الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أيها الأخوة الكرام ، لا زلنا في باب الإخلاص ، من كتاب الترغيب والترهيب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( يقولُ الله عزَّ وجلَّ : إذا أراد عبدي أنْ يَعْمَلَ سيئة ، فلا تكتبوها عليه حتى يَعْمَلَها ، فإن عَمِلَها فاكتبوها بمثلها ، وإن تَركَها من أجلي فاكتبوها له حسنة )) .
إذا همّ بسيئة فلم يعملها من أجل الله عز وجل خوفاً ، أو استحياء ، أو خجلاً ، أو خشية فاكتبوها له حسنة .
(( وإذا أراد أن يَعْمَلَ حسنة ، فلم يَعْمَلْها ، فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها بِعَشْرِ أمثالها إلى سبعمائة )) .
[ متفق عليه ، واللفظ للبخاري عن أبي هريرة] .
أي من خلال هذا الحديث يتضح أنك كل شيء تحدث نفسك به لا تحاسب عليه إلا إذا فعلته ، فإن كان حسناً كُتب بعشرة أمثال ، وإن كان سيئة كُتب بمثل واحد ، بعض العلماء قال : إذا همّ عبدي ، أي إذا أراد ، قالوا :
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا فخاطر فحديث النفس فاستمعـا
يليه هم فعزم كلها رفعـــــت سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا
***
هاجس ، خاطر ، حديث نفس ، همّ ، عزم ، كلها داخلية ، لكن كلها متدرجة في الشدة ، جاءه هاجس أقل من خاطر ، يليه الخاطر ، يليه حديث النفس ، يليه الهمّ ، همّ أن يفعل شيئاً ، يليه العزم ، فبين الهاجس ، والخاطر ، وحديث النفس ، والهمّ و العزم ، هذه كلها داخل النفس ، لا تحاسب عليها ، لا تحاسب إلا على السادسة ، أن تتحرك ، أن تعمل .
وفي رواية لمسلم قال الله عز وجل :
(( إذا تحدَّث عبدي بأن يَعْمَلَ حسنة ، فأنا أكتُبها له حسنة ، ما لم يعمَلْها ، فإذا عملها فأكتُبُها له بعشرِ أمثالها )) .
[مسلم عن أبي هريرة] .
فهذا الحديث والذي قبله يبيّن أن الأصل في الحساب هو الفعل ، وهذا من رحمة الله عز وجل ، أما النية تدخل في الأعمال الصالحة إذا كانت في صالحه ، هممت بحسنة فلم تعملها ، أو هممت بسيئة فخشيت الله عز وجل .
إذاً هناك نقطة دقيقة ، الشيء الداخلي ، يبدأ من هاجس ، إلى خاطر ، إلى حديث نفس ، إلى همّ ، إلى عزم ، هذه لا تحاسب عليها أيها المؤمن إن كانت ليست في صالحك ، وتحاسب عليها حساباً إيجابياً إذا كانت في صالحك ، أما الأعمال السيئة لا تحاسب عليها إلا إذا فعلتها .
و :
(( من أتى فِرَاشَهُ وهو ينْوي أن يقومَ يُصلِّي من الليل ، فغلبَتْه عينهُ حتى أصبح كُتِبَ له ما نوى )) .
أي صادق ، نوى أن يستيقظ لصلاة الفجر ، أو لصلاة قيام الليل ، غلبته عينه يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح :
(( له ما نوى )) .
[ رواه النسائي وابن ماجه ، وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء ] .
هذا الترغيب في الإخلاص .
أما الترهيب من الرياء ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(( مَن سَمَّع سَمَّعَ الله به ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى الله به )) .
[ متفق عليه عن جندب بن عبد الله] .
ما معنى سمّع ؟ أي هو يذكر الله في قلبه ، دخل إنسان للمسجد فرفع صوته ليلفته إليه ، أنا أذكر الله ، سمعه ، أحياناً الإنسان يسمع الناس بأعماله الطيبة ، يسمعهم ، يتحدث عن أعماله ، يقصد بها أن يتباهى ، يقصد بهذا الحديث أن يظهر ورعه ، أن يظهر عبادته .
(( مَن سَمَّع )) .
طبعاً سمّع من التسميع ، والاسم السمعة ، من السمعة ، وهي مثل الرياء ، إلا أن السمعة خاصة بالسمع ، كرفع الصوت بالذكر و الإظهار للناس ، والرياء خاصة بحاسة البصر ، إن فعلت شيئاً ليراك الناس ، هذا رياء ، وإن قلت قولاً ليسمعك الناس هذا التسميع ، إن قلت قولاً ليسمعك الناس ، لتنتزع إعجابهم ، هذا تسميع ، وإن فعلت شيئاً ليراك الناس هذه مراءاة .
يرائي الله به أن يطلعهم في الدنيا أو في الآخرة على أنه فعل ما فعل لوجههم لا لوجهه ، هو أراد أن ينتزع إعجاب الناس ، فالناس يعلمون ذلك ، يرائي الله به ، يظهر رياءه، يسمّع الله به ، يظهر رياءه بالتسميع ، التسميع لحاسة السمع ، والمراءاة لحاسة البصر، الإنسان إذا سمّع الناس بأفعاله ، الله جلّ جلاله أظهر للناس تسميعه ، يظهر هنا التناقض ، يظهر فلتات لسان ، يظهر بوضع آخر لا يرضي ، معنى ذلك أن هذا ليس لله عز وجل ، في النهاية:
( سورة آل عمران الآية : 179 ) .
لا بدّ من أن يظهر هذا العمل .
(( مَن سَمَّع سَمَّعَ الله به ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى الله به )) .
[ متفق عليه عن جندب بن عبد الله] .
حديث آخر :
(( من صلى وهو يرائي فقد أشرك ، ومن صام وهو يرائي فقد أشرك ، ومن تصدق وهو يرائي فقد أشرك )) .
[ أخرجه البيهقي عن شداد بن أوس ].
أي الإنسان إذا أراد أن يصلي ليعرف الناس أنه يصلي ، أو أراد أن يصوم ليعرف الناس أنه يصوم ، مثلاً الإنسان إذا صام نفلاً ، يطبل الدنيا بهذه الصيام ، ألم تصوموا اليوم ؟ اليوم عاشوراء ، أنا صائم اليوم و الحمد لله ، هذه أصبحت مراءاة ، إن أردت بهذا الصيام وجه الله صم واسكت ، نفل الصيام ، هناك إنسان له وضع خاص يتحرش بالناس ، ليريهم أمه صائم ، يقول لهم مثلاً : كيف الترتيب ؟ هل يوجد صيام اليوم ؟ يريد أن يفتعل مشكلة ، هذا صيام الرياء ، هناك صلاة الرياء ، وهناك تصدق الرياء .
(( ومن صام وهو يرائي فقد أشرك )) .
[ أخرجه البيهقي عن شداد بن أوس ].
الصحابة الكرام ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ كانوا مع رسول الله في سفر ، في رمضان ، وكان السفر شاقاً ، بعضهم صام ، وبعضهم أفطر ، لا الذين أفطروا أخذوا على الذين صاموا ، ولا الذين صاموا أخذوا على الذين أفطروا ، هذه قضية شخصية مع الله عز وجل .
مرة الذين أفطروا كانوا أقوى فقاموا ، وطبخوا ، ونحروا الجزور ، وهيؤوا الطعام ، ونصبوا الخيام ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( ذهب المفطرون اليوم بالأجر )) .
[ البخاري عن أنس] .
العبادات النافلة هذه دعها بينك وبين الله ، لا تسمع بها ، ولا ترائي بها .
خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
(( إياكم وشرك السرائر . قالوا : يا رسول الله ! وما شرك السرائر ؟ قال : يقوم الرجل فيصلي ، فيزين صلاته جاهداً ، لما يرى من نظر الناس إليه ، فذلك شرك السرائر )) .
[ أخرجه ابن خزيمة عن محمود بن لبيد ] .
أي يتقن الإنسان صلاته أمام الناس ، ولا يتقنها في بيته ، إتقان الصلاة أمام الناس نوع من الشرك ، إذاً عليك أن تتقنها في البيت أيضاً ، الحل ألا تتقنها ، أنا لا أشرك ، لن أتقنها أمام الناس ، اتقنها أمام الناس وفي بيتك لم يعد هناك مشكلة .
وعن أبي سعيد بن أبي فضالة كان من الصحابة فقال :
(( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عنده فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك )) .
[أخرجه الترمذي وابن ماجه والطبراني عن أبي سعيد بن أبي فضالة] .
أحياناً أنت تعمل عملاً لإنسان ضعيف ، إنسان لا يستطيع أن يكافئك عليه ، فيخيب ظنك ، فالعمل لغير الله ، غير الله ضعيف ، فقير ، لئيم أحياناً تخدمه خدمات لا تحصى ، لا يذكرها أبداً ، ينساها ، قد يسيء إليك ، والذي أراه أن الذي يشرك هذا الذي أشركه مع الله هو قد يكون أفضل من ذلك إلا أن الله يلهمه أن يكون لئيماً ، كي تنقطع عنه وتتصل بالله عز وجل .
حديث آخر :
(( يجاء يوم القيامة بصحف مختومة فتنصب بين يدي الله ، فيقول الله للملائكة: ألقوا هذا واقبلوا هذا )) .
[ ابن عساكر عن أنس بن مالك] .
أعمال طيبة كلها بصحف .
((فتقول الملائكة وعزتك ما رأينا إلا خيرا فيقول وهو أعلم إن هذا كان لغيري ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما كان ابتغى به وجهي )) .
[ ابن عساكر عن أنس بن مالك] .
هناك أعمال طيبة إلا أنها ليست وجه الله ، ألقوها .
طبعاً لا زلنا في باب الإخلاص ، لذلك الفضيل بن عياض يقول : الأعمال لا تقبل إلا بشرطين ؛ إلا إذا كان العمل خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به وجه الله ، وصواباً ما وافق السنة .
وعن أبي علي ـ رجل من بني كاهل ـ قال : خطبنا أبو موسى الأشعري فقال :
(( يا أيها الناس ، اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل . فقام إليه عبد الله بن حزن وقيس بن المضارب فقالا : والله لتخرجن مما قلت أو لنأتين عمر مأذوناً لنا أو غير مأذون . فقال : بل أخرج مما قلت ، خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل . فقال له من شاء الله أن يقول : وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله ؟ قال : قولوا : اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلمه )) .
[ أحمد عن أبي علي و هو رجل من بني كاهل] .
و :
(( أدناه أن تحب على شيء من الجور أو تبغض على شيء من العدل ))
[صحيح الحاكم عن عائشة] .
إنسان نصحك بأدب أزعجك ، هزّ لك مكانتك ، جرحك ، أغضبك ، لقد أشركت نفسك مع الله ، أخذتك العزة بالإثم ، أنت أشركت الآن .
أو إنسان له انحراف ، جاءك منه نفع ، تغاضيت عن انحرافه ، وأثنيت عليه ، فعندما أثنيت عليه فقد مدحته ، وإن الله ليغضب إذا مدح الفاسق ، وأدنى مراتب الشرك أن تحب على جور وأن تبغض على عدل .
والحقيقة الشرك الخفي منتشر كثيراً لقول الله عز وجل :
( سورة يوسف ) .
الشرك الخفي ، أما الجلي ـ والعياذ بالله ـ شرك للكبائر ، أي يوجب النار ، أما الشرك الخفي يوجب الاستغفار ، فالإنسان يستغفر الله من شرك يعلمه ، ومن شرك لا يعلمه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق