-اختلف العلماء في القسامة في أربعة مواضع تجري مجرى الأصول لفروع هذا الباب: المسألة الأولى: هل يجب الحكم بالقسامة أم لا؟. الثانية؛ إذا قلنا بوجوبها هل يجب بها الدم أو الفدية أو دفع مجرد الدعوى. المسألة الثالثة: هل يبدأ بالأيمان فيها المدعون أو المدعى عليهم، وكم عدد الحالفين من الأولياء؟ المسألة الرابعة: فيما يعد لوثا يجب به أن يبدأ المدعون بالأيمان.
-(
-(
-(
-(
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما).
-والنظر في أصول هذا الكتاب في حد الزنا، وفي أصناف الزناة، وفي العقوبات لكل صنف صنف منهم، وفيما تثبت به هذه الفاحشة.
-فأما الزنى فهو كل وطء وقع على غير نكاح ولا شبهة نكاح ولا ملك يمين، وهذا متفق عليه بالجملة من علماء الإسلام، وإن كانوا اختلفوا فيما هو شبهة تدرأ الحدود مما ليس بشبهة دارئة، وفي ذلك مسائل نذكر منها أشهرها، فمنها الأمة يقع عليها الرجل وله فيها شرك، فقال مالك: يدرأ عنه الحد وإن ولدت ألحق الولد به وقومت عليه، وبه قال أبو حنيفة وقال بعضهم يعزر؛ وقال أبو ثور: عليه الحد كاملا إذا علم الحرمة. وحجة الجماعة قوله عليه الصلاة والسلام "ادرءوا الحدود بالشبهات" والذين درءوا الحدود اختلفوا هل يلزمه من صداق المثل بقدر نصيبه أم لا يلزم. وسبب الخلاف: هل ذلك الذي يغلب منها حكمه على الجزء الذي لا يملك أم حكم الذي لا يملك يغلب على حكم الذي يملك؟ فإن حكم ما ملك الحلية، وحكم ما لم يملك الحرمية. ومنها اختلافهم في الرجل المجاهد يطأ جارية من المغنم، فقال قوم: عليه الحد؛ ودرأ قوم عنه الحد وهو أشبه. والسبب في هذه وفي التي قبلها واحد، والله أعلم. ومنها أن يحل رجل لرجل وطء خادمه، فقال مالك: يدرأ عنه الحد؛ وقال غيره: يعزر؛ وقال بعض الناس: بل هي هبة مقبوضة والرقبة تابعة للفرج. ومنها الرجل يقع على جارية ابنه أو ابنته، فقال الجمهور: لا حد عليه لقوله عليه الصلاة والسلام لرجل خاطبه: "أنت ومالك لأبيك" ولقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقاد الوالد بالولد" ولإجماعهم على أنه لا يقطع فيما سرق من مال ولده، ولذلك قالوا: تقوم عليه حملت أم لم تحمل لأنها قد حرمت على ابنه فكأنه استهلكها. ومن الحجة لهم أيضا إجماعهم على أن الأب لو قتل ابن ابنه لم يكن للابن أن يقتص من أبيه، وكذلك كل من كان الابن له وليا. ومنها الرجل يطأ جارية زوجته، اختلف العلماء فيه على أربعة أقوال، فقال مالك والجمهور: عليه الحد كاملا؛ وقالت طائفة ليس عليه الحد وتقوم عليه فيغرمها لزوجته إن كانت طاوعته، وإن كانت استكرهها قومت عليه وهي حرة، وبه قال أحمد وإسحاق، وهو قول ابن مسعود، والأول قول عمر، ورواه مالك في الموطأ عنه. وقال قوم: عليه مائة جلدة فقط سواء كان محصنا أم ثيبا: وقال قوم: عليه التعزير. فعمدة من أوجب عليه الحد أنه وطئ دون ملك تام ولا شركة ملك ولا نكاح فوجب الحد. وعمدة من درأ الحد ما ثبت أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قضى في رجل وطئ جارية امرأته أنه إن كان استكرهها فهي حرة وعليه مثلها لسيدتها، وإن كانت طاوعته فهي له، وعليه لسيدتها مثلها، وأيضا فإن له شبهة في مالها بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: تنكح المرأة لثلاث، فذكر مالها" ويقوى هذا المعنى على أصل من يرى أن المرأة محجور عليها من زوجها فيما فوق الثلث، أو في الثلث فما فوقه، وهو مذهب مالك. ومنها ما يراه أبو حنيفة من درء الحد عن واطئ المستأجرة، والجمهور على خلاف ذلك، وقوله في ذلك ضعيف ومرغوب عنه، وكأنه رأى أن هذه المنفعة أشبهت سائر المنافع التي استأجرها عليها، فدخلت الشبهة وأشبه نكاح المتعة. ومنها درء الحد عمن امتنع اختلف فيه أيضا. وبالجملة فالأنكحة الفاسدة داخلة في هذا الباب، وأكثرها عند مالك تدرأ بالحد إلا ما انعقد منها على شخص مؤبد التحريم بالقرابة مثل الأم وما أشبه ذلك، مما لا يعذر فيه بالجهل.
-والزناة الذين تختلف العقوبة باختلافهم أربعة أصناف: محصنون ثيب وأبكار وأحرار وعبيد وذكور وإناث. والحدود الإسلامية ثلاثة: رجم، وجلد، وتغريب. فأما الثيب الأحرار المحصنون، فإن المسلمين أجمعوا على أن حدهم الرجم إلا فرقة من أهل الأهواء فإنهم رأوا أن حد كل زان الجلد، وإنما صار الجمهور للرجم لثبوت أحاديث الرجم، فخصصوا الكتاب بالسنة أعني قوله تعالى
-(أما المسألة الأولى) فإن العلماء اختلفوا هل يجلد من وجب عليه الرجم قبل الرجم أم لا؟ فقال الجمهور: لا جلد على من وجب عليه الرجم؛ وقال الحسن البصري وإسحاق وأحمد وداود: الزاني المحصن يجلد ثم يرجم. عمدة الجمهور "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا، ورجم امرأة من جهينة، ورجم يهوديين وامرأة من عامر من الأزد، كل ذلك مخرج في الصحاح ولم يروا أنه جلد واحدا منهم. ومن جهة المعنى أن الحد الأصغر ينطوي في الحد الأكبر، وذلك أن الحد إنما وضع للزجر فلا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم. وعمدة الفريق الثاني عموم قوله تعالى
واختلفوا في التغريب مع الجلد؛ فقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تغريب أصلا؛ وقال الشافعي: لا بد من التغريب مع الجلد لكل زان ذكرا كان أو أنثى، حرا كان أو عبدا؛ وقال مالك: يغرب الرجل ولا تغرب المرأة، وبه قال الأوزاعي؛ ولا تغريب عند مالك على العبيد. فعمدة من أوجب التغريب على الإطلاق حديث عبادة بن الصامت المتقدم وفيه "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" وكذلك ما خرج أهل الصحاح عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا "إن رجلا من الأعراب أتى النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم وهو أفقه منه: نعم اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قل، قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديته بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: أما الوليدة والغنم فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها أنيس فاعترفت، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بها فرجمت". ومن خصص المرأة من هذا العموم فإنما خصصه بالقياس، لأنه رأى أن المرأة تعرض بالغربة لأكثر من الزنى، وهذا من القياس المرسل، أعني المصلحي الذي كثيرا ما يقول به مالك. وأما عمدة الحنفية فظاهر الكتاب، وهو مبني على رأيهم أن الزيادة على النص نسخ وأنه ليس ينسخ الكتاب بأخبار الآحاد. ورووا عن عمر وغيره أنه حد ولم يغرب. وروى الكوفيون عن أبي بكر وعمر أنهم غربوا. وأما حكم العبيد في هذه الفاحشة، فإن العبيد صنفان: ذكور، وإناث أما الإناث فإن العلماء أجمعوا على أن الأمة إذا تزوجت وزنت أن حدها خمسون جلدة لقوله تعالى
واحتج من لم ير على غير المتزوجة حدا بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال: "إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير".
وأما الذكر من العبيد، ففقهاء الأمصار على أن حد العبد نصف حد الحر قياسا على الأمة؛ وقال أهل الظاهر: بل حده مائة جلدة مصيرا إلى عموم قوله تعالى
وعمدتهم ما خرج البخاري ومسلم من حديث جابر، قال جابر: فرجمناه بالمصلى، فلما أذْلَقَتْهُ الحجارة فر، فأدركناه بالحرة فرضخناه. وقد روى مسلم أنه حفر له في اليوم الرابع حفر. وبالجملة فالأحاديث في ذلك مختلفة. قال أحمد: أكثر الأحاديث على أن لا حفر؛ وقال مالك: يضرب في الحدود الظهر وما يقاربه؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: يضرب سائر الأعضاء ويتقى الفرج والوجه؛ وزاد أبو حنيفة الرأس؛ ويجرد الرجل عند مالك في ضرب الحدود كلها، وعند الشافعي وأبي حنيفة ما عدا القذف على ما سيأتي بعد؛ ويضرب عند الجمهور قاعدا ولا يقام قائما لمن قال: إنه يقام لظاهر الآية، ويستحب عند الجميع أن يحضر الإمام عند إقامة الحدود طائفة من الناس لقوله تعالى
-وأجمع العلماء على أن الزنى يثبت بالإقرار وبالشهادة. واختلفوا في ثبوته بظهور الحمل في النساء الغير المتزوجات إذا ادعين الاستكراه. وكذلك اختلفوا في شروط الإقرار وشروط الشهادة. فأما الإقرار فإنهم اختلفوا فيه في موضعين: أحدهما عدد مرات الإقرار الذي يلزم به الحد. والموضع الثاني هل من شرطه أن لا يرجع عن الإقرار حتى يقام عليه الحد؟ أما عدد الإقرار الذي يجب به الحد، فإن مالكا والشافعي يقولان: يكفي في وجوب الحد عليه اعترافه به مرة واحدة، وبه قال أبو داود وأبو ثور والطبري وجماعة؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى: لا يجب الحد إلا بأقارير أربعة مرة بعد مرة، وبه قال أحمد وإسحاق، وزاد أبو حنيفة وأصحابه: في مجالس متفرقة. وعمدة مالك والشافعي ما جاء في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد من قوله عليه الصلاة والسلام "اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها" ولم يذكر عددا. وعمدة الكوفيين ما ورد من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه رد ماعزا حتى أقر أربع مرات ثم أمر برجمه" وفي غيره من الأحاديث قالوا: وما ورد في بعض الروايات أنه أقر مرة ومرتين وثلاثا تقصير، ومن قصر فليس بحجة على من حفظ.
-(وأما المسلة الثانية) وهي من اعترف بالزنى ثم رجع، فقال جمهور العلماء يقبل رجوعه، إلا ابن أبي ليلى وعثمان البتي؛ وفصل مالك فقال: إن رجع إلى شبهة قبل رجوعه. وأما إن رجع إلى غير شبهة فعنه في ذلك روايتان: إحداهما يقبل وهي الرواية المشهورة. والثانية لا يقبل رجوعه، وإنما صار الجمهور إلى تأثير الرجوع في الإقرار لما ثبت من تقريره صلى الله عليه وسلم ماعزا وغيره مرة بعد مرة لعله يرجع، ولذلك لا يجب على من أوجب سقوط الحد بالرجوع أن يكون التمادي على الإقرار شرطا من شروط الحد. وقد روي من طريق "أن ماعزا لما رجم ومسته الحجارة هرب فاتبعوه، فقال لهم: ردوني إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقتلوه رجما وذكروا ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه" ومن هنا تعلق الشافعي بأن التوبة تسقط الحدود، والجمهور على خلافه، وعلى هذا يكون عدم التوبة شرطا ثالثا في وجوب الحد. وأما ثبوت الزنى بالشهود فإن العلماء اتفقوا على أنه يثبت الزنى بالشهود، وأن العدد المشترط في الشهود أربعة بخلاف سائر الحقوق لقوله تعالى
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-والنظر في هذا الكتاب: في القذف، والقاذف، والمقذوف، وفي العقوبة الواجبة فيه، وبماذا تثبت. والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى
وأما الحد فالنظر فيه في جنسه وتوقيته ومسقطه أما جنسه، فإنهم اتفقوا على أنه ثمانون جلدة للقاذف الحر لقوله تعالى
والسبب في اختلافهم هل هو حق لله؟ أو حق للآدميين، أو حق لكليهما؟ فمن قال حق لله لم يجز العفو كالزنى؛ ومن قال حق للآدميين أجاز العفو؛ ومن قال لكليهما وغلب حق الإمام إذا وصل إليه قال بالفرق بين أن يصل الإمام أو لا يصل، وقياسا على الأثر الوارد في السرقة. وعمدة من رأى أنه حق للآدميين وهو الأظهر أن المقذوف إذا صدقه فيما قذفه به سقط عنه الحد. وأما من يقيم الحد فلا خلاف أن الإمام يقيمه في القذف. واتفقوا على أنه يجب على القاذف مع الحد سقوط شهادته ما لم يتب. واختلفوا إذا تاب؛ فقال مالك: تجوز شهادته، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: لا تجوز شهادته أبدا. والسبب في اختلافهم هل الاستثناء يعود إلى الجملة المتقدمة أو يعود إلى أقرب مذكور، وذلك في قوله تعالى
-والكلام في هذه الجناية: في الموجب، والواجب، وبماذا تثبت هذه الجناية؟ فأما الموجب، فاتفقوا على أنه شرب الخمر دون إكراه قليلها وكثيرها واختلفوا في المسكرات من غيرها؛ فقال أهل الحجاز: حكمها حكم الخمر في تحريمها وإيجاب الحد على من شربها قليلا كان أو كثيرا أو لم يسكر؛ وقال أهل العراق: المحرم منها هو السكر، وهو الذي يوجب الحد. وقد ذكرنا عمدة أدلة الفريقين في كتاب الأطعمة والأشربة. وأما الواجب فهو الحد والتفسيق إلا أن تكون التوبة، والتفسيق في شارب الخمر باتفاق وإن لم يبلغ حد السكر، وفيمن بلغ حد السكر فيما سوى الخمر. واختلف الذين رأوا تحريم قليل الأنبذة في وجوب الحد، وأكثر هؤلاء على وجوبه، إلا أنهم اختلفوا في مقدار الحد الواجب؛ فقال الجمهور: الحد في ذلك ثمانون؛ وقال الشافعي وأبو ثور وداود: الحد في ذلك أربعون، هذا في حد الحر. وأما حد العبد فاختلفوا فيه؛ فقال الجمهور: هو على النصف من حد الحر؛ وقال أهل الظاهر: حد الحر والعبد سواء، وهو أربعون؛ وعند الشافعي عشرون؛ وعند من قال ثمانون أربعون. فعمدة الجمهور تشاور عمر والصحابة لما كثر في زمانه شرب الخمر، وإشارة علي عليه بأن يجعل الحد ثمانين قياسا على حد الفرية، فإنه كما قيل عنه رضي الله عنه "إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى" وعمدة الفريق الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد في ذلك حدا، وإنما كان يضرب فيها بين يديه بالنعال ضربا غير محدود، وأن أبا بكر رضي الله عنه شاور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم بلغ ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لشُراب الخمر؟ فقدروه بأربعين. وروي عن أبي سعيد الخدري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بنعلين أربعين" فجعل عمر مكان كل نعل سوطا. وروي من طريق آخر عن أبي سعيد الخدري ما هو أثبت من هذا، وهو "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر أربعين" وروي هذا عن علي عن النبي عليه الصلاة والسلام من طريق أثبت، وبه قال الشافعي وأما من يقيم هذا الحد فاتفقوا على أن الإمام يقيمه، وكذلك الأمر في سائر الحدود واختلفوا في إقامة السادات الحدود على عبيدهم، فقال مالك: يقيم السيد على عبده حد الزنى وحد القذف إذا شهد عنده الشهود، ولا يفعل ذلك بعلم نفسه، ولا يقطع في السرقة إلا الإمام، وبه قال الليث، وقال أبو حنيفة: لا يقيم الحدود على العبيد إلا الإمام؛ وقال الشافعي: يقيم السيد على عبده جميع الحدود، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور. فعمدة مالك الحديث المشهور "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير" وقوله عليه الصلاة والسلام "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها". وأما الشافعي فاعتمد مع هذه الأحاديث ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عنه أنه قال "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" ولأنه أيضا مروي عن جماعة من الصحابة ولا مخالف لهم، منهم ابن عمر وابن مسعود وأنس. وعمدة أبي حنيفة الإجماع على أن الأصل في إقامة الحدود هو السلطان. وروي عن الحسن وعمر بن عبد العزيز وغيرهم أنهم قالوا: الجمعة والزكاة والفئ والحكم إلى السلطان.
-(
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-والنظر في هذا الكتاب في حد السرقة، وفي شروط المسروق الذي يجب به الحد، وفي صفات السارق الذي يجب عليه الحد، وفي العقوبة، وفيما تثبت به هذه الجناية. فأما السرقة، فهي أخذ مال الغير مستترا من غير أن يؤتمن عليه، وإنما قلنا هذا لأنهم أجمعوا أنه ليس في الخيانة ولا في الاختلاس قطع إلا إياس بن معاوية، فإنه أوجب في الخلسة القطع، وذلك مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام. وأوجب أيضا قوم القطع على من استعار حليا أو متاعا ثم جحده لمكان حديث المرأة المخزومية المشهور "أنها كانت تستعير الحلى، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعها لموضع جحودها" وبه قال أحمد وإسحاق والحديث حديث عائشة قالت "كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بقطع يدها، فأتى أسامة أهلها فكلموه، فكلم أسامة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أسامة لا أراك تتكلم في حد من حدود الله، ثم قام النبي عليه الصلاة والسلام خطيبا فقال: "وإنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعتها" ورد الجمهور هذا الحديث لأنه مخالف للأصول، وذلك أن المعار مأمون وأنه لم يأخذ بغير إذن فضلا أن يأخذ من حرز، قالوا: وفي الحديث حذف، وهو أنها سرقت مع أنها جحدت، ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام "إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه" قالوا: وروى هذا الحديث الليث بن سعد عن الزهري بإسناده، فقال فيه: إن المخزومية سرقت، قالوا: وهذا يدل على أنها فعلت الأمرين جميعا الجحد والسرقة. وكذلك أجمعوا على أنه ليس على الغاصب ولا على المكابر المغالب قطع إلا أن يكون قاطع طريق شاهرا للسلاح على المسلمين مخيفا للسبيل، فحكمه حكم المحارب على ما سيأتي في حد المحارب. وأما السارق الذي يجب عليه حد السرقة، فإنهم اتفقوا على أن من شرطه أن يكون مكلفا، وسواء كان حرا أو عبدا، ذكرا أو أنثى، أو مسلما، أو ذميا، إلا ما روي في الصدر الأول من الخلاف في قطع يد العبد الآبق إذا سرق، وروي ذلك عن ابن عباس وعثمان ومروان وعمر ابن عبد العزيز، ولم يختلف فيه بعد العصر المتقدم؛ فمن رأى أن الإجماع ينعقد بعد وجود الخلاف في العصر المتقدم كانت المسألة عنده قطعية، ومن لم ير ذلك تمسك بعموم الأمر بالقطع، ولا عبرة لمن لم ير القطع على العبد الآبق إلا تشبيهه سقوط الحد عنه بسقوط شطره، أعني الحدود التي تتشطر في حق العبيد، وهو تشبيه ضعيف.
وأما المسروق فإن له شرائط مختلفا فيها؛ فمن أشهرها اشتراط النصاب، وذلك أن الجمهور على اشتراطه، إلا ما روي عن الحسن البصري أنه قال: القطع في قليل المسروق وكثيره، لعموم قوله تعالى
وقد خالف ابن عمر في قيمة المجن من الصحابة كثير ممن رأى القطع في المجن كابن عباس وغيره. وقد روى محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم. قالوا: وإذا وجد الخلاف في ثمن المجن وجب أن لا تقطع اليد إلا بيقين، وهذا الذي قالوه هو كلام حسن لولا حديث عائشة، وهو الذي اعتمده الشافعي في هذه المسألة وجعل الأصل هو الربع دينار. وأما مالك فاعتضد عنده حديث ابن عمر بحديث عثمان الذي رواه، وهو أنه قطع في أترجة قومت بثلاثة دراهم، والشافعي يعتذر عن حديث عثمان من قبل أن الصرف كان عندهم في ذلك الوقت اثنا عشرة درهما (هكذا هذه العبارة بجميع الأصول، ولينظر ما معناها ا هـ مصححه) والقطع في ثلاثة دراهم أحفظ للأموال، والقطع في عشرة دراهم أدخل في باب التجاوز والصفح عن يسير المال وشرف العضو، والجمع بين حديث ابن عمر وحديث عائشة وفعل عثمان ممكن على مذهب الشافعي وغير ممكن على مذهب غيره، فإن كان الجمع أولى من الترجيح فمذهب الشافعي أولى المذاهب، فهذا هو أحد الشروط المشترطة بالقطع. واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور وهو إذا سرقت الجماعة ما يجب فيه القطع، أعني نصابا دون أن يكون حظ كل واحد منهم نصابا، وذلك أن يخرجوا النصاب من الحرز معا، مثل أن يكون عدلا أو صندوقا يساوي النصاب؛ فقال مالك: يقطعون جميعا، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور؛ وقال أبو حنيفة: لا قطع عليهم حتى يكون ما أخذه كل واحد منهم نصابا؛ فمن قطع الجميع رأى العقوبة إنما تتعلق بقدر مال المسروق: أي أن هذا القدر من المال المسروق هو الذي يوجب القطع لحفظ المال؛ ومن رأى أن القطع إنما علق بهذا القدر لا بما دونه لمكان حرمة اليد قال: لا تقطع أيد كثيرة فيما أوجب فيه الشرع قطع يد واحدة.
واختلفوا متى يقدر المسروق؛ فقال مالك: يوم السرقة؛ وقال أبو حنيفة: يوم الحكم عليه بالقطع. وأما الشرط الثاني في وجوب هذا الحد فهو الحرز، وذلك أن جميع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وأصحابهم متفقون على اشتراط الحرز في وجوب القطع، وإن كان قد اختلفوا فيما هو حرز مما ليس بحرز. والأشبه أن يقال في حد الحرز إنه ما شأنه أن تحفظ به الأموال كي يعسر أخذها مثل الإغلاق والحظائر وما أشبه ذلك، وفي الفعل الذي إذا فعله السارق اتصف بالإخراج من الحرز على ما سنذكره بعد؛ وممن ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأصحابهم؛ وقال أهل الظاهر وطائفة من أهل الحديث: القطع على من سرق النصاب وإن سرقه من غير حرز. فعمدة الجمهور حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل، فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن" ومرسل مالك أيضا عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي بمعنى حديث عمرو بن شعيب. وعمدة أهل الظاهر عموم قوله تعالى
وإذا توسد النائم شيئا فهو حرز له على ما جاء في حديث صفوان بن أمية وسيأتي بعد، وما أخذه من المنتبه فهو اختلاس. ولا يقطع عند مالك سارق ما كان على الصبي من الحلي أو غيره إلا أن يكون معه حافظ يحفظه؛ ومن سرق من الكعبة شيئا لم يقطع عنده، وكذلك من المساجد؛ وقد قيل في المذهب إنه أن سرق منها ليلا قطع. وفروع هذا الباب كثيرة فيما هو حرز وما ليس بحرز. واتفق القائلون بالحرز على أن كل من سمي مخرجا للشيء من حرزه وجب عليه القطع، وسواء كان داخل الحرز أو خارجه. وإذا ترددت التسمية وقع الخلاف، مثل اختلاف المذهب إذا كان سارقان: أحدهما داخل البيت، والآخر خارجه، فقرب أحدهما المتاع المسروق إلى ثقب في البيت فتناوله الآخر، فقيل القطع على الخارج المتناول له؛ وقيل: لا قطع على واحد منهما؛ وقيل القطع على المقرب للمتاع من الثقب. والخلاف في هذا كله آيل إلى انطلاق اسم المخرج من الحرز عليه أو لانطلاقه. فهذا هو القول في الحرز واشتراطه في وجوب القطع، ومن رمى بالمسروق من الحرز ثم أخذه خارج الحرز قطع، وقد توقف مالك فيه إذا أخذ بعد رميه وقبل أن يخرج؛ وقال ابن القاسم: يقطع.
-(
-وأما الواجب في هذه الجناية إذا وجدت بالصفات التي ذكرنا، أعني الموجودة في السارق وفي الشيء المسروق وفي صفة السرقة، فإنهم اتفقوا على أن الواجب فيه القطع من حيث هي جناية، والغرم إذا لم يجب القطع. واختلفوا هل يجمع الغرم مع القطع؟ فقال قوم: عليه الغرم مع القطع، وبه قال الشافعي وأحمد والليث وأبو ثور وجماعة؛ وقال قوم: ليس عليه غرم إذا لم يجد المسروق منه متاعه بعينه، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وجماعة؛ وفرق مالك وأصحابه فقال: إن كان موسرا أتبع السارق بقيمة المسروق، وإن كان معسرا لم يتبع به إذا أثرى، واشترط مالك دوام اليسر إلى يوم القطع فيما حكى عنه ابن القاسم. فعمدة من جمع بين الأمرين أنه اجتمع في السرقة حقان: حق لله، وحق للآدمي، فاقتضى كل حق موجبه، وأيضا فإنهم لما أجمعوا على أخذه منه إذا وجد بعينه لزم إذا لم يوجد بعينه عنده أن يكون في ضمانه قياسا على سائر الأموال الواجبة. وعمدة الكوفيين حديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد" وهذا الحديث مضعف عند أهل الحديث. قال أبو عمر: لأنه عندهم مقطوع، قال: وقد وصله بعضهم وخرجه النسائي. والكوفيون يقولون: إن اجتماع حقين في حق واحد مخالف للأصول، ويقولون إن القطع هو بدل من الغرم، ومن هنا يرون أنه إذا سرق شيئا ما فقطع فيه ثم سرقه ثانيا أنه لا يقطع فيه. وأما تفرقة مالك فاستحسان على غير قياس. وأما القطع فالنظر في محله وفيمن سرق وقد عدم المحل. أما محل القطع فهو اليد اليمنى باتفاق من الكوع، وهو الذي عليه الجمهور؛ وقال قوم: الأصابع فقط. فأما إذا سرق من قد قطعت يده اليمنى في السرقة، فإنهم اختلفوا في ذلك فقال أهل الحجاز والعراق: تقطع رجله اليسرى بعد اليد اليمنى؛ وقال بعض أهل الظاهر وبعض التابعين: تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى، ولا يقطع منه غير ذلك. واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة بعد اتفاقهم على قطع الرجل اليسرى بعد اليد اليمنى، هل يقف القطع إن سرق ثالثة أم لا؟ فقال سفيان وأبو حنيفة: يقف القطع في الرجل، وإنما عليه في الثالثة الغرم فقط؛ وقال مالك والشافعي: إن سرق ثالثة قطعت يده اليسرى، ثم إن سرق رابعة قطعت رجله اليمنى، وكلا القولين مروي عن عمر وأبي بكر، أعني قول مالك وأبي حنيفة. فعمدة من لم ير إلا قطع اليد قوله تعالى
-واتفقوا على أن السرقة تثبت بشاهدين عدلين، وعلى أنها تثبت بإقرار الحر. واختلفوا في إقرار العبد؛ فقال جمهور فقهاء الأمصار: إقراره على نفسه موجب لحده، وليس يوجب عليه غرما؛ وقال زفر: لا يجب إقرار العبد على نفسه بما يوجب قتله ولا قطع يده لكونه مالا لمولاه، وبه قال شريح والشافعي وقتادة وجماعة، وإن رجع عن الإقرار إلى شبهة قبل رجوعه. وإن رجع إلى غير شبهة فعن مالك في ذلك روايتان، هكذا حكى البغداديون عن المذهب، وللمتأخرين في ذلك تفصيل ليس يليق بهذا الغرض، وإنما هو لائق بتفريع المذهب.
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى
-فأما الحرابة، فاتفقوا على أنها إشهار السلاح وقطع السبيل خارج المصر، واختلفوا فيمن حارب داخل المصر، فقال مالك: داخل المصر وخارجه سواء؛ واشترط الشافعي الشوكة، وإن كان لم يشترط العدد، وإنما معنى الشوكة عنده قوة المغالبة، ولذلك يشترط فيها البعد عن العمران، لأن المغالبة إنما تتأتى بالبعد عن العمران؛ وكذلك يقول الشافعي: أنه إذا ضعف السلطان ووجدت المغالبة في المصر كانت محاربة، وأما غير ذلك فهو عنده اختلاس؛ وقال أبو حنيفة: لا تكون المحاربة في المصر.
-فأما المحارب: فهو كل من كان دمه محقونا قبل الحرابة، وهو المسلم والذمي.
-وأما ما يجب على المحارب، فاتفقوا على أنه يجب عليه حق لله وحق للآدميين واتفقوا على أن حق الله هو القتل والصلب وقطع الأيدي وقطع الأرجل من خلاف، والنفي على ما نص الله تعالى في آية الحرابة. واختلفوا في هذه العقوبات هل هي على التخيير أو مرتبة على قدر جناية المحارب؛ فقال مالك: إن قتل فلا بد من قتله، وليس للإمام تخيير في قطعه ولا في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه. وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف. وأما إذا أخاف السبيل فقط فالإمام عنده مخير في قتله أو صلبه أو قطعه أو نفيه. ومعنى التخيير عنده أن الأمر راجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام، فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير، فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه، لأن القطع لا يرفع ضرره. وإن كان لا رأي له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعه من خلاف. وإن كان ليس فيه شيء من هاتين الصفتين أخذ بأيسر ذلك فيه وهو الضرب والنفي. وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجماعة من العلماء إلى أن هذه العقوبة هي مرتبة على الجنايات المعلوم من الشرع ترتيبها عليه، فلا يقتل من المحاربين إلا من قتل، ولا يقطع إلا من أخذ المال، ولا ينفي إلا من لم يأخذ المال ولا قتل؛ وقال قوم: بل الإمام مخير فيهم على الإطلاق، وسواء قتل أم لم يقتل، أخذ المال أو لم يأخذه. وسبب الخلاف هل حرف "أو" في الآية للتخيير أو للتفصيل على حسب جناياتهم؟ ومالك حمل البعض من المحاربين على التفصيل والبعض على التخيير. واختلفوا في معنى قوله
-وأما ما يسقط الحق الواجب عليه، فإن الأصل فيه قوله تعالى
-وأما بماذا يثبت هذا الحد فبالإقرار والشهادة، ومالك يقبل شهادة المسلوبين على الذين سلبوهم؛ وقال الشافعي: تجوز شهادة أهل الرفقة عليهم إذا لم يدعوا لأنفسهم ولا لرفقائهم مالا أخذوه، وتثبت عند مالك الحرابة بشهادة السماع.
-وأما حكم المحاربين على التأويل، فإن محاربهم الإمام، فإذا قدر على واحد منهم لم يقتل إلا إذا كانت الحرب قائمة، فإن مالكا قال: إن للإمام أن يقتله إن رأى ذلك لما يخاف من عونه لأصحابه على المسلمين. وأما إذا أسر بعد انقضاء الحرب، فإن حكمه حكم البدعي الذي لا يدعو إلى بدعته، وقيل يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وقيل يستتاب فإن لم يتب يؤدب ولا يقتل، وأكثر أهل البدع إنما يكفرون بالمآل. واختلف قول مالك في التكفير بالمآل ومعنى التكفير بالمآل: أنهم لا يصرحون بقول هو كفر، ولكن يصرحون بأقوال يلزم عنها الكفر وهو لا يعتقدون ذلك اللزوم. وأما ما يلزم هؤلاء من الحقوق إذا ظفر بهم، فحكمهم إذا تابوا أن لا يقام عليهم حد الحرابة، ولا يؤخذ منهم ما أخذوا من المال إلا أن يوجد بيده فيرد إلى ربه. وإنما اختلفوا هل يقتل قصاصا بمن قتل؟ فقيل يقتل وهو قول عطاء وأصبغ؛ وقال مطرف وابن الماجشون عن مالك: لا يقتل، وبه قال الجمهور، لأن كل من قاتل على التأويل فليس بكافر بتة، أصله قتال الصحابة، وكذلك الكافر بالحقيقة هو المكذب لا المتأول.
-والمرتد إذا ظفر به قبل أن يحارب، فاتفقوا على أن يقتل الرجل لقوله عليه الصلاة والسلام "من بدل دينه فاقتلوه" واختلفوا في قتل المرأة وهل تستتاب قبل أن تقتل؟ فقال الجمهور: تقتل المرأة؛ وقال أبو حنيفة: لا تقتل وشبهها بالكافرة الأصلية، والجمهور اعتمدوا العموم الوارد في ذلك؛ وشذ قوم فقالوا: تقتل وإن راجعت الإسلام وأما الاستتابة فإن مالكا شرط في قتله ذلك على ما راوه عن عمر؛ وقال قوم: لا تقبل توبته، وأما إذا حارب المرتد ثم ظهر عليه فإنه يقتل بالحرابة ولا يستتاب، كانت حرابته بدار الإسلام أو بعد أن لحق بدار الحرب، إلا أن يسلم. وأما إذا أسلم المرتد المحارب بعد أن أخذ أو قبل أن يؤخذ، فإنه يختلف في حكمه، فإن كانت حرابته في دار الحرب فهو عند مالك كالحربي يسلم لاتباعه عليه في شيء مما فعل في حال ارتداده. وأما إن كانت حرابته في دار الإسلام، فإنه يسقط إسلامه عنه حكم الحرابة خاصة، وحكمه فيما جنى حكم المرتد إذا جنى في ردته في دار الإسلام ثم أسلم؛ وقد اختلف أصحاب مالك فيه فقال: حكمه حكم المرتد من اعتبر يوم الجناية؛ وقال: حكمه حكم المسلم من اعتبر يوم الحكم. وقد اختلف في هذا الباب في حكم الساحر؛ فقال مالك: يقتل كفرا؛ وقال قوم: لا يقتل، والأصل أن لا يقتل إلا مع الكفر.
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-وأصول هذا الكتاب تنحصر في ستة أبواب: أحدها: في معرفة من يجوز قضاؤه. والثاني: في معرفة ما يقضي به. والثالث في معرفة ما يقضي فيه. والرابع: في معرفة من يقضي عليه أو له. والخامس: في كيفية القضاء. والسادس: في وقت القضاء.
-والنظر في هذا الباب فيمن يجوز قضاؤه، وفيما يكون به أفضل. فأما الصفات المشترطة في الجواز: فأن يكون حرا مسلما بالغا ذكرا عاقلا عدلا. وقد قيل في المذهب إن الفسق يوجب العزل ويمضي ما حكم به. واختلفوا في كونه من أهل الاجتهاد؛ فقال الشافعي: يجب أن يكون من أهل الاجتهاد ومثله حكى عبد الوهاب عن المذهب؛ وقال أبو حنيفة: يجوز حكم العامي. قال القاضي: وهو ظاهر ما حكاه جدي رحمة الله عليه في المقدمات عن المذهب لأنه جعل كون الاجتهاد فيه من الصفات المستحبة. وكذلك اختلفوا في اشتراط الذكورة؛ فقال الجمهور: هي شرط في صحة الحكم؛ وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال؛ قال الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكما على الإطلاق في كل شيء؛ قال عبد الوهاب: ولا أعلم بينهم اختلافا في اشتراط الحرية؛ فمن رد قضاء المرأة شبهه بقضاء الإمامة الكبرى، وقاسها أيضا على العبد لنقصان حرمتها؛ ومن أجاز حكمها في الأموال فتشبيها بجواز شهادتها في الأموال؛ ومن رأى حكمها نافذا في كل شيء قال: إن الأصل هو أن كل من يتأتى منه الفصل بين الناس فحكمه جائز إلا ما خصصه الإجماع من الإمامة الكبرى. وأما اشتراط الحرية فلا خلاف فيه، ولا خلاف في مذهب مالك أن السمع والبصر والكلام مشترطة في استمرار ولايته وليس شرطا في جواز ولايته، وذلك أن من صفات القاضي في المذهب ما هي شرط في الجواز، فهذا إذا ولي عزل وفسخ جميع ما حكم به ومنها ما هي شرط في الاستمرار وليست شرطا في الجواز، فهذا إذا ولى القضاء عزل ونفذ ما حكم به إلا أن يكون جورا. ومن هذا الجنس عندهم هذه الثلاث صفات. ومن شرط القضاء عند مالك أن يكون واحدا. والشافعي يجيز أن يكون في المصر قاضيان اثنان إذا رسم لكل واحد منهما ما يحكم فيه، وإن شرط اتفاقهما في كل حكم لم يجز، وإن شرط الاستقلال لكل واحد منهما فوجهان: الجواز والمنع، قال: وإذا تنازع الخصمان في اختيار أحدهما وجب أن يقترعا عنده. وأما فضائل القضاء فكثيرة، وقد ذكرها الناس في كتبهم. وقد اختلفوا في الأمي هل يجوز أن يكون قاضيا؟ والأبين جوازه لكونه عليه الصلاة والسلام أميا؛ وقال قوم: لا يجوز؛ وعن الشافعي القولان جميعا، لأنه يحتمل أن يكون ذلك خاصا به لموضع العجز، ولا خلاف في جواز حكم الإمام الأعظم وتوليته للقاضي شرط في صحة قضائه لا خلاف أعرف فيه. واختلفوا من هذا الباب في نفوذ حكم من رضيه المتداعيان ممن ليس بوال على الأحكام، فقال مالك: يجوز؛ وقال الشافعي: في أحد قوليه لا يجوز؛ وقال أبو حنيفة: يجوز إذا وافق حكمه حكم قاضي البلد.
-وأما فيما يحكم، فاتفقوا أن القاضي يحكم في كل شيء من الحقوق كان حقا لله أو حقا للآدميين، وأنه نائب عن الإمام الأعظم في هذا المعنى وأنه يعقد الأنكحة ويقدم الأوصياء، وهل يقدم الأئمة في المساجد الجامعة؟ فيه خلاف، وكذلك هل يستخلف فيه خلاف في المرض والسفر إلا أن يؤذن له، وليس ينظر في الجباة ولا في غير ذلك من الولاة، وينظر في التحجير على السفهاء عند من يرى التحجير عليهم. ومن فروع هذا الباب هل ما يحكم فيه الحاكم تحلة للمحكوم له به، وإن لم يكن في نفسه حلالا، وذلك أنهم أجمعوا على أن حكم الحاكم الظاهر الذي يعتريه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، وذلك في الأموال خاصة لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار". واختلفوا في حل عصمة النكاح أو عقده بالظاهر الذي يظن الحاكم أنه حق وليس بحق، إذ لا تحل حرام، ولا يحرم حلال بظاهر حكم الحاكم دون أن يكون الباطن كذلك هل يحل ذلك أم لا؟ فقال الجمهور: الأموال والفروج في ذلك سواء، لا يحل حكم الحاكم منها حراما ولا يحرم حلالا، وذلك مثل أن يشهد شاهدا زورا في امرأة أجنبية أنها زوجة لرجل أجنبي ليست له بزوجة؛ فقال الجمهور: لا تحل له وإن أحلها الحاكم بظاهر الحكم؛ وقال أبو حنيفة وجمهور أصحابه: تحل له. فعمدة الجمهور عموم الحديث المتقدم، وشبهة أبو حنيفة أن الحكم باللعان ثابت بالشرع، وقد علم أن أحد المتلاعنين كاذب، واللعان يوجب الفرقة، ويحرم المرأة على زوجها الملاعن لها ويحلها لغيره، فإن كان هو الكاذب فلم تحرم عليه إلا بحكم الحاكم، وكذلك إن كانت هي الكاذبة، لأن زناها لا يوجب فرقتها على قول أكثر الفقهاء؛ والجمهور أن الفرقة ها هنا إنما وقعت عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب.
-والقضاء يكون بأربع: بالشهادة، وباليمين، وبالنكول، وبالإقرار، أو بما تركب من هذه ففي هذا الباب أربعة فصول.
-والنظر في الشهود في ثلاثة أشياء: في الصفة، والجنس، والعدد. فأما عدد الصفات المعتبرة في قبول الشاهد بالجملة فهي خمسة: العدالة، والبلوغ، والإسلام، والحرية، ونفي التهمة. وهذه منها متفق عليها، ومنها مختلف فيها. أما العدالة، فإن المسلمين اتفقوا على اشتراطها في قبول شهادة الشاهد لقوله تعالى
وأما الإسلام فاتفقوا على أنه شرط في القبول، وأنه لا تجوز شهادة الكافر، إلا ما اختلفوا فيه من جواز ذلك في الوصية في السفر لقوله تعالى
وأما الطائفة الثانية وهم شريح وأبو ثور وداود فإنهم قالوا: تقبل شهادة الأب لابنه فضلا عمن سواه إذا كان الأب عدلا: وعمدتهم قوله تعالى
وأما شهادة النساء مفردات، أعني النساء دون الرجال فهي مقبولة عند الجمهور في حقوق الأبدان التي لا يطلع عليها الرجال غالبا مثل الولادة والاستهلال وعيوب النساء. ولا خلاف في شيء من هذا إلا في الرضاع، فإن أبا حنيفة قال: لا تقبل فيه شهادتهن إلا مع الرجال، لأنه عنده من حقوق الأبدان التي يطلع عليها الرجال والنساء. والذين قالوا بجواز شهادتهن مفردات في هذا الجنس اختلفوا في العدد المشترط في ذلك منهن؛ فقال مالك: يكفي في ذلك امرأتان، قيل مع انتشار الأمر، وقيل إن لم ينتشر؛ وقال الشافعي: ليس يكفي في ذلك أقل من أربع، لأن الله عز وجل قد جعل عديل الشاهد الواحد امرأتين، واشترط الاثنينية؛ وقال قوم: لا يكتفي بذلك أقل من ثلاث وهو قول لا معنى له؛ وأجاز أبو حنيفة شهادة المرأة فيما بين السرة والركبة، وأحسب أن الظاهرية أو بعضهم لا يجيزون شهادة النساء مفردات في كل شيء كما يجيزون شهادتهن مع الرجال في كل شيء وهو الظاهر. وأما شهادة المرأة الواحدة بالرضاع، فإنهم أيضا اختلفوا فيها لقوله عليه الصلاة والسلام في المرأة الواحدة التي شهدت بالرضاع "كيف وقد أرضعتكما" وهذا ظاهره الإنكار، ولذلك لم يختلف قول مالك في أنه مكروه.
-وأما الأيمان، فإنهم اتفقوا على أنها تبطل بها الدعوى عن المدعي عليه إذا لم تكن للمدعي بينة. واختلفوا هل يثبت بها حق المدعي؛ فقال مالك: يثبت بها حق المدعي في إثبات ما أنكره المدعي عليه وإبطال ما ثبت عليه من الحقوق إذا ادعى الذي ثبت عليه إسقاطه في الموضع الذي يكون المدعي أقوى سببا وشبهة من المدعى عليه؛ وقال غيره لا تثبت للمدعي باليمين دعوى سواء كانت في إسقاط حق عن نفسه قد ثبت عليه، أو إثبات حق أنكره فيه خصمه. وسبب اختلافهم ترددهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" هل ذلك عام في كل مدعى عليه ومدع، أم إنما خص المدعي بالبينة والمدعى عليه باليمين، لأن المدعي في الأكثر هو أضعف شبهة من المدعى عليه والمدعى عليه بخلافه؟ فمن قال هذا الحكم عام في كل مدع ومدعى عليه ولم يرد بهذا العموم خصوصا قال: لا يثبت باليمين حق، ولا يسقط به حق ثبت؛ ومن قال إنما خص المدعى عليه بهذا الحكم من جهة ما هو أقوى شبهة قال: إذا اتفق أن يكون موضع تكون فيه شبهة المدعي أقوى يكون القول قوله، واحتج هؤلاء بالمواضع التي اتفق الجمهور فيها على أن القول فيها قول المدعي مع يمينه، مثل دعوى التلف في الوديعة وغير ذلك إن وجد شيء بهذه الصفة، ولأولئك أن يقولوا: الأصل ما ذكرنا إلا ما خصصه الاتفاق، وكلهم مجتمعون على أن اليمين التي تسقط الدعوى أو تثبتها هي اليمين بالله، الذي لا إله إلا هو، وأقاويل فقهاء الأمصار في صفتها متقاربة؛ وهي عند مالك: بالله الذي لا إله إلا هو، لا يزيد عليها، ويزيد الشافعي الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية. وأما هل تغلظ بالمكان؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فذهب مالك إلى أنها تغلظ بالمكان وذلك في قدر مخصوص، وكذلك الشافعي. واختلفوا في القدر، فقال مالك: إن من ادعى عليه بثلاثة دراهم فصاعدا وجبت عليه اليمين في المسجد الجامع، فإن كان مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، فلا خلاف أنه يحلف على المنبر، وإن كان في غيره من المساجد ففي ذلك روايتان: إحداهما حيث اتفق من المسجد، والأخرى عند المنبر. وروى عنه ابن القاسم أنه يحلف فيما له بال في الجامع ولم يحدد؛ وقال الشافعي: يحلف في المدينة عند المنبر، وفي مكة بين الركن والمقام، وكذلك عنده في كل بلد يحلف عند المنبر، والنصاب عنده في ذلك عشرون دينارا؛ وقال داود: يحلف على المنبر في القليل والكثير؛ وقال أبو حنيفة: لا تغلظ اليمين بالمكان.
وسبب الخلاف هل التغليظ الوارد في الحلف على منبر النبي صلى الله عليه وسلم يفهم منه وجوب الحلف على المنبر أم لا؟ فمن قال إنه يفهم منه ذلك قال: لأنه لو لم يفهم منه ذلك لم يكن للتغليظ في ذلك معنى؛ ومن قال للتغليظ معنى غير الحكم بوجوب اليمين على المنبر قال: لا يجب الحلف على المنبر. والحديث الوارد في التغليظ هو حديث جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من حلف على منبري آثما تبوأ مقعده من النار" واحتج هؤلاء بالعمل فقالوا: هو عمل الخلفاء، قال الشافعي: لم يزل عليه العمل بالمدينة وبمكة. قالوا: ولو كان التغليظ لا يفهم منه إيجاب اليمين في الموضع المغلظ لم يكن له فائدة إلا تجنب اليمين في ذلك الموضع. قالوا: وكما أن التغليظ الوارد في اليمين مجردا مثل قوله عليه الصلاة والسلام "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار" يفهم منه وجوب القضاء باليمين، وكذلك التغليظ الوارد في المكان. وقال الفريق الآخر: لا يفهم من التغليظ باليمين وجوب الحكم باليمين، وإذ لم يفهم من تغليظ اليمين وجوب الحكم باليمين لم يفهم من تغليظ اليمين بالمكان وجوب اليمين بالمكان وليس فيه إجماع من الصحابة، والاختلاف فيه مفهوم من قضية زيد بن ثابت؛ وتغلظ بالمكان عند مالك في القسامة واللعان، وكذلك بالزمان لأنه قال في اللعان أن يكون بعد صلاة العصر على ما جاء في التغليظ فيمن حلف بعد العصر، وأما القضاء باليمين مع الشاهد فإنهم اختلفوا فيه؛ فقال مالك والشافعي وأحمد وداود وأبو ثور والفقهاء السبعة المدنيون وجماعة: يقضى باليمين مع الشاهد في الأموال. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وجمهور أهل العراق: لا يقضى باليمين مع الشاهد في شيء، وبه قال الليث من أصحاب مالك.
وسبب الخلاف في هذا الباب تعارض السماع. أما القائلون به فإنهم تعلقوا في ذلك بآثار كثيرة، منها حديث ابن عباس، وحديث أبي هريرة، وحديث زيد ابن ثابت، وحديث جابر، إلا أن الذي خرج مسلم منها حديث ابن عباس، ولفظه "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد" خرجه مسلم ولم يخرجه البخاري. وأما مالك فإنما اعتمد مرسله في ذلك عن جعفر بن محمد عن أبيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد" لأن العمل عنده بالمراسيل واجب.
وأما السماع المخالف لها فقوله تعالى
-وأما ثبوت الحق على المدعى عليه بنكوله، فإن الفقهاء أيضا اختلفوا في ذلك، فقال مالك والشافعي وفقهاء أهل الحجاز وطائفة من العراقيين: إذا نكل المدعى عليه لم يجب للمدعي شيء بنفس النكول، إلا أن يحلف المدعي أو يكون له شاهد واحد؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه وجمهور الكوفيين: يقضي للمدعي على المدعى عليه بنفس النكول وذلك في المال بعد أن يكرر عليه اليمين ثلاثا وقلب اليمين عند مالك يكون في الموضع الذي يقبل فيه شاهد وامرأتان، وشاهد ويمين؛ وقلب اليمين عند الشافعي يكون في كل موضع يجب فيه اليمين؛ وقال ابن أبي ليلى: أردها في غير التهمة ولا أردها في التهمة. وعند مالك في يمين التهمة هل تنقلب أم لا؟ قولان. فعمدة من رأى أن تنقلب اليمين ما رواه مالك من "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد في القسامة اليمين على اليهود بعد أن بدأ بالأنصار" ومن حجة مالك أن الحقوق عنده إنما تثبت بشيئين: إما بيمين وشاهد، وإما بنكول وشاهد، وإما بنكول ويمين، أصل ذلك عنده اشتراط الاثنينية في الشهادة؛ وليس يقتضي عند الشافعي بشاهد ونكول. وعمدة من قضى بالنكول أن الشهادة لما كانت لإثبات الدعوى، واليمين لإبطالها وجب إن نكل عن اليمين أن تحقق عليه الدعوى. قالوا: وأما نقلها من المدعى عليه إلى المدعي فهو خلاف للنص، لأن اليمين قد نص على أنها دلالة المدعى عليه، فهذه أصول الحجج التي يقضي بها القاضي. ومما اتفقوا عليه في هذا الباب أنه يقضي القاضي بوصول كتاب قاض آخر إليه، لكن هذا عند الجمهور مع اقتران الشهادة به، أعني إذا أشهد القاضي الذي يثبت عنده الحكم شاهدين عدلين أن الحكم ثابت عنده، أعني المكتوب في الكتاب الذي أرسله إلى القاضي الثاني، فشهدا عند القاضي الثاني أنه كتابه، وأنه أشهدهم بثبوته، وقد قيل إنه يكتفي فيه بخط القاضي، وأنه كان به العمل الأول. واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة إن أشهدهم على الكتابة ولم يقرأه عليهم؛ فقال مالك: يجوز؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز ولا تصح الشهادة.
واختلفوا في العفاص والوكاء هل يقضي به في اللقطة دون شهادة، أم لا بد في ذلك من شهادة؟ فقال مالك: يقضي بذلك؛ وقال الشافعي: لا بد من الشاهدين، وكذلك قال أبو حنيفة؛ وقول مالك هو أجرى على نص الأحاديث، وقول الغير أجرى على الأصول. ومما اختلفوا فيه من هذا الباب قضاء القاضي بعلمه، وذلك أن العلماء أجمعوا على أن القاضي يقضي بعلمه في التعديل والتجريح، وأنه إذا شهد الشهود بضد علمه لم يقض به، وأنه يقضي بعلمه في إقرار الخصم وإنكاره، إلا مالكا فإنه رأى أن يحضر القاضي شاهدين لإقرار الخصم وإنكاره، وكذلك أجمعوا على أنه يقضي بعلمه في تغليب حجة أحد الخصمين على حجة الآخر إذا لم يكن في ذلك خلاف. واختلفوا إذا كان في المسألة خلاف، فقال قوم: لا يرد حكمه إذا لم يخرق الإجماع؛ وقال قوم إذا كان شاذا؛ وقال قوم: يرد إذا كان حكما بقياس، وهنالك سماع من كتاب أو سنة تخالف القياس وهو الأعدل، إلا أن يكون القياس تشهد له الأصول والكتاب محتمل والسنة غير متواترة، وهذا هو الوجه الذي ينبغي أن يحمل عليه من غلب القياس من الفقهاء في موضع من المواضع على الأثر مثل ما ينسب إلى أبي حنيفة باتفاق، وإلى مالك باختلاف. واختلفوا هل يقضي بعلمه على أحد دون بينة أو إقرار، أو لا يقضي إلا بالدليل والإقرار؟ فقال مالك وأكثر أصحابه: لا يقضي إلا بالبينات أو الإقرار، وبه قال أحمد وشريح؛ وقال الشافعي والكوفي وأبو ثور وجماعة: للقاضي أن يقضي بعلمه، ولكلا الطائفتين سلف من الصحابة والتابعين، وكل واحد منهما اعتمد في قوله السماع والنظر. أما عمدة الطائفة التي منعت من ذلك، فمنها حديث معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم على صدقة فلاحاه رجل في فريضة، فوقع بينهما شجاج، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فأعطاهم الأرش، ثم قال عليه الصلاة والسلام "إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم قد رضيتم، أرضيتم؟ قالوا: نعم، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فخطب الناس وذكر القصة، وقال: أرضيتم؟ قالوا: لا، فهم بهم المهاجرون، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم صعد المنبر فخطب، ثم قال: أرضيتم؟ قالوا: نعم، قال: فهذا بين في أنه لم يحكم عليهم بعلمه صلى الله عليه وسلم. وأما من جهة المعنى فللتهمة اللاحقة في ذلك للقاضي.
وقد أجمعوا أن للتهمة تأثيرا في الشرع: منها أن لا يرث القاتل عمدا عند الجمهور من قتله. ومنها ردهم شهادة الأب لابنه، وغير ذلك مما هو معلوم من جمهور الفقهاء. وأما عمدة من أجاز ذلك، أما من طريق السماع فحديث عائشة في قصة هند بنت عتبة ابن ربيعة مع زوجها أبي سفيان بن حرب حين قال لها عليه الصلاة والسلام وقد شكت أبا سفيان "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" دون أن يسمع قول خصمها.
وأما من طريق المعنى فإنه إذا كان له أن يحكم بقول الشاهد الذي هو مظنون في حقه فأحرى أن يحكم بما هو عنده يقين. وخصص أبو حنيفة وأصحابه ما يحكم فيه الحاكم بعلمه فقالوا: لا يقضي بعلمه في الحدود ويقضي في غير ذلك؛ وخصص أيضا أبو حنيفة العلم الذي يقضي به فقال: يقضي بعلمه الذي علمه في القضاء، ولا يقضي بما علمه قبل القضاء. وروي عن عمر أنه قضى بعلمه على أبي سفيان لرجل من بني مخزوم. وقال بعض أصحاب مالك: يقضي بعلمه في المجلس أعني بما يسمع وإن لم يشهد عنده بذلك، وهو قول الجمهور كما قلنا، وقول المغيرة هو أجرى على الأصول، لأن الأصل في هذه الشريعة لا يقضي إلا بدليل وإن كانت غلبة الظن الواقعة به أقوى من الظن الواقع بصدق الشاهدين.
-وأما الإقرار إذا كان بينا فلا خلاف في وجوب الحكم به، وإنما النظر فيمن يجوز إقراره ممن لا يجوز، وإذا كان الإقرار محتملا رفع الخلاف. أما من يجوز إقراره ممن لا يجوز فقد تقدم. وأما عدد الإقرارات الموجبة فقد تقدم في باب الحدود، ولا خلاف بينهم أن الإقرار مرة واحدة عامل في المال. وأما المسائل التي اختلفوا فيها من ذلك فهو من قبل احتمال اللفظ، وأنت إن أحببت أن تقف عليه فمن كتاب الفروع.
-وأما على من يقضي؟ ولمن يقضي؟ فإن الفقهاء اتفقوا على أنه يقضي لمن ليس يتهم عليه. واختلفوا في قضائه لمن يتهم عليه؛ فقال مالك: لا يجوز قضاؤه على من لا تجوز عليه شهادته؛ وقال قوم: يجوز لأن القضاء يكون بأسباب معلومة وليس كذلك الشهادة. وأما على من يقضي؟ فإنهم اتفقوا على أنه يقضي على المسلم الحاضر. واختلفوا في الغائب وفي القضاء على أهل الكتاب فأما القضاء على الغائب، فإن مالكا والشافعي قالا: يقضي على الغائب البعيد الغيبة؛ وقال أبو حنيفة: لا يقضي على الغائب أصلا، وبه قال ابن الماجشون؛ وقد قيل عن مالك لا يقضي في الرباع المستحقة. فعمدة من رأى القضاء حديث هند المتقدم ولا حجة فيه، لأنه لم يكن غائبا عن المصر. وعمدة من لم ير القضاء قوله عليه الصلاة والسلام "فإنما أقضي له بحسب ما أسمع" وما رواه أبو داود وغيره عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أرسله إلى اليمن "لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر" وأما الحكم على الذمي، فإن في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنه يقضي بينهم إذا ترافعوا إليه بحكم المسلمين، وهو مذهب أبي حنيفة؛ والثاني أنه مخير، وبه قال مالك، وعن الشافعي القولان؛ والثالث أنه واجب على الإمام أن يحكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليه. فعمدة من اشترط مجيئهم للحاكم قوله تعالى
-وأما كيف يقضي القاضي، فإنهم أجمعوا على أنه واجب عليه أن يسوي بين الخصمين في المجلس وألا يسمع من أحدهما دون الآخر، وأن يبدأ بالمدعي فيسأله البينة إن أنكر المدعى عليه. وإن لم يكن له بينة فإن كان في مال وجبت اليمين على المدعى عليه باتفاق، وإن كانت في طلاق أو نكاح أو قتل وجبت عند الشافعي بمجرد الدعوى؛ وقال مالك: لا تجب إلا مع شاهد؛ وإذا كان في المال فهل يحلفه المدعى عليه بنفس الدعوى أو لا يحلفه حتى يثبت المدعي الخلطة؟ اختلفوا في ذلك، فقال جمهور فقهاء الأمصار: اليمين تلزم المدعى عليه بنفس الدعوى لعموم قوله عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عباس "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" وقال مالك: لا تجب اليمين إلا بالمخالطة؛ وقال بها السبعة من فقهاء المدينة. وعمدة من قال بها النظر إلى المصلحة لكيلا يتطرق الناس بالدعاوي إلى تعنيت بعضهم بعضا، وإذاية بعضهم بعضا، ومن هنا لم ير مالك إحلاف المرأة زوجها إذا ادعت عليه الطلاق إلا أن يكون معها شاهد، وكذلك إحلاف العبد سيده في دعوى العتق عليه، والدعوى لا تخلو أن تكون في شيء في الذمة أو في شيء بعينه، فإن كانت الذمة فادعى المدعى عليه البراءة من تلك الدعوى وأن له بينة سمعت منه بينته باتفاق. وكذلك إن كان اختلاف في عقد وقع في عين مثل بيع أو غير ذلك. وأما إن كانت الدعوى في عين وهو الذي يسمى استحقاقا، فإنهم اختلفوا هل تسمع بينة المدعى عليه؟ فقال أبو حنيفة: لا تسمع بينة المدعى عليه إلا في النكاح وما لا يتكرر؛ وقال غيره: لا تسمع في شيء؛ وقال مالك والشافعي: تسمع أعني في أن يشهد للمدعي بينة المدعى عليه أنه مال له وملك. فعمدة من قال لا تسمع أن الشرع قد جعل البينة في حيز المدعي واليمين في حيز المدعى عليه، فوجب أن لا ينقلب الأمر، وكان ذلك عندهما عبادة. وسبب الخلاف: هل تفيد بينة المدعى عليه معنى زائدا على كون الشيء المدعى فيه موجودا بيده، أم ليست تفيد ذلك؟ فمن قال: لا تفيد معنى زائدا قال: لا معنى لها؛ ومن قال تفيد: اعتبرها. فإذا باعتبار بينة المدعى عليه فوقع التعارض بين البينتين ولم تثبت إحداهما أمرا زائدا مما لا يمكن أن يتكرر في ملك ذي الملك؛ فالحكم عند مالك أن يقضي بأعدل البينتين ولا يعتبر الأكثر؛ وقال أبو حنيفة: بينة المدعي أولى على أصله ولا تترجح عنده بالعدالة كما لا تترحج عند مالك بالعدد، وقال الأوزاعي: تترجح بالعدد وإذا تساوت في العدالة فذلك عند مالك كلا بينة يحلف المدعى عليه، فإن نكل حلف المدعي ووجب الحق، لأن يد المدعي عليه شاهدة له، ولذلك جعل دليله أضعف الدليلين: أعني اليمين. وأما إذا أقر الخصم فإن كان المدعى فيه عينا فلا خلاف أنه يدفع إلى مدعيه. وأما إذا كان مالا في الذمة، فإنه يكلف المقر غرمه فإن ادعى العدم حبسه القاضي عند مالك حتى يتبين عدمه، إما بطول السجن والبينة إن كان متهما فإذا لاح عسره خلي سبيله لقوله تعالى
-وأما متى يقضي؟ فمنها ما يرجع إلى حال القاضي في نفسه، ومنها ما يرجع إلى وقت إنفاذ الحكم وفصله، ومنها ما يرجع إلى وقت توقيف المدعى فيه وإزالة اليد عنه إذا كان عينا. فأما متى يقضي القاضي؟ فإذا لم يكن مشغول النفس لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان" ومثل هذا عند مالك أن يكون عطشانا أو جائعا أو خائفا أو غير ذلك من العوارض التي تعوقه عن الفهم، لكن إذا قضى في حال من هذه الأحوال بالصواب، فاتفقوا فيما أعلم على أنه ينفذ حكمه، ويحتمل أن يقال: لا ينفذ فيما وقع عليه النص وهو الغضبان، لأن النهي يدل على فساد المنهى عنه. وأما متى ينفذ الحكم عليه فبعد ضرب الأجل والإعذار إليه، ومعنى نفوذ هذا، هو أن يحق حجة المدعي أو يدحضها وهل له أن يسمع حجة بعد الحكم؟ فيه اختلاف من قول مالك، والأشهر أنه يسمع فيما كان حقا لله مثل الإحباس والعتق ولا يسمع في غير ذلك. وقيل لا يسمع بعد نفوذ الحكم وهو الذي يسمى التعجيز قيل لا يسمع منهما جميعا، وقيل بالفرق بين المدعي والمدعى عليه، وهو ما إذا أقر بالعجز. وأما وقت التوقيف فهو عند الثبوت وقبل الإعذار، وهو إذا لم يرد الذي استحق الشيء من يده أن يخاصم فله أن يرجع بثمنه على البائع، وإن كان يحتاج في رجوعه به على البائع أن يوافقه عليه فيثبت شراءه منه إن أنكره، أو يعترف له به إن أقره فللمستحق من يده أن يأخذ الشيء من المستحق ويترك قيمته بيد المستحق؛ وقال الشافعي: يشتريه منه، فإن عطب في يد المستحق فهو ضامن له، وإن عطب في أثناء الحكم: ممن ضمانه؟ اختلف في ذلك، فقيل إن عطب بعد الثبات فضمانه من المستحق وقيل إنما يضمن المستحق بعد الحكم؛ وأما بعد الثبات وقبل الحكم فهو من المستحق منه. قال القاضي رضي الله عنه: وينبغي أن تعلم أن الأحكام الشرعية تنقسم قسمين: قسم يقضي به الحكام وجل ما ذكرناه في هذا الكتاب هو داخل في هذا القسم، وقسم لا يقضي به الحكام، وهذا أكثره هو داخل في المندوب إليه. وهذا الجنس من الأحكام هو مثل رد السلام وتشميت العاطس وغير ذلك مما يذكره الفقهاء في أواخر كتبهم التي يعرفونها بالجوامع. ونحن فقد رأينا أن نذكر أيضا من هذا الجنس المشهور منه إن شاء الله تعالى. وما ينبغي قبل هذا أن تعلم أن السنن المشروعة العملية المقصود منها هو الفضائل النفسانية، فمنها ما يرجع إلى تعظيم من يجب تعظيمه وشكر من يجب شكره، وفي هذا الجنس تدخل العبادات، وهذه هي السنن الكرامية. ومنها ما يرجع إلى الفضيلة التي تسمى عفة وهذه صنفان: السنن الواردة في المطعم والمشرب، والسنن الواردة في المناكح. ومنها ما يرجع إلى طلب العدل والكف عن الجور. فهذه هي أجناس السنن التي تقتضي العدل في الأموال، والتي تقتضي العدل في الأبدان، وفي هذا الجنس يدخل القصاص والحروب والعقوبات، لأن هذه كلها إنما يطلب بها العدل. ومنها السنن الواردة في الأعراض. ومنها السنن الواردة في جميع الأموال وتقويمها، وهي التي يقصد بها طلب الفضيلة التي تسمى السخاء، وتجنب الرذيلة التي تسمى البخل. والزكاة تدخل في هذا الباب من وجه، وتدخل أيضا في باب الاشتراك في الأموال، وكذلك الأمر في الصدقات. ومنها سنن واردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الإنسان وحفظ فضائله العملية والعلمية، وهي المعبر عنها بالرياسة، ولذلك لزم أيضا أن تكون سنن الأئمة والقوام بالدين. ومن السنة المهمة في حين الاجتماع السنن الواردة في المحبة والبغضة والتعاون على إقامة هذه السنن، وهو الذي يسمى: النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وهي المحبة والبغضة: أي الدينية التي تكون إما من قبل الإخلال بهذه السنن، وإما من قبل سوء المعتقد في الشريعة.
وأكثر ما يذكر الفقهاء في الجوامع من كتبهم ما شذ عن الأجناس الأربعة التي هي فضيلة العفة وفضيلة العدل وفضيلة الشجاعة وفضيلة السخاء، والعبادة التي هي كالشروط في تثبيت هذه الفضائل.
كمل كتاب الأقضية، وبكماله كمل جميع الديوان، والحمد لله كثيرا على ذلك كما هو أهله.
هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد (الشهير بالحفيد) من أهل قرطبة وقاضي الجماعة بها، يكنى أبا الوليد، روى عن أبيه أبي القاسم استظهر عليه الموطأ حفظا، وأخذ الفقه عن أبي القاسم بن بشكوال وأبي مروان بن مسرة وأبي بكر بن سمحون وأبي جعفر بن عبد العزيز وأبي عبد الله المازري.
وأخذ علم الطب عن أبي مروان بن جريؤل، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، ودرس الفقه والأصول وعلم الكلام. ولم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا، وكان على شرفه أشد الناس تواضعا وأخفضهم جناحا، وعني بالعلم من صغره إلى كبره، حتى حكى أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة بنائه على أهله، وأنه سود فيما صنف وقيد وألف وهذب واختصر نحو من عشرة آلاف ورقة. ومال إلى علوم الأوائل، وكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره، وكان يفزع إلى فتياه في الطب كما يفزع إلى فتياه في الفقه مع الحظ الوافر من الإعراب والآداب والحكمة. حكي عنه أنه كان يحفظ شعر المتنبي وحبيب. وله تآليف جليلة الفائدة، منها كتاب "بداية المجتهد، ونهاية المقتصد" في الفقه (هو هذا الكتاب الذي أبان عن مقدار معرفة الرجل بالشريعة، فإنه ذكر فيه أقوال فقهاء الأمة من الصحابة فمن بعدهم، مع بيان مستند كل من الكتاب والسنة، والقياس مع الترجيح، وبيان الصحيح، فخاض في بحر عجاج ملتطم الأمواج، واهتدى فيه للسلوك، ونظم جواهره في صحائف تلك السلوك، فرحمه الله رحمة واسعة) ذكر فيه أسباب الخلاف وعلل وجهه، فأفاد وأمتع به، ولا يعلم في وقته أنفع منه ولا أحسن سياقا، وكتاب الكليات في الطب، ومختصر المستصفى في الأصول، وكتابه في العربيه الذي وسمه بالضروري، وغير ذلك تنيف على ستين تأليفا، وحمدت سيرته في القضاء بقرطبة، وتأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة، ولم يصرفها في ترفيع حال ولا جمع مال، إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصة ومنافع أهل الأندلس. وحدث وسمع منه أبو بكر بن جهور وأبو محمد بن حوط الله وأبو الحسن بن سهل ابن مالك وغيرهم. وتوفي سنة خمس وتسعين وخمسمائة، ومولده سنة عشرين وخمسمائة، قبل وفاة القاضي جده أبي الوليد بن رشد بشهر.
تقريظ
وعند تمام طبعته الأولى قرظه حضرة الأديب الأستاذ الشيخ محمد أحمد عرفة بهذه الكلمة، فأحببنا إثباتها حرصا على محاسنها ونشرا لعلو مكانتها، وهي:
إلى الحكيم الراقد في جدته، الهانئ بمضجعه، تحفه مسحة من النور الإلهي، وعليه حارس من المهابة وسياج من الإجلال، أهدي غاديات من الدعوات واستمطر له وابلا من صيب الرحمات. لله أنت أيتها الروح الخالدة العائدة إلى محلها الأرفع، فقد هبطت علينا من عالمك العالي، وطلعت علينا طلوع القمر على خابط ليل ضل السبيل وخانه الدليل، طلعت والهدى، فكنت كالغيث أصاب أرضا قابلة فأنبتت الكلأ والعشب وأصاب منها الكثير أقمت فينا ما شاء الله لك أن تقومي، وخلفت لك آثارا جعلت لك مقعد صدق في كل نفس، ثم عدت سيرتك الأولى. بسم الله مجراك ومرساك وطلوعتك ومأواك وتأويبك ومسراك، أي جو حواك، وأي آمال وسعتك، وأي جسم تحمل ما ترومين.
وإذا كانت النفوس كبارا * تعبت في مرادها الأجسام
بينا نراك بين يدي فيثاغورس وأرسطو قد حنت عليك الحكمة، وأرضعتك أفاويقها، وأعلتك درها، وأنهلتك خيرها، فلا يظن أنك تعلمين غيرها، إذا أنت وقد وضعتك الشريعة بين الحشا والفؤاد، وسهلت لك حنونها، ووردت منهلا عذبا زاخرا عبابه، وسائغا شرابه. وهذا كتابك قد خالط أجزاء النفس وهش إليه الحس، فهو الحق إلا أنه حكم قد ضمن الدر إلا أنه كلم.
أنزه في رياض العلم نفسي * وأغدو في مسارحها وأمسي
أمتع ناظري فيما حوته * وأقطف زهرة من كل غرس
وأحسن من كئوس الراح عندي * ومن خد الظبا خدود طرس
وقد ردت الرياض فشمت روضا * به قد غبت عن نفسي وحسي
كأن خلال أسطره بحارا * تدفق بالمعارف بعد رمسي
كتاب حاكه فكر (ابن رشد) * وأخرج آية في كل درس
ومزق من ظلام الشك ثوبا * كما طرد الدجنة ضوء شمس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق