه هذا هو الصحيح الذي رواه شريك عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه ولم يرو في فعله ما يخالف ذلك
وأما حديث أبي هريرة يرفعه [ إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه ] فالحديث - والله أعلم - قد وقع فيه وهم من بعض الرواة فإن أوله يخالف آخره فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير فإن البعير إنما يضع يديه أولا ولما علم أصحاب هذا القول ذلك قالوا : ركبتا البعير في يديه لا في رجليه فهو إذا برك وضع ركبتيه أولا فهذا هو المنهي عنه وهو فاسد لوجوه
أحدها : أن البعير إذا برك فإنه يضع يديه أولا وتبقى رجلاه قائمتين فإذا نهض فإنه ينهض برجليه أولا وتبقى يداه على الأرض وهذا هو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم وفعل خلافه وكان أول ما يقع منه على الأرض الأقرب منها فالأقرب وأول ما يرتفع عن الأرض منها الأعلى فالأعلى
وكان يضع ركبتيه أولا ثم يديه ثم جبهته وإذا رفع رفع رأسه أولا ثم يديه ثم ركبتيه وهذا عكس فعل البعير وهو صلى الله عليه وسلم نهى في الصلاة عن التشبه بالحيوانات فنهى عن بروك كبروك البعير والتفات كالتفات الثعلب وافتراش كافتراش السبع وإقعاء كإقعاء الكلب ونقر كنقر الغراب ورفع الأيدي وقت السلام كأذناب الخيل الشمس فهدي المصلي مخالف لهدي الحيوانات
الثاني : أن قولهم : ركبتا البعير في يديه كلام لا يعقل ولا يعرفه أهل اللغة وإنما الركبة في الرجلين وإن أطلق على اللتين في يديه اسم الركبة فعلى سبيل التغليب
الثالث : أنه لو كان كما قالوه لقال : فليبرك كما يبرك البعير وإن أول ما يمس الأرض من البعير يداه وسر المسألة أن من تأمل بروك البعير وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بروك كبروك البعير علم أن حديث وائل بن حجر هو الصواب والله أعلم
وكان يقع لي أن حديث أبي هريرة كما ذكرنا مما انقلب على بعض الرواة متنه وأصله ولعله : وليضع ركبتيه قبل يديه كما انقلب على بعضهم حديث ابن عمر [ إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ] فقال : ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال وكما انقلب على بعضهم حديث [ لا يزال يلقى في النار فتقول : هل من مزيد إلى أن قال : وأما الجنة فينشئ الله لها خلقا يسكنهم إياها فقال : وأما النار فينشئ الله لها خلقا يسكنهم إياها ] حتى رأيت أبا بكر بن أبي شيبة قد رواه كذلك فقال ابن أبي شيبة : حدثنا محمد بن فضيل عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرك كبروك الفحل ] ورواه الأثرم في سننه أيضا عن أبي بكر كذلك وقد روى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يصدق ذلك ويوافق حديث وائل بن حجر قال ابن أبي داود : حدثنا يوسف بن عدي حدثنا ابن فضيل هو محمد عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه
وقد روى ابن خزيمة في صحيحه من حديث مصعب بن سعد عن أبيه قال : كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل اليدين وعلى هذا فإن كان حديث أبي هريرة محفوظا فإنه منسوخ وهذه طريقة صاحب المغني وغيره ولكن للحديث علتان
إحداهما : أنه من رواية يحيى ابن سلمة بن كهيل وليس ممن يحتج به قال النسائي : متروك وقال ابن حبان : منكر الحديث جدا لا يحتج به وقال ابن معين : ليس بشئ
الثانية : أن المحفوظ من رواية مصعب بن سعد عن أبيه هذا إنما هو قصة التطبيق وقول سعد : كنا نصنع هذا فأمرنا أن نضع أيدينا على الركب
وأما قول صاحب المغني عن أبي سعيد قال : كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين فهذا - والله أعلم - وهم في الاسم وإنما هو عن سعد وهو أيضا وهم في المتن كما تقدم وإنما هو في قصة التطبيق والله أعلم
وأما حديث أبي هريرة المتقدم فقد علله البخاري والترمذي والدارقطني قال البخاري : محمد بن عبد الله بن حسن لا يتابع عليه وقال : لا أدري أسمع من أبي الزناد أم لا وقال الترمذي : غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه
وقال الدارقطني : تفرد به عبد العزيز الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي عن أبي الزناد وقد ذكر النسائي عن قتيبة حدثنا عبد الله بن نافع عن محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ يعمد أحدكم في صلاته فيبرك كما يبرك الجمل ] ولم يزد قال أبو بكر بن أبي داود : وهذه سنة تفرد بها أهل المدينة ولهم فيها إسنادان هذا أحدهما والآخر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
قلت : أراد الحديث الذي رواه أصبغ بن الفرج عن الدراوردي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه ويقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك رواه الحاكم في المستدرك من طريق محرز بن سلمة عن الدراوردي وقال على شرط مسلم وقد رواه الحاكم من حديث حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن أنس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم انحط بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه قال الحاكم : على شرطهما ولا أعلم له علة
قلت : قال عبد الرحمن بن أبي حاتم : سألت أبي عن هذا الحديث فقال : هذا الحديث منكر انتهى وإنما أنكره - والله أعلم - لأنه من رواية العلاء بن إسماعيل العطار عن حفص بن غياث والعلاء هذا مجهول لا ذكر له في الكتب الستة فهذه الأحاديث المرفوعة من الجانبين كما ترى
وأما الآثار المحفوظة عن الصحابة فالمحفوظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يضع ركبتيه قبل يديه ذكره عنه عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما وهو المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه ذكره الطحاوي عن فهد عن عمر بن حفص عن أبيه عن الأعمش عن إبراهيم عن أصحاب عبد الله علقمة والأسود قالا : حفظنا عن عمر في صلاته أنه خر بعد ركوعه على ركبتيه كما يخر البعير ووضع ركبتيه قبل يديه ثم ساق من طريق الحجاج بن أرطاة قال : قال إبراهيم النخعي : حفظ عن عبد الله بن مسعود أن ركبتيه كانتا تقعان على الأرض قبل يديه وذكر عن أبي مرزوق عن وهب عن شعبة عن مغيرة قال : سألت إبراهيم عن الرجل يبدأ بيديه قبل ركبتيه إذا سجد ؟ قال : أو يصنع ذلك إلا أحمق أو مجنون !
قال ابن المنذر : وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب فممن رأى أن يضع ركبتيه قبل يديه : عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال النخعي ومسلم بن يسار والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الكوفة
وقالت طائفة : يضع يديه قبل ركبتيه قاله مالك : وقال الأوزاعي : أدركنا الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم قال ابن أبي داود : وهو قول أصحاب الحديث
قلت : وقد روي حديث أبي هريرة بلفظ آخر ذكره البيهقي وهو : [ إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه على ركبتيه ] قال البيهقى : فإن كان محفوظا كان دليلا على أنه يضع يديه قبل ركبتيه عند الإهواء إلى السجود
وحديث وائل بن حجر أولى لوجوه
أحدها : أنه أثبت من حديث أبي هريرة قاله الخطابي وغيره
الثاني : أن حديث أبي هريرة مضطرب المتن كما تقدم فمنهم من يقول فيه : وليضع يديه قبل ركبتيه ومنهم من يقول بالعكس ومنهم من يقول : وليضع يديه على ركبتيه ومنهم من يحذف هذه الجملة رأسا
الثالث : ما تقدم من تعليل البخاري والدارقطني وغيرهما
الرابع : أنه على تقدير ثبوته قد ادعى فيه جماعة من أهل العلم النسخ قال ابن المنذر : وقد زعم بعض أصحابنا أن وضع اليدين قبل الركبتين منسوخ وقد تقدم ذلك
الخامس : أنه الموافق لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بروك كبروك الجمل في الصلاة بخلاف حديث أبي هريرة
السادس : أنه الموافق للمنقول عن الصحابة كعمر بن الخطاب وابنه وعبد الله بن مسعود ولم ينقل عن أحد منهم ما يوافق حديث أبي هريرة إلا عن عمر رضي الله عنه على اختلاف عنه
السابع : أن له شواهد من حديث ابن عمر وأنس كما تقدم وليس لحديث أبي هريرة شاهد فلو تقاوما لقدم حديث وائل بن حجر من أجل شواهده فكيف وحديث وائل أقوى كما تقدم الثامن : أن أكثر الناس عليه والقول الآخر إنما يحفظ عن الأوزاعي ومالك وأما قول ابن أبي داود : إنه قول أهل الحديث فإنما أراد به بعضهم وإلا فأحمد والشافعي وإسحاق على خلافه
التاسع : أنه حديث فيه قصة محكية سيقت لحكاية فعله صلى الله عليه وسلم فهو أولى أن يكون محفوظا لأن الحديث إذا كان فيه قصة محكية دل على أنه حفظ
العاشر : أن الأفعال المحكية فيه كلها ثابتة صحيحة من رواية غيره فهي أفعال معروفة صحيحة وهذا واحد منها فله حكمها ومعارضه ليس مقاوما له فيتعين ترجيحه والله أعلم
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسجد على جبهته وأنفه دون كور العمامة ولم يثبت عنه السجود على كور العمامة من حديث صحيح ولا حسن ولكن روى عبد الرزاق في المصنف من حديث أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على كور عمامته وهو من رواية عبد الله بن محرب وهو متروك وذكره أبو أحمد الزبيري من حديث جابر ولكنه من رواية عمر بن شمر عن جابر الجعفي متروك عن متروك وقد ذكر أبو داود في المراسيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي في المسجد فسجد بجبينه وقد اعتم على جبهته فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبهته
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على الأرض كثيرا وعلى الماء والطين وعلى الخمرة المتخذة من خوص النخل وعلى الحصير المتخذ منه وعلى الفروة المدبوغة
وكان إذا سجد مكن جبهته وأنفه من الأرض ونحى يديه عن جنبيه وجافى بهما حتى يرى بياض إبطيه ولو شاءت بهمة - وهي الشاة الصغيرة - أن تمر تحتهما لمرت
وكان يضع يديه حذو منكبيه وأذنيه وفي صحيح مسلم عن البراء أنه صلى الله عليه وسلم قال : [ إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك ] وكان يعتدل في سجوده ويستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة
وكان يبسط كفيه وأصابعه ولا يفرج بينها ولا يقبضها وفي صحيح ابن حبان كان [ إذا ركع فرج أصابعه فإذا سجد ضم أصابعه ] وكان يقول : [ سبحان ربي الأعلى ] وأمر به
وكان يقول : [ سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ] وكان يقول : [ سبوح قدوس رب الملائكة والروح ]
وكان يقول : [ سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت ]
وكان يقول : [ اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ]
وكان يقول : [ اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين ]
وكان يقول : [ اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره ]
وكان يقول : [ اللهم اغفز لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفز لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهى لا إله إلا أنت ]
وكان يقول : [ اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا وعن يميني نورا وعن شمالي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا وفوقي نورا وتحتي نورا واجعل لي نورا ]
وأمر بالاجتهاد في الدعاء في السجود وقال : [ إنه قمن أن يستجاب لكم ] وهل هذا أمر بأن يكثر الدعاء في السجود أو أمر بأن الداعي إذا دعا في محل فليكن في السجود ؟ وفرق بين الأمرين وأحسن ما يحمل عليه الحديث أن الدعاء نوعان : دعاء ثناء ودعاء مسألة والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر في سجوده من النوعين والدعاء الذي أمر به في السجود يتناول النوعين
والاستجابة أيضا نوعان : استجابة دعاء الطالب بإعطائه سؤاله واستجابة دعاء المثني بالثواب وبكل واحد من النوعين فسر قوله تعالى : { أجيب دعوة الداع إذا دعان } ( البقرة : 187 ) والصحيح أنه يعم النوعين
فصل
وقد اختلف الناس في القيام والسجود أيهما أفضل ؟ فرجحت طائفة القيام لوجوه
أحدها : أن ذكره أفضل الأذكار فكان ركنه أفضل الأركان
والثاني : قوله تعالى : { قوموا لله قانتين } ( البقرة : 238 )
الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم : [ أفضل الصلاة طول القنوت ]
وقالت طائفة : السجود أفضل واحتجت بقوله صلى الله عليه وسلم : [ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ] وبحديث معدان بن أبي طلحة قال : لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : حدثني بحديث عسى الله أن ينفعني به ؟ فقال : عليك بالسجود فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة ] قال معدان : ثم لقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثل ذلك وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لربيعة بن كعب الأسلمي وقد سأله مرافقته في الجنة [ أعني على نفسك بكثرة السجود ]
وأول سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة ( اقرأ ) على الأصح وختمها بقوله : { واسجد واقترب } ( العلق : 19 )
و بأن السجود لله يقع من المخلوقات كلها علويها وسفليها وبأن الساجد أذل ما يكون لربه وأخضع له وذلك أشرف حالات العبد فلهذا كان أقرب ما يكون من ربه في هذه الحالة وبأن السجود هو سر العبودية فإن العبودية هي الذل والخضوع يقال : طريق معبد أي ذللته الأقدام ووطأته وأذل ما يكون العبد وأخضع إذا كان ساجدا
وقالت طائفة : طول القيام بالليل أفضل وكثرة الركوع والسجود بالنهار أفضل واحتجت هذه الطائفة بأن صلاة الليل قد خصت باسم القيام لقوله تعالى : { قم الليل } ( المزمل : 1 ) وقوله صلى الله عليه وسلم : [ من قام رمضان إيمانا واحتسابا ] ولهذا يقال : قيام الليل ولا يقال : قيام النهار قالوا : وهذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ما زاد في الليل على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة
وكان يصلي الركعة في بعض الليالي بالبقرة وآل عمران والنساء وأما بالنهار فلم يحفظ عنه شئ من ذلك بل كان يخفف السنن
وقال شيخنا : الصواب أنهما سواء والقيام أفضل بذكره وهو القراءة والسجود أفضل بهيئته فهيئة السجود أفضل من هيئة القيام وذكر القيام أفضل من ذكر السجود وهكذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود كما فعل في صلاة الكسوف وفي صلاة الليل وكان إذا خفف القيام خفف الركوع والسجود وكذلك كان يفعل في الفرض كما قاله البراء بن عازب : كان قيامه وركوعه وسجوده واعتداله قريبا من السواء والله أعلم
فصل
ثم كان صلى الله عليه وسلم يرفع رأسه مكبرا غير رافع يديه ويرفع من السجود رأسه قبل يديه ثم يجلس مفترشا يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى وذكر النسائي عن ابن عمر قال : من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة والجلوس على اليسرى ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع جلسة غير هذه وكان يضع يديه على فخذيه ويجعل مرفقه على فخذه وطرف يده على ركبته ويقبض ثنتين من أصابعه ويحلق حلقة ثم يرفع أصبعه يدعو بها ويحركها هكذا قال وائل بن حجر عنه
وأما حديث أبي داود عن عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بأصبعه إذا دعا ولا يحركها فهذه الزيادة في صحتها نظر وقد ذكر مسلم الحديث بطوله في صحيحه عنه ولم يذكر هذه الزيادة بل قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه وفرش قدمه اليمنى ووضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأصبعه
وأيضا فليس في حديث أبي داود عنه أن هذا كان في الصلاة
وأيضا لو كان في الصلاة لكان نافيا وحديث وائل بن حجر مثبتا وهو مقدم وهو حديث صحيح ذكره أبو حاتم في صحيحه
ثم كان يقول : ( بين السجدتين ) : [ اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني ] هكذا ذكره ابن عباس رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وسلم وذكر حذيفة أنه كان يقول : [ رب اغفر لي رب اغفر لي ]
وكان هديه صلى الله عليه وسلم إطالة هذا الركن بقدر السجود وهكذا الثابت عنه في جميع الأحاديث وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد بين السجدتين حتى نقول : قد أوهم وهذه السنة تركها أكثر الناس من بعد انقراض عصر الصحابة ولهذا قال ثابت : وكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه يمكث بين السجدتين حتى نقول : قد نسي أو قد أوهم وأما من حكم السنة ولم يلتفت إلى ما خالفها فإنه لا يعبأ بما خالف هذا الهدي
فصل
ثم كان صلى الله عليه وسلم ينهض على صدور قدميه وركبتيه معتمدا على فخذيه كما ذكر عنه : وائل وأبو هريرة ولا يعتمد على الأرض بيديه وقد ذكر عنه مالك بن الحويرث أنه كان لا ينهض حتى يستوي جالسا وهذه هي التي تسمى جلسة الإستراحة
واختلف الفقهاء فيها هل هي من سنن الصلاة فيستحب لكل أحد أن يفعلها أو ليست من السنن وإنما يفعلها من احتاح إليها ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد رحمه الله قال الخلال : رجع أحمد إلى حديث مالك بن الحويرث في جلسة الإستراحة وقال : أخبرني يوسف بن موسى أن أبا أمامة سئل عن النهوض فقال : على صدور القدمين على حديث رفاعه وفي حديث ابن عجلان ما يدل على أنه كان ينهض على صدور قدميه وقد روي عن عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذه الجلسة وإنما ذكرت في حديث أبي حميد ومالك بن الحويرث ولو كان هديه صلى الله عليه وسلم فعلها دائم لذكرها كل من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم ومجرد فعله صلى الله عليه وسلم لها لا يدل على أنها من سنن الصلاة إلا إذا علم أنه فعلها على أنها سنة يقتدى به فيها وأما إذا قدر أنه فعلها للحاجة لم يدل على كونها سنة من سنن الصلاة فهذا من تحقيق المناط في هذه المسألة
وكان إذا نهض افتتح القراءة ولم يسكت كما كان يسكت عند افتتاح الصلاة فاختلف الفقهاء : هل هذا موضع استعاذة أم لا بعد اتفاقهم على أنه ليس موضع استفتاح ؟ وفي ذلك قولان هما روايتان عن أحمد وقد بناهما بعض أصحابه على أن قراءة الصلاة هل هي قراءة واحدة ؟ فيكفي فيها استعاذة واحدة أو قراءة كل ركعة مستقلة برأسها ولا نزاع بينهم أن الاستفتاح لمجموع الصلاة والاكتفاء باستعاذة واحدة أظهر للحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بـ ( الحمد لله رب العالمين ) ولم يسكت وإنما يكفي استعاذة واحدة لأنه لم يتخلل القراءتين سكوت بل تخللهما ذكر فهي كالقراءة الواحدة إذا تخللها حمد الله أو تسبيح أو تهليل أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الثانية كالأولى سواء إلا في أربعة أشياء : السكوت والاستفتاح وتكبيرة الإحرام وتطويلها كالأولى فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستفتح ولا يسكت ولا يكبر للإحرام فيها ويقصرها عن الأولى فتكون الأولى أطول منها في كل صلاة كما تقدم
فإذا جلس للتشهد وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأصبعه السبابة وكان لا ينصبها نصبا ولا ينيمها بل يحنيها شيئا ويحركها شيئا كما تقدم في حديث وائل بن حجر وكان يقبض أصبعين وهما الخنصر والبنصر ويحلق حلقة وهي الوسطى مع الإبهام ويرفع السبابة يدعو بها ويرمي ببصره إليها ويبسط الكف اليسرى على الفخذ اليسرى ويتحامل عليها
وأما صفة جلوسه فكما تقدم بين السجدتين سواء يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى ولم يرو عنه في هذه الجلسة غير هذه الصفة
وأما حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه وفرش قدمه اليمنى فهذا في التشهد الأخير كما يأتي وهو أحد الصفتين اللتين رويتا عنه ففي الصحيحين من حديث أبي حميد في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم : [ فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب الأخرى وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته ] فذكر أبو حميد أنه كان ينصب اليمنى وذكر ابن الزبير أنه كان يفرشها ولم يقل أحد عنه صلى الله عليه وسلم : إن هذه صفة جلوسه في التشهد الأول ولا أعلم أحدا قال به بل من الناس من قال : يتورك في التشهدين وهذا مذهب مالك رحمه الله ومنهم من قال : يفترش فيهما فينصب اليمنى ويفترش اليسرى ويجلس عليها وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ومنهم من قال : يتورك في كل تشهد يليه السلام ويفترش في غيره وهو قول الشافعي رحمه الله ومنهم من قال يتورك في كل صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما فرقا بين الجلوسين وهو قول الإمام أحمد رحمه الله ومعنى حديث ابن الزبير رضي الله عنه أنه فرش قدمه اليمنى : أنه كان يجلس في هذا الجلوس على مقعدته فتكون قدمه اليمنى مفروشة وقدمه اليسرى بين فخذه وساقه ومقعدته على الأرض فوقع الاختلاف في قدمه اليمنى في هذا الجلوس : هل كانت مفروشة أو منصوبة ؟ وهذا - والله أعلم - ليس اختلافا في الحقيقة فإنه كان لا يجلس على قدمه بل يخرجها عن يمينه فتكون بين المنصوبة والمفروشة فإنها تكون على باطنها الأيمن فهي مفروشة بمعنى ليس ناصبا لها جالسا على عقبه ومنصوبة بمعنى أنه ليس جالسا على باطنها وظهرها إلى الأرض فصح قول أبي حميد ومن معه وقول عبد الله بن الزبير أو يقال : إنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا وهذا فكان ينصب قدمه وربما فرشها أحيانا وهذا أروح لها والله أعلم
ثم كان صلى الله عليه وسلم يتشهد دائما في هذه الجلسة ويعلم أصحابه أن يقولوا : [ التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ] وقد ذكر النسائي من حديث أبي الزبير عن جابر [ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن : بسم الله وبالله التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار ]
ولم تجئ التسمية في أول التشهد إلا في هذا الحديث وله علة غير عنعنة عن أبي الزبير
وكان صلى الله عليه وسلم يخفف هذا التشهد جدا حتى كأنه على الرضف - وهي الحجارة المحماة - ولم ينقل عنه في حديث قط أنه صلى عليه وعلى آله في هذا التشهد ولا كان أيضا يستعيذ فيه من عذاب القبر وعذاب النار وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال ومن استحب ذلك فإنما فهمه من عمومات وإطلاقات قد صح تبيين موضعها وتقييدها بالتشهد الأخير
ثم كان ينهض مكبرا على صدور قدميه وعلى ركبتيه معتمدا على فخذه كما تقدم وقد ذكر مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرفع يديه في هذا الموضع وهي في بعض طرق البخاري أ يضا على أن هذه الزيادة ليست متفقا عليها في حديث عبد الله بن عمر فأكثر رواته لا يذكرونها وقد جاء ذكرها مصرحا به في حديث أبي حميد الساعدي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ثم رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ويقيم كل عضو في موضعه ثم يقرأ ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه معتدلا لا يصوب رأسه ولا يقنع به ثم يقول : سمع الله لمن حمده ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه حتى يقر كل عظم إلى موضعه ثم يهوي إلى الأرض ويجافي يديه عن جنبيه ثم يرفع رأسه ويثني رجله فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد ثم يكبر ويجلس على رجله اليسري حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ثم يقوم فيصنع في الأخرى مثل ذلك ثم إذا قام من الركعتين رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما يصنع عند افتتاح الصلاة ثم يصلي بقية صلاته هكذا حتى إذا كانت السجدة التى فيها التسليم أخرج رجليه وجلس على شقه الأيسر متوركا هذا سياق أبي حاتم في صحيحه وهو في صحيح مسلم أيضا وقد ذكره الترمذي مصححا له من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه في هذه المواطن أيضا
ثم كان يقرأ الفاتحة وحدها ولم يثبت عنه أنه قرأ فى الركعتين الأخريين بعد الفاتحة شيئا وقد ذهب الشافعي في أحد قوليه وغيره إلى استحباب القراءة بما زاد على الفاتحة في الأخريين واحتج لهذا القول بحديث أبي سعيد الذي في الصحيح : حزرنا قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر في الركعتين الأوليين قدر قراءة ( الم تنزيل السجدة ) وحزرنا قيامه في الركعتين الأخريين قدر النصف من ذلك وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الركعتين الأخريين من الظهر وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك
وحديث أبي قتادة المتفق عليه ظاهر في الاقتصار على فاتحة الكتاب في الركعتين الأخريين
قال أبو قتادة رضي الله عنه : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأولين بفاتحة الكتاب وسورتين ويسمعنا الآية أحيانا زاد مسلم : ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب والحديثان غير صريحين في محل النزاع وأما حديث أبي سعيد فإنما هو حزر منهم وتخمين ليس إخبارا عن تفسير نفس فعله صلى الله عليه وسلم وأما حديث أبي قتادة فيمكن أن يراد به أنه كان يقتصر على الفاتحة وأن يراد به أنه لم يكن يخل بها في الركعتين الأخريين بل كان يقرؤها فيهما كما كان يقرؤها في الأوليين فكان يقرأ الفاتحة في كل ركعة وإن كان حديث أبي قتادة في الاقتصار أظهر فإنه في معرض التقسيم فإذا قال : كان يقرأ في الأوليين بالفاتحة والسورة وفي الأخريين بالفاتحة كان كالتصريح في اختصاص كل قسم بما ذكر فيه وعلى هذا فيمكن أن يقال : إن هذا أكثر فعله وربما قرأ في الركعتين الأخريين بشئ فوق الفاتحة كما دل عليه حديث أبي سعيد وهذا كما أن هديه صلى الله عليه وسلم كان تطويل القراءة في الفجر وكان يخففها أحيانا وتخفيف القراءة في المغرب وكان يطيلها أحيانا وترك القنوت في الفجر وكان يقنت فيها أحيانا والإسرار في الظهر والعصر بالقراءة وكان يسمع الصحابة الآية فيها أحيانا وترك الجهر بالبسملة وكان يجهر بها أحيانا
والمقصود أنه كان يفعل في الصلاة شيئا أحيانا لعارض لم يكن من فعله الراتب ومن هذا لما بعث صلى الله عليه وسلم فارسا طليعة ثم قام إلى الصلاة وجعل يلتفت في الصلاة إلى الشعب الذي يجئ منه الطليعة ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم الالتفات في الصلاة وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة ؟ فقال : هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد
وفي الترمذي من حديث سعيد بن المسيب عن أنس رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ يا بني إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة هلكة فإن كان ولا بد ففي التطوع لا في الفرض ] ولكن للحديث علتان :
إحداهما : إن رواية سعيد عن أنس لا تعرف
الثانية : إن في طريقه علي بن زيد بن جدعان وقد ذكر البزار في مسنده من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم [ لا صلاة للملتفت ] فأما حديث ابن عباس : [ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلحظ في الصلاة يمينا وشمالا ولا يلوي عنقه خلف ظهره ] فهذا حديث لا يثبت قال الترمذي فيه : حديث غريب ولم يزد
وقال الخلال : أخبرني الميموني أن أبا عبد الله قيل له : إن بعض الناس أسند أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلاحظ في الصلاة فأنكر ذلك إنكارا شديدا حتى تغير وجهه وتغير لونه وتحرك بدنه ورأيته في حال ما رأيته في حال قط أسوأ منها وقال : النبي صلى الله عليه وسلم كان يلاحظ في الصلاة ؟ ! يعني أنه أنكر ذلك وأحسبه قال : ليس له إسناد وقال : من روى هذا ؟ ! إنما هذا من سعيد بن المسيب ثم قال لي بعض أصحابنا : إن أبا عبد الله وهن حديث سعيد هذا وضعف إسناده وقال : إنما هو عن رجل عن سعيد وقال عبد الله بن أحمد : حدثت أبي بحديث حسان بن إبراهيم عن عبد الملك الكوفي قال : سمعت العلاء قال : سمعت مكحولا يحدث عن أبي أمامة وواثلة : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة لم يلتفت يمينا ولا شمالا ورمى ببصره في موضع سجوده فأنكره جدا وقال : اضرب عليه فأحمد رحمه الله أنكر هذا وهذا وكان إنكاره للأول أشد لأنه باطل سندا ومتنا
والثاني : إنما أنكر سنده وإلا فمتنه غير منكر والله أعلم
ولو ثبت الأول لكان حكاية فعل فعله لعله كان لمصلحة تتعلق بالصلاة ككلامه عليه السلام هو وأبو بكر وعمر وذو اليدين في الصلاة لمصلحتهما أو لمصلحة المسلمين كالحديث الذي رواه أبو داود عن أبي كبشة السلولي عن سهل بن الحنظلية قال : ثوب بالصلاة يعني صلاة الصبح فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب قال أبو داود : يعني وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس فهذا الالتفات من الاشتغال بالجهاد في الصلاة وهو يدخل في مداخل العبادات كصلاة الخوف وقريب منه قول عمر : إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة فهذا جمع بين الجهاد والصلاة ونظيره التفكر في معاني القرآن واستخراج كنوز العلم منه في الصلاة فهذا جمع بين الصلاة والعلم فهذا لون والتفات الغافلين اللاهين وأفكارهم لون آخر وبالله التوفيق
فهديه الراتب صلى الله عليه وسلم إطالة الركعتين الأوليين من الرباعية على الأخريين وإطالة الأولى من الأولين على الثانية ولهذا قال سعد لعمر : أما أنا فأطيل في الأوليين وأحذف في الأخريين ولا آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكذلك كان هديه صلى الله عليه وسلم إطالة صلاة الفجر على سائر الصلوات كما تقدم قالت عائشة رضي الله عنها : فرض الله الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد في صلاة الحضر إلا الفجر فإنها أقرت على حالها من أجل طول القراءة والمغرب لأنها وتر النهار رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه وأصله في صحيح البخاري وهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم في سائر صلاته إطالة أولها على آخرها كما فعل في الكسوف وفي قيام الليل لما صلى ركعتين طويلتين ثم ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم ركعتين وهما دون اللتين قبلهما حتى أتم صلاته ولا يناقض هذا افتتاحه صلى الله عليه وسلم صلاة الليل بركعتين خفيفتين وأمره بذلك لأن هاتين الركعتين مفتاح قيام الليل فهما بمنزلة سنة الفجر وغيرها وكذلك الركعتان اللتان كان يصليهما أحيانا بعد وتره تارة جالسا وتارة قائما مع قوله : [ اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا ] فإن هاتين الركعتين لا تنافيان هذا الأمر كما أن المغرب وتر للنهار وصلاة السنة شفعا بعدها لا يخرجها عن كونها وترا للنهار وكذلك الوتر لما كان عبادة مستقلة وهو وتر الليل كانت الركعتان بعده جاريتين مجرى سنة المغرب من المغرب ولما كان المغرب فرضا كانت محافظته عليه السلام على سنتها أكثر من محافظته على سنة الوتر وهذا على أصل من يقول بوجوب الوتر ظاهر جدا وسيأتي مزيد كلام في هاتين الركعتين إن شاء الله تعالى وهي مسألة شريفة لعلك لا تراها في مصنف وبالله التوفيق
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس في التشهد الأخير جلس متوركا وكان يفضي بوركه إلى الأرض ويخرج قدمه من ناحية واحدة
فهذا أحد الوجوه الثلاثة التي رويت عنه صلى الله عليه وسلم في التورك ذكره أبو داود في حديث أبي حميد الساعدي من طريق عبد الله بن لهيعة وقد ذكر أبو حاتم في صحيحه هذه الصفة من حديث أبي حميد الساعدي من غير طريق ابن لهيعة وقد تقدم حديثه
الوجه الثاني : ذكره البخاري في صحيحه من حديث أبي حميد أيضا قال : وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته فهذا هو الموافق الأول في الجلوس على الورك وفيه زيادة وصف في هيئة القدمين لم تتعرض الرواية الأولى لها
الوجه الثالث : ما ذكره مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن الزبير : أنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه ويفرش قدمه اليمنى وهذه هي الصفة التي اختارها أبو القاسم الخرقي في مختصره وهذا مخالف للصفتين الأوليين في إخراج اليسرى من جانبه الأيمن وفي نصب اليمنى ولعله كان يفعل هذا تارة وهذا تارة وهذا أظهر
ويحتمل أن يكون من اختلاف الرواة ولم يذكر عنه عليه السلام هذا التورك إلا في التشهد الذي يليه السلام قال الإمام أحمد ومن وافقه : هذا مخصوص بالصلاة التي فيها تشهدان وهذا التورك فيها جعل فرقا بين الجلوس في التشهد الأول الذي يسن تخفيفه فيكون الجالس فيه متهيئا للقيام وبين الجلوس في التشهد الثاني الذي يكون الجالس فيه مطمئنا
وأيضا فتكون هيئة الجلوسين فارقة بين التشهدين مذكرة للمصلي حاله فيهما
وأيضا فإن أبا حميد إنما ذكر هذه الصفة عنه صلى الله عليه وسلم في الجلسة التي في التشهد الثاني فإنه ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول وأنه كان يجلس مفترشا ثم قال : وإذا جلس في الركعة الآخرة وفي لفظ : فإذا جلس في الركعة الرابعة
وأما قوله في بعض ألفاظه : حتى إذا كانت الجلسة التي فيها التسليم أخرج رجله اليسرى وجلس على شقه متوركا فهذا قد يحتج به من يرى التورك يشرع في كل تشهد يليه السلام فيتورك في الثانية وهو قول الشافعي رحمه الله وليس بصريح في الدلالة بل سياق الحديث يدل على أن ذلك إنما كان في التشهد الذي يليه السلام من الرباعية والثلاثية فإنه ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول وقيامه منه ثم قال : حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم جلس متوركا فهذا السياق ظاهر في اختصاص هذا الجلوس بالتشهد الثاني
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس في التشهد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وضم أصابعه الثلاث ونصب السبابة وفي لفظ : وقبض أصابعه الثلاث ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ذكره مسلم عن ابن عمر
وقال وائل بن حجر : جعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق حلقة ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها يدعو بها وهو في السنن
وفي حديث ابن عمر في صحيح مسلم [ عقد ثلاثة وخمسين ]
وهذه الروايات كلها واحدة فإن من قال : قبض أصابعه الثلاث أراد به : أن الوسطى كانت مضمومة لم تكن منشورة كالسبابة ومن قال : قبض ثنتين من أصابعه أراد : أن الوسطى لم تكن مقبوضة مع البنصر بل الخنصر والبنصر متساويتان في القبض دون الوسطى وقد صرح بذلك من قال : وعقد ثلاثة وخمسين فإن الوسطى في هذا العقد تكون مضمومة ولا تكون مقبوضة مع البنصر
وقد استشكل كثير من الفضلاء هذا إذا عقد ثلاث وخمسين لا يلائم واحدة من الصفتين المذكورتين فإن الخنصر لا بد أن تركب البنصر في هذا العقد
وقد أجاب عن هذا بعض الفضلاء بأن الثلاثة لها صفتان في هذا العقد : قديمة وهي التي ذكرت في حديث ابن عمر : تكون فيها الأصابع الثلاث مضمومة مع تحليق الإبهام مع الوسطى وحديثة وهي المعروفة اليوم بين أهل الحساب والله أعلم
وكان يبسط ذراعه على فخذه ولا يجافيها فيكون حد مرفقه عند آخر فخذه وأما اليسرى فممدودة الأصابع على الفخذ اليسرى
وكان يستقبل بأصابعه القبلة في رفع يديه في ركوعه وفي سجوده وفي تشهده ويستقبل أيضا بأصابع رجليه القبلة في سجوده وكان يقول في كل ركعتين : التحيات
وأما المواضع التي كان يدعو فيها في الصلاة فسبعة مواطن
أحدها : بعد تكبيرة الإحرام في محل الاستفتاح
الثاني : قبل الركوع وبعد الفراغ من القراءة في الوتر والقنوت العارض في الصبح قبل الركوع إن صح ذلك فإن فيه نظرا
الثالث : بعد الاعتدال من الركوع كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال : [ سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شئ بعد اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ ]
الرابع : في ركوعه كان يقول : [ سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ]
الخامس : في سجوده وكان فيه غالب دعائه
السادس : بين السجدتين
السابع : بعد التشهد وقبل السلام وبذلك أمر في حديث أبي هريرة وحديث فضالة بن عبيد وأمر أيضا بالدعاء في السجود
وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين فلم يكن ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم أصلا ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن
وأما تخصيص ذلك بصلاتي الفجر والعصر فلم يفعل ذلك هو ولا أحد من خلفائه ولا أرشد إليه أمته وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا من السنة بعدهما والله أعلم وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها وهذا هو اللائق بحال المصلي فإنه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة فإذا سلم منها انقطعت تلك المناجاة وزال ذلك الموقف بين يديه والقرب منه فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه والإقبال عليه ثم يسأله إذا انصرف عنه ؟ ! ولا ريب أن عكس هذا الحال هو الأولى بالمصلي إلا أن هاهنا نكتة لطيفة وهو أن المصلي إذا فرغ من صلاته وذكر الله وهلله وسبحه وحمده وكبره بالأذكار المشروعة عقيب الصلاة استحب له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ويدعو بما شاء ويكون دعاؤه عقيب هذه العبادة الثانية لا لكونه دبر الصلاة فإن كل من ذكر الله وحمده وأثنى عليه وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم استحب له الدعاء عقيب ذلك كما في حديث فضالة بن عبيد [ إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بما شاء ] قال الترمذي : حديث صحيح
فصل
ثم كان صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه : السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره كذلك هذا كان فعله الراتب رواه عنه خمسة عشر صحابيا وهم : عبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسهل بن سعد الساعدي ووائل بن حجر وأبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر وعبد الله بن عمر وجابر بن سمرة والبراء بن عازب وأبو مالك الأشعري وطلق بن علي وأوس بن أوس وأبو رمثة وعدي بن عميرة رضي الله عنهم
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه ولكن لم يثبت عنه ذلك من وجه صحيح وأجود ما فيه حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم : كان يسلم تسليمة واحدة : السلام عليكم يرفع بها صوته حتى يوقظنا وهو حديث معلول وهو في السنن لكنه كان في قيام الليل والذين رووا عنه التسليمتين رووا ما شاهدوه في الفرض والنفل على أن حديث عائشة ليس صريحا في الاقتصار على التسليمة الواحدة بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة يوقظهم بها ولم تنف الأخرى بل سكتت عنها وليس سكوتها عنها مقدما على رواية من حفظها وضبطها وهم أكثر عددا وأحاديثهم أصح وكثير من أحاديثهم صحيح والباقي حسان
قال أبو عمر بن عبد البر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم تسليمة واحدة من حديث سعد بن أبي وقاص ومن حديث عائشة ومن حديث أنس إلا أنها معلولة ولا يصححها أهل العلم بالحديث ثم ذكر علة حديث سعد : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة قال : وهذا وهم وغلط وإنما الحديث : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره ثم ساق الحديث من طريق ابن المبارك عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد بن سعد عن عامر بن سعد عن أبيه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن شماله حتى كأني أنظر إلى صفحة خده فقال الزهري : ما سمعنا هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له إسماعيل بن محمد : أكل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته ؟ قال : لا قال : فنصفه ؟ قال : لا قال : فاجعل هذا من النصف الذي لم تسمع قال : وأما حديث عائشة رضي الله عنها : عن النبي صلى الله عليه وسلم : كان يسلم تسليمة واحدة فلم يرفعه أحد إلا زهير بن محمد وحده عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رواه عنه عمرو بن أبي سلمة وغيره وزهير بن محمد ضعيف عند الجميع كثير الخطأ لا يحتج به وذكر ليحيى بن معين هذا الحديث فقال : حديث عمرو بن أبي سلمة وزهير ضعيفان لا حجة فيهما قال : وأما حديث أنس فلم يأت إلا من طريق أيوب السختياني عن أنس ولم يسمع أيوب من أنس عندهم شيئا قال : وقد روي مرسلا عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يسلمون تسلمية واحدة وليس مع القائلين بالتسليمة غير عمل أهل المدينة قالوا : وهو عمل قد توارثوه كابرا عن كابر ومثله يصح الاحتجاج به لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مرارا وهذه طريقة قد خالفهم فيها سائر الفقهاء والصواب معهم والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدفع ولا ترد بعمل أهل بلد كائنا من كان وقد أحدث الأمراء بالمدينة وغيرها في الصلاة أمورا استمر عليها العمل ولم يلتفت إلى استمراره وعمل أهل المدينة الذي يحتج به ما كان في زمن الخلفاء الراشدين وأما عملهم بعد موتهم وبعد انقراض عصر من كان بها في الصحابة فلا فرق بينهم وبين عمل غيرهم والسنة تحكم بين الناس لا عمل أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه وبالله التوفيق
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو في صلاته فيقول : [ اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم ] وكان يقول في صلاته أيضا : [ اللهم اغفر لي ذنبي ووسع لي في داري وبارك لي فيما رزقتني ]
وكان يقول : [ اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم ] وكان يقول في سجوده [ رب أعط نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ] وقد تقدم ذكر بعض ما كان يقول في ركوعه وسجوده وجلوسه واعتداله في الركوع
فصل
والمحفوظ في أدعيته صلى الله عليه وسلم في الصلاة كلها بلفظ الإفراد كقوله : [ رب اغفر لي وارحمني واهدني ] وسائر الأدعية المحفوظة عنه ومنها قوله في دعاء الاستفتاح : [ اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ] الحديث
وروى الإمام أحمد رحمه الله وأهل السنن من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ لا يؤم عبد قوما فيخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم ] قال ابن خزيمة في صحيحه : وقد ذكر حديث [ اللهم باعد بيني وبين خطاياي ] الحديث قال : في هذا دليل على رد الحديث الموضوع [ لايؤم عبد قوما فيخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم ] وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هذا الحديث عندي في الدعاء الذي يدعو به الإمام لنفسه وللمأمومين ويشتركون فيه كدعاء القنوت ونحوه والله أعلم
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة طأطأ رأسه ذكره الإمام أحمد رحمه الله وكان في التشهد لا يجاوز بصره إشارته وقد تقدم وكان قد جعل الله قرة عينه ونعيمه وسروره وروحه في الصلاة وكان يقول : [ يا بلال أرحنا بالصلاة ] وكان يقول : [ وجعلت قرة عيني في الصلاة ] ومع هذا لم يكن يشغله ما هو فيه من ذلك عن مراعاة أحوال المأمومين وغيرهم مع كمال إقباله وقربه من الله تعالى وحضور قلبه بين يديه واجتماعه عليه
وكان يدخل في الصلاة وهو يريد إطالتها فيسمع بكاء الصبي فيخففها مخافة أن يشق على أمه وأرسل مرة فارسا طليعة له فقام يصلي وجعل يلتفت إلى الشعب الذي يجيء منه الفارس ولم يشغله ما هو فيه عن مراعاة حال فارسه
وكذلك كان يصلي الفرض وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع ابنة بنته زينب على عاتقه إذا قام حملها وإذا ركع وسجد وضعها
وكان يصلي فيجيء الحسن أو الحسين فيركب ظهره فيطيل السجدة كراهية أن يلقيه عن ظهره
وكان يصلي فتجيء عائشة من حاجتها والباب مغلق فيمشي فيفتح لها الباب ثم يرجع إلى الصلاة وكان يرد السلام بالإشارة على من يسلم عليه وهو في الصلاة
وقال جابر : بعثني رسول الله لحاجة ثم أدركته وهو يصلي فسلمت عليه فأشار إلي ذكره مسلم في صحيحه
وقال أنس رضي الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير في الصلاة ذكره الإمام أحمد رحمه الله
وقال صهيب : مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فرد إشارة قال الراوي : لا أعلمه قا ل : إلا إشارة بأصبعه وهو في السنن و المسند وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : [ خرح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه قال : فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو في الصلاة فقلت لبلال : كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي ؟ قال : يقول : هكذا وبسط جعفر بن عون كفه وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق ] وهو في السنن و المسند وصححه الترمذي ولفظه : كان يشير بيده
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : لما قدمت من الحبشة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فأومأ برأسه ذكره البيهقي
وأما حديث أبي غطفان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعد صلاته ] فحديث باطل ذكره الدارقطني وقال : قال لنا ابن أبي داود : أبو غطفان هذا رجل مجهول والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يشير في صلاته رواه أنس وجابر وغيرهما
وكان صلى الله عليه وسلم يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة فإذا سجد غمزها بيده فقبضت رجليها وإذا قام بسطتهما وكان صلى الله عليه وسلم يصلي فجاءه الشيطان ليقطع عليه صلاته فأخذه فخنقه حتى سال لعابه على يده
وكان يصلي على المنبر ويركع عليه فإذا جاءت السجدة نزل القهقرى فسجد على الأرض ثم صعد عليه
وكان يصلي إلى جدار فجاءت بهمة تمر من بين يديه فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار ومرت من ورائه
يدارئها : يفاعلها من المدارأة وهي المدافعة وكان يصلي فجاءته جاريتان من بني عبد المطلب قد اقتتلتا فأخذهما بيديه فنزع إحداهما من الأخرى وهو في الصلاة ولفظ أحمد فيه : فأخذتا بركبتي النبي صلى الله عليه وسلم فنزع بينهما أو فرق بينهما ولم ينصرف
وكان يصلي فمر بين يديه غلام فقال بيده هكذا فرجع ومرت بين يديه جارية فقال بيده هكذا فمضت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ هن أغلب ] ذكره الإمام أحمد وهو في السنن
وكان ينفخ في صلاته ذكره الإمام أحمد وهو في السنن
وأما حديث النفخ في الصلاة كلام فلا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما رواه سعيد في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله إن صح
وكان يبكي في صلاته وكان يتنحنح في صلاته قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة آتيه فيها فإذا أتيته استأذنت فإن وجدته يصلي فتنحنح دخلت وإن وجدته فارغا أذن لي ذكره النسائي وأحمد ولفظ أحمد : كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان بالليل والنهار وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي تنحنح رواه أحمد وعمل به فكان يتنحنح في صلاته ولا يرى النحنحة مبطلة للصلاة
وكان يصلي تارة ومنتعلا أخرى كذلك قال عبد الله بن عمرو عنه : وأمر بالصلاة بالنعل مخالفة لليهود
وكان يصلي في الثوب الواحد تارة وفي الثوبين تارة وهو أكثر
وقنت في الفجر بعد الركوع شهرا ثم ترك القنوت ولم يكن من هديه القنوت فيها دائما ومن المحال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في كل غداة بعد اعتداله من الركوع يقول : [ اللهم اهدني فيمن هديت وتولني فيمن توليت ] ويرفع بذلك صوته ويؤمن عليه أصحابه دائما إلى أن فارق الدنيا ثم لا يكون ذلك معلوما عند الأمة بل يضيعه أكثر أمته وجمهورأصحابه بل كلهم حتى يقول من يقول منهم : إنه محدث كما قال سعد بن طارق الأشجعي : قلت لأبي : يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ها هنا وبالكوفة منذ خمس سنين فكانوا يقنتون في الفجر ؟ فقال : أي بني محدث رواه أهل السنن وأحمد وقال الترمذي : حديث حسن صحيح وذكر الدارقطني عن سعيد بن جبير قال : أشهد أني سمعت ابن عباس يقول : إن القنوت في صلاة الفجر بدعة وذكر البيهقى عن أبي مجلز قال : صليت مع ابن عمر صلاة الصبح فلم يقنت فقلت له لا أراك تقنت فقال : لا أحفظه عن أحد من أصحابنا
ومن المعلوم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان يقنت كل غداة ويدعو بهذا الدعاء ويؤمن الصحابة لكان نقل الأمة لذلك كلهم كنقلهم لجهره بالقراءة فيها وعددها ووقتها وإن جازعليهم تضييع ذلك ولا فرق وبهذا الطريق علمنا أنه لم يكن هديه الجهر بالبسملة كل يوم وليلة خمس مرات دائما مستمرا ثم يضيع أكثر الأمة ذلك ويخفى عليها وهذا من أمحل المحال بل لو كان ذلك واقعا لكان نقله كنقل عدد الصلوات وعدد الركعات والجهر والإخفات وعدد السجدات ومواضع الأركان وترتيبها والله الموفق والإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف أنه صلى الله عليه وسلم جهر وأسر وقنت وترك وكان إسراره أكثر من جهره وتركه القنوت أكثر من فعله فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم وللدعاء على آخرين ثم تركه لما قدم من دعا لهم وتخلصوا من الأسر وأسلم من دعا عليهم وجاؤوا تائبين فكان قنوته لعارض فلما زال ترك القنوت ولم يختص بالفجر بل كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب ذكره البخاري في صحيحه عن أنس وقد ذكره مسلم عن البراء وذكر الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال : سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة يدعو على حي من بني سليم على رعل وذكوان وعصية ويؤمن من خلفه ورواه أبو داود
وكان هديه صلى الله عليه وسلم القنوت في النوازل خاصة وتركه عند عدمها ولم يكن يخصه بالفجر بل كان أكثر قنوته فيها لأجل ما شرع فيها من التطويل ولاتصالها بصلاة الليل وقربها من السحر وساعة الإجابة وللتنزل الإلهي ولأنها الصلاة المشهودة التي يشهدها الله وملائكته أو ملائكة الليل والنهار كما روي هذا وهذا في تفسير قوله تعالى : { إن قرآن الفجر كان مشهودا } ( الإسراء : 78 ) وأما حديث ابن أبي فديك عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح في الركعة الثانية يرفع يديه فيها فيدعو بهذا الدعاء : [ اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت ] فما أبين الاحتجاج به لو كان صحيحا أو حسنا ولكن لا يحتج بعبد الله هذا وإن كان الحاكم صحح حديثه في القنوت عن أحمد بن عبد الله المزني : حدثنا يوسف بن موسى حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك فذكره نعم صح عن أبي هريرة أنه قال : والله لأنا أقربكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح بعدما يقول : سمع الله لمن حمده فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار
ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ثم تركه فأحب أبو هريرة أن يعلمهم أن مثل هذا القنوت سنة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله وهذا رد على أهل الكوفة الذين يكرهون القنوت في الفجر مطلقا عند النوازل وغيرها ويقولون : هو منسوخ وفعله بدعة فأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه عند النوازل وغيرها وهم أسعد بالحديث من الطائفتين فإنهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتركونه حيث تركه فيقتدون به في فعله وتركه ويقولون : فعله سنة وتركه سنة ومع هذا فلا ينكرون على من داوم عليه ولا يكرهون فعله ولا يرونه بدعة ولا فاعله مخالفا للسنة كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل ولا يرون تركه بدعة ولا تاركه مخالفا للسنة بل من قنت فقد أحسن ومن تركه فقد أحسن وركن الاعتدال محل الدعاء والثناء وقد جمعهما النبي صلى الله عليه وسلم فيه ودعاء القنوت دعاء وثناء فهو أولى بهذا المحل وإذا جهر به الإمام أحيانا ليعلم المأمومين فلا بأس بذلك فقد جهر عمر بالاستفتاح ليعلم المأمومين وجهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلمهم أنها سنة ومن هذا أيضا جهر الإمام بالتأمين وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله ولا من تركه وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه وكالخلاف في أنواع التشهدات وأنواع الأذان والإقامة وأنواع النسك من الإفراد والقران والتمتع وليس مقصودنا إلا ذكر هديه صلى الله عليه وسلم الذي كان يفعله هو فإنه قبلة القصد وإليه التوجه في هذا الكتاب وعليه مدار التفتيش والطلب وهذا شئ والجائز الذي لا ينكر فعله وتركه شئ فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز ولما لا يجوز وإنما مقصودنا فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يختاره لنفسه فإنه أكمل الهدي وأفضله فإذا قلنا : لم يكن من هديه المداومة على القنوت في الفجر ولا الجهر بالبسملة لم يدل ذلك على كراهية غيره ولا أنه بدعة ولكن هديه صلى الله عليه وسلم أكمل الهدي وأفضله والله المستعان
وأما حديث أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس قال : ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا وهو في المسند والترمذي وغيرهما فأبو جعفر قد ضعفه أحمد وغيره وقال ابن المديني : كان يخلط وقال أبو زرعة : كان يهم كثيرا وقال ابن حبان : كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير وقال لي شيخنا ابن تيمية قدس الله روحه : وهذا الإسناد نفسه هو إسناد حديث { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } ( الأعراف : 172 ) حديث أبي بن كعب الطويل وفيه : وكان روح عيسى عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق في زمن آدم فأرسل تلك الروح إلى مريم عليها السلام حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فأرسله الله في صورة بشر فتمثل لها بشرا سويا قال : فحملت الذي يخاطبها فدخل من فيها وهذا غلط محض فإن الذي أرسل إليها الملك الذي قال لها { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا } ( مريم : 19 ) ولم يكن الذي خاطبها بهذا هو عيسى ابن مريم هذا محال
والمقصود أن أبا جعفر الرازي صاحب مناكير لا يحتج بما تفرد به أحد من أهل الحديث البتة ولو صح لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة فإنه ليس فيه أن القنوت هذا الدعاء فإن القنوت يطلق على القيام والسكوت ودوام العبادة والدعاء والتسبيح والخشوع كما قال تعالى : { وله من في السماوات والأرض كل له قانتون } ( الروم : 26 ) وقال تعالى : { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه } ( الزمر : 9 ) وقال تعالى : { وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين } ( التحريم : 12 ) وقال صلى الله عليه وسلم : [ أفضل الصلاة طول القنوت ] وقال زيد بن أرقم : لما نزل قوله تعالى : { وقوموا لله قانتين } ( البقرة : 238 ) أمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وأنس رضي الله عنه لم يقل : لم يزل يقنت بعد الركوع رافعا صوته [ اللهم اهدني فيمن هديت ] إلى آخره ويؤمن من خلفه ولا ريب أن قوله : ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شئ بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد إلى آخر الدعاء والثناء الذي كان يقوله قنوت وتطويل هذا الركن قنوت وتطويل القراءة قنوت وهذا الدعاء المعين قنوت فمن أين لكم أن أنسا إنما أراد هذا الدعاء المعين دون سائر أقسام القنوت ؟ !
ولا يقال : تخصيصه القنوت بالفجر دون غيرها من الصلوات دليل على إرادة الدعاء المعين إذ سائر ما ذكرتم من أقسام القنوت مشترك بين الفجر وغيرها وأنس خص الفجر دون سائر الصلوات بالقنوت ولا يمكن أن يقال : إنه الدعاء على الكفار ولا الدعاء للسمتضعفين من المؤمنين لأن أنسا قد أخبر أنه كان قنت شهرا ثم تركه فتعين أن يكون هذا الدعاء الذي داوم عليه هو القنوت المعروف وقد قنت أبو بكر وعمر وعثمان وعلى والبراء بن عازب وأبو هريرة وعبد الله بن عباس وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك وغيرهم
والجواب من وجوه
أحدها : أن أنسا قد أخبر أنه صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الفجر والمغرب كما ذكره البخاري فلم يخصص القنوت بالفجر وكذلك ذكر البراء بن عازب سواء فما بال القنوت اختص بالفجر ؟ !
فإن قلتم : قنوت المغرب منسوخ قال لكم منازعوكم من أهل الكوفة : وكذلك قنوت الفجر سواء ولا تأتون بحجة على نسخ قنوت المغرب إلا كانت دليلا على نسخ قنوت الفجر سواء ولا يمكنكم أبدا أن تقيموا دليلا على نسخ قنوت المغرب وإحكام قنوت الفجر
فإن قلتم : قنوت المغرب كان قنوتا للنوازل لا قنوتا راتبا قال منازعوكم من أهل الحديث : نعم كذلك هو وكذلك قنوت الفجر سواء وما الفرق ؟ قالوا : ويدل على أن قنوت الفجر كان قنوت نازلة لا قنوتا راتبا أن أنسا نفسه أخبر بذلك وعمدتكم في القنوت الراتب إنما هو أنس وأنس أخبر أنه كان قنوت نازلة ثم تركه ففي الصحيحين عن أنس قال : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على حي من أحياء العرب ثم تركه
الثاني : أن شبابة روى عن قيس بن الربيع عن عاصم بن سليمان قال : قلنا لأنس بن مالك : إن قوما يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت بالفجر قال : كذبوا وإنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا واحدا يدعو على حي من أحياء العرب وقيس بن الربيع وإن كان يحيى بن معين ضعفه فقد وثقه غيره وليس بدون أبي جعفر الرازي فكيف يكون أبو جعفر حجة في قوله : لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا وقيس ليس بحجة في هذا الحديث وهو أوثق منه أو مثله والذين ضعفوا أبا جعفر أكثر من الذين ضعفوا قيسا فإنما يعرف تضعيف قيس عن يحيى وذكر سبب تضعيفه فقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم : سألت يحيى عن قيس بن الربيع فقال : ضعيف لا يكتب حديثه كان يحدث بالحديث عن عبيدة وهو عنده عن منصور ومثل هذا لا يوجب رد حديث الراوي لأن غاية ذلك أن يكون غلط ووهم في ذكر عبيدة بدل منصور ومن الذي يسلم من هذا من المحدثين ؟
الثالث : أن أنسا أخبر أنهم لم يكونوا يقنتون وأن بدء القنوت هو قنوت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على رعل وذكوان ففي الصحيحين من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا لحاجة يقال لهم : القراء فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر يقال له : بئر معونة فقال القوم : والله ما إياكم أردنا وإنما نحن مجتازون في حاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوهم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شهرا في صلاة الغداة فذلك بدء القنوت وما كنا نقنت
فهذا يدل على أنه لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم القنوت دائما وقول أنس : فذلك بدء القنوت مع قوله : قنت شهرا ثم تركه دليل على أنه أراد بما أثبته من القنوت قنوت النوازل وهو الذي وقته بشهر وهذا كما قنت في صلاة العتمة شهرا كما في الصحيحين عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة العتمة شهرا يقول في قنوته : [ اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج سلمة بن هشام اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ] قال أبو هريرة : وأصبح ذات يوم فلم يدع لهم فذكرت ذلك له فقال : أو ما تراهم قد قدموا فقنوته في الفجر كان هكذا سواء لأجل أمر عارض ونازلة ولذلك وقته أنس بشهر
وقد روي عن أبي هريرة أنه قنت لهم أيضا في الفجر شهرا وكلاهما صحيح وقد تقدم ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم : شهرا متتابعا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح ورواه أبو داود وغيره وهو حديث صحيح
وقد ذكر الطبراني في معجمه من حديث محمد بن أنس : حدثنا مطرف بن طريف عن أبي الجهم عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي صلاة مكتوبة إلا قنت فيها
قال الطبراني : لم يروه عن مطرف إلا محمد بن أنس انتهى
وهذا الإسناد وإن كان لا تقوم به حجة فالحديث صحيح من جهة المعنى لأن القنوت هو الدعاء ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة مكتوبة إلا دعا فيها كما تقدم وهذا هو الذي أراده أنس في حديث أبي جعفر الرازي إن صح أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا ونحن لا نشك ولا نرتاب في صحة ذلك وأن دعاءه استمر في الفجر إلى أن فارق الدنيا
الوجه الرابع : أن طرق أحاديث أنس تبين المراد ويصدق بعضها بعضا ولا تتناقض وفي الصحيحين من حديث عاصم الأحول قال : سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة ؟ فقال : قد كان القنوت فقلت : كان قبل الركوع أو بعده ؟ قال : قبله ؟ قلت : وإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت : قنت بعده قال : كذب إنما قلت : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا وقد ظن طائفة أن هذا الحديث معلول تفرد به عاصم وسائر الرواة عن أنس خالفوه فقالوا : عاصم ثقة جدا غير أنه خالف أصحاب أنس في موضع القنوتين والحافظ قد يهم والجواد قد يعثر وحكوا عن الإمام أحمد تعليله فقال الأثرم : قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - : أيقول أحد في حديث أنس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع غير عاصم الأحول ؟ فقال : ما علمت أحدا يقوله غيره قال أبو عبد الله : خالفهم عاصم كلهم هشام عن قتادة عن أنس والتيمي عن أبي مجلز عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : قنت بعد الركوع وأيوب عن محمد بن سيرين قال : سألت أنسا وحنظلة السدوسي عن أنس أربعة وجوه وأما عاصم فقال : قلت له ؟ فقال : كذبوا إنما قنت بعد الركوع شهرا قيل له : من ذكره عن عاصم ؟ قال : أبو معاوية وغيره قيل لأبي عبد الله : وسائر الأحاديث أليس إنما هي بعد الركوع ؟ فقال : بلى كلها عن خفاف بن إيماء بن رحضة وأبي هريرة قلت لأبي عبد الله : فلم ترخص إذا في القنوت قبل الركوع وإنما صح الحديث بعد الركوع ؟ فقال : القنوت في الفجر بعد الركوع وفي الوتر يختار بعد الركوع ومن قنت قبل الركوع فلا بأس لفعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واختلافهم فأما في الفجر فبعد الركوع
فيقال : من العجب تعليل هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته ورواه أئمة ثقات أثبات حفاظ والاحتجاج بمثل حديث أبي جعفر الرازي وقيس بن الربيع وعمرو بن أيوب وعمرو بن عبيد ودينار وجابر الجعفي وقل من تحمل مذهبا وانتصر له في كل شئ إلا اضطر إلى هذا المسلك
فنقول وبالله التوفيق : أحاديث أنس كلها صحاح يصدق بعضها بعضا ولا تتناقض والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غير القنوت الذي ذكره بعده والذي وقته غير الذي أطلقه فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالة القيام للقراءة وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : [ أفضل الصلاة طول القنوت ] والذي ذكره بعده هو إطالة القيام للدعاء فعله شهرا يدعو على قوم ويدعو لقوم ثم استمر يطيل هذا الركن للدعاء والثناء إلى أن فارق الدنيا كما في الصحيحين عن ثابت عن أنس قال : إني لا أزال أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا قال : وكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل : قد نسي وإذا رفع رأسه من السجدة يمكث حتى يقول القائل : قد نسي فهذا هو القنوت الذي ما زال عليه حتى فارق الدنيا
ومعلوم أنه لم يكن يسكت في مثل هذا الوقوف الطويل بل كان يثني على ربه ويمجده ويدعوه وهذا غير القنوت الموقت بشهر فإن ذلك دعاء على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان ودعاء للمستضعفين الذين كانوا بمكة وأما تخصيص هذا بالفجر فبحسب سؤال السائل فإنما سأله عن قنوت الفجر فأجابه عما سأله عنه وأيضا فإنه كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات ويقرأ فيها بالستين إلى المائة وكان كما قال البراء بن عازب : ركوعه واعتداله وسجوده وقيامه متقاربا وكان يظهر من تطويله بعد الركوع في صلاة الفجر ما لا يظهر في سائر الصلوات بذلك ومعلوم أنه كان يدعو ربه ويثني عليه ويمجده في هذا الاعتدال كما تقدمت الأحاديث بذلك وهذا قنوت منه لا ريب فنحن لا نشك ولا نرتاب أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا
ولما صار القنوت في لسان الفقهاء وأكثر الناس هو هذا الدعاء المعروف : اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره وسمعوا أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة حملوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم ونشأ من لا يعرف غير ذلك فلم يشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا مداومين عليه كل غداة وهذا هو الذي نازعهم فيه جمهور العلماء وقالوا : لم يكن هذا من فعله الراتب بل ولا يثبت عنه أنه فعله
وغاية ما روي عنه في هذا القنوت أنه علمه للحسن بن علي كما في المسند و السنن الأربع عنه قال : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر : [ اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت ] قال الترمذي : حديث حسن ولا نعرف في القنوت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا أحسن من هذا وزاد البيهقي بعد [ ولا يذل من واليت ] [ ولا يعز من عاديت ]
ومما يدل على أن مراد أنس بالقنوت بعد الركوع هو القيام للدعاء والثناء ما رواه سليمان بن حرب : حدثنا أبو هلال حدثنا حنظلة إمام مسجد قتادة قلت : هو السدوسي قال : اختلفت أنا وقتادة في القنوت في صلاة الصبح فقال قتادة : قبل الركوع وقلت أنا : بعد الركوع فأتينا أنس بن مالك فذكرنا له ذلك فقال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فكبر وركع ورفع رأسه ثم سجد ثم قام في الثانية فكبر وركع ثم رفع رأسه فقام ساعة ثم وقع ساجدا وهذا مثل حديث ثابت عنه سواء وهو يبين مراد أنس بالقنوت فإنه ذكره دليلا لمن قال : إنه قنت بعد الركوع فهذا القيام والتطويل هو كان مراد أنس فاتفقت أحاديثه كلها وبالله التوفيق وأما المروي عن الصحابة فنوعان :
أحدهما : قنوت عند النوازل كقنوت الصديق رضي الله عنه في محاربة الصحابة لمسيلمة وعند محاربة أهل الكتاب وكذلك قنوت عمر وقنوت علي عند محاربته لمعاوية وأهل الشام
الثاني : مطلق مراد من حكاه عنهم به تطويل هذا الركن للدعاء والثناء والله أعلم
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سجود السهو
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني ] وكان سهوه في الصلاة من تمام نعمة الله على أمته وإكمال دينهم ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو وهذا معنى الحديث المنقطع الذي في الموطأ : [ إنما أنسى أو أنسى لأسن ]
وكان صلى الله عليه وسلم ينسى فيترتب على سهوه أحكام شرعية تجري على سهو أمته إلى يوم القيامة فقام صلى الله عليه وسلم من اثنتين في الرباعية ولم يجلس بينهما فلما قضى صلاته سجد سجدتين قبل السلام ثم سلم فأخذ من هذا قاعدة : أن من ترك شيئا من أجزاء الصلاة التي ليست بأركان سهوا سجد له قبل السلام وأخذ من بعض طرقه أنه : إذا ترك ذلك وشرع في ركن لم يرجع إلى المتروك لأنه لما قام سبحوا فأشار إليهم : أن قوموا
واختلف عنه في محل هذا السجود ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن بحينة أنه صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين من الظهر ولم يجلس بينهما فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم بعد ذلك
وفي رواية متفق عليها : يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم وفي المسند من حديث يزيد بن هارون عن المسعودي عن زياد بن علاقة قال : صلى بنا المغيرة بن شعبة فلما صلى ركعتين قام ولم يجلس فسبح به من خلفه فأشار إليهم : أن قوموا فلما فرغ من صلاته سلم ثم سجد سجدتين وسلم ثم قال : هكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصححه الترمذي
وذكر البيهقي من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري قال : صلى بنا عقبة بن عامر الجهني فقام وعليه جلوس فقال الناس : سبحان الله سبحان الله فلم يجلس ومضى على قيامه فلما كان في آخر صلاته سجد سجدتى السهو وهو جالس فلما سلم قال : إني سمعتكم آنفا تقولون : سبحان الله لكيما أجلس لكن السنة الذي صنعت
وحديث عبد الله بن بحينة أولى لثلاثة وجوه
أحدها : أنه أصح من حديث المغيرة
الثاني : أنه أصرح منه فإن قول المغيرة : وهكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوز أن يرجع إلى جميع ما فعل المغيرة ويكون قد سجد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا السهو مرة قبل السلام ومرة بعده فحكى ابن بحينة ما شاهده وحكى المغيرة ما شاهده فيكون كلا الأمرين جائزا ويجوز أن يريد المغيرة أنه صلى الله عليه وسلم قام ولم يرجع ثم سجد للسهو
الثالث : أن المغيرة لعله نسي السجود قبل السلام وسجده بعده وهذه صفة السهو وهذا لا يمكن أن يقال في السجود قبل السلام والله أعلم
فصل
وسلم صلى الله عليه وسلم من ركعتين في إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر ثم تكلم ثم أتمها ثم سلم ثم سجد سجدتين بعد السلام والكلام يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع
وذكر أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم وقال الترمذي : حسن غريب وصلى يوما فسلم وانصرف وقد بقي من الصلاة ركعة فأدركه طلحة بن عبيد الله فقال : نسيت من الصلاة ركعة فرجع فدخل المسجد وأمر بلالا فأقام الصلاة فصلى للناس ركعة ذكره الإمام أحمد رحمه الله وصلى الظهر خمسا فقيل له : زيد في الصلاة ؟ قال : وما ذاك ؟ قالوا : صليت خمسا فسجد سجدتين بعدما سلم متفق عليه وصلى العصر ثلاثا ثم دخل منزله فذكره الناس فخرج فصلى بهم ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم فهذا مجموع ما حفظ عنه صلى الله عليه وسلم من سهوه في الصلاة وهو خمسة مواضع وقد تضمن سجوده في بعضه قبل السلام وفي بعضه بعده فقال الشافعي رحمه الله : كله قبل السلام وقال أبو حنيفة رحمه الله : كله بعد السلام
وقال مالك رحمه الله : كل سهو كان نقصانا في الصلاة فإن سجوده قبل السلام وكل سهو كان زيادة في الصلاة فإن سجوده بعد السلام وإذا اجتمع سهوان : زيادة ونقصان فالسجود لهما قبل السلام
قال أبو عمر بن عبد البر : هذا مذهبه لا خلاف عنه فيه ولو سجد أحد عنده لسهوه بخلاف ذلك فجعل السجود كله بعد السلام أو كله قبل السلام لم يكن عليه شئ لأنه عنده من باب قضاء القاضي باجتهاده لاختلاف الآثار المرفوعة والسلف من هذه الأمة في ذلك
وأما الإمام أحمد رحمه الله فقال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن سجود السهو : قبل السلام أم بعده ؟ فقال : في مواضيع قبل السلام وفي مواضع بعده كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم حين سلم من اثنتين ثم سجد بعد السلام على حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين
ومن سلم من ثلاث سجد أيضا بعد السلام على حديث عمران بن حصين وفي التحري يسجد بعد السلام على حديث ابن مسعود وفي القيام من اثنتين يسجد قبل السلام على حديث ابن بحينة وفي الشك يبني على اليقين ويسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري وحديث عبد الرحمن بن عوف قال الأثرم : فقلت لأحمد بن حنبل : فما كان سوى هذه المواضع ؟ قال : يسجد فيها كلها قبل السلام لأنه يتم ما نقص من صلاته قال : ولولا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لرأيت السجود كله قبل السلام لأنه من شأن الصلاة فيقضيه قبل السلام ولكن أقول : كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد فيه بعد السلام فإنه يسجد فيه بعد السلام وسائر السهو يسجد فيه قبل السلام
وقال داود بن علي : لا يسجد أحد للسهو إلا في الخمسة المواضع التى سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى
وأما الشك فلم يعرض له صلى الله عليه وسلم بل أمر فيه بالبناء على اليقين وإسقاط الشك والسجود قبل السلام فقال الإمام أحمد : الشك على وجهين : اليقين والتحري فمن رجع إلى اليقين ألغى الشك وسجد سجدتي السهو قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري وإذا رجع إلى التحري وهو أكثر الوهم سجد سجدتي السهو بعد السلام على حديث ابن مسعود الذي يرويه منصور انتهى
وأما حديث أبي سعيد فهو [ إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ] وأما حديث ابن مسعود فهو [ إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب ثم ليسجد سجدتين ] متفق عليهما وفي لفظ الصحيحين : [ ثم يسلم ثم يسجد سجدتين ] وهذا هو الذي قال الإمام أحمد وإذا رجع إلى التحري سجد بعد السلام
والفرق عنده بين التحري واليقين أن المصلي إذا كان إماما بنى على غالب ظنه وأكثر وهمه وهذا هو التحري فيسجد له بعد السلام على حديث ابن مسعود وإذ كان منفردا بنى على اليقين وسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد وهذه طريقة أكثر أصحابه في تحصيل ظاهر مذهبه وعنه : روايتان أخريان : إحداهما : أنه يبني على اليقين مطلقا وهو مذهب الشافعي ومالك والأخرى : على غالب ظنه مطلقا وظاهر نصوصه إنما يدل على الفرق بين الشك وبين الظن الغالب القوي فمع الشك يبني على اليقين ومع أكثر الوهم أو الظن الغالب يتحرى وعلى هذا مدار أجوبته وعلى الحالين حمل الحديثين والله أعلم
وقال أبو حنيفة رحمه الله في الشك : إذا كان أول ما عرض له استأنف الصلاة فإن عرض له كثيرا فإن كان له ظن غالب بنى عليه وإن لم يكن له ظن بنى على اليقين
فصل
ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تغميض عينيه في الصلاة وقد تقدم أنه كان في التشهد يومئ ببصره إلى أصبعه في الدعاء ولا يجاوز بصره إشارته
وذكر البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال : كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ أميطي عني قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي ] ولو كان يغمض عينيه في صلاته لما عرضت له في صلاته وفي الاستدلال بهذا الحديث نظر لأن الذي كان يعرض له في صلاته : هل تذكر تلك التصاوير بعد رؤيتها أو نفس رؤيتها ؟ هذا محتمل وهذا محتمل وأبين دلالة منه حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال : [ اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بانبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي ] وفي الاستدلال بهذا أيضا ما فيه إذ غايته أنه حانت منه التفاتة إليها فشغلته تلك الالتفاتة ولا يدل حديث التفاته إلى الشعب لما أرسل إليه الفارس طليعة لأن ذلك النظر والالتفات منه كان للحاجة لاهتمامه بأمور الجيش وقد يدل على ذلك مد يده في صلاة الكسوف ليتناول العنقود لما رأى الجنة وكذلك رؤيتة النار وصاحبة الهرة فيها وصاحب المحجن وكذلك حديث مدافعته للبهيمة التي أرادت أن تمر بين يديه ورده الغلام والجارية وحجزه بين الجاريتين وكذلك أحاديث رد السلام بالإشارة على من سلم عليه وهو في الصلاة فإنه إنما كان يشير إلى من يراه وكذلك حديث تعرض الشيطان له فأخذه فخنقه وكان ذلك رؤية عين فهذه الأحاديث وغيرها يستفاد من مجموعها العلم بأنه لم يكن يغمض عينيه في الصلاة
وقد اختلف الفقهاء في كراهته فكرهه الإمام أحمد وغيره وقال : هو فعل اليهود وأباحه جماعة ولم يكرهوه وقالوا : قد يكون أقرب إلى تحصيل الخشوع الذي هو روح الصلاة وسرها ومقصودها والصواب أن يقال : إن كان تفتيح العين لا يخل بالخشوع فهو أفضل وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوش عليه قلبه فهنالك لا يكره التغميض قطعا والقول باستحبابه في هذا الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة والله أعلم
فصل
فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من الصلاة وجلوسه بعدها وسرعة الانتقال منها وما شرعه لأمته من الأذكار والقراءة بعدها
كان إذا سلم استغفر ثلاثا وقال : [ اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ]
ولم يمكث مستقبل القبلة إلا مقدار ما يقول ذلك بل يسرع الانتقال إلى المأمومين
وكان ينتفل عن يمينه وعن يساره وقال ابن مسعود : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ينصرف عن يساره
وقال أنس : أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه والأول في الصحيحين والثاني في مسلم
وقال عبد الله بن عمرو : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة
ثم كان يقبل على المأمومين بوجهه ولا يخص ناحية منهم دون ناحية
وكان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس
وكان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة : [ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ]
وكان يقول : [ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كال شئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ]
وذكر أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم من الصلاة قال : [ اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ] هذه قطعة من حديث علي الطويل الذي رواه مسلم في استفتاحه E وما كان يقوله في ركوعه وسجوده
ولمسلم فيه لفظان
أحدهما : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله بين التشهد والتسليم وهذا هو الصواب
والثاني : كان يقوله بعد السلام ولعله كان يقوله في الموضعين والله أعلم
وذكر الإمام أحمد عن زيد بن أرقم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة : [ اللهم ربنا ورب كل شئ ومليكه أنا شهيد أنك الرب وحدك لا شريك لك اللهم ربنا ورب كل شئ أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك اللهم ربنا ورب كل شئ أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة اللهم ربنا ورب كل شئ اجعلني مخلصا لك وأهلي في كل ساعة من الدنيا والآخرة يا ذا الجلال والإكرام اسمع واستجب الله أكبر الأكبر الله نور السماوات والأرض الله أكبر الأكبر حسبي الله ونعم الوكيل الله أكبر الأكبر ] ورواه أبو داود
وندب أمته إلى أن يقولوا في دبر كل صلاة : سبحان الله ثلاثا وثلاثين والحمد لله كذلك والله أكبر كذلك وتمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير
وفي صفة أخرى : التكبير أربعا وثلاثين فتتم به المائة وفي صفة أخرى : خمسا وعشرين تسبيحة ومثلها تحميدة ومثلها تكبيرة ومثلها لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير
وفي صفة أخرى : عشر تسبيحات وعشر تحميدات وعشر تكبيرات وفي صفة أخرى : إحدى عشرة كما في صحيح مسلم في بعض روايات حديث أبي هريرة [ ويسبحون ويحمدون ويكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين إحدى عشرة وإحدى عشرة وإحدى عشرة فذلك ثلاثة وثلاثون ] والذي يظهر في هذه الصفة أنها من تصرف بعض الرواة وتفسيره لأن لفظ الحديث : [ يسبحون ويحمدون ويكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ] وإنما مراده بهذا أن يكون الثلاث والثلاثون في كل واحدة من كلمات التسبيح والتحميد والتكبير أي قولوا : سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين لأن راوي الحديث سمي عن أبي صالح السمان وبذلك فسره أبو صالح قال : قولوا : سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاث وثلاثون
وأما تخصيصه بإحدى عشرة فلا نظير له في شئ من الأذكار بخلاف المائة فإن لها نظائر والعشر لها نظائر أيضا كما في السنن من حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير عشر مرات كتب له عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان يومه ذلك كله في حرز من كل مكروه وحرس من الشيطان ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله ] قال الترمذي : حديث حسن صحيح وفي مسند الإمام أحمد من حديث أم سلمة [ أنه صلى الله عليه وسلم علم ابنته فاطمة لما جاءت تسأله الخادم فأمرها : أن تسبح الله عند النوم ثلاثا وثلاثين وتحمده ثلاثا وثلاثين وتكبره ثلاثا وثلاثين وإذا صلت الصبح أن تقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير عشر مرات وبعد صلاة المغرب عشر مرات ]
وفي صحيح ابن حبان عن أبي أيوب الأنصاري يرفعه : [ من قال إذا أصبح : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير عشر مرات كتب له بهن عشر حسنات ومحي عنه بهن عشر سيئات ورفع له بهن عشر درجات وكن له عدل عتاقة أربع رقاب وكن له حرسا من الشيطان حتى يمسي ومن قالهن إذا صلى المغرب دبر صلاته فمثل ذلك حتى يصبح ]
وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الاستفتاح [ الله أكبر عشرا والحمد لله عشرا وسبحان الله عشرا ولا إله إلا الله عشرا ويستغفر الله عشرا ويقول : اللهم اغفر لي واهدني وارزقني عشرا ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة عشرا ] فالعشر في الأذكار والدعوات كثيرة وأما الإحدى عشرة فلم يجئ ذكرها في شئ من ذلك البتة إلا في بعض طرق حديث أبي هريرة المتقدم والله أعلم
وقد ذكر أبو حاتم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند انصرافه من صلاته : [ اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري وأصلح لي دنياى التى جعلت فيها معاشي اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من نقمتك وأعوذ بك منك لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ] وذكر الحاكم في مستدركه عن أبي أيوب أنه قال : ما صليت وراء نبيكم صلى الله عليه وسلم إلا سمعته حين ينصرف من صلاته يقول : [ اللهم اغفر لي خطاياي وذنوبي كلها اللهم أنعمنى وأحيني وارزقني واهدني لصالح الأعمال والأخلاق إنه لا يهدي لصالحها إلا أنت ولا يصرف عن سيئها إلا أنت ]
وذكر ابن حبان في صحيحه عن الحارث بن مسلم التميمي قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : [ إذا صليت الصبح فقل قبل أنت تتكلم : اللهم أجرني من النار سبع مرات فإنك إن مت من يومك كتب الله لك جوارا من النار وإذا صليت المغرب فقل قبل أن تتكلم : اللهم أجرني من النار سبع مرات فإنك إن مت من ليلتك كتب الله لك جوارا من النار ]
وقد ذكر النسائي في السنن الكبير من حديث أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت ] وهذا الحديث تفرد به محمد بن حمير عن محمد بن زياد الألهاني عن أبي أمامة ورواه النسائي عن الحسين بن بشر عن محمد بن حمير وهذا الحديث من الناس من يصححه ويقول : الحسين بن بشر قد قال فيه النسائي : لا بأس به وفي موضع آخر : ثقة وأما المحمدان فاحتج بهما البخاري في صحيحه قالوا : فالحديث على رسمه ومنهم من يقول : هو موضوع وأدخله أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه في الموضوعات وتعلق على محمد بن حمير وأن أبا حاتم الرازي قال : لا يحتج به وقال يعقوب بن سفيان : ليس بقوي وأنكر ذلك عليه بعض الحفاظ ووثقوا محمدا وقال : هو أجل أن يكون له حديث موضوع وقد احتج به أجل من صنف في الحديث الصحيح وهو البخاري ووثقه أشد الناس مقالة في الرجال يحيى بن معين وقد رواه الطبراني في معجمه أيضا من حديث عبد الله بن حسن عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى ] وقد روي هذا الحديث من حديث أبي أمامة وعلي أبي طالب و عبد الله بن عمر والمغيرة بن شعبة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وفيها كلها ضعف ولكن إذا انضم بعضها إلى بعض مع تباين واختلاف مخارجها دلت على أن الحديث له أصل وليس بموضوع وبلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية قدس الله روحه أنه قال : ما تركتها عقيب كل صلاة وفي المسند و السنن [ عن عقبة بن عامر قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة ] ورواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال : صحيح على شرط مسلم ولفظ الترمذي بالمعوذتين
وفي معجم الطبراني و مسند أبي يعلى الموصلي من حديث عمر بن نبهان وقد تكلم فيه عن جابر يرفعه : ثلاث من جاء بهن مع الإيمان دخل من أي أبواب الجنة شاء وزوج من الحور العين حيث شاء من عفا عن قاتله وأدى دينا خفيا و قرأ في دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرات قل هو الله أحد فقال أبو بكر رضي الله عنه : أو إحداهن يا رسول الله : قال : أو إحداهن وأوصى معاذا أن يقول في دبر كل صلاة : [ اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ]
ودبر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده وكان شيخنا يرجح أن يكون قبل السلام فراجعته فيه فقال : دبر كل شئ منه كدبر الحيوان
فصل
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى الجدار جعل بينه وبينه قدر ممر الشاة ولم يكن يتباعد منه بل أمر بالقرب من السترة وكان إذا صلى إلى عود أو عمود أو شجرة جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولم يصمد له صمدا وكان يركز الحربة في السفر والبرية فيصلي إليها فتكون سترته وكان يعرض راحلته فيصلي إليها وكان يأخذ الرحل فيعدله فيصلي إلى آخرته وأمر المصلي أن يستتر ولو بسهم أو عصا فإن لم يجد فليخط خطا في الأرض قال أبو داود سمعت أحمد بن حنبل يقول : الخط عرضا مثل الهلال وقال عبد الله : الخط بالطول وأما العصا فتنصب نصبا فإن لم يكن سترة فإنه صح عنه أنه يقطع صلاته [ المرأة والحمار والكلب الأسود ] وثبت ذلك عنه من رواية أبي ذر وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن مغفل ومعارض هذه الاحاديث قسمان : صحيح غير صريح وصريح غير صحيح فلا يترك العمل بها لمعارض هذا شأنه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وعائشة رضي الله عنها نائمة في قبلته وكأن ذلك ليس كالمار فإن الرجل محرم عليه المرور بين يدي المصلي ولا يكره له أن يكون لابثا بين يديه وهكذا المرأة يقطع مرورها الصلاة دون لبثها والله أعلم
كان صلى الله عليه وسلم يحافظ على عشر ركعات في الحضر دائما وهي التي قال فيها ابن عمر : [ حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات : ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته وركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل صلاة الصبح ] فهذه لم يكن يدعها في الحضر أبدا ولما فاتته الركعتان بعد الظهر قضاهما بعد العصر وداوم عليهما لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عمل عملا أثبته وقضاء السنن الرواتب في أوقات النهي عام له ولأمته وأما المداومة على تلك الركعتين في وقت النهي فمختص به كما سيأتي تقرير ذلك في ذكر خصائصه إن شاء الله تعالى وكان يصلي أحيانا قبل الظهر أربعا كما في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم : [ كان لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين قبل الغداة ]
فإما أن يقال : إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في بيته صلى أربعا وإذا صلى في المسجد صلى ركعتين وهذا أظهر وإما أن يقال : كان يفعل هذا ويفعل هذا فحكى كل من عائشة وابن عمر ما شاهده والحديثان صحيحان لا مطعن في واحد منهما وقد يقال : إن هذه الأربع لم تكن سنة الظهر بل هي صلاة مستقلة كان يصليها بعد الزوال كما ذكره الإمام أحمد عن عبد الله بن السائب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي أربعا بعد أن تزول الشمس وقال : [ إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح ]
وفي السنن أيضا عن عائشة رضي الله عنها [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يصل أربعا قبل الظهر صلاهن بعدها ] وقال ابن ماجه : [ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الأربع قبل الظهر صلاها بعد الركعتين بعد الظهر ] وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أربعا قبل الظهر وبعدها ركعتين ] وذكر ابن ماجه أيضا عن عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ يصلي أربعا قبل الظهر يطيل فيهن القيام ويحسن فيهن الركوع والسجود ] فهذه - والله أعلم - هي الأربع التي أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن وأما سنة الظهر فالركعتان اللتان قال عبد الله بن عمر يوضح ذلك أن سائر الصلوات سنتها ركعتان ركعتان والفجر مع كونها ركعتين والناس في وقتها أفرغ ما يكونون ومع هذا سنتها ركعتان وعلى هذا فتكون هذه الأربع التي قبل الظهر وردا مستقلا سببه انتصاف النهار وزوال الشمس وكان عبد الله بن مسعود يصلي بعد الزوال ثمان ركعات ويقول : إنهن يعدلن بمثلهن من قيام الليل وسر هذا - والله أعلم - أن انتصاف النهار مقابل لانتصاف الليل وأبواب السماء تفتح بعد زوال الشمس ويحصل النزول الإلهي بعد انتصاف الليل فهما وقتا قرب ورحمة هذا تفتح فيه أبواب السماء وهذا ينزل فيه الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أم حبيبة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ من صلى في يوم وليله ثنتي عشرة ركعة بني له بهن بيت في الجنة ] وزاد النسائي والترمذي فيه : [ أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الفجر ] قال النسائي : [ وركعتين قبل العصر ] بدل [ وركعتين بعد العشاء ] وصححه الترمذي وذكر ابن ماجه عن عائشة ترفعه : [ من ثابر على ثنتي عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتا في الجنة : أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر ] وذكر أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وقال : [ ركعتين قبل الفجر وركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين أظنه قال : قبل العصر وركعتين بعد المغرب أظنه قال : وركعتين بعد العشاء الآخرة ] وهذا التفسير يحتمل أن يكون من كلام بعض الرواة مدرجا في الحديث ويحتمل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا والله أعلم
وأما الأربع قبل العصر فلم يصح عنه عليه السلام في فعلها شئ إلا حديث عاصم بن ضمرة عن علي الحديث الطويل أنه صلى الله عليه وسلم : [ كان يصلي في النهار ست عشرة ركعة يصلي إذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا لصلاة الظهر أربع ركعات وكان يصلي قبل الظهر أربع ركعات وبعد الظهر ركعتين وقبل العصر أربع ركعات ] وفي لفظ : [ كان إذا زالت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا عند العصر صلى ركعتين وإذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا عند الظهر صلى أربعا ويصلي قبل الظهر أربعا وبعدها ركعتين وقبل العصر أربعا ويفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين ] وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ينكر هذا الحديث ويدفعه جدا ويقول : إنه موضوع ويذكر عن أبي إسحاق الجوزجاني إنكاره وقد روى أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ رحم الله امرءا صلى قبل العصر أربعا ] وقد اختلف في هذا الحديث فصححه ابن حبان وعلله غيره قال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : سألت أبا الوليد الطيالسي عن حديث محمد بن مسلم بن المثنى عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ رحم الله امرءا صلى قبل العصر أربعا ] فقال دع ذا فقلت : إن أبا داود قد رواه فقال : قال أبو الوليد : كان ابن عمر يقول : [ حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات في اليوم والليلة ] فلو كان هذا لعده قال أبي : كان يقول : [ حفظت ثنتي عشرة ركعة ] وهذا ليس بعلة أصلا فإن ابن عمر إنما أخبر بما حفظه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر عن غير ذلك فلا تنافي بين الحديثين البتة
وأما الركعتان قبل المغرب فإنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصليهما وصح عنه أنه أقر أصحابه عليهما وكان يراهم يصلونهما فلم يأمرهم ولم ينههم وفي الصحيحين عن عبد الله المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب ] قال في الثالثة : [ لمن شاء كراهة أن يتخذها الناس سنة ] وهذا هو الصواب في هاتين الركعتين أنهما مستحبتان مندوب إليهما بسنة راتبة كسائر السنن الرواتب
وكان يصلي عامة السنن والتطوع الذي لا سبب له في بيته لا سيما سنة المغرب فإنه لم ينقل عنه أنه فعلها في المسجد البتة وقال الإمام أحمد في رواية حنبل : السنة أن يصلي الرجل الركعتين بعد المغرب في بيته كذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه قال السائب بن يزيد : لقد رأيت الناس في زمن عمر بن الخطاب إذا انصرفوا من المغرب انصرفوا جميعا حتى لا يبقى في المسجد أحد كأنهم لا يصلون بعد المغرب حتى يصيروا إلى أهليهم انتهى كلامه فإن صلى الركعتين في المسجد فهل يجزئ عنه وتقع موقعها ؟ اختلف قوله فروى عنه ابنه عبد الله أنه قال : بلغني عن رجل سماه أنه قال : لو أن رجلا صلى الركعتين بعد المغرب في المسجد ما أجزأه ؟ فقال : ما أحسن ما قال هذا الرجل وما أجود ما انتزع قال أبو حفص : ووجهه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصلاة في البيوت وقال المروزي : من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد يكون عاصيا قال : ما أعرف هذا قلت له : يحكى عن أبي ثور أنه قال : هو عاص قال : لعله ذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم [ اجعلوها في بيوتكم ] قال أبو حفص : ووجهه أنه لو صلى الفرض في البيت وترك المسجد أجزأه فكذلك السنة انتهى كلامه وليس هذا وجهه عند أحمد رحمه الله وإنما وجهه أن السنن لا يشترط لها مكان معين ولا جماعة فيجوز فعلها في البيت والمسجد والله أعلم
وفي سنة المغرب سنتان إحداهما : أنه لا يفصل بينها وبين المغرب بكلام قال أحمد رحمه الله في رواية الميموني والمروزي : يستحب ألا يكون قبل الركعتين بعد المغرب إلى أن يصليهما كلام وقال الحسن بن محمد : رأيت أحمد إذا سلم من صلاة المغرب قام ولم يتكلم ولم يركع في المسجد قبل أن يدخل الدار قال أبو حفص : ووجهه قول مكحول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من صلى ركعتين بعد المغرب قبل أن يتكلم رفعت صلاته في عليين ] ولأنه يتصل النفل بالفرض انتهى كلامه
والسنة الثانية : أن تفعل في البيت فقد روى النسائي وأبو داود والترمذي من حديث كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني عبد الأشهل فصلى فيه المغرب فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها فقال : [ هذه صلاة البيوت ] ورواه ابن ماجه من حديث رافع بن خديج وقال فيها : [ اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم ]
والمقصود أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم فعل عامة السنن والتطوع في بيته كما في الصحيح عن ابن عمر : حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات : ركعتين قبل الظهر وركعتيبن بعدها وركعتين بعد المغرب فى بيته وركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل صلاة الصبح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق