-والحوالة معاملة صحيحة مستثناة من الدين بالدين، لقوله عليه الصلاة والسلام "مطل الغني ظلم وإذا أحيل أحدكم على غني فليستحل" والنظر في شروطها وفي حكمها، فمن الشروط اختلافهم في اعتبار رضا المحال والمحال عليه، فمن الناس من اعتبر رضا المحال ولم يعتبر رضا المحال عليه، وهو مالك؛ ومن الناس من اعتبر رضاهما معا؛ من الناس من لم يعتبر رضا المحال واعتبر رضا المحال عليه، وهو نقيض مذهب مالك، وبه قال داود، فمن رأى أنها معاملة اعتبر رضا الصنفين، ومن أنزل المحال عليه من المحال منزلته من المحيل لم يعتبر رضاه معه كما لا يعتبره مع المحيل إذا طلب منه حقه ولم يحل عليه أحدا. وأما داود فحجته ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام "إذا أحيل أحدكم على ملئ فليتبع" والأمر على الوجوب، وبقي المحال عليه من الأصل، وهو اشتراط اعتبار رضاه. ومن الشروط التي اتفق عليها في الجملة كون ما على المحال عليه مجانسا لما على المحيل قدرا ووصفا، إلا أن منهم من أجازها في الذهب والدراهم فقط ومنعها في الطعام، والذين منعوها في ذلك رأوا أنها من باب بيع الطعام قبل أن يستوفي، لأنه باع الطعام الذي كان له على غريمه بالطعام الذي كان عليه، وذلك قبل أن يستوفيه من غريمه؛ وأجاز ذلك مالك إذا كان الطعامان كلاهما من قرض إذا كان دين المحال حالا. وأما إن كان أحدهما من سلم فإنه لا يجوز إلا أن يكون الدينان حالين؛ وعند ابن القاسم وغيره من أصحاب مالك يجوز ذلك إذا كان الدين المحال به حالا؛ ولم يفرق بين ذلك الشافعي، لأنه كالبيع في ضمان المستقرض وإنما رخص مالك في القرض لأنه يجوز عنده بيع القرض قبل أن يستوفي. وأما أبو حنيفة فأجاز الحوالة بالطعام وشبهها بالدراهم وجعلها خارجة عن الأصول كخروج الحوالة بالدراهم، والمسألة مبنية على أن ما شذ عن الأصول هل يقاس عليه أم لا؟ والمسألة مشهورة في أصول الفقه، وللحوالة عند مالك ثلاثة شروط: أحدها أن يكون دين المحال حالا، لأنه إن لم يكن حالا كان دينا بدين. والثاني أن يكون الدين الذي يحيله به مثل الذي يحيله عليه في القدر والصفة، لأنه إذا اختلفا في أحدهما كان بيعا ولم يكن حوالة، فخرج من باب الرخصة إلى باب البيع، وإذا خرج من باب البيع دخله الدين بالدين. والشرط الثالث أن لا يكون الدين طعاما من سلم أو أحدهما ولم يحل الدين المستحال به على مذهب ابن القاسم، وإذا كان الطعامان جميعا من سلم فلا تجوز الحوالة بأحدهما على الآخر حلت الآجال أو لم تحل، أو حل أحدهما ولم يحل الآخر، لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفي كما قلنا، لكن أشهب يقول إن استوت رؤوس أموالهما جازت الحوالة وكانت تولية؛ وابن القاسم لا يقول ذلك كالحال إذا اختلفت ويتنزل المحال في الدين الذي أحيل عليه منزلة من أحاله، ومنزلته في الدين الذي أحاله به، وذلك فيما يريد أن يأخذ بذله منه أو يبيعه له من غيره، أعني أنه لا يجوز له من ذلك إلا ما يجوز له مع الذي أحاله وما يجوز للذي أحال مع الذي أحاله عليه، ومثال ذلك إن احتال بطعام كان له من قرض في طعام من سلم أو بطعام من سلم في طعام من قرض لم يجز له أن يبيعه من غيره قبل قبضه منه، لأنه إن كان احتال بطعام كان من قرض في طعام من سلم نزل منزلة المحيل في أنه لا يجوز له بيع ما على غريمه قبل أن يستوفيه لكونه طعاما من بيع، وإن كان احتال بطعام من سلم في طعام من قرض نزل من المحتال عليه منزلته مع من أحاله، أعني أنه ما كان يجوز له أن يبيع الطعام الذي كان على غريمه المحيل له قبل أن يستوفيه، كذلك لا يجوز أن يبيع الطعام الذي أحيل عليه وإن كان من قرض، وهذا كله مذهب مالك، وأدلة هذه الفروق ضعيفة. وأما أحكامها فإن جمهور العلماء على أن الحوالة ضد الحمالة، في أنه إذا أفلس المحال عليه لم يرجع صاحب الدين على المحيل بشيء؛ قال مالك وأصحابه: إلا أن يكون المحيل غره فأحاله على عديم؛ وقال أبو حنيفة: يرجع صاحب الدين على المحيل إذا مات المحال عليه مفلسا أو جحد الحوالة وإن لم تكن له بينة، وبه قال شريح وعثمان البتي وجماعة. وسبب اختلافهم مشابهة الحوالة للحمالة.
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-وفيها ثلاثة أبواب: الباب الأول: في أركانها، وهي النظر فيما فيه التوكيل، وفي الموكل. والثاني في أحكام الوكالة. والثالث: في مخالفة الموكل للوكيل.
-(
-(
-(
-(
-وأما الأحكام: فمنها أحكام العقد، ومنها أحكام فعل الوكيل. فأما هذا العقد فهو كما قلنا عقد غير لازم للوكيل أن يدع الوكالة متى شاء عند الجميع، لكن أبو حنيفة يشترط في ذلك حضور الموكل، وللموكل أن يعزله متى شاء قالوا: إلا أن تكون وكالة في خصومة. وقال أصبغ: له ذلك ما لم يشرف على تمام الحكم، وليس للوكيل أن يعزل نفسه في الموضع الذي لا يجوز أن يعزله الموكل، وليس من شروط انعقاد هذا العقد حضور الخصم عند مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: ذلك من شروطه. وكذلك ليس من شرط إثباتها عند الحاكم حضوره عند مالك. وقال الشافعي: من شرطه. واختلف أصحاب مالك هل تنفسخ الوكالة بموت الموكل على قولين، فإذا قلنا تنفسخ بالموت كما تنفسخ بالعزل فمتى يكون الوكيل معزولا، والوكالة منفسخة في حق من عامله في المذهب فيه ثلاثة أقوال: الأول أنها تنفسخ في حق الجميع بالموت والعزل. والثاني أنها تنفسخ في حق كل واحد منهم بالعلم، فمن علم انفسخت في حقه ومن لم يعلم لم تنفسخ في حقه. والثالث أنها تنفسخ في حق من عامل الوكيل بعلم الوكيل وإن لم يعلم هو، ولا تنفسخ في حق الوكيل بعلم الذي عامله إذا لم يعلم الوكيل، ولكن من دفع إليه شيئا بعد العلم بعزله ضمنه، لأنه دفع إلى من يعلم أنه ليس بوكيل.
وأما أحكام الوكيل ففيها مسائل مشهورة: أحدها إذا وكل على بيع شيء هل يجوز له أن يشتريه لنفسه؟ فقال مالك: يجوز، وقد قيل عنه: لا يجوز؛ وقال الشافعي: لا يجوز، وكذلك عند مالك الأب والوصي. ومنها إذا وكله في البيع وكالة مطلقة لم يجز له عند مالك أن يبيع إلا بثمن مثله نقدا بنقد البلد، ولا يجوز إن باع نسيئة، أو بغير نقد البلد، أو بغير ثمن المثل، وكذلك الأمر عنده في الشراء؛ وفرق أبو حنيفة بين البيع والشراء لمعين فقال: يجوز في البيع أن يبيع بغير ثمن المثل، وأن يبيع نسيئة، ولم يجز إذا وكله في شراء عبد بعينه أن يشتريه إلا بثمن المثل نقدا، ويشبه أن يكون أبو حنيفة إنما فرق بين الوكالة على شراء شيء بعينه، لأن من حجته أنه كما أن الرجل قد يبيع الشيء بأقل من ثمن مثله ونساء لمصلحة يراها في ذلك كله، كذلك حكم الوكيل إذ قد أنزله منزلته، وقول الجمهور أبين، وكل ما يعتدي فيه الوكيل ضمن عند من يرى أنه تعدى، وإذا اشترى الوكيل شيئا وأعلم أن الشراء للموكل فالملك ينتقل إلى الموكل؛ وقال أبو حنيفة: إلى الوكيل أولا ثم إلى الموكل، وإذا دفع الوكيل دينا عن الموكل ولم يشهد فأنكر الذي له الدين القبض ضمن الوكيل.
-وأما اختلاف الوكيل مع الموكل، فقد يكون في ضياع المال الذي استقر عند الوكيل، وقد يكون في دفعه إلى الموكل، وقد يكون في مقدار الثمن الذي باع به أو اشترى إذا أمره بثمن محدود، وقد يكون في المثمون، وقد يكون في تعيين من أمره بالدفع إليه، وقد يكون في دعوى التعدي. فإذا اختلفا في ضياع المال فقال الوكيل ضاع مني، وقال الموكل لم يضع، فالقول قول الوكيل إن كان لم يقبضه ببينة، فإن كان المال قد قبضه الوكيل من غريم الموكل لم يشهد الغريم على الدفع لم يبرأ الغريم بإقرار الوكيل عند مالك وغرم ثانية، وهل يرجع الغريم على الوكيل؟ فيه خلاف، وإن كان قد قبضه ببينة برئ ولم يلزم الوكيل شيء. وأما إذا اختلفا في الدفع فقال الوكيل دفعته إليك، وقال الموكل: لا، فقيل القول قول الوكيل. وقيل القول قول الموكل. وقيل إن تباعد ذلك فالقول قول الوكيل. وأمر اختلافهم في مقدار الثمن الذي به أمره بالشراء؛ فقال ابن القاسم: إن لم تفت السلعة فالقول قول المشتري، وإن فاتت فالقول قول الوكيل، وقيل يتحالفان وينفسخ البيع ويتراجعان وإن فاتت بالقيمة وإن كان اختلافهم في مقدار الثمن الذي أمره به في البيع، فعند ابن القاسم أن القول فيه قول الموكل، لأنه جعل دفع الثمن بمنزلة فوات السلعة في الشراء. وأما إذا اختلفا فيمن أمره بالدفع ففي المذهب فيه قولان: المشهور أن القول قول المأمور، وقيل القول قول الآمر. وأما إذا فعل الوكيل فعلا هو تعد وزعم أن الموكل أمره، فالمشهور أن القول قول الموكل، وقد قيل إن القول قول الوكيل إنه أمره قد ائتمنه على الفعل.
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-والنظر في اللقطة في جملتين: الجملة الأولى: في أركانها. والثانية: في أحكامها.
(
(
-وأما حكم التعريف، فاتفق العلماء على تعريف ما كان منها له بال سنة ما لم تكن من الغنم. واختلفوا في حكمها بعد السنة، فاتفق فقهاء الأمصار مالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور إذا انقضت كان له أن يأكلها إن كان فقيرا، أو يتصدق بها إن كان غنيا، فإن جاء صاحبها كان مخيرا بين أن يجيز الصدقة فينزل على ثوابها أو يضمنه إياها. واختلفوا في الغني هل له أن يأكلها أو ينفقها بعد الحول؟ فقال مالك والشافعي: له ذلك؛ وقال أبو حنيفة: ليس له أن يأكلها أو يتصدق بها؛ وروي مثل قوله عن علي وابن عباس وجماعة من التابعين؛ وقال الأوزاعي: إن كان مالا كثيرا جعله في بيت المال؛ وروي مثل قول مالك والشافعي عن عمر وابن مسعود وابن عمر وعائشة. وكلهم متفقون على أنه إن أكلها ضمنها لصاحبها إلا أهل الظاهر. واستدل مالك والشافعي بقوله عليه الصلاة والسلام "فشأنك بها" ولم يفرق بين غني وفقير. ومن الحجة لهما ما رواه البخاري والترمذي عن سويد بن غفلة قال "لقيت أويس بن كعب فقال: وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عرفها حولا، فعرفتها فلم أجد، ثم أتيته ثلاثا فقال: احفظ وعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها" وخرج الترمذي وأبو داود "فاستنفقها". فسبب الخلاف معارضة ظاهر لفظ حديث اللقطة لأصل الشرع، وهو أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه، فمن غلب هذا الأصل على ظاهر الحديث، وهو قوله بعد التعريف "فشأنك بها" قال: لا يجوز فيها تصرف إلا بالصدقة فقط على أن يضمن إن لم يجز صاحب اللقطة الصدقة؛ ومن غلب ظاهر الحديث على هذا الأصل ورأى أنه مستثنى منه قال: تحل له بعد العام وهي مال من ماله لا يضمنها إن جاء صاحبها، ومن توسط قال: يتصرف بعد العام فيها وإن كانت عينا على جهة الضمان. وأما حكم دفع اللقطة لمن ادعاها، فاتفقوا على أنها لا تدفع إليه إذا لم يعرف العفاص ولا الوكاء،
واختلفوا إذا عرف ذلك هل يحتاج مع ذلك إلى بينة أم لا؟ فقال مالك: يستحق بالعلامة ولا يحتاج إلى بينة؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يستحق إلا ببينة. وسبب الخلاف معارضة الأصل في اشتراط الشهادة في صحة الدعوى لظاهر هذا الحديث؛ فمن غلب الأصل قال: لا بد من البينة؛ ومن غلب ظاهر الحديث قال: لا يحتاج إلى بينة. وإنما اشترط الشهادة في ذلك الشافعي وأبو حنيفة لأن قوله عليه الصلاة والسلام "اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها" يحتمل أن يكون إنما أمره بمعرفة العفاص والوكاء لئلا تختلط عنده بغيرها، ويحتمل أن يكون إنما أمره بذلك ليدفعها لصاحبها بالعفاص والوكاء، فلما وقع الاحتمال وجب الرجوع إلى الأصل، فإن الأصول لا تعارض بالاحتمالات المخالفة لها إلا أن تصح الزيادة التي نذكرها بعد؛ وعند مالك وأصحابه أن على صاحب اللقطة أن يصف مع العفاص والوكاء صفة الدنانير والعدد، قالوا: وذلك موجود في بعض روايات الحديث ولفظه "فإن جاء صاحبها ووصف عفاصها ووكاءها وعددها فادفعها إليه" قالوا: ولكن لا يضره الجهل بالعدد إذا عرف العفاص والوكاء، وكذلك إن زاد فيه. واختلفوا إن نقص من العدد على قولين، وكذلك اختلفوا إذا جهل الصفة وجاء بالعفاص والوكاء. وأما إذا غلط فيها فلا شيء له. وأما إذا عرف إحدى العلامتين اللتين وقع النص عليهما وجهل الأخرى فقيل إنه لا شيء له إلا بمعرفتهما جميعا، وقيل يدفع إليه بعد الاستبراء، وقيل إن ادعى الجهالة استبرئ، وإن غلط لم تدفع إليه. واختلف المذهب إذا أتى بالعلامة المستحقة هل يدفع إليه بيمين أو بغير يمين؟ فقال ابن القاسم بغير يمين: وقال أشهب: بيمين. وأما ضالة الغنم، فإن العلماء اتفقوا على أن لواجد ضالة الغنم في المكان القفر البعيد من العمران أن يأكلها لقوله عليه الصلاة والسلام في الشاة "هي لك أو لأخيك أو للذئب"
واختلفوا هل يضمن قيمتها لصاحبها أم لا؟ فقال جمهور العلماء إنه يضمن قيمتها؛ وقال مالك في أشهر الأقاويل عنه: إنه لا يضمن. وسبب الخلاف معارضة الظاهر كما قلنا للأصل المعلوم من الشريعة، إلا أن مالكا هنا غلب الظاهر فجرى على حكم الظاهر، ولم يجز كذلك التصرف فيما وجب تعريفه بعد العام لقوة اللفظ ههنا؛ وعنه رواية أخرى أنه يضمن، وكذلك كل طعام لا يبقى إذا خشي عليه التلف إن تركه. وتحصيل مذهب مالك عند أصحابه في ذلك أنها على ثلاثة أقسام: قسم يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه من التلف إن تركه، كالعين والعروض. وقسم لا يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه من التلف إن ترك كالشاة في القفر، والطعام الذي يسرع إليه الفساد. وقسم لا يخشى عليه من التلف. فأما القسم الأول، وهو ما يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف فإنه ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون يسيرا لا بال له ولا قدر لقيمته ويعلم أن صاحبه لا يطلبه لتفاهته، فهذا لا يعرف عنده وهو لمن وجده. والأصل في ذلك ما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق فقال: لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها" ولم يذكر فيها تعريفا، وهذا مثل العصا والسوط، وإن كان أشهب قد استحسن تعريف ذلك. والثاني أن يكون يسيرا إلا أن له قدر ومنفعة، فهذا لا اختلاف في المذهب في تعريفه. واختلفوا في قدر ما يعرف، فقيل سنة، وقيل أياما. وأما الثالث فهو أن يكون كثيرا أو له قدر، فهذا لا اختلاف في وجوب تعريفه حولا. وأما القسم الثاني وهو ما لا يبقى بيد ملتقطه ويخشى عليه التلف، فإن هذا يأكله كان غنيا أو فقيرا، وهل يضمن؟ فيه روايتان كما قلنا الأشهر أن لا ضمان. واختلفوا إن وجد ما يسرع إليه الفساد في الحاضرة فقيل لا ضمان عليه، وقيل عليه الضمان، وقيل بالفرق بين أن يتصدق به فلا يضمن، أو يأكله فيضمن.
وأما القسم الثالث فهو كالإبل، أعني أن الاختيار عنده فيه الترك للنص الوارد في ذلك، فإن أخذها وجب تعريفها، والاختيار تركها؛ وقيل في المذهب هو عام في جميع الأزمنة؛ وقيل إنما هو في زمان العدل، وأن الأفضل في زمان غير العدل التقاطها. وأما ضمانها في الذي تعرف فيه، فإن العلماء اتفقوا على أن من التقطها وأشهد على التقاطها فهلكت عنده أنه غير ضامن، واختلفوا إذا لم يشهد، فقال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن: لا ضمان عليه إن لم يضيع وإن لم يشهد؛ وقال أبو حنيفة وزفر: يضمنها إن هلكت ولم يشهد. استدل مالك والشافعي بأن اللقطة وديعة فلا ينقلها ترك الإشهاد من الأمانة إلى الضمان، قالوا: وهي وديعة بما جاء من حديث سليمان بن بلال وغيره أنه قال: إن جاء صاحبها وإلا فلتكن وديعة عندك. واستدل أبو حنيفة وزفر بحديث مطرف بن الشخير عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من التقط لقطة فليشهد ذوي عدل عليها ولا يكتم ولا يعنت، فإن جاء صاحبها فهو أحق بها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء". وتحصيل المذهب في ذلك أن واجد اللقطة عند مالك لا يخلو التقاطه لها من ثلاثة أوجه: أحدها أن يأخذها على جهة الاغتيال لها. والثاني أن يأخذها على جهة الالتقاط. والثالث أن يأخذها لا على جهة الالتقاط ولا على جهة الاغتيال، فإن أخذها على جهة الالتقاط فهي أمانة عنده عليه حفظها وتعريفها، فإن ردها بعد أن التقطها فقال ابن القاسم: يضمن؛ وقال أشهب: لا يضمن إذا ردها في موضعها، فإن ردها في غير موضعها ضمن كالوديعة، والقول قوله في تلفها دون يمين إلا أن يتهم. وأما إذا قبضها مغتالا لها فهو ضامن لها، ولكن لا يعرف هذا الوجه إلا من قبله. وأما الوجه الثالث فهو مثل أن يجد ثوبا فيأخذه، وهو يظنه لقوم بين يديه ليسألهم عنه، فهذا إن لم يعرفوه ولا ادعوه كان له أن يرد حيث وجده ولا ضمان عليه باتفاق عند أصحاب مالك. وتتعلق بهذا الباب مسألة اختلف العلماء فيها، وهو العبد يستهلك اللقطة، فقال مالك: إنها في رقبته إما أن يسلمه سيده فيها، وإما أن يفديه بقيمتها، هذا إذا كان استهلاكه قبل الحول، فإن استهلكها بعد الحول كانت دينا عليه ولم تكن في رقبته؛ وقال الشافعي: إن علم بذلك السيد فهو الضامن، وإن لم يعلم بها السيد كانت في رقبة العبد. واختلفوا هل يرجع الملتقط بما أنفق على اللقطة على صاحبها أم لا؟ فقال الجمهور: ملتقط اللقطة متطوع بحفظها فلا يرجع بشيء من ذلك على صاحب اللقطة. وقال الكوفيون: لا يرجع بما أنفق إلا أن تكون النفقة عن إذن الحاكم، وهذه المسألة هي من أحكام الالتقاط، وهذا القدر كاف بحسب غرضنا في هذا الباب.
-والنظر في أحكام الالتقاط وفي الملتقط واللقيط وفي أحكامه.
وقال الشافعي كل شيء ضائع لا كافل له فالتقاطه من فروض الكفايات، وفي وجوب الإشهاد عليه خيفة الاسترقاق خلاف، والخلاف فيه مبني على الاختلاف في الإشهاد على اللقطة. واللقيط: هو الصبي الصغير غير البالغ، وإن كان مميزا، ففيه في مذهب الشافعي تردد، والملتقط: هو كل حر عدل رشيد، وليس العبد والمكاتب بملتقط، والكافر يلتقط الكافر دون المسلم، لأنه لا ولاية له عليه، ويلتقط المسلم الكافر، وينزع من يد الفاسق والمبذر، وليس من شرط الملتقط الغنى، ولا تلزم نفقة الملتقط على من التقطه، وإن أنفق لم يرجع عليه بشيء. وأما أحكامه فإنه يحكم له بحكم الإسلام إن التقطه في دار المسلمين ويحكم للطفل بالإسلام بحكم أبيه عند مالك. وعند الشافعي بحكم من أسلم منهما، وبه قال ابن وهب من أصحاب مالك. وقد اختلف في اللقيط فقيل إنه عبد لمن التقطه، وقيل إنه حر وولاؤه لمن التقطه، وقيل إنه حر وولاؤه للمسلمين، وهو مذهب مالك. والذي تشهد له الأصول إلا أن يثبت في ذلك أثر تخصص به الأصول مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ترث المرأة ثلاثة: لقيطها وعتيقها وولدها الذي لا عنت عليه.
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-وجل المسائل المشهورة بين فقهاء الأمصار في هذا الكتاب هي في أحكام الوديعة: فمنها أنهم اتفقوا على أنها أمانة لا مضمونة، إلا ما حكي عن عمر ابن الخطاب. قال المالكيون: والدليل على أنها أمانة أن الله أمر برد الأمانات ولم يأمر بالإشهاد، فوجب أن يصدق في المستودع في دعواه رد الوديعة مع يمينه إن كذبه المودع، قالوا: إلا أن يدفعها إليه ببينة فإنه لا يكون القول قوله، قالوا: لأنه إذا دفعها إليه ببينة فكأنه ائتمنه على حفظها ولم يأتمنه على ردها، فيصدق في تلفها ولا يصدق على ردها، هذا هو المشهور عن مالك وأصحابه؛ وقد قيل عن ابن القاسم إن القول قوله وإن دفعها إليه ببينة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، وهو القياس، لأنه فرق بين التلف ودعوى الرد، ويبعد أن تنتقد الأمانة وهذا فيمن دفع الأمانة إلى اليد التي دفعتها إليه. وأما من دفعها إلى غير اليد التي دفعتها إليه، فعليه ما على ولي اليتيم من الإشهاد عند مالك وإلا ضمن، يريد قول الله عز وجل
والسبب في هذا اختلافهم كله أن الأمانة تقوي دعوى المدعي حتى يكون القول قوله مع يمينه؛ فمن شبه أمانة الذي أمره المودع أن يدفعها إليه، أعني الوكيل بأمانة المودع عنده قال: يكون القول قوله في دعواه التلف كدعوى المستودع عنده؛ ومن رأى أن تلك الأمانة أضعف قال: لا يبرأ الدافع بتصديق القابض مع دعوى التلف؛ ومن رأى المأمور بمنزلة الآمر قال: القول قول الدافع للمأمور كما كان القول قوله مع الآمر، وهو مذهب أبي حنيفة؛ ومن رأى أنه أضعف منه قال: الدافع ضامن إلا أن يحضر القابض المال، وإذا أودعها بشرط الضمان فالجمهور على أنه لا يضمن، وقال الغير: يضمن. وبالجملة فالفقهاء يرون بأجمعهم أنه لا ضمان على صاحب الوديعة إلا أن يتعدى ويختلفون في أشياء هل هي تعد أم ليس بتعد؟ فمن مسائلهم المشهورة في هذا الباب إذا أنفق الوديعة ثم رد مثلها أو أخرجها لنفقته ثم ردها، فقال مالك: يسقط عنه الضمان بحالة مثل إذا ردها؛ وقال أبو حنيفة: إن ردها بعينها قبل أن ينفقها لم يضمن، وإن رد مثلها ضمن؛ وقال عبد الملك والشافعي: يضمن في الوجهين جميعا؛ فمن غلظ الأمر ضمنه إياها بتحريكها ونية استنفاقها؛ ومن رخص لم يضمنها إذا أعاد مثلها. ومنها اختلافهم في السفر بها، فقال مالك ليس له أن يسافر بها إلا أن تعطى له في سفر؛ وقال أبو حنيفة: له أن يسافر بها إذا كان الطريق آمنا ولم ينهه صاحب الوديعة. ومنها أنه ليس للمودع عنده أن يودع الوديعة غيره من غير عذر، فإن فعل ضمن؛ وقال أبو حنيفة: إن أودعها عند من تلزمه نفقته لم يضمن، لأنه شبهه بأهل بيته.
وعند مالك له أن يستودع ما أودع عند عياله الذين يأمنهم وهم تحت غلقه من زوج أو ولد أو أمة أو من أشبههم. وبالجملة فعند الجميع أنه يجب عليه أن يحفظها مما جرت به عادة الناس أن تحفظ أموالهم، فما كان بينا من ذلك أنه حفظ اتفق عليه، وما كان غير بين أنه حفظ اختلف فيه، مثل اختلافهم في المذهب فيمن جعل وديعة في جيبه فذهبت، والأشهر أنه يضمن. وعند ابن وهب أن من أودع وديعة في المسجد فجعلها على نعله فذهبت أنه لا ضمان عليه، ويختلف في المذهب في ضمانها بالنسيان، مثل أن ينساها في موضع أو أن ينسى من دفعها إليه، أو يدعيها رجلان، فقيل يحلفان وتقسم بينهما، وقيل إنه يضمن لكل واحد منهما، وإذا أراد السفر فله عند مالك أن يودعها عند ثقة من أهل البلد ولا ضمان عليه قدر على دفعها إلى الحاكم أو لم يقدر. واختلف في ذلك أصحاب الشافعي، فمنهم من يقول: إن أودعها لغير الحاكم ضمن. وقبول الوديعة عند مالك لا يجب في حال، ومن العلماء من يرى أنه واجب إذا لم يجد المودع من يودعها عنده، ولا أجر للمودع عنده على حفظ الوديعة، وما تحتاج إليه من مسكن أو نفقة فعلى ربها. واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور، وهو فيمن أودع مالا فتعدى فيه واتجر به فربح فيه، هل ذلك الربح حلال له أم لا؟ فقال مالك والليث وأبو يوسف وجماعة: إذا رد المال طاب له الربح وإن كان غاصبا للمال فضلا عن أن يكون مستودعا عنده؛ وقال أبو حنيفة وزفر ومحمد بن الحسن: يؤدي الأصل ويتصدق بالربح؛ وقال قوم: لرب الوديعة الأصل والربح؛ وقال قوم: هو مخير بين الأصل والربح؛ وقال قوم: البيع الواقع في تلك التجارة فاسد، وهؤلاء هم الذين أوجبوا التصدق بالربح إذا مات. فمن اعتبر التصرف قال: الربح للمتصرف؛ ومن اعتبر الأصل قال: الربح لصاحب المال. ولذلك لما أمر عمر رضي الله عنه ابنيه عبد الله وعبيد الله أن يصرفا المال الذي أسلفهما أبو موسى الأشعري من بيت المال، فتجروا فيه فربحا، قيل له: لو جعلته قراضا، فأجاب إلى ذلك، لأنه قد روي أنه قد حصل للعامل جزء ولصاحب المال جزء، وأن ذلك عدل.
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-والنظر في العارية في أركانها وأحكامها. وأركانها خمسة: الإعارة، والمعير، والمستعير، والمعار، والصيغة. أما الإعارة فهي فعل محير ومندوب إليه، وقد شدد فيها قوم من السلف الأول. روي عن عبد الله بن عباس وعبد الله ابن مسعود أنهما قالا في قوله تعالى
واتفقوا في الإجارة على أنها غير مضمونة: أعني الشافعي وأبا حنيفة ومالكا، ويلزم الشافعي إذا سلم أنه لا ضمان عليه في الإجارة أن لا يكون ضمان في العارية إن سلم أن سبب الضمان هو الانتفاع، لأنه إذا لم يضمن حيث قبض لمنفعتهما فأحرى أن لا يضمن حيث قبض لمنفعته إذا كانت منفعة الدافع مؤثرة في إسقاط الضمان. واختلفوا إذا شرط الضمان، فقال قوم: يضمن؛ وقال قوم: لا يضمن، والشرط باطل؛ ويجئ على قول مالك إذا اشترط الضمان في الموضع الذي لا يجب فيه عليه الضمان أن يلزم إجارة المثل في استعماله العارية لأن الشرط يخرج العارية عن حكم العارية إلى باب الإجارة الفاسدة إذا كان صاحبها لم يرض أن يعيرها إلا بأن يخرجها في ضمانه، فهو عوض مجهول فيجب أن يرد إلى معلوم. واختلف عن مالك والشافعي إذا غرس المستعير وبنى ثم انقضت المدة التي استعار إليها، فقال مالك: المالك بالخيار إن شاء أخذ المستعير بقلع غراسته وبنائه، وإن شاء أعطاه قيمته مقلوعا إذا كان مما له قيمة بعد القلع، وسواء عند مالك انقضت المدة المحدودة بالشرط أو بالعرف أو العادة؛ وقال الشافعي: إذا لم يشترط عليه القلع فليس له مطالبته بالقلع، بل يخير المعير بأن يبقيه بأجر يعطاه، أو ينقض بأرش، أو يتملك ببدل، فأيهما أراد المعير أجبر عليه المستعير، فإن أبى كلف تفريغ الملك. وفي جواز بيعته للنقض عنده خلاف، لأنه معرض للنقض، فرأى الشافعي أن آخذه المستعير بالقلع دون أرش هو ظلم؛ ورأى مالك أن عليه إخلاء المحل، وأن العرف في ذلك يتنزل منزلة الشروط، وعند مالك أنه إن استعمل العارية استعمالا ينقصها عن الاستعمال المأذون فيه ضمن ما نقصها بالاستعمال. واختلفوا من هذا الباب في الرجل يسأل جاره أن يعيره جداره ليغرز فيه خشبة لمنفعة ولا تضر صاحب الجدار وبالجملة في كل ما ينتفع به المستعير ولا ضرر على المعير فيه، فقال مالك وأبو حنيفة: لا يقضي عليه به إذ العارية لا يقضى بها، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وجماعة أهل الحديث: يقضى بذلك، وحجتهم ما خرجه مالك عن ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره" ثم يقول أبي هريرة: مالي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم.
واحتجوا أيضا بما رواه مالك عن عمر بن الخطاب أن الضحاك بن قيس ساق خليجا له من العريض، فأرادوا أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فأبى محمد، فقال له الضحاك: أنت تمنعني وهو لك منفعة، تسقي منه أولا وآخرا ولا يضرك؟ فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، قال محمد: لا، فقال عمر: لا تمنع أخاك ما ينفعه ولا يضرك، فقال محمد: لا، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به، ففعل الضحاك. وكذلك حديث عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال: كان في حائط جدي ربيع لعبد الرحمن بن عوف، فأراد أن يحوله إلى ناحية من الحائط، فمنعه صاحب الحائط، فكلم عمر بن الخطاب، فقضى لعبد الرحمن بن عوف بتحويله وقد عذل الشافعي مالكا لإدخاله هذه الأحاديث في موطئه، وتركه الأخذ بها. وعمدة مالك وأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه" وعند الغير أن عموم هذا مخصص بهذه الأحاديث، وبخاصة حديث أبي هريرة. وعند مالك أنها محمولة على الندب، وأنه إذا أمكن أن تكون مختصة وأن تكون على الندب فحملها على الندب أولى، لأن بناء العام على الخاص إنما يجب إذا لم يمكن بينهما جمع ووقع التعارض. وروى أصبغ عن ابن القاسم: أنه لا يؤخذ بقضاء عمر على محمد بن مسلمة في الخليج، ويؤخذ بقضائه لعبد الرحمن بن عوف في تحويل الربيع، وذلك أنه رأى أن تحويل الربيع أيسر من أن يمر عليه بطريق لم يكن قبل، وهذا القدر كاف بحسب غرضنا.
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
-وفيه بابان: الأول: في الضمان، وفيه ثلاثة أركان: الأول: الموجب للضمان. والثاني: ما فيه الضمان. والثالث: الواجب. وأما الباب الثاني: فهو في الطوارئ على المغصوب.
-(
-(
-(
-والطوارئ على المغصوب إما بزيادة وإما بنقصان، وهذان إما من قبل المخلوق، وإما من قبل الخالق. فأما النقصان الذي يكون بأمر من السماء فإنه ليس له إلا أن يأخذه ناقصا، أو يضمنه قيمته يوم الغصب؛ وقيل إن له أن يأخذ ويضمن الغاصب قيمة العيب. وأما إن كان النقص بجناية الغاصب فالمغصوب مخير في المذهب بين أن يضمنه القيمة يوم الغصب أو يأخذه، وما نقصته الجناية يوم الجناية عند ابن القاسم وعند سحنون ما نقصته الجناية يوم الغصب؛ وذهب أشهب إلى أنه مخير بين أن يضمنه القيمة أو يأخذه ناقصا، ولا شيء له في الجناية كالذي يصاب بأمر من السماء، وإليه ذهب ابن المواز. والسبب في هذا الاختلاف أن من جعل المغصوب مضمونا على الغاصب بالقيمة يوم الغصب جعل ما حدث فيه من نماء أو نقصان، كأنه حدث في ملك صحيح، فأوجب له الغلة ولم يوجب عليه في النقصان شيئا سواء كان من سببه أو من عند الله، وهو قياس قول أبي حنيفة. وبالجملة فقياس قول من يضمنه قيمته يوم الغصب فقط. ومن جعل المغصوب مضمونا على الغاصب بقيمته في كل أوان كانت يده عليه آخذة بأرفع القيم، وأوجب عليه رد الغلة وضمان النقصان، سواء كان من فعله أو من عند الله، وهو قول الشافعي أو قياس قوله. ومن فرق بين الجناية التي تكون من الغاصب، وبين الجناية التي تكون بأمر من السماء، وهو مشهور مذهب مالك؛ وابن القاسم فعمدته قياس الشبه، لأنه رأى أن جناية الغاصب على الشيء الذي غصبه هو غصب ثان متكرر منه، كما لو جنى عليه وهو في ملك صاحبه، فهذا هو نكتة الاختلاف في هذا الباب فقف عليه.
وأما إن كانت الجناية عند الغاصب من غير فعل الغاصب، فالمغصوب مخير بين أن يضمن الغاصب القيمة يوم الغصب ويتبع الغاصب الجاني، وبين أن يترك الغاصب ويتبع الجاني بحكم الجنايات، فهذا حكم الجنايات على العين في يد الغاصب. وأما الجناية على العين من غير أن يغصبها غاصب، فإنها تنقسم عند مالك إلى قسمين: جناية تبطل يسيرا من المنفعة، والمقصود من الشيء باق، فهذا يجب فيه ما نقص يوم الجناية، وذلك بأن يقوم صحيحا ويقوم بالجناية، فيعطي ما بين القيمتين. وأما إن كانت الجناية مما تبطل الغرض المقصود، فإن صاحبه يكون مخيرا إن شاء أسلمه للجاني وأخذ قيمته، وإن شاء أخذ قيمة الجناية؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: ليس له إلا قيمة الجناية. وسبب الاختلاف الالتفات إلى الحمل على الغاصب، وتشبيه إتلاف أكثر المنفعة بإتلاف العين. وأما النماء فإنه على قسمين: أحدهما أن يكون بفعل الله كالصغير يكبر والمهزول يسمن والعيب يذهب. والثاني أن يكون مما أحدثه الغاصب. فأما الأول فإنه ليس بفوت. وأما النماء بما أحدثه الغاصب في الشيء المغصوب فإنه ينقسم فيما رواه ابن القاسم عن مالك إلى قسمين: أحدهما أن يكون قد جعل فيه من ماله ما له عين قائمة كالصبغ في الثوب والنقش في البناء وما أشبه ذلك. والثاني أن لا يكون قد جعل فيه من ماله سوى العمل كالخياطة والنسج وطحن الحنطة والخشبة يعمل منها توابيت. فأما الوجه الأول، وهو أن يجعل فيه من ماله ما له عين قائمة، فإنه ينقسم إلى قسمين: أحدهما أن يكون ذلك الشيء مما يمكنه إعادته على حاله كالبقعة يبنيها وما أشبه ذلك. والثاني أن لا يقدر على إعادته كالثوب يصبغه والسويق يلته فأما الوجه الأول فالمغصوب منه مخير بين أن يأمر الغاصب بإعادة البقعة على حالها وإزالة ماله فيها مما جعله من نقض أو غيره، وبين أن يعطي الغاصب قيمة ماله فيها من النقض مقلوعا بعد حط أجر القلع، وهذا إذا كان الغاصب ممن لا يتولى ذلك بنفسه ولا بغيره، وإنما يستأجر عليه؛ وقيل إنه لا يحط من ذلك أجر القلع، هذا إن كانت له قيمة، وأما إن لم تكن له قيمة لم يكن للغاصب على المغصوب فيه شيء، لأن من حق المغصوب أن يعيد له الغاصب ما غصب منه على هيئته، فإن لم يطالبه بذلك لم يكن له مقال.
وأما الوجه الثاني فهو فيه مخير بين أن يدفع قيمة الصبغ وما أشبهه ويأخذ ثوبه وبين أن يضمنه قيمة الثوب يوم غصبه، إلا في السويق الذي يلته في السمن وما أشبه ذلك من الطعام، فلا يخير فيه لما يدخله من الربا ويكون ذلك فوتا يلزم الغاصب فيه المثل، أو القيمة فيما لا مثل له. وأما الوجه الثاني من التقسيم الأول، وهو أن لا يكون أحدث الغاصب فيما أحدثه في الشيء المغصوب سوى العمل، فإن ذلك أيضا ينقسم قسمين: أحدهما أن يكون ذلك يسيرا لا ينتقل به الشيء عن اسمه بمنزلة الخياطة في الثوب أو الرفولة ["الرفولة": الأصل غير واضح، فليتنبه. دار الحديث.] والثاني أن يكون العمل كثيرا ينتقل به الشيء المغصوب عن اسمه كالخشبة يعمل منها تابوتا والقمح يطحنه والغزل ينسجه والفضة يصوغها حليا أو دراهم فأما الوجه الأول فلا حق فيه للغاصب، ويأخذ المغصوب منه الشيء المغصوب معمولا، وأما الوجه الثاني فهو فوت يلزم الغاصب قيمة الشيء المغصوب يوم غصبه أو مثله فيما له مثل هذا تفصيل مذهب ابن القاسم في هذا المعنى؛ وأشهب يجعل ذلك كله للمغصوب، أصله مسألة البنيان فيقول: إنه لا حق للغاصب فيما لا يقدر على أخذه من الصبغ والرفو والنسج والدباغ والطحين.
وقد روي عن ابن عباس أن الصبغ تفويت يلزم الغاصب فيه القيمة يوم الغصب، وقد قيل إنهما يكونان شريكين، هذا بقيمة الصبغ، وهذا بقيمة الثوب إن أبى رب الثوب أن يدفع قيمة الصبغ، وإن أبى الغاصب أن يدفع قيمة الثوب، وهذا القول أنكره ابن القاسم في المدونة في كتاب اللقطة وقال: إن الشركة لا تكون إلا فيما كان بوجه شبهة جلية. وقول الشافعي في الصبغ مثل قول ابن القاسم إلا أنه يجيز الشركة بينهما ويقول: إنه يؤمر الغاصب بقلب الصبغ إن أمكنه وإن نقص الثوب، ويضمن للمغصوب مقدار النقصان، وأصول الشرع تقتضي أن لا يستحل ماله الغاصب من أجل غصبه، وسواء كان منفعة أو عينا، إلا أن يحتج محتج بقوله عليه الصلاة والسلام "ليس لعرق ظالم حق" لكن هذا مجمل، ومفهومه الأول أنه ليس له منفعة متولدة بين ماله وبين الشيء الذي غصبه، أعني ماله المتعلق بالمغصوب، فهذا هو حكم الواجب في عين المغصوب تغير أو لم يتغير. وأما حكم غلته، فاختلف في ذلك في المذهب على قولين: أحدهما أن حكم الغلة حكم الشيء المغصوب، والثاني أن حكمهما بخلاف الشيء المغصوب؛ فمن ذهب إلى أن حكمهما حكم الشيء المغصوب وبه قال أشهب من أصحاب مالك يقول: إنما تلزمه الغلة يوم قبضها أو أكثر مما انتهت إليه بقيمتها على قول من يرى أن الغاصب يلزمه أرفع القيم من يوم غصبها لا قيمة الشيء المغصوب يوم الغصب.
وأما الذين ذهبوا إلى أن حكم الغلة بخلاف حكم الشيء المغصوب، فاختلفوا في حكمها اختلافا كثيرا بعد اتفاقهم على أنها إن تلفت ببينة أنه لا ضمان على الغاصب، وأنه إن ادعى تلفها لم يصدق وإن كان مما لا يغاب عليه. وتحصيل مذهب هؤلاء في حكم الغلة هو أن الغلال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها غلة متولدة عن الشيء المغصوب على نوعه وخلقته وهو الولد، وغلة متولدة عن الشيء لا على صورته، وهو مثل الثمر ولبن الماشية وجبنها وصوفها، وغلال غير متولدة بل هي منافع، وهي الأكرية والخراجات وما أشبه ذلك. فأما ما كان على خلقته وصورته فلا خلاف أعلمه أن الغاصب يرده كالولد مع الأم المغصوبة وإن كان ولد الغاصب. وإنما اختلفوا في ذلك إذا ماتت الأم، فقال مالك: هو مخير بين الولد وقيمة الأم؛ وقال الشافعي: بل يرد الولد وقيمة الأم وهو القياس. وأما إن كان متولدا على غير خلقة الأصل وصورته ففيه قولان: أحدهما أن للغاصب ذلك المتولد. والثاني أنه يلزمه رده مع الشيء المغصوب إن كان قائما أو قيمتها إن ادعى تلفها ولم يعرف ذلك إلا من قوله، فإن تلف الشيء المغصوب كان مخيرا بين أن يضمنه بقيمته ولا شيء له في الغلة، وبين أن يأخذه بالغلة ولا شيء له من القيمة. وأما ما كان غير متولد، فاختلفوا فيه على خمسة أقوال: أحدها أنه لا يلزمه رده جملة من غير تفصيل. والثاني أنه يلزمه رده من غير تفصيل أيضا. والثالث أنه يلزمه الرد إن أكرى، ولا يلزمه الرد إن انتفع أو عطل. والرابع يلزمه إن أكرى أو انتفع. ولا يلزمه إن عطل.
والخامس الفرق بين الحيوان والأصول، أعني أنه يرد قيمة منافع الأصول، ولا يرد قيمة منافع الحيوان، وهذا كله فيما اغتل من العين المغصوبة مع عينها وقيامها. وأما من ما اغتل منها بتصريفها وتحويل عينها كالدنانير فيغتصبها فيتجر بها فيربح، فالغلة قولا واحدا في المذهب؛ وقال قوم: الربح للمغصوب وهذا أيضا إذا قصد غصب الأصل. وأما إذا قصد غصب الغلة دون الأصل فهو ضامن للغلة بإطلاق، ولا خلاف في ذلك سواء عطل أو انتفع أو أكرى، كان مما يزال به أو بما لا يزال به؛ وقال أبو حنيفة: إنه من تعدى على دابة رجل فركبها أو حمل عليها فلا كراء عليه في ركوبه إياها ولا في حمله، لأنه ضامن لها إن تلفت في تعديه، وهذا قوله في كل ما ينقل ويحول، فإنه لما رأى أنه قد ضمنه بالتعدي وصار في ذمته جازت له المنفعة كما تقول المالكية فيما تجر به من المال المغصوب، وإن كان الفرق بينهما أن الذي تجر به تحولت عينه، وهذا لم تتحول عينه. وسبب اختلافهم في هل يرد الغاصب الغلة أو لا يردها اختلافهم في تعميم قوله عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان" وقوله عليه الصلاة والسلام "ليس لعرق ظالم حق" وذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام هذا خرج على سبب، وهو في غلام قيم فيه بعيب، فأراد الذي صرف عليه أن يرد المشتري غلته، وإذا خرج العام على سبب هل يقصر على سببه أم يحمل على عمومه؟ فيه خلاف بين فقهاء الأمصار مشهور، فمن قصر ههنا هذا الحكم على سببه قال: إنما تجب الغلة من قبل الضمان فيما صار إلى الإنسان بشبهة، مثل أن يشتري شيئا فيستغله فيستحق منه. وأما ما صار إليه بغير وجه شبهة فلا تجوز له الغلة لأنه ظالم، وليس لعرق ظالم حق، فعمم هذا الحديث في الأصل والغلة: أعني عموم هذا الحديث وخصص الثاني. وأما من عكس الأمر فعمم قوله عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان" على أكثر من السبب الذي خرج عليه، وخصص قوله عليه الصلاة والسلام "ليس لعرق ظالم حق" بأن جعل ذلك في الرقبة دون الغلة قال: لا يرد الغلة الغاصب.
وأما من المعنى كما تقدم من قولنا فالقياس أن تجري المنافع والأعيان المتولدة مجرى واحدا، وأن يعتبر التضمن أو لا يعتبر. وأما سائر الأقاويل التي بين هذين فهي استحسان. وأجمع العلماء على أن من اغترس نخلا أو ثمرا بالجملة ونباتا في غير أرضه أنه يؤمر بالقلع لما ثبت من حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق" والعرق الظالم عندهم هو ما اغترس في أرض الغير. وروى أبو داود في هذا الحديث زيادة عن عروة: ولقد حدثني الذي حدثني هذا الحديث "أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخلة منها" قال: فلقد رأيتها وإنما لتضرب أصولها بالفؤوس وإنها لنخل عم حتى أخرجت منها، إلا ما روي في المشهور عن مالك "أن من زرع زرعا في أرض غيره وفات أوان زراعته لم يكن لصاحب الأرض أن يقلع زرعه، وكان على الزراع كراء الأرض. وقد روي عنه ما يشبه قياس قول الجمهور، وعلى قوله: إن كل ما لا ينتفع الغاصب به إذا قلعه وأزاله أنه للمغصوب يكون الزرع على هذا للزارع. وفرق قوم بين الزرع والثمار فقالوا: الزارع في أرض غيره له نفقته وزريعته، وهو قول كثير من أهل المدينة، وبه قال أبو عبيد وروي عن رافع بن خديج أنه قال عليه الصلاة والسلام "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فله نفقته وليس له من الزرع شيء". واختلف العلماء في القضاء فيما أفسدته المواشي والدواب على أربعة أقوال: أحدها أن كل دابة مرسلة فصاحبها ضامن لما أفسدته. والثاني أن لا ضمان عليه. والثالث أن الضمان على أرباب البهائم بالليل، ولا ضمان عليهم فيما أفسدته بالنهار.
والرابع وجوب الضمان في غير المنفلت ولا ضمان في المنفلت، وممن قال: يضمن بالليل ولا يضمن بالنهار مالك والشافعي؛ وبأن لا ضمان عليهم أصلا قال أبو حنيفة وأصحابه؛ وبالضمان بإطلاق قال الليث، إلا أن الليث قال: لا يضمن أكثر من قيمة الماشية، والقول الرابع مروي عن عمر رضي الله عنه. فعمدة مالك والشافعي في هذا الباب شيئان: أحدهما قوله تعالى
-والطوارئ على المغصوب إما بزيادة وإما بنقصان
ومن مسائل هذا الباب المشهورة اختلافهم في حكم ما يصاب من أعضاء الحيوان، فروي عن عمر بن الخطاب أنه قضى في عين الدابة بربع ثمنها، وكتب إلى شريح فأمره بذلك، وبه قال الكوفيون، وقضى به عمر بن عبد العزيز؛ وقال الشافعي ومالك: يلزم فيما أصيب من البهيمة ما نقص في ثمنها قياسا على التعدي في الأموال؛ والكوفيون اعتمدوا في ذلك على قول عمر رضي الله عنه وقالوا: إذا قال الصاحب قولا ولا مخالف له من الصحابة وقوله مع هذا مخالف للقياس وجب العمل به لأنه يعلم أنه إنما صار إلى القول به من جهة التوقيف، فسبب الخلاف إذا معارضة القياس لقول الصاحب. ومن هذا الباب اختلافهم في الجمل الصئول وما أشبهه يخاف الرجل على نفسه فيقتله، هل يجب عليه غرمه أم لا؟ فقال مالك والشافعي: لا غرم عليه إذا بان أنه خافه على نفسه؛ وقال أبو حنيفة والثوري: يضمن قيمته على كل حال. وعمدة من لم ير الضمان القياس على من قصد رجلا فأراد قتله، فدافع المقصود عن نفسه فقتل في المدافعة القاصد المتعدي أنه ليس عليه قود، وإذا كان ذلك في النفس كان في المال أحرى، لأن النفس أعظم حرمة من المال، وقياسا أيضا على إهدار دم الصيد الحرمي إذا صال وتمسك به حذاق أصحاب الشافعي. وعمدة أبي حنيفة أن الأموال تضمن بالضرورة إليها، أصله المضطر إلى طعام الغير ولا حرمة للبعير من جهة ما هو ذو نفس. ومن هذا الباب اختلافهم في المكرهة على الزنى، هل على مكرهها مع الحد صداق أم لا؟ فقال مالك والشافعي والليث: عليه الصداق والحد جميعا؛ وقال أبو حنيفة والثوري: عليه الحد ولا صداق عليه، وهو قول ابن شبرمة. وعمدة مالك أنه وجب عليه حقان: حق لله وحق للآدمي، فلم يسقط أحدهما الآخر، أصله السرقة التي يجب بها عندهم غرم المال والقطع. وأما من لم يوجب الصداق، فتعلق في ذلك بمعنيين: أحدهما أنه إذا اجتمع حقان: حق لله وحق للمخلوق سقط حق المخلوق لحق الله، وهذا على رأي الكوفيين في أنه لا يجمع على السارق غرم وقطع. والمعنى الثاني أن الصداق ليس مقابل البضع، وإنما هو عبادة إذ كان النكاح شرعيا، وإذا كان ذلك كذلك فلا صداق في النكاح الذي على غير الشرع. ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب من غصب أسطوانة فبنى عليها بناء يساوي قائما أضعاف قيمة الأسطوانة، فقال مالك والشافعي: يحكم على الغاصب بالهدم ويأخذ المغصوب منه أسطونته؛ وقال أبو حنيفة: تفوت بالقيمة كقول مالك فيمن غير المغصوب بصناعة لها قيمة كثيرة؛ وعند الشافعي لا يفوت المغصوب بشيء من الزيادة. وهنا انقضى هذا الكتاب.
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-وجل النظر في هذا الكتاب هو في أحكام الاستحقاق، وتحصيل أصول هذا الكتاب أن الشيء المستحق من يد إنسان بما تثبت به الإشياء في الشرع لمستحقها إذا صار إلى ذلك الإنسان الذي استحق من يده الشيء المستحق بشراء أنه لا يخلو من أن يستحق من ذلك الشيء أقله أو كله أو جله، ثم إذا استحق منه كله أو جله فلا يخلو أن يكون قد تغير عند الذي هو بيده بزيادة أو نقصان أو يكون لم يتغير، ثم لا يخلو أيضا أن يكون المستحق منه قد اشتراه بثمن أو مثمون. فأما إن كان استحق منه أقله، فإنه إنما يرجع عند مالك على الذي اشتراه منه بقيمة ما استحق من يده، وليس له أن يرجع بالجميع. وأما إن كان استحق كله أو جله، فإن كان لم يتغير أخذه المستحق ورجع المستحق من يده على الذي اشتراه منه بثمن ما اشتراه منه إن كان اشتراه بثمن، وإن كان اشتراه بالمثمون رجع بالمثمون بعينه إن كان لم يتغير، فإن تغير تغيرا يوجب اختلاف قيمته رجع بقيمته يوم الشراء، وإن كان المال المستحق قد بيع، فإن للمستحق أن يمضي البيع ويأخذ الثمن أو يأخذه بعينه، فهذا هو حكم المستحق والمستحق من يده ما لم يتغير الشيء المستحق، فإن تغير الشيء المستحق فلا يخلو أن يتغير بزيادة أو نقصان. فأما إن كان تغير بزيادة فلا يخلو أن يتغير بزيادة من قبل الذي استحق من يده الشيء، أو بزيادة من ذات الشيء. فأما الزيادة من ذات الشيء فيأخذها المستحق، مثل أن تسمن الجارية أو يكبر الغلام. وأما الزيادة من قبل المستحق منه، فمثل أن يشتري الدار فبنى فيها فتستحق من يده، فإنه مخير بين أن يدفع قيمة الزيادة ويأخذ ما استحقه وبين أن يدفع إليه المستحق من يده قيمة ما استحق أو يكونا شريكين، هذا بقدر قيمة ما استحق من يده، وهذا بقدر قيمة ما بنى أو غرس، وهو قضاء عمر بن الخطاب. وأما إن كانت الزيادة ولادة من قبل المستحق منه، مثل أن يشتري أمة فيولدها ثم تستحق منه أو يزوجها على أنها حرة فتخرج أمة، فإنهم اتفقوا على أن المستحق ليس له أن يأخذ أعيان الولد، واختلفوا في أخذ قيمتهم. وأما الأم فقيل يأخذها بعينها، وقيل يأخذ قيمتها. وأما إن كان الولد بنكاح فاستحقت بعبودية فلا خلاف أن لسيدها أن يأخذها ويرجع الزوج بالصداق على من غره، وإذا ألزمناه قيمة الولد لم يرجع بذلك على من غره، لأن الغرر لم يتعلق بالولد. وأما غلة الشيء المستحق، فإنه إذا كان ضامنا بشبهة ملك فلا خلاف أن الغلة للمستحق منه، وأعني بالضمان أنها تكون من خسارته إذا هلكت عنده. وأما إذا كان غير ضامن، مثل أن يكون وارثا فيطرأ عليه وارث آخر فيستحق بعض ما في يده فإنه يرد الغلة. وأما إن كان غير ضامن إلا أنه ادعى في ذلك ثمنا مثل العبد يستحق بحرية، فإنه وإن هلك عنده يرجع بالثمن ففيه قولان: أنه لا يضمن إذا لم يجد على من يرجع، ويضمن إذا وجد على من يرجع. وأما من أي وقت تصح الغلة للمستحق؟ فقيل يوم الحكم، وقيل من يوم ثبوت الحق، وقيل من يوم توقيفه. وإذا قلنا إن الغلة تجب للمستحق في أحد هذه الأوقات الثلاثة فإذا كانت أصولا فيها ثمرة فأدرك هذا الوقت الثمر ولم يقطف بعده، فقيل إنها للمستحق ما لم تقطف، وقيل ما لم تيبس، وقيل ما لم يطب ويرجع عليه بما سقى وعالج المستحق من يديه، وهذا إن كان اشترى الأصول قبل الإبار. وأما إن كان اشتراها بعد الإبار فالثمرة للمستحق عند ابن القاسم إن جذت ويرجع بالسقي والعلاج؛ وقال أشهب: هي للمستحق ما لم تجذ. والأرض إذا استحقت، فالكراء إنما هو للمستحق إن وقع الاستحقاق في إبان زريعة الأرض. وأما إذا خرج الإبان فقد وجب كراء الأرض للمستحق منه. وأما إن كان بغير نقصان، فإن كان من غير سبب المستحق من يديه فلا شيء على المستحق من يديه. وأما إن كان أخذ له ثمنا مثل أن يهدم الدار فيبيع نقضها ثم يستحقها من يده رجل آخر، فإنه يرجع عليه بثمن ما باع من النقض. قال القاضي: ولم أجد في هذا الباب خلافا يعتمد عليه فيما نقلته فيه من مذهب مالك وأصحابه، وهي أصولهم في هذا الباب، ولكن يجيء على أصول الغير أنه إذا كان المستحق مشتري بعرض، وكان العرض قد ذهب أن يرجع المستحق من يده بعرض مثله لا بقيمته، وهم الذين يرون في جميع المتلفات المثل؛ وكذلك يجيء على أصول الغير أن يرجع على المشتري إذا استحق منه قليل أو كثير، لأنه لم يدخل على الباقي ولا انعقد عليه بيع ولا وقع به تراض. كمل كتاب الاستحقاق بحمد الله.
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-والنظر في الهبة: في أركانها، وفي شروطها، وفي أنواعها، وفي أحكامها. ونحن إنما نذكر من هذه الأجناس ما فيها من المسائل المشهورة.
-فنقول: أما الأركان فهي ثلاثة: الواهب والموهوب له، والهبة. وأما الواهب فإنهم اتفقوا على أنه تجوز هبته إذا كان مالكا للموهوب صحيح الملك، وذلك إذا كان في حال الصحة وحال إطلاق اليد. واختلفوا في حال المرض وفي حال السفه والفلس. أما المريض فقال الجمهور: إنها في ثلثه تشبيها بالوصية، أعني الهبة التامة بشروطها. وقالت طائفة من السلف وجماعة أهل الظاهر: أن هبته تخرج من رأس ماله إذا مات، ولا خلاف بينهم أنه إذا صح من مرضه أن الهبة صحيحة. وعمدة الجمهور حديث عمران بن حصين عن النبي عليه الصلاة والسلام "في الذي أعتق ستة أعبد عند موته، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتق ثلثهم وأرق الباقي" وعمدة أهل الظاهر استصحاب الحال: أعني حال الإجماع، وذلك أنهم لما اتفقوا على جواز هبته في الصحة وجب استصحاب حكم الإجماع في المرض إلا أن يدل دليل من كتاب أو سنة بينة، والحديث عندهم محمول على الوصية، والأمراض التي يحجز فيها عند الجمهور هي الأمراض المخوفة، وكذلك عند مالك الحالات المخوفة، مثل الكون بين الصفين، وقرب الحامل من الوضع، وراكب البحر المرتج، وفيه اختلاف. وأما الأرض المزمنة فليس عندهم فيها تحجير، وقد تقدم هذا في كتاب الحجر. وأما السفهاء والمفلسون فلا خلاف عند من يقول بالحجر عليهم أن هبتهم غير ماضية. وأما الموهوب فكل شيء صح ملكه. واتفقوا على أن للإنسان أن يهب جميع ماله للأجنبي.
واختلفوا في تفضيل الرجل بعض ولده على بعض في الهبة، أو في هبة جميع ماله لبعضهم دون البعض، فقال جمهور فقهاء الأمصار بكراهية ذلك له، ولكن إذا وقع عندهم جاز؛ وقال أهل الظاهر: لا يجوز التفضيل فضلا عن أن يهب بعضهم جميع ماله؛ وقال مالك يجوز التفضيل ولا يجوز أن يهب بعضهم جميع المال دون بعض. ودليل أهل الظاهر حديث النعمان بن بشير، وهو حديث متفق على صحته، وإن كان قد اختلف في ألفاظه، والحديث أنه قال "إن أباه بشيرا أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فارتجعه" واتفق مالك والبخاري ومسلم على هذا اللفظ، قالوا: والارتجاع يقتضي بطلان الهبة. وفي بعض ألفاظ روايات هذا الحديث أنه قال عليه الصلاة والسلام "هذا جور". وعمدة الجمهور أن الإجماع منعقد على أن للرجل أن يهب في صحته جميع ماله للأجانب دون أولاده، فإذا كان ذلك للأجنبي فهو للولد أحرى. واحتجوا بحديث أبي بكر المشهور أنه كان نحل عائشة جذاذ وعشرين وسقا من مال الغابة فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك، ولا أعز علي فقرا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا فلو كنت جذذتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هواليوم مال وارث. قالوا: وذلك الحديث المراد به الندب، والدليل على ذلك أن في بعض رواياته: "ألست تريد أن يكونوا لك في البر واللطف سواء؟ قال: نعم، قال: فأشهد على هذا غيري".
وأما مالك فإنه رأى أن النهي عن أن يهب الرجل جميع ماله لواحد من ولده هو أحرى أن يحمل على الوجوب، فأوجب عنده مفهوم هذا الحديث النهي عن أن يخص الرجل بعض أولاده بجميع ماله. فسبب الخلاف في هذه المسألة معارضة القياس للفظ النهي الوارد، وذلك أن النهي يقتضي عند الأكثر بصيغته التحريم، كما يقتضي الأمر الوجوب؛ فمن ذهب إلى الجمع بين السماع والقياس حمل الحديث على الندب، أو خصصه في بعض الصور كما فعل مالك، ولا خلاف عند القائلين بالقياس أنه يجوز تخصيص عموم السنة بالقياس، وكذلك العدول بها عن ظاهرها أعني أن يعدل بلفظ النهي عن مفهوم الحظر إلى مفهوم الكراهية. وأما أهل الظاهر فلما لم يجز عندهم القياس في الشرع اعتمدوا ظاهر الحديث وقالوا: بتحريم التفضيل في الهبة. واختلفوا من هذا الباب في جواز هبة المشاع غير المقسوم، فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور: تصح؛ وقال أبو حنيفة: لا تصح. وعمدة الجماعة أن القبض فيها يصح كالقبض في البيع. وعمدة أبي حنيفة أن القبض فيها لا يصح إلا مفردة كالرهن، ولا خلاف في المذهب في جواز هبة المجهول والمعدوم المتوقع الوجود، وبالجملة كل ما لا يصح بيعه في الشرع من جهة الغرر؛ وقال الشافعي: ما جاز بيعه جازت هبته كالدين، وما لم يجز بيعه لم تجز هبته، وكل ما لا يصح قبضه عند الشافعي لا تصح هبته كالدين والرهن، وأما الهبة فلا بد من الإيجاب فيها والقبول عند الجميع. ومن شرط الموهوب له أن يكون ممن يصح قبوله وقبضه. وأما الشروط فأشهرها القبض، أعني أن العلماء اختلفوا هل القبض شرط في صحة العقد أم لا؟ فاتفق الثوري والشافعي وأبو حنيفة أن من شرط صحة الهبة القبض، وأنه إذا لم يقبض لم يلزم الواهب؛ وقال مالك: ينعقد بالقبول ويجبر على القبض كالبيع سواء، فإن تأنى الموهوب له عن طلب القبض حتى أفلس الواهب أو مرض بطلت الهبة، وله إذا باع تفصيل إن علم فتوانى لم يكن له إلا الثمن، وإن قام في الفور كان له الموهوب.
فمالك: القبض عنده في الهبة من شروط التمام لا من شروط الصحة، وهو عند الشافعي وأبي حنيفة من شروط الصحة. وقال أحمد وأبو ثور: تصح الهبة بالعقد، وليس القبض من شروطها أصلا، لا من شرط تمام ولا من شرط صحة، وهو قول أهل الظاهر. وقد روي عن أحمد بن حنبل أن القبض من شروطها في المكيل والموزون. فعمدة من لم يشترط القبض في الهبة تشبيهها بالبيع، وأن الأصل في العقود أن لا قبض مشترط في صحتها حتى يقوم الدليل على اشتراط القبض. وعمدة من اشترط القبض أن ذلك مروي عن أبي بكر رضي الله عنه في حديث هبته لعائشة المتقدم، وهو نص في اشتراط القبض في صحة الهبة. وما روى مالك عن عمر أيضا أنه قال: ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا ثم يمسكونها، فإن مات ابن أحدهم قال: مالي بيدي لم أعطه أحدا، وإن مات قال هو لابني قد كنت أعطيته إياه فمن نحل نحلة فلم يحزها الذي نحلها للمنحول له وأبقاها حتى تكون إن مات لورثته فهي باطلة، وهو قول علي، قالوا: وهو إجماع من الصحابة، لأنه لم ينقل عنهم في ذلك خلاف. وأما مالك فاعتمد الأمرين جميعا: أعني القياس وما روي عن الصحابة، وجمع بينهما، فمن حيث هي عقد من العقود لم يكن عنده شرطا من شروط صحتها القبض، ومن حيث شرطت الصحابة فيه القبض لسد الذريعة التي ذكرها عمر جعل القبض فيها من شرط التمام، ومن حق الموهوب له، وأنه إن تراخى حتى يفوت القبض بمرض أو إفلاس على الواهب سقط حقه. وجمهور فقهاء الأمصار على أن الأب يجوز لابنه الصغير الذي في ولاية نظره وللكبير السفيه الذي ما وهبه كما يجوز لهما ما وهبه غيره لهم، وأنه يكفي في الحيازة له إشهاده بالهبة والإعلان بذلك، وذلك كله فيما عدا الذهب والفضة وفيما لا يتعين.
والأصل في ذلك عندهم ما رواه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عثمان بن عفان قال: من نحل ابنا له صغيرا لم يبلغ أن يحوز نحلته فأعلن ذلك وأشهد عليه فهي حيازة وإن وليها؛ وقال مالك وأصحابه: لابد من الحيازة في المسكون والملبوس، فإن كانت دارا سكن فيها خرج منها، وكذلك الملبوس إن لبسه بطلت الهبة، وقالوا في سائر العروض بمثل قول الفقهاء، أعني أنه يكفي في ذلك إعلانه وإشهاده. وأما الذهب والورق فاختلفت الرواية فيه عن مالك، فروي عنه أنه لا يجوز إلا أن يخرجه الأب عن يده إلى يد غيره، وروي عنه أنه يجوز إذا جعلها في ظرف أو إناء وختم عليها بخاتم وأشهد على ذلك الشهود. ولا خلاف بين أصحاب مالك أن الوصي يقوم في ذلك مقام الأب. واختلفوا في الأم؛ فقال ابن القاسم: لا تقوم مقام الأب، ورواه عن مالك؛ وقال غيره من أصحابه: تقوم، وبه قال أبو حنيفة؛ وقال الشافعي: الجد بمنزلة الأب، والجدة عند ابن وهب أم الأم تقوم مقام الأم، والأم عنده تقوم مقام الأب.
-والهبة منها ما هي هبة عين، ومنها ما هي هبة منفعة. وهبة العين منها ما يقصد بها الثواب، ومنها ما لا يقصد بها الثواب. والتي يقصد بها الثواب منها ما يقصد بها وجه الله، ومنها ما يقصد به وجه المخلوق. فأما الهبة لغير الثواب فلا خلاف في جوازها، وإنما اختلفوا في أحكامها. وأما هبة الثواب فاختلفوا فيها؛ فأجازها مالك وأبو حنيفة؛ ومنعها الشافعي، وبه قال داود وأبو ثور. وسبب الخلاف هل هي بيع مجهول الثمن أو ليس بيعا مجهول الثمن؟ فمن رآه بيعا مجهول الثمن قال هو من نوع بيوع الغرر التي لا تجوز، ومن لم ير أنها بيع مجهول قال: يجوز وكأن مالكا جعل العرف فيها بمنزلة الشرط وهو ثواب مثلها، ولذلك اختلف القول عندهم إذا لم يرض الواهب بالثواب ما الحكم؟ فقيل تلزمه الهبة إذا أعطاه الموهوب القيمة، وقيل لا تلزمه إلا أن يرضيه، وهو قول عمر على ما سيأتي بعد، فإذا اشترط فيه الرضا فليس هنالك بيع انعقد، والأول هو المشهور عن مالك. وأما إذا ألزم القيمة فهنالك بيع انعقد، وإنما يحمل مالك الهبة على الثواب إذا اختلفوا في ذلك، وخصوصا إذا دلت قرينة الحال على ذلك مثل أن يهب الفقير للغني، أو لمن يرى أنه إنما قصد بذلك الثواب. وأما هبات المنافع فمنها ما هي مؤجلة، وهذه تسمى عارية ومنحة وما أشبه ذلك، ومنها ما يشترط فيها ما بقيت حياة الموهوب له، وهذه تسمى العمري، مثل أن يهب رجل رجلا سكنى دار حياته، وهذه اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال: أحدها أنها هبة مبتوتة: أي هبة للرقبة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وجماعة. والقول الثاني أنه ليس للمعمر فيها إلا المنفعة، فإذا مات عادت الرقبة للمعمِر أو إلى ورثته، وبه قال مالك وأصحابه، وعنده أنه إن ذكر العقب عادت إذا انقطع العقب إلى المعمِر أو إلى ورثته. والقول الثالث أنه إذا قال: هي عمري لك ولعقبك كانت الرقبة ملكا للمعمر، فإذا لم يذكر العقب عادت الرقبة بعد موت المعمر للمعمِر أو لورثته، وبه قال داود وأبو ثور وسبب الخلاف في هذا الباب اختلاف الآثار ومعارضة الشرط والعمل للأثر. أما الأثر ففي ذلك حديثان: أحدهما متفق على صحته، وهو ما رواه مالك عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها أبدا" لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث. والحديث الثاني حديث أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا معشر الأنصار أمسكوا عليكم أموالكم ولا تعمروها فمن أعمر شيئا حياته فهو له حياته ومماته" وقد روي عن جابر بلفظ آخر "لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو لورثته" فحديث أبي الزبير عن جابر مخالف لشرط المعمر. وحديث مالك عنه مخالف أيضا لشرط المعمر إلا أنه يخيل أنه أقل في المخالفة، وذلك أن ذكر العقب يوهم تبتيت العطية، فمن غلب الحديث على الشرط قال بحديث أبي الزبير عن جابر، وحديث مالك عن جابر ومن غلب الشرط قال بقول مالك؛ وأما من قال إن العمرى تعود إلى المعمر إن لم يذكر العقب، ولا تعود إن ذكر، فإنه أخذ بظاهر الحديث. وأما حديث أبي الزبير عن جابر فمختلف فيه، أعني رواية أبي الزبير عن جابر. وأما إذا أتى بلفظ الإسكان فقال: أسكنتك هذه الدار حياتك، فالجمهور على إن الإسكان عندهم أو الإخدام بخلاف العمرى وإن لفظ بالعقب، فسوى مالك بين التعمير والإسكان. وكان الحسن وعطاء وقتادة يسوون بين السكنى والتعمير في أنها لا تنصرف إلى المسكن أبدا على قول الجمهور في العمري. والحق أن الإسكان والتعمير معنى المفهوم منهما واحد، وأنه يجب أن يكون الحكم إذا صرح بالعقب مخالفا له إذا لم يصرح بذكر العقب على ما ذهب إليه أهل الظاهر.
-ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب جواز الاعتصار في الهبة، وهو الرجوع فيها. فذهب مالك وجمهور علماء المدينة أن للأب أن يعتصر ما وهبه لابنه ما لم يتزوج الابن أو لم يستحدث دينا أو بالجملة ما لم يترتب عليه حق الغير، وأن للأم أيضا أن تعتصر ما وهبت إن كان الأب حيا، وقد روي عن مالك أنها لا تعتصر؛ وقال أحمد وأهل الظاهر: لا يجوز لأحد أن يعتصر ما وهبه؛ وقال أبو حنيفة: يجوز لكل أحد أن يعتصر ما وهبه إلا ما وهب لذي رحم محرمة عليه. وأجمعوا على أن الهبة التي يراد بها الصدقة أي وجه الله أنه لا يجوز لأحد الرجوع فيها. وسبب الخلاف في هذا الباب تعارض الآثار؛ فمن لم ير الاعتصار أصلا احتج بعموم الحديث الثابت، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" ومن استثنى الأبوين احتج بحديث طاوس أنه قال عليه الصلاة والسلام "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد" وقاس الأم على الوالد؛ وقال الشافعي: لو اتصل حديث طاوس لقلت به؛ وقال غيره: قد اتصل من طريق حسين المعلم، وهو ثقة. وأما من أجاز الاعتصار إلا لذوي الرحم المحرمة، فاحتج بما رواه مالك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من وهب هبة لصلة رحم أو على جهة صدقة فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد الثواب بها فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها. وقالوا أيضا فإن الأصل أن من وهب شيئا عن غير عوض أنه لا يقضي عليه به كما لو وعد، إلا ما اتفقوا عليه من الهبة على وجه الصدقة. وجمهور العلماء على أن من تصدق على ابنه فمات الابن بعد أن حازها فإنه يرثها. وفي مرسلات مالك أن رجلا أنصاريا من الخزرج تصدق على أبويه بصدقة فهلكا فورث ابنهما المال وهو نخل، فسأل عن ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فقال: "قد أجرت في صدقتك وخذها بميراثك" وخرج أبو داود عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت "كنت قد تصدقت على أمي بوليدة، وإنها ماتت وتركت لي تلك الوليدة، فقال صلى الله عليه وسلم: وجب أجرك ورجعت إليك بالميراث" وقال أهل الظاهر: لا يجوز الاعتصار لأحد لعموم قوله عليه الصلاة والسلام لعمر "لا تشتره في الفرس الذي تصدق به، فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" والحديث متفق على صحته. قال القاضي: والرجوع في الهبة ليس من محاسن الأخلاق، والشارع عليه الصلاة والسلام إنما بعث ليتمم محاسن الأخلاق. وهذا القدر كاف في هذا الباب.
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-والنظر فيها أولا ينقسم قسمين القسم الأول: النظر في الأركان. والثاني: في الأحكام. ونحن فإنما نتكلم من هذه فيما وقع فيها من المسائل المشهورة.
-والأركان أربعة: الموصي والموصى له، والموصى به، والوصية. أما الموصي فاتفقوا على أنه كل مالك صحيح الملك، ويصح عند مالك وصية السفيه والصبي الذي يعقل القرب؛ وقال أبو حنيفة لا تجوز وصية الصبي الذي لم يبلغ، وعن الشافعي القولان وكذلك وصية الكافر تصح عندهم إذا لم يوص بمحرم. وأما الموصى له فإنهم اتفقوا على أن الوصية لا تجوز لوارث لقوله عليه الصلاة والسلام "لا وصية لوارث" واختلفوا هل تجوز لغير القرابة؟ فقال جمهور العلماء: إنها تجوز لغير الأقربين مع الكراهية، وقال الحسن وطاوس: ترد الوصية على القرابة، وبه قال إسحق، وحجة هؤلاء ظاهر قوله تعالى
-أما جنسه فإنهم اتفقوا على جواز الوصية في الرقاب، واختلفوا في المنافع فقال جمهور فقهاء الأمصار: ذلك جائز؛ وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأهل الظاهر: الوصية بالمنافع باطلة. وعمدة الجمهور أن المنافع في معنى الأموال. وعمدة الطائفة الثانية أن المنافع متنقلة إلى ملك الوارث، لأن الميت لا ملك له فلا تصح له وصية بما يوجد في ملك غيره، وإلى هذا القول ذهب أبو عمر بن عبد البر. وأما القدر فإن العلماء اتفقوا على أنه لا تجوز الوصية في أكثر من الثلث لمن ترك ورثة. واختلفوا فيمن لم يترك ورثة وفي القدر المستحب منها، هل هو الثلث أو دونه؟ وإنما صار الجميع إلى أن الوصية لا تجوز في أكثر من الثلث لمن له وارث بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم "أنه عاد سعد بن أبي وقاص فقال له يا رسول الله: قد بلغ مني الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ، فقال له سعد: فالشطر؟ قال: لا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" فصار الناس لمكان هذا الحديث إلى أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث، واختلفوا في المستحب من ذلك، فذهب قوم إلى أنه ما دون الثلث، لقوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث "والثلث كثير" وقال بهذا كثير من السلف. قال قتادة: أوصى أبو بكر بالخمس، وأوصى عمر بالربع، والخمس أحب إلي. وأما من ذهب إلى أن المستحب هو الثلث فإنهم اعتمدوا على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن الله جعل لكم في الوصية ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم" وهذا الحديث ضعيف عند أهل الحديث. وثبت عن ابن عباس أنه قال: لوغض الناس في الوصية من الثلث إلى الربع لكان أحب إلي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الثلث والثلث كثير". وأما اختلافهم في جواز الوصية بأكثر من الثلث لمن لا وارث له، فإن مالكا لا يجيز ذلك والأوزاعي، واختلف فيه قول أحمد، وأجاز ذلك أبو حنيفة وإسحق، وهو قول ابن مسعود. وسبب الخلاف هل هذا الحكم خاص بالعلة التي علله بها الشارع أم ليس بخاص، وهو أن لا يترك ورثته عالة يتكففون الناس. كما قال عليه الصلاة والسلام "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" فمن جعل هذا السبب خاصا وجب أن يرتفع الحكم بارتفاع هذه العلة؛ ومن جعل الحكم عبادة وإن كان قد علل بعلة، أو جعل جميع المسلمين في هذا المعنى بمنزلة الورثة قال: لا تجوز الوصية بإطلاق بأكثر من الثلث.
-والوصية بالجملة هي هبة الرجل ماله لشخص آخر أو لأشخاص بعد موته أو عتق غلامه سواء صرح بلفظ الوصية أو لم يصرح به، وهذا العقد عندهم هو من العقود الجائزة باتفاق، أعني أن للموصي أن يرجع فيما أوصى به، إلا المدبر فإنهم اختلفوا فيه على ما سيأتي في كتاب التدبير، وأجمعوا على أنه لا يجب للموصى له إلا بعد موت الموصي. واختلفوا في قبول الموصى له هل هو شرط في صحتها أم لا؟ فقال مالك: قبول الموصى له إياها شرط في صحة الوصية؛ وروي عن الشافعي أنه ليس القبول شرطا في صحتها، ومالك شبهها بالهبة.
-وهذه الأحكام منها لفظية، ومنها حسابية، ومنها حكمية. فمن مسائلهم المشهورة الحكمية اختلافهم في حكم من أوصى بثلث ماله لرجل وعين ما أوصى له به في ماله مما هو الثلث، فقال الورثة: ذلك الذي عين أكثر من الثلث، فقال مالك: الورثة مخيرون بين أن يعطوه ذلك الذي عينه الموصي أو يعطوه الثلث من جميع مال الميت؛ وخالفه في ذلك أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وأحمد وداود. وعمدتهم أن للوصية قد وجبت للموصى له بموت الموصي وقبوله إياها باتفاق، فكيف ينقل عن ملكه ما وجب له بغير طيب نفس منه وتغير الوصية. وعمدة مالك إمكان صدق الورثة فيما ادعوه، وما أحسن ما رأى أبو عمر بن عبد البر في هذه المسألة، وذلك أنه قال: إذا ادعى الورثة ذلك كلفوا بيان ما ادعوا، فإن ثبت ذلك أخذ منه الموصى له قدر الثلث من ذلك الشيء الموصى به وكان شريكا للورثة، وإن كان الثلث فأقل جبروا على إخراجه، وإذا لم يختلفوا في أن ذلك الشيء الموصى به هو فرق الثلث، فعند مالك أن الورثة مخيرون بين أن يدفعوا إليه ما وصى له به، أو يفرجوا له عن جميع ثلث مال الميت، إما في ذلك الشيء بعينه، وإما في جميع المال على اختلاف الرواية عن مالك في ذلك؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: له ثلث تلك العين ويكون بباقيه شريكا للورثة في جميع ما ترك الميت حتى يستوفي تمام الثلث. وسبب الخلاف أن الميت لما تعدى في أن جعل وصيته في شيء بعينه، فهل الأعدل في حق الورثة أن يخيروا بين إمضاء الوصية أو يفرجوا له إلى غاية ما يجوز للميت أن يخرج عنهم من ماله أو يبطل التعدي ويعود ذلك الحق مشتركا، وهذا هو الأولى إذا قلنا إن التعدي هو في التعيين لكونه أكثر من الثلث، أعني أن الواجب أن يسقط التعيين. وإما أن يكلف الورثة أن يمضوا التعيين أو يتخلوا عن جميع الثلث فهو حمل عليهم. ومن هذا الباب اختلافهم فيمن وجبت عليه زكاة فمات ولم يوص بها وإذا وصى بها فهل هي من الثلث، أو من رأس المال؟ فقال مالك: إذا لم يوص بها لم يلزمه الورثة إخراجها، وقال الشافعي: يلزم الورثة إخراجها من رأس المال، وإذا وصى بها، فعند مالك يلزم الورثة إخراجها وهي عنده من الثلث، وهي عند الشافعي في الوجهين من رأس المال شبهها بالدين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "فدين الله أحق أن يقضى" وكذلك الكفارات الواجبة والحج الواجب عنده، ومالك يجعلها من جنس الوصايا بالتوصية بإخراجها بعد الموت، ولا خلاف أنه لو أخرجها في الحياة أنها من رأس المال ولو كان في السياق، وكأن مالكا اتهمه هنا على الورثة، أعني في توصيته بإخراجها، قال: ولو أجيز هذا لجاز للإنسان أن يؤخر جميع زكاته طول عمره إذا دنا من الموت وصى بها فإذا زاحمت الوصايا الزكاة قدمت عند مالك على ما هو أضعف منها؛ وقال أبو حنيفة: هي وسائر الوصايا سواء، يريد في المحاصة. واتفق مالك وجميع أصحابه على أن الوصايا التي يضيق عنها الثلث إذا كانت مستوية أنها تتحاص في الثلث، وإذا كان بعضها أهم من بعض قدم الأهم. واختلفوا في الترتيب على ما هو مسطور في كتبهم. ومن مسائلهم الحسابية المشهورة في هذا الباب إذا أوصى لرجل بنصف ماله ولآخر بثلثيه ورد للورثة الزائد، فعند مالك والشافعي أنهما يقتسمان الثلث بينهما أخماسا؛ وقال أبو حنيفة: بل يقتسمان الثلث بالسوية. وسبب الخلاف هل الزائد على الثلث الساقط هل يسقط الاعتبار به في القسمة كما يسقط في نفسه بإسقاط الورثة؟ فمن قال يبطل في نفسه ولا يبطل الاعتبار به في القسمة إذا كان مشاعا قال: يقتسمون المال أخماسا؛ ومن قال يبطل الاعتبار به كما لو كان معينا قال: يقتسمون الباقي على السواء. ومن مسائلهم اللفظية في هذا الباب إذا أوصى بجزء من ماله وله مال يعلم به ومال لا يعلم به، فعند مالك أن الوصية تكون فيما علم به دون ما لم يعلم، وعند الشافعي تكون في المالين. وسبب الخلاف هل اسم المال الذي نطق به يتضمن ما علم وما لم يعلم، أو ما علم فقط؟ والمشهور عن مالك أن المدبر يكون في المالين إذا لم يخرج من المال الذي يعلم. وفي هذا الباب فروع كثيرة وكلها راجعة إلى هذه الثلاثة الأجناس، ولا خلاف بينهم أن للرجل أن يوصي بعد موته بأولاده وأن هذه خلافة جزئية كالخلافة العظمى الكلية التي للإمام أن يوصي بها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق