لحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ )) . [أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة ] . أول حقيقة هي أن كتمان العلم من الكبائر ، وكلكم يعلم أن الكبائر مهلكة ، وقد قال الله عز وجل : ( سورة النساء ) . فالإنسان إذا وقع في كبيرة فقد أهلك نفسه ، ومن الكبائر أن تكتم العلم ، هناك من يفتي بغير علم ، له عند الله عقاب أليم ، لكن المجرم هو الذي يفتي بخلاف ما يعلم ، فرق كبير بينهما ، يفتي بلا علم جاهل ، أما هناك من يعلم الفتوى الصحيحة ، يعلم الحكم الشرعي الصحيح ، يعلم وجهة نظر الشرع في هذا الموضوع ، ولكن لمصالحه المادية ، أو لمركزه ، أو ممالئة للأقوياء يفتي بخلاف ما يعلم ، أي كتم العلم ، كتم علمه ، لذلك ورد في القرآن الكريم : ( سورة الأحزاب الآية : 39 ) . هذا الذي يبلغ رسالات الله له صفات كثيرة ، ربنا سبحانه وتعالى أهملها كلها واكتفى بصفة واحدة ، أنه يبلغ ولا يخشى أحداً إلا الله ، لأنه لو خشي غير الله وكتم العلم إرضاء لهذا الذي يخشاه ، أو تكلم بالباطل إرضاء له ، ماذا بقي من رسالته ؟ انتهى ، القرآن الكريم له أسلوب بليغ في الوصف ، يأتي بصفة مترابطة مع الموصوف ترابطاً وجودياً ، فإذا ألغيت الصفة ألغي الموصوف ، نقول : الطائرة تطير ، إن ألغيت طيرانها ألغيتها الطائرة كلها، لو وصفتها أنها كبيرة ، الباخرة كبيرة ، غالية ، اليخت غال ، فخمة ، البيت فخم ، أما أنت وصفت الطائرة بالطيران ، فلو ألغي الطيران ألغيت الطائرة . ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾ ، قد يقول أحدنا : هذا مع الدعاة ، نحن من عامة المسلمين ما علاقتنا بهذا الحديث ؟ هذا الحديث يغطي كل المسلمين . أنت عم ، لك ابنة أخ ، ذهبت إليهم ، مظهر هذه البنت ولباسها ليس شرعياً سكتت ، أنت كتمت علماً ، كلما كتمنا العلم توسعت دائرة الباطل وضاقت دائرة الحق . لك شريك ، لك جار ، لك أخ ، لك صديق ، لك ابن ، لك بنت ، كلما تأملت في وضع ولم يكن شرعياً ، وكتمت الحكم الشرعي إرضاءً للآخرين ، أو طلباً للنجاة والسلامة ، أنت عطلت الفريضة السادسة ، الفرائض صوم ، وصلاة ، وحج ، وزكاة ، والسادسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذلك هذه الفريضة لو عُطلت انتهى الإسلام . عندنا هدفان كبيران للإسلام هما ؛ أن نحافظ على وجوده ، وأن ننمي الحق ، الحفاظ على وجود الحق يكون بالتواصي بالحق ، قال تعالى : ( سورة العصر ) . التواصي بالحق أحد أركان النجاة ، إنك إن وصيت الناس بالحق ، نصحتهم ، أمرتهم بالمعروف ، نهيتهم عن المنكر ، الحق يبقى ، ثم ينمو . قال لي أخ : دخلت على صديق لي ، عنده موظفة متفلتة جداً ، فقلت له : أنت محسوب علينا ، أنت معدود مع المؤمنين ، ومع المسلمين ، وهذا لا يليق بك ، قال له : دخل لعندي مئات الأشخاص و لم يتكلم أحد منهم هذا الكلام ، هذه ملاحظة قيمة جداً ، هو نصحه ، وحينما يفعل أو لا يفعل صار الأمر له ، أما أنت فعليك مهمة أديتها . مرة فيما أذكر عبد الملك بن مروان أراد أن يخطب في الناس قبل صلاة العيد ليضمن بقاءهم في المسجد ، فصعد المنبر قبل أن يصلي ، فرجل ـ أعتقد أنه سعيد بن الزبير ـ أمسكه من ثوبه ، و قال له : يا أمير المؤمنين هذا ما فعله النبي ، فلم يسمع كلامه و أكمل صعوده ، فقال آخر : أما هذا فقد أدى الذي عليه . أنت لست مكلفاً فوق الكلام ، نصحك ، أخي هذا العمل غير شرعي انتبه ، الله كبير ، أنت انطق بالحق فقط ، ليس عليك إلا البلاغ . ( سورة المائدة الآية : 67 ) . قالوا : كلمة الحق لا تقطع رزقاً ، ولا تقرب أجلاً ، فإذا كان كل واحد منا لا يسكت عن الباطل ، لا يسكت عن الخطأ ، تكلم ، فالخطأ يتقلص ، والحق يتنامى ، أما كلنا نجامل بعضنا إلى ما لا نهاية ، هذه المجاملة تنمي الباطل وتضيق دوائر الحق . لذلك عدّ النبي عليه الصلاة والسلام كتمان العلم من الكبائر ، نحن جالسون أذن الظهر ، والعصر كاد أن يقترب ، و لم يتحرك أحد ، لا تجامل أحداً ، أذن الظهر قم وصلِّ وادعُ الناس للصلاة ، طبعاً السلامة تقتضي ألا تتكلم أي كلمة ، بل تبقى ساكتاً ، لأن النطق بالحق يحتاج إلى جهد ، إلى جرأة ، وإلى اقتحام . لذلك ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾ ، وفي التاريخ الإسلامي مواقف كثيرة جداً مشرفة . مرة هارون الرشيد فيما أذكر وصل للمدينة ، فطلب أحد العلماء ليلتقي معه ، فاختاروا الإمام مالك ، ذهبوا إليه أن ائت معنا لأن الخليفة يريدك ، قال لهم : قولوا له : يا هارون إن العلم يؤتى ولا يأتي ، فقال : صدق ، نحن نأتيه ، فلما بلغه ذلك ، قال : قولوا له : لا أسمح له أن يتخطى رقاب الناس . أنا ذكرت بخطبة أن نظام الإسلام عجيب ، بالمسجد من يصل أولاً يجلس في الصف الأول ، من يجلس آخراً يجلس في الصف الأخير ، هناك مساواة ، قد يكون إنسان مرتبته في المجتمع في الصف الأول ، وبالمسجد في الصف الأخير ، إنسان مرتبته في الصف الأخير ، جاء باكراً وجلس في الصف الأول ، المسلمون في بيوت الله سواسية . إذاً لا أسمح له أن يتخطى رقاب الناس ، قال : صدق ، أعطوه كرسياً ، فقال الإمام مالك : من تواضع رفعه الله ، ومن تكبر وضعه الله ، قال : خذوا عني هذا الكرسي ، أي كان هناك جرأة ، و نطق بالحق ، وهذا مما يرفع قيمة العلم . سُئل الحسن البصري : بِمَ نلت هذا المقام ؟ قال : "باستغنائي عن دنيا الناس وحاجتهم إلى علمي" . الحسن البصري من كبار التابعين ، عاصر الحجاج ، والحجاج كان طاغية ، يبدو أن هناك أخطاء كثيرة جداً ، والحسن البصري بحكم وظيفته في العلم ، حذر الناس منها ، فبلغ الحجاج ذلك فثارت ثائرته ، قال لمن حوله : يا جبناء والله لأروينكم من دمه ، وأمر بقتله ـ معنى أمر بقتله أي جيء بالسياف إلى قصره ، ومدّ في بهو القصر النطع وهو رداء كبير يحمي الأثاث من الدم المتطاير من المقتول ـ جيء بالسياف ، ومدّ النطع ، ثم جيء بالحسن البصري ، فلما دخل ورأى السياف جاهزاً ، فهم كل شيء ، فحرك شفتيه بتمتمات لم يفهمها أحد ، عندما وصل ، ودخل ، ما كان من الحجاج إلى أن وقف له ، واستقبله ، ورحب به ، وما زال يدنيه منه حتى أجلسه إلى جانبه ، وقال : يا أبا سعيد أنت من أفضل العلماء ، وسأله قالوا : وعطره ، ورحب به ، ثم شيعه إلى باب القصر ، السياف لم يفهم شيئاً ، صُعق ، فلحقه وقال له : يا إمام قد جيء بك بغير ما فعل فيك ، فماذا قلت بربك ؟ قال له : قلت لربي لما رأيت هذا : " يا مؤنسي في وحشتي ، يا ملاذي عند كربتي ، اجعل نقمته علي برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم ". الله يبدل ، القلوب بيد الله عز وجل . العبرة أن الإنسان لا يكتم علماً ، أنت لست مكلفاً أن تصل إلى هذا الحد ، أحياناً الحكم الشرعي حتى تكون دقيقاً لو أنك نطقت به فنتج عنه فتنة أكبر من الفتنة التي تنكرها لست مكلفاً أن تنطق بها ، نحن عندنا حكم شرعي ، وعندنا موقف شخصي ، لعل الحسن البصري وقف موقفاً شخصياً ، لكن كل موقف له ثمن ، لكن الحكم الشرعي يسع المسلمين جميعاً . سيدنا الصديق شرب لبناً من مال حرام ، تقيأه ، لو إنسان منا شرب حليباً من مال حرام هل هو مكلف شرعاً أن يتقيأه ؟ لا ، يستغفر الله ، لأنه لم يكن يعلم ، عندنا حكم شرعي، وعندنا موقف شخصي ، الحكم الشرعي يسع الناس جميعاً ، ومن طبق الحكم الشرعي لا شيء عليه ، وهناك موقف شخصي . عمار بن ياسر عُذب حتى ضغط عليه أن ينطق بكلمة الكفر ، نطق بها ، فلما جاء النبي مرتعداً ، قال : لا شيء عليك ، ولو عادوا عد ، ونزل قول تعالى : ( سورة النحل الآية : 106 ) . بلال ما فعل هذا ، قال : أحدٌ أحد ، موقف بلال موقف شخصي ، موقف عمار حكم شرعي ، الحكم الشرعي يسع كل الناس ، الموقف الشخصي يحتاج إلى مبادرة ، وإلى جرأة ، وهذا له عند الله حساب خاص ، فنحن غير مكلفين أن ننطق بالحق إذا نتج عن النطق بالحق فتنة أكبر من المنكر الذي ننكره ، أحياناً يكون الوضع صعباً جداً ، ما كلف الله نفساً إلا وسعها ، لكن لو الإنسان اجتهد اجتهاداً صادقاً ، الله يحفظه ، ويحميه ، ويؤجره ، وكل شيء له ثمن ، لكن بآخر الزمان : (( حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ )) . [ أبو داود عن أبي ثعلبة الخشني] . خاصة النفس ؛ أولادك ، أقرباؤك ، جيرانك ، أخوانك ، رواد مسجدك ، خاصة نفسك ، والمجتمع الذي تعيش فيه ، أما بالطريق إنسانة متفلتة ، يا أختي حرام عليك تمشي هكذا ، ما كلفك الشرع أن تفعلها ، قد يكون هذا فوق طاقتك ، إنسان تكلم كلاماً بحق الله غير صحيح ، متسلط مثلاً ، أو قوي ، هو لا يفهم عليك ، أنت إذا سكت لست مؤاخذاً ، لو سكت طبقت الحكم الشرعي ، والحكم الشرعي يسع الناس جميعاً هذا الموقف الشرعي ، لست مكلفاً أن تنطق بالحق إذا نتج عنه فتنة أكبر من المنكر الذي تنكره ، لكن لو إنسان اجتهد فالله يحفظه ويؤجره ، وهذا وضع شخصي مع الله عز وجل . مرة ثانية : (( مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ )) . [أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة ] . الإنسان يطلب العلم ، لماذا ؟ يطلب العلم ليعلمه ، أما إذا سُئل صار التعليم واجباً ، أنت تطلب العلم كي تكون داعية مثلاً ، كي تنطق بالحق ، المفروض حينما تطلب العلم تطلبه للآخرين لا لنفسك ، لأن الإنسان لو عبد الله نجا ، لماذا العلم إذاً ؟ العلم لينتشر الحق ، لو أن إنساناً لا يفهم شيئاً بالدين فقط صلى ، وصام ، وحج ، وزكى ، وغض بصره ، وحرر دخله ، وقام الإسلام في بيته ينجح ، لكن هذا عابد ، أما أنت حينما تطلب العلم لماذا ؟ من أجل أن تعلمه ، ما الشيء الأقوى من تعليمه ؟ إن سُئلت ، إذا سألك إنسان يجب أن تجيب بالموقف الشرعي . هنا : (( مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ )) . [أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة ] . والإنسان إذا سُئل عن علم وهو لا يعلم لا ينبغي أن يفتي بما لا يعلم فهو آثم ، أما إن أفتى بخلاف ما يعلم فهو مجرم ، إن أفتى بلا علم فهو آثم ، أما إن أفتى بخلاف ما يعلم فهو مجرم ، والإنسان حينما يُسئل ينبغي أن يجيب ، وإذا لم يعرف فليقل لا أعلم ، وكلمة لا أعلم ينطق بها العلماء دائماً ، والجهلاء يعلمون كل شيء ، ومن علم كل شيء لا يعلم شيئاً . الإمام أحمد بن حنبل جاءه وفد من المغرب ، بعد عناء في الطريق ثلاثة أشهر ، معه ثلاثين سؤالاً ، أجاب على سبعة عشر سؤال ، البقية ؟ قال له : لا أعلم ، معقول ! قال : قولوا لمن أرسلكم : الإمام أحمد لا يعلم . عود نفسك أن تقول : لا أعلم ، لا أدري ، لا أدري نصف العلم ، معنى هذا أنك تتمتع بروح موضوعية ، عندك ورع ، وأنا أكره كلمة جبان إلا في موطن واحد ؛ بالفتوى ، أنا أقول : أنا جبان بالفتوى ، لأن الفتوى شيء مخيف ، لو قلت له : افعل ولا شيء عليك كنت جسراً إلى النار ، وإذا كان الوضع شرعياً وأنت منعته عن شيء شرعي أيضاً تحريم الحلال ليس أقل من تحريم الحرام . لهذا قال الإمام الغزالي : "الجهلاء لأن يرتكبوا الكبائر أهون من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون ". والآن كل شخص من الأخوان الكرماء الحاضرين عند أسرته ، وأخواته ، وأصهاره ، وجيرانه ، وزملائه ، يقولون : هذا من طلاب العلم ، كلما حدث شيء يسألونه ، ما قولك ؟ أنت لا يوجد عندك حل وسط ، إما أن تعلم الحكم الشرعي تماماً بشكل واضح ، أو قل لا أعلم ، أو قل سأسأل لك ، هذا الذي ينبغي أن يفعله الإنسان ، كلما كان إيمانه أكبر كان ورعاً أكثر ، والورع الأكثر من لوازمه الخوف من الفتوى السريعة ، وطن نفسك إذا سُئلت سؤالاً لا تعرف جوابه اطلب ممن سألك أن يمهلك حتى تسأل ، أو تراجع ، أما أن تفتي بخلاف لا تعلم هذه جريمة ، أن تفتي بلا علم هذا إثم كبير . والحمد لله رب العالمين |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق