-وإذا وجدت العيوب، فإن لم يتغير المبيع بشيء من العيوب عند المشتري فلا يخلو أن يكون في عقار أو عروض أو في حيوان، فإن كان في حيوان فلا خلاف أن المشتري مخير بين أن يرد المبيع ويأخذ ثمنه أو يمسك ولا شيء له. وأما إن كان عقار فمالك يفرق في ذلك بين العيب اليسير والكثير فيقول: إن كان العيب يسيرا لم يجب الرد، ووجبت قيمة العيب وهو الأرش، وإن كان كثيرا وجب الرد، هذا هو الموجود المشهور في كتب أصحابه، ولم يفصل البغداديون هذا التفصيل. وأما العروض فالمشهور في المذهب أنها ليست في هذا الحكم بمنزلة الأصول، وقد قيل إنها بمنزلة الأصول في المذهب، وهذا الذي كان يختاره الفقيه أبو بكر بن رزق شيخ جدي رحمة الله عليهما، وكان يقول: إنه لا فرق في هذا المعنى بين الأصول والعروض، وهذا الذي قاله يلزم من يفرق بين العيب الكثير والقليل في الأصول: أعني أن يفرق في ذلك أيضا في العروض، والأصل أن كل ما حط القيمة أنه يجب به الرد، وهو الذي عليه فقهاء الأمصار، ولذلك لم يعول البغداديون فيما أحسب على التفرقة التي قلت في الأصول، ولم يختلف قولهم في الحيوان إنه لا فرق فيه بين العيب القليل والكثير.
-(فصل) وإذ قلنا إن المشتري يخير بين أن يرد المبيع ويأخذ ثمنه أو يمسك ولا شيء له، فإن اتفقا على أن يمسك المشتري سلعته ويعطيه البائع قيمة العيب، فعامة فقهاء الأمصار يجيزون ذلك، إلا ابن سريج من أصحاب الشافعي فإنه قال: ليس لهما ذلك لأنه خيار في مال، فلم يكن له إسقاطه بعوض كخيار الشفعة. قال القاضي عبد الوهاب: وهذا غلط، لأن ذلك حق للمشتري فله أن يستوفيه: أعني أن يرد ويرجع بالثمن، وله أن يعاوض على تركه، وما ذكره من خيار الشفعة فإنه شاهد لنا، فإن له عندنا تركه إلى عوض يأخذه، وهذا لا خلاف فيه. وفي هذا الباب فرعان مشهوران من قبل التبعيض: أحدهما هل إذا اشترى المشتري أنواعا من المبيعات في صفقة واحدة فوجد أحدها معيبا، فهل يرجع بالجميع، أو بالذي وجد فيه العيب؟ فقال قوم: ليس له إلا أن يرد الجميع أو يمسك، وبه قال أبو ثور والأوزاعي، إلا أن يكون قد سمى ما لكل واحد من تلك الأنواع من القيمة، فإن هذا مما لا خلاف فيه أنه يرد المبيع بعينه فقط، وإنما الخلاف إذا لم يسم. وقال قوم: يرد المعيب بحصته من الثمن وذلك بالتقدير، وممن قال بهذا القول سفيان الثوري وغيره. وروي عن الشافعي القولان معا. وفرق مالك فقال: ينظر في المعيب، فإن كان ذلك وجه الصفقة والمقصود بالشراء رد الجميع، وإن لم يكن وجه الصفقة رده بقيمته. وفرق أبو حنيفة تفريقا آخر وقال: إن وجد العيب قبل القبض رد الجميع، وإن وجده بعد القبض رد المعيب بحصته من الثمن. ففي هذه المسألة أربعة أقوال. فحجة من منع التبغيض في الرد أن المردود يرجع فيه بقيمة لم يتفق عليها المشتري والبائع، وكذلك الذي يبقى إنما يبقى بقيمة لم يتفقا عليها. ويمكن أنه لو بعضت السلعة لم يشتر البعض بالقيمة التي أقيم بها. وأما حجة من رأى الرد في البعض المعيب ولابد فلأنه موضع ضرورة، فأقيم فيه التقويم والتقدير مقام الرضا قياسا على أن ما فات في البيع فليس فيه إلا القيمة. وأما تفريق مالك بين ما هو وجه الصفقة أو غير وجهها فاستحسان منه، لأنه رأى أن ذلك المعيب إذا لم يكن مقصودا في المبيع فليس كبير ضرر في أن لا يوافق الثمن الذي أقيم به أراده المشتري أو البائع. وأما عند ما يكون مقصودا أو جل المبيع فيعظم الضرر في ذلك. واختلف عنه هل يعتبر تأثير العيب في قيمة الجميع أو في قيمة المعيب خاصة. وأما تفريق أبي حنيفة بين أن يقبض أو لا يقبض، فإن القبض عنده شرط من شروط تمام البيع، وما لم يقبض المبيع فضمانه عنده من البائع، وحكم الاستحقاق في هذه المسألة حكم الرد بالعيب.
-(وأما المسألة الثانية) فإنهم اختلفوا أيضا في رجلين يبتاعان شيئا واحدا في صفقة واحدة فيجدان به عيبا فيريد أحدهما الرجوع ويأبى الآخر، فقال الشافعي: لمن أراد الرد أن يرد، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، وقيل ليس له أن يرد؛ فمن أوجب الرد شبهه بالصفقتين المفترقتين، لأنه قد اجتمع فيها عاقدان؛ ومن لم يوجبه شبهه بالصفقة الواحدة إذا أراد المشتري فيها تبغيض رد المبيع بالعيب.
-وأما إن تغير المبيع عند المشتري ولم يعلم بالعيب إلا بعد تغير المبيع عنده فالحكم في ذلك يختلف عند فقهاء الأمصار بحسب التغيير. فأما إن تغير بموت أو فساد أو عتق، ففقهاء الأمصار على أنه فوت، ويرجع المشتري على البائع بقيمة العيب. وقال عطاء بن أبي رباح: لا يرجع في الموت والعتق بشيء. وكذلك عندهم حكم من اشترى جارية فأولدها. وكذلك التدبير عندهم، وهو القياس في الكتابة. وأما تغيره في البيع فإنهم اختلفوا فيه، فقال أبو حنيفة والشافعي: إذا باعه لم يرجع بشيء، وكذلك قال الليث. وأما مالك فله في البيع تفصيل، وذلك أنه لا يخلو أن يبيعه من بائعه منه أو من غير بائعه، ولا يخلو أيضا أن يبيعه بمثل الثمن أو أقل أو أكثر، فإن باعه من بائعه منه بمثل الثمن فلا رجوع له بالعيب. وإن باعه منه بأقل من الثمن رجع عليه بقيمة العيب، وإن باعه بأكثر من الثمن نظر، فإن كان البائع الأول مدلسا: أي عالما بالعيب لم يرجع الأول على الثاني بشيء، وإن لم يكن مدلسا رجع الأول على الثاني في الثمن والثاني على الأول أيضا، وينفسخ البيعان ويعود المبيع إلى ملك الأول، فإن باعه من عند بائعه منه، فقال ابن القاسم: لا رجوع له بقيمة العيب، مثل قول أبي حنيفة والشافعي؛ وقال ابن عبد الحكم: له الرجوع بقيمة العيب؛ وقال أشهب: يرجع بالأقل من قيمة العيب أو بقيمة الثمن، هذا إذا باعه بأقل مما اشتراه، وعلى هذا لا يرجع إذا باعه بمثل الثمن أو أكثر، وبه قال عثمان البتي. ووجه قول ابن القاسم والشافعي وأبي حنيفة أنه إذا فات بالبيع فقد أخذ عوضا من غير أن يعتبر تأثير بالعيب في ذلك العوض الذي هو الثمن، ولذلك متى قام عليه المشتري منه بعيب رجع على البائع الأول بلا خلاف. ووجه القول الثاني تشبيهه البيع بالعتق. ووجه قول عثمان وأشهب أنه لو كان عنده المبيع لم يكن له إلا الإمساك أو الرد للجميع، فإذا باعه فقد أخذ عوض ذلك الثمن، فليس له إلا ما نقص إلا أن يكون أكثر من قيمة العيب. وقال مالك: إن وهب أو تصدق رجع بقيمة العيب؛ وقال أبو حنيفة لا يرجع، لأن هبته أو صدقته تفويت للملك بغير عوض ورضي منه بذلك طلبا للأجر، فيكون رضاه بإسقاط حق العيب أولى وأحرى بذلك. وأما مالك فقاس الهبة على العتق، وقد كان القياس أن لا يرجع في شيء من ذلك إذا فات ولم يمكنه الرد، لأن إجماعهم على أنه إذا كان في يده فليس يجب له إلا الرد أو الإمساك، دليل على أنه ليس للعيب تأثير في إسقاط شيء من الثمن، وإنما له تأثير في فسخ البيع فقط. وأما العقود التي يتعاقبها الاسترجاع كالرهن والإجازة فاختلف في ذلك أصحاب مالك، فقال ابن القاسم: لا يمنع ذلك من الرد بالعيب إذا رجع إليه المبيع؛ وقال أشهب: إذا لم يكن زمان خروجه عن يده زمانا بعيدا كان له الرد بالعيب، وقول ابن القاسم أولى، والهبة للثواب عند مالك كالبيع في أنها فوت، فهذه هي الأحوال التي تطرأ على المبيع من العقود الحادثة فيها وأحكامها.
باب في طرو النقصان.
-وأما إن طرأ على المبيع نقص فلا يخلو أن يكون النقص في قيمته أو في البدن أو في النفس. فأما نقصان القيمة لاختلاف الأسواق، فغير مؤثر في الرد بالعيب بإجماع. وأما النقصان الحادث في البدن، فإن كان يسيرا غير مؤثر في القيمة فلا تأثير له في الرد بالعيب، وحكمه حكم الذي لم يحدث، وهذا نص مذهب مالك وغيره.
وأما النقص الحادث في البدن المؤثر في القيمة، فاختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها أنه ليس له أن يرجع إلا بقيمة العيب فقط وليس له غير ذلك إذا أبى البائع من الرد، وبه قال الشافعي في قوله الجديد وأبو حنيفة.
وقال الثوري: ليس له إلا أن يرد، ويرد مقدار العيب الذي حدث عنده، وهو قول الشافعي الأول.
والقول الثالث قول مالك: إن المشتري بالخيار بين أن يمسك ويضع عنه البائع من الثمن قدر العيب أو يرده على البائع ويعطيه ثمن العيب الذي حدث عنده، وأنه إذا اختلف البائع والمشتري، فقال البائع للمشتري: أنا أقبض المبيع وتعطي أنت قيمة العيب الذي حدث عندك، وقال المشتري: بل أنا أمسك المبيع، وتعطي أنت قيمة العيب الذي حدث عندك، فالقول قول المشتري والخيار له، وقد قيل في المذهب القول قول البائع، وهذا إنما يصح على قول من يرى أنه ليس للمشتري إلا أن يمسك أو يرد وما نقص عنده. وشذ أبو محمد بن حزم فقال: له أن يرد ولا شيء عليه.
وأما حجة من قال: إنه ليس للمشتري إلا أن يرد ويرد قيمة العيب، أو يمسك، فلأنه قد أجمعوا على أنه إذا لم يحدث بالمبيع عيب عند المشتري فليس إلا الرد، فوجب استصحاب حال هذا الحكم، وإن حدث عند المشتري عيب مع إعطائه قيمة العيب الذي حدث عنده.
وأما من رأى أنه لا يرد المبيع بشيء وإنما له قيمة العيب الذي كان عند البائع، فقياسا على العتق والموت لكون هذا الأصل غير مجمع عليه، وقد خالف فيه عطاء.
وأما مالك فلما تعارض عنده حق البائع وحق المشتري غلب المشتري وجعل له الخيار، لأن البائع لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون مفرطا في أنه لم يستعلم العيب ويعلم به المشتري، أو يكون علمه فدلس به على المشتري. وعند مالك أنه إذا صح أنه دلس بالعيب وجب عليه الرد من غير أن يدفع إليه المشتري قيمة العيب الذي حدث عنده، فإن مات من ذلك العيب كان ضمانه على البائع بخلاف الذي لم يثبت أنه دلس فيه.
وأما حجة أبي محمد، فلأنه أمر حدث من عند الله كما لو حدث في ملك البائع، فإن الرد بالعيب دال على أن البيع لم ينعقد في نفسه، وإنما انعقد في الظاهر، وأيضا فلا كتاب ولا سنة يوجب على مكلف غرم ما لم يكن له تأثير في نقصه إلا أن يكون على جهة التغليظ عند من ضمن الغاصب ما نقص عنده بأمر من الله، فهذا حكم العيوب الحادثة في البدن.
وأما العيوب التي في النفس كالإباق والسرقة، فقد قيل في المذهب إنها تُفِيتُ [أي يفوت بها استطاعة الرد] الرد كعيوب الأبدان، وقيل لا، ولا خلاف أن العيب الحادث عند المشتري إذا ارتفع بعد حدوثه أنه لا تأثير له في الرد إلا أن لا تؤمن عاقبته. واختلفوا من هذا الباب في المشتري يطأ الجارية، فقال قوم: إذا وطئ فليس له الرد وله الرجوع بقيمة العيب، وسواء كانت بكرا أو ثيبا؛ وبه قال أبو حنيفة؛ وقال الشافعي: يرد قيمة الوطء في البكر ولا يردها في الثيب؛ وقال قوم: بل يردها ويرد مهر مثلها، وبه قال ابن أبي شبرمة وابن أبي ليلى؛ وقال سفيان الثوري: إن كانت ثيبا رد نصف العشر من ثمنها، وإن كانت بكرا رد العشر من ثمنها؛ وقال مالك: ليس عليه في وطء الثيب شيء لأنه غلة وجبت له بالضمان. وأما البكر فهو عيب يثبت عنده للمشتري الخيار على ما سلف من رأيه، وقد روي مثل هذا القول عن الشافعي؛ وقال عثمان البتي: الوطء معتبر في العرف في ذلك النوع من الرقيق، فإن كان له أثر في القيمة رد البائع ما نقص، وإن لم يكن له أثر لم يلزمه شيء، فهذا هو حكم النقصان الحادث في المبيعات.
وأما الزيادة الحادثة في المبيع: أعني المتولدة المنفصلة منه، فاختلف العلماء فيها، فذهب الشافعي إلى أنها غير مؤثرة في الرد وأنها للمشتري لعموم قوله عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان". وأما مالك فاستثنى من ذلك الولد فقال: يرد للبائع، وليس للمشتري إلا الرد الزائد مع الأصل أو الإمساك. قال أبو حنيفة: الزوائد كلها تمنع الرد وتوجب أرش العيب إلا الغلة والكسب. وحجته أن ما تولد عن المبيع داخل في العقد، فلما لم يكن رده ورد ما تولد عنه كان ذلك فوتا يقتضي أرش العيب إلا ما نصصه الشرع من الخراج والغلة. وأما الزيادة الحادثة في نفس المبيع الغير المنفصلة عنه فإنها إن كانت مثل الصبغ في الثوب والرقم فإنها توجب الخيار في المذهب، إما الإمساك والرجوع بقيمة العيب، وإما في الرد وكونه شريكا مع البائع بقيمة الزيادة. وأما النماء في البدن مثل السمن فقد قيل في المذهب يثبت به الخيار للمشتري، وقيل لا يثبت، وكذلك النقص الذي هو الهزال، فهذا هو القول في حكم التغيير.
-وأما صفة الحكم في القضاء بهذه الأحكام فإنه إذا تقار البائع والمشتري على حالة من هذه الأحوال المذكورة ههنا وجب الحكم الخاص بتلك الحال، فإن أنكر البائع دعوى القائم، فلا يخلو أن ينكر وجود العيب أو ينكر حدوثه عنده. فإن أنكر وجود العيب بالمبيع فإن كان العيب يستوي في إدراكه جميع الناس كفى في ذلك شاهدان عدلان ممن اتفق من الناس، وإن كان مما يختص بعلمه أهل صناعة ما، شهد به أهل تلك الصناعة، فقيل في المذهب عدلان. وقيل لا يشترط في ذلك العدالة ولا العدد ولا الإسلام، وكذلك الحال إن اختلفوا في كونه مؤثرا في القيمة، وفي كونه أيضا قبل أمد التبايع أو بعده، فإن لم يكن للمشتري بينة حلف البائع أنه ما حدث عنده، وإن لم تكن له بينة (لعله وإن كانت له بينة) على وجود العيب بالمبيع لم يجب له يمين على البائع. وأما إذا وجب الأرش فوجه الحكم في ذلك أن يقوم الشيء سليما ويقوم معيبا ويرد المشتري ما بين ذلك، فإن وجب الخيار قوم ثلاث تقويمات: تقويم وهو سليم، وتقويم بالعيب الحادث عند البائع، وتقويم بالعيب الحادث عند المشتري، فيرد البائع من الثمن ويسقط عنه ما قدر منه قدر ما تنقص به القيمة المعيبة عن القيمة السليمة، وإن أبى المشتري الرد وأحب الإمساك رد البائع من الثمن ما بين القيمة الصحيحة والمعيبة عنده.
-اختلف العلماء في جواز هذا البيع. وصورته أن يشترط البائع على المشتري التزام كل عيب يجده في المبيع على العموم، فقال أبو حنيفة: يجوز البيع بالبراءة من كل عيب سواء علمه البائع أو لم يعلمه، سماه أو لم يسميه، أبصره أو لم يبصره، وبه قال أبو ثور. وقال الشافعي في أشهر قوليه وهو المنصور عند أصحابه لا يبرأ البائع إلا من عيب يريه للمشتري، وبه قال الثوري. وأما مالك فالأشهر عنه أن البراءة جائزة مما يعلم البائع من العيوب، وذلك في الرقيق خاصة، إلا البراءة من الحمل في الجواري الرائعات، فإنه لا يجوز عنده لعظم الغرر فيه، ويجوز في الوخش. وعنه في رواية ثانية: أنه يجوز في الرقيق والحيوان. وفي رواية ثالثة مثل قول الشافعي. وقد روي عنه أن بيع البراءة إنما يصح من السلطان فقط، وقيل في بيع السلطان وبيع المواريث، وذلك من غير أن يشترطوا البراءة. وحجة من رأى القول بالبراءة على الاطلاق أن القيام بالعيب حق من حقوق المشتري قبل البائع، فإذا أسقطه سقط أصله سائر الحقوق الواجبة. وحجة من لم يجزه على الاطلاق أن ذلك من باب الغرر فيما لم يعلمه البائع، ومن باب الغبن والغش فيما علمه، ولذلك اشترط جهل البائع مالك. وبالجملة فعمدة مالك ما رواه في الموطأ أن عبد الله بن عمر باع غلاما له بثمانمائة درهم وباعه على البراءة، فقال الذي ابتاعه لعبد الله بن عمر: بالغلام داء لم تسمه، فاختصما إلى عثمان، فقال الرجل: باعني عبدا وبه داء لم يسمه لي، وقال عبد الله: بعته بالبراءة، فقضى عثمان على عبد الله أن يحلف لقد باع العبد وما به داء يعلمه، فأبى عبد الله أن يحلف وارتجع العبد. وروي أيضا أن زيد بن ثابت كان يجيز بيع البراءة. وإنما خص مالك بذلك الرقيق لكون عيوبهم في الأكثر خافية. وبالجملة خيار الرد بالعيب حق ثابت للمشتري، ولما كان ذلك يختلف اختلافا كثيرا كاختلاف المبيعات في صفاتها وجب إذا اتفقا على الجهل به أن لا يجوز أصله إذا اتفقا على جهل صفة المبيع المؤثرة في الثمن، ولذلك حكى ابن القاسم في المدونة عن مالك أن آخر قوله كان إنكار بيع البراءة إلا ما خفف فيه السلطان، وفي قضاء الديون خاصة. وذهب المغيرة من أصحاب مالك إلى أن البراءة إنما تجوز فيما كان من العيوب لا يتجاوز فيها ثلث المبيع، والبراءة بالجملة إنما تلزم عند القائلين بالشرط: أعني إذا اشترطها إلا بيع السلطان والمواريث عند مالك فقط. فالكلام بالجملة في بيع البراءة هو في جوازه وفي شرط جوازه، وفيما يجوز من العقود والمبيعات والعيوب، ولمن يجوز بالشرط أو مطلقا، وهذه كلها قد تقدمت بالقوة في قولنا فاعلمه.
-اختلف العلماء في وضع الجوائح في الثمار، فقال بالقضاء بها مالك وأصحابه، ومنعها أبو حنيفة والثوري والشافعي في قوله الجديد والليث. فعمدة من قال بوضعها حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من باع ثمرا فأصابته جائحة فلا يأخذ من أخيه شيئا، على ماذا يأخذ أحدكم مال أخيه؟" خرجه مسلم عن جابر. وما روي عنه أنه قال "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح". فعمدة من أجاز الجوائح حديثا جابر هذان، وقياس الشبه أيضا، وذلك أنهم قالوا: إنه مبيع بقي على البائع فيه حق توفية، بدليل ما عليه من سقيه إلى أن يكمل، فوجب أن يكون ضمانه منه أصله سائر المبيعات التي بقي فيها حق توفية، والفرق عندهم بين هذا المبيع وبين سائر البيوع أن هذا بيع وقع في الشرع والمبيع لم يكمل بعد، فكأنه مستثنى من النهي عن بيع ما لم يخلق، فوجب أن يكون في ضمانه مخالفا لسائر المبيعات. وأما عمدة من لم يقل بالقضاء بها فتشبيه هذا البيع بسائر المبيعات وأن التخلية في هذا المبيع هو القبض. وقد اتفقوا على أن ضمان المبيعات بعد القبض من المشتري ومن طريق السماع أيضا حديث أبي سعيد الخدري قال "أجيح رجل في ثمار ابتاعها وكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه، فتصدق عليه فلم يبلغ وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" قالوا: فلم يحكم بالجائحة. فسبب الخلاف في هذه المسألة هو تعارض الآثار فيهما وتعارض مقاييس الشبه، وقد رام كل واحد من الفريقين صرف الحديث المعارض للحديث الذي هو الأصل عنده بالتأويل، فقال من منع الجائحة: يشبه أن يكون الأمر بها إنما ورد من قبل النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، قالوا: ويشهد لذلك أنه لما كثر شكواهم بالجوائح أمروا أن لا يبيعوا الثمر إلا بعد أن يبدو صلاحه، وذلك في حديث زيد بن ثابت المشهور، وقال من أجازها في حديث أبي سعيد: يمكن أن يكون البائع عديما فلم يقض عليه بجائحة أو أن يكون المقدار الذي أصيب من الثمر مقدارا لا يلزم فيه جائحة، أو أن يكون أصيب في غير الوقت الذي تجب فيه الجائحة، مثل أن يصاب بعد الجذاذ أو بعد الطيب. وأما الشافعي فروى حديث جابر عن سليمان بن عتيق عن جابر، وكان يضعفه ويقول: إنه اضطرب في ذكر وضع الجوائح فيه ولكنه قال: إن ثبت الحديث وجب وضعها في القليل والكثير، ولا خلاف بينهم في القضاء بالجائحة بالعطش، وقد جعل القائلون بها اتفاقهم في هذا حجة على إثباتها.
والكلام في أصول الجوائح على مذهب مالك ينحصر في أربعة فصول: الأول: في معرفة الأسباب الفاعلة للجوائح. الثاني: في محل الجوائح من المبيعات. الثالث: في مقدار ما يوضع منه فيه. الرابع: في الوقت الذي توضع فيه.
الفصل الأول في معرفة الأسباب الفاعلة للجوائح.
-وأما ما أصاب الثمرة من السماء مثل البرد والقحط وضده والعفن، فلا خلاف في المذهب أنه جائحة. وأما العطش كما قلنا فلا خلاف بين الجميع أنه جائحة. وأما ما أصاب من صنع الآدميين فبعض من أصحاب مالك رآه جائحة وبعض لم يره جائحة. والذين رأوه جائحة انقسموا إلى قسمين: فبعضهم رأى منه جائحة ما كان غالبا كالجيش ولم ير ما كان منه بمغافصة (غافصة: أخذه على غرة) جائحة مثل السرقة، وبعضهم جعل كل ما يصيب الثمرة من جهة الآدميين جائحة بأي وجه كان، فمن جعلها في الأمور السماوية فقط اعتمد ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام "أرأيت إن منع الله الثمرة؟" ومن جعلها في أفعال الآدميين شبهها بالأمور السماوية، ومن استثنى اللص قال: يمكن أن يتحفظ منه.
الفصل الثاني في محل الجوائح من المبيعات.
-ومحل الجوائح هي الثمار والبقول. فأما الثمار فلا خلاف فيها في المذهب، وأما البقول ففيها خلاف، والأشهر فيها الجائحة. وإنما اختلفوا في البقول لاختلافهم في تشبيهها بالأصل الذي هو الثمر.
الفصل الثالث في مقدار ما يوضع منه فيه.
-وأما المقدار الذي تجب فيه الجائحة، أما في الثمار فالثلث، وأما في البقول فقيل في القليل والكثير، وقيل في الثلث، وابن القاسم يعتبر ثلث الثمر بالكيل وأشهب يعتبر الثلث في القيمة، فإذا ذهب من الثمر عند أشهب ما قيمته الثلث من الكيل وضع عنه الثلث من الثمن، وسواء كان ثلثا في الكيل أو لم يكن. وأما ابن القاسم فإنه إذا ذهب من الثمر الثلث من الكيل، فإن كان نوعا واحدا ليس تختلف قيمة بطونه حط عنه من الثمن الثلث، وإن كان الثمر أنواعا كثيرة مختلفة القيم، أو كان بطونا مختلفة القيم أيضا اعتبر قيمة ذلك الثلث الذاهب من قيمة الجميع، فما كان قدره حط بذلك القدر من الثمن، ففي موضع يعتبر المكيلة فقط، حيث تستوي القيمة في أجزاء الثمرة وبطونها وفي موضع يعتبر أمرين جميعا حيث تختلف القيمة، والمالكية يحتجون في مصيرهم إلى التقدير في وضع الجوائح وإن كان الحديث الوارد فيها مطلقا بأن القليل في هذا معلوم من حكم العادة أنه يخالف الكثير إذ كان معلوما أن القليل يذهب من كل ثمر، فكأن المشتري دخل على هذا الشرط بالعادة وإن لم يدخل بالنطق، وأيضا فإن الجائحة التي علق الحكم بها تقتضي الفرق بين القليل والكثير. قالوا: وإذا وجب الفرق وجب أن يعتبر فيه الثلث، إذ قد اعتبره الشرع في مواضع كثيرة، وإن كان المذهب يضطرب في هذا الأصل، فمرة يجعل الثلث من حيز الكثير كجعله إياه ههنا، ومرة يجعله في حيز القليل ولم يضطرب في أنه الفرق بين القليل والكثير، والمقدارات يعسر إثباتها بالقياس عند جمهور الفقهاء، ولذلك قال الشافعي: لو قلت بالجائحة لقلت فيها بالقليل والكثير، وكون الثلث فرقا بين القليل والكثير هو نص في الوصية في قوله عليه الصلاة والسلام "الثلث، والثلث كثير".
الفصل الرابع في الوقت الذي توضع فيه.
-وأما زمان القضاء بالجائحة، فاتفق المذهب على وجوبها في الزمان الذي يحتاج فيه إلى تبقية الثمر على رءوس الشجر حيث يستوفي طيبه. واختلفوا إذا أبقاه المشتري في الثمار ليبيعه على النضارة وشيئا شيئا، فقيل فيه الجائحة تشبيها بالزمان المتفق عليه، وقيل ليس فيه جائحة تفريقا بينه وبين الزمان المتفق على وجوب القضاء بالجائحة فيه، وذلك أن هذا الزمان يشبه الزمان المتفق عليه من جهة ويخالفه من جهة؛ فمن غلب الاتفاق أوجب فيه الجائحة؛ ومن غلب الاختلاف لم يوجب فيه جائحة، أعني من رأى أن النضارة مطلوبة بالشراء كما الطيب مطلوب قال: بوجوب الجائحة فيه؛ ومن لم ير الأمر فيهما واحدا قال: ليس فيه جائحة، ومن ههنا اختلفوا في وجوب الجوائح في البقول.
-(المسألة الثانية) وهي اختلافهم في بيع مال العبد، وذلك أنهم اختلفوا في مال العبد هل يتبعه في البيع والعتق؟ على ثلاثة أقوال: أحدها أن ماله في البيع والعتق لسيده، وكذلك في المكاتب، وبه قال الشافعي والكوفيون. والثاني أن ماله تبع له في البيع والعتق، وهو قول داود وأبي ثور. والثالث أنه تبع له في العتق لا في البيع إلا أن يشترطه المشتري، وبه قال مالك والليث. فحجة من رأى أن ماله في البيع لسيده إلا أن يشترطه المبتاع حديث ابن عمر المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من باع عبدا وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع" ومن جعله لسيده في العتق فقياسا على البيع. وحجة من رأى أنه تبع للعبد في كل حال انبنت على كون العبد مالكا عندهم وهي مسألة اختلف العلماء فيها اختلافا كثيرا: أعني هل يملك العبد أو لا يملك؟ ويشبه أن يكون هؤلاء إنما غلبوا القياس على السماع، لأن حديث ابن عمر هو حديث خالف فيه نافع سالما، لأن نافعا رواه عن ابن عمر وسالم رواه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما مالك فغلب القياس في العتق والسماع في البيع. وقال مالك في الموطأ: الأمر المجتمع عليه عندنا أن المبتاع إذا اشترط مال العبد فهو له نقدا كان أو عرضا أو دينا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من أعتق غلاما فماله له إلا أن يستثنيه سيده" ويجوز عند مالك أن يشتري العبد وماله بدراهم، وإن كان مال العبد دراهم أو فيه دراهم. وخالفه أبو حنيفة والشافعي إذا كان مال العبد نقدا، وقالوا: العبد وماله بمنزلة من باع شيئين لا يجوز فيهما إلا ما يجوز في سائر البيوع. واختلف أصحاب مالك في اشتراط المشتري لبعض مال العبد في صفقة البيع، فقال ابن القاسم: لا يجوز، وقال أشهب: جائز أن يشترط بعضه، وفرق بعضهم فقال: إن كان ما اشترى به العبد عينا وفي مال العبد عين لم يجز ذلك لأنه يدخله دراهم بعرض ودراهم، وإن كان ما اشترى به عروضا أو لم يكن في مال العبد دراهم جاز. ووجه قول ابن القاسم إنه لا يجوز أن يشترط بعض تشبيهه بثمر النخل بعد الإبار. ووجه قول أشهب تشبيه الجزء بالكل، وفي هذا الباب مسائل مسكوت عنها كثيرة ليست مما قصدناه. ومن مشهور مسائلهم في هذا الباب الزيادة والنقصان اللذان يقعان في الثمن الذي انعقد عليه البيع بعد البيع بما يرضى به المتبايعان، أعني أن يزيد المشتري البائع بعد البيع على الثمن الذي انعقد عليه البيع أو يحط منه البائع، هل يتبع حكم الثمن أم لا؟ وفائدة الفرق أن من قال هي من الثمن أوجب ردها في الاستحقاق وفي الرد بالعيب وما أشبه ذلك، وأيضا من جعلها في حكم الثمن الأول إن كانت فاسدة البيع، ومن لم يجعلها من الثمن: أعني الزيادة لم يوجب شيئا من هذا، فذهب أبو حنيفة إلى أنها من الثمن إلا أنه قال لا تثبت الزيادة في حق الشفيع ولا في بيع المرابحة، بل الحكم للثمن الأول، وبه قال مالك؛ وقال الشافعي: لا تلحق الزيادة والنقصان بالثمن أصلا وهو في حكم الهبة، واستدل من ألحق الزيادة بالثمن بقوله عز وجل
-(القسم الرابع من النظر المشترك في البيوع) وهو النظر في حكم البيع الفاسد إذا وقع، فنقول: اتفق العلماء على أن البيوع الفاسدة إذا وقعت ولم تفت بإحداث عقد فيها أو نماء أو نقصان أو حوالة سوق أن حكمها الرد أعني أن يرد البائع الثمن والمشتري المثمون. واختلفوا إذا قبضت وتصرف فيها بعتق أو هبة أو بيع أو رهن أو غير ذلك من سائر التصرفات هل ذلك فوت يوجب القيمة، وكذلك إذا نمت أو نقصت فقال الشافعي: ليس ذلك كله فوتا ولا شبهة ملك في البيع الفاسد وأن الواجب الرد، وقال مالك: كل ذلك فوت يوجب القيمة إلا ما روى عنه ابن وهب في الربا أنه ليس بفوت، ومثل ذلك قال أبو حنيفة. والبيوع الفاسدة عند مالك تنقسم إلى محرمة وإلى مكروهة. فأما المحرمة فإنها إذا فاتت مضت بالقيمة. وأما المكروهة فإنها إذا فاتت صحت عنده، وربما صح عنده بعض البيوع الفاسدة بالقبض لخفة الكراهة عنده في ذلك، فالشافعية تشبه المبيع الفاسد لمكان الربا والغرر بالفاسد لمكان تحريم عينه كبيع الخمر والخنزير فليس عندهم فيه فوت، ومالك يرى أن النهي في هذه الأمور إنما هو لمكان عدم العدل فيها، أعني بيوع الربا والغرر، فإذا فاتت السلعة فالعدل فيها هو الرجوع بالقيمة، لأنه قد تقبض السلعة وهي تساوي ألفا وترد وهي تساوي خمسمائة أو بالعكس، ولذلك يرى مالك حوالة الأسواق فوتا في المبيع الفاسد، ومالك يرى في البيع والسلف أنه إذا فات وكان البائع هو المسلف رد المشتري القيمة ما لم تكن أزيد من الثمن، لأن المشتري قد رفع له في الثمن لمكان السلف فليس من العدل أن يرد أكثر من ذلك، وإن كان المشتري هو الذي أسلف البائع فقد حط البائع عنه من الثمن لمكان السلف، فإذا وجبت على المشتري القيمة ردها ما لم تكن أقل من الثمن، لأن هذه البيوع إنما وقع المنع فيها لمكان ما جعل فيها من العوض مقابل السلف الذي هو موضوع لعون الناس بعضهم لبعض، ومالك في هذه المسألة أفقه من الجميع. واختلفوا إذا ترك الشرط قبل القبض: أعني شرط السلف، هل يصح البيع أم لا؟ فقال أبو حنيفة والشافعي وسائر العلماء: البيع مفسوخ؛ وقال مالك وأصحابه: البيع غير مفسوخ إلا ابن عبد الحكم قال: البيع مفسوخ. وقد روي عن مالك مثل قول الجمهور. وحجة الجمهور أن النهي يتضمن فساد المنهي فإذا انعقد البيع فاسدا لم يصححه بعد رفع الشرط الذي من قبله وقع الفساد، كما أن رفع السبب المفسد في المحسوسات بعد فساد الشيء ليس يقتضي عودة الشيء إلى ما كان عليه قبل الفساد من الوجود فاعلمه. وروي أن محمد بن أحمد بن سهل البرمكي سأل عن هذه المسألة إسماعيل بن إسحاق المالكي فقال له: ما الفرق بين السلف والبيع وبين رجل باع غلاما بمائة دينار وزق خمر، فلما انعقد البيع بينهما قال: أنا أدع الزق، وهذا البيع مفسوخ عند العلماء بإجماع، فوجب أن يكون بيع السلف كذلك، فجاوب عن ذلك بجواب لا تقوم به حجة، وقد تقدم القول في ذلك. وإذ قد انقضى القول في أصول البيوع الفاسدة وأصول البيوع الصحيحة، وفي أصول أحكام البيوع الصحيحة، وأصول الأحكام الفاسدة المشتركة العامة لجميع البيوع أو لكثير منها فلنصر إلى ما يخص واحدا واحدا من هذه الأربعة الأجناس، وذلك بأن نذكر منها ما يجري مجرى الأصول.
-ولما كان يخص هذا البيع شرطان: أحدهما عدم النسيئة وهو الفور، والآخر عدم التفاضل وهو اشتراط المثلية كان النظر في هذا الباب ينحصر في خمسة أجناس: الأول: في معرفة ما هو نسيئة مما ليس بنسيئة. الثاني: في معرفة ما هو مماثل مما ليس بمماثل، إذ هذان القسمان ينقسمان بفصول كثيرة فيعرض هنالك الخلاف. الثالث: فيما وقع أيضا من هذا البيع بصورة مختلف فيها هل هو ذريعة إلى أحد هذين أعني الزيادة والنسيئة أو كليهما عند من قال بالذرائع وهو مالك وأصحابه، وهذا ينقسم أيضا إلى نوعين كانقسام أصله. الخامس: في خصائص أحكام هذا البيع من جهة ما يعتبر فيه هذان الشرطان: أعني عدم النَّساء والتفاضل أو كليهما، وذلك أنه يخالف هذا البيع البيوع لمكان هذين الشرطين فيه في أحكام كثيرة. وأنت إذا تأملت الكتب الموضوعة في فروع الكتاب الذي يرسمونه بكتاب الصرف وجدتها كلها راجعة إلى هذه الأجناس الخمسة، أو إلى ما تركب منها ما عدا المسائل التي يدخلون في الكتاب الواحد بعينه مما ليس هو من ذلك الكتاب مثل إدخال الملكية في الصرف مسائل كثيرة هي من باب الاقتضاء في السلف، لكن لما كان الفاسد منها يئول إلى أحد هذين الأصلين، أعني إلى صرف بنسيئة أو بتفاضل أدخلوها في هذا الكتاب مثل مسائلهم في اقتضاء القائمة والمجموعة والفرادى بعضها من بعض، لكن لما كان قصدنا إنما هو ذكر المسائل التي هي منطوق بها في الشرع أو قريب من المنطوق بها رأينا أن نذكر في هذا الكتاب سبع مسائل مشهورة تجري مجرى الأصول لما يطرأ على المجتهد من مسائل هذا الباب، فإن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد إذا حصل ما يجب له أن يحصل قبله من القدر الكافي له في علم النحو واللغة وصناعة أصول الفقه، ويكفي من ذلك ما هو مساو لجرم هذا الكتاب أو أقل، وبهذه الرتبة يسمى فقيها لا بحفظ مسائل الفقه ولو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي حفظ مسائل أكثر، وهؤلاء عرض لهم شبيه ما يعرض لمن ظن أن الخفاف هو الذي عنده خفاف كثيرة لا الذي يقدر على عملها، وهو بين أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة، وهو الذي يصنع لكل قدم خفا يوافقه، فهذا هو مثال أكثر المتفقهة في هذا الوقت وإذ قد خرجنا عما كنا بسبيله فلنرجع إلى حيث كنا من ذكر المسائل التي وعدنا بها.
-(المسألة الأولى) أجمع العلماء على أن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة لا يجوز إلا مثلا بمثل يدا بيد، إلا ما روي عن ابن عباس ومن تبعه من المكيين فإنهم أجازوا بيعه متفاضلا ومنعوه نسيئة فقط، وإنما صار ابن عباس لذلك لما رواه عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا ربا إلا في النسيئة" وهو حديث صحيح، فأخذ ابن عباس بظاهر هذا الحديث فلم يجعل الربا إلا في النسيئة. وأما الجمهور فصاروا إلى ما رواه مالك عن نافع عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجز" وهو من أصح ما روي في هذا الباب. وحديث عبادة بن الصامت حديث صحيح أيضا في هذا الباب، فصار الجمهور إلى هذه الأحاديث إذ كانت نصا في ذلك. وأما حديث ابن عباس فإنه ليس بنص في ذلك لأنه روي فيه لفظان: أحدهما أنه قال "إنما الربا في النسيئة" وهذا ليس يفهم منه إجازة التفاضل إلا من باب دليل الخطاب وهو ضعيف ولا سيما إذا عارضه النص. وأما اللفظ الآخر وهو "لا ربا إلا في النسيئة" فهو أقوى من هذا اللفظ لأن ظاهره يقتضي أن ما عدا النسيئة فليس بربا، لكن يحتمل أن يريد بقوله "لا ربا إلا في النسيئة" من جهة أن الواقع في الأكثر، وإذا كان هذا محتملا والأول نص وجب تأويله على الجهة التي يصح الجمع بينهما. وأجمع الجمهور على أن مسكوكه وتبره ومصوغه سواء في منع بيع بعضه ببعض متفاضلا لعموم الأحاديث المتقدمة في ذلك، إلا معاوية فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر والمصوغ لمكان زيادة الصياغة، وإلا ما روي عن مالك أنه سئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه فيعطيهم أجرة الضرب ويأخذ منهم دنانير ودراهم وزن ورقه أو دراهمه، فقال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك فأرجو أن لا يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه، وأنكر ذلك ابن وهب من أصحابه وعيسى بن دينار وجمهور العلماء. وأجاز مالك بدل الدينار الناقص بالوازن أو بالدينارين على اختلاف بين أصحابه في العدد الذي يجوز فيه ذلك من الذي لا يجوز على جهة المعروف.
-(المسألة الثانية) اختلف العلماء في السيف والمصحف المحلى يباع بالفضة وفيه حلية فضة، أو بالذهب وفيه حلية ذهب، فقال الشافعي: لا يجوز ذلك لجهل المماثلة المشترطة في بيع الفضة بالفضة في ذلك والذهب بالذهب، وقال مالك: إن كان قيمة ما فيه من الذهب أو الفضة الثلث فأقل جاز بيعه، أعني بالفضة إن كانت حليته فضة، أو بالذهب إن كانت حليته ذهبا وإلا لم يجز، وكأنه رأى أنه إذا كانت الفضة قليلة لم تكن مقصودة في البيع وصارت كأنها هبة؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: لابأس ببيع السيف المحلى بالفضة إذا كانت الفضة أكثر من الفضة التي في السيف، وكذلك الأمر في بيع السيف المحلى بالذهب، لأنهم رأوا أن الفضة التي فيه أو الذهب يقابل مثله من الذهب أو الفضة المشتراة به، ويبقى الفضل قيمة السيف. وحجة الشافعي عموم الأحاديث والنص الوارد في ذلك من حديث فضالة بن عبد الله الأنصاري أنه قال "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها ذهب وخرز وهي من المغانم تباع، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة ينزع وحده، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب وزنا بوزن" خرجه مسلم. وأما معاوية كما قلنا فأجاز ذلك على الإطلاق، وقد أنكره عليه أبو سعيد وقال: لا أسكن في أرض أنت فيها لما رواه من الحديث.
-(المسألة الثالثة) اتفق العلماء على أن من شرط الصرف أن يقع ناجزا. واختلفوا في الزمان الذي يحد هذا المعنى، فقال أبو حنيفة والشافعي: الصرف يقع ناجزا ما لم يفترق المتصارفان تعجل أو تأخر القبض؛ وقال مالك: إن تأخر القبض في المجلس بطل الصرف وإن لم يفترقا حتى كره المواعدة فيه. وسبب الخلاف ترددهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "إلا هاء وهاء" وذلك أن هذا يختلف بالأقل والأكثر؛ فمن رأى أن هذا اللفظ صالح لمن لم يفترق من المجلس، أعني أنه يطلق عليه أنه باع هاء وهاء قال: يجوز التأخير في المجلس؛ ومن رأى أن اللفظ لا يصح إلا إذا وقع القبض من المتصارفين على الفور قال: إن تأخر القبض عن العقد في المجلس بطل الصرف لاتفاقهم على هذا المعنى لم يجز عندهم في الصرف حوالة ولا حمالة ولا خيار، إلا ما حكي عن أبي ثور أنه أجاز فيه الخيار. واختلف في المذهب في التأخير الذي يغلب عليه المتصارفان أو أحدهما، فمرة قيل فيه إنه مثل الذي يقع بالاختيار، ومرة قيل إنه ليس كذلك في تفاصيل لهم في ذلك ليس قصدنا ذكرها في هذا الكتاب.
-(المسألة الرابعة) اختلف العلماء فيمن اصطرف دراهم بدنانير ثم وجد فيها درهما زائفا، فأراد رده، فقال مالك: ينتقض الصرف، وإن كانت دنانير كثيرة انتقض منها دينار للدرهم فما فوقه إلى صرف الدينار، فإن زاد درهم على دينار انتقض منها دينار آخر، وهكذا ما بينه وبين أن ينتهي إلى صرف دينار. قال: وإن رضي بالدرهم الزائف لم يبطل من الصرف شيء. وقال أبو حنيفة: لا يبطل الصرف بالدرهم الزائف، ويجوز تبديله إلا أن تكون الزيوف نصف الدراهم أو أكثر، فإن ردها بطل الصرف في المردود. وقال الثوري: إذا رد الزيوف كان مخيرا إن شاء أبدلها أو يكون شريكا له بقدر ذلك في الدنانير: أعني لصاحب الدنانير. وقال أحمد: لا يبطل الصرف بالرد قليلا كان أو كثيرا. وابن وهب من أصحاب مالك يجيز البدل في الصرف، وهو مبني على أن الغلبة على النظرة في الصرف ليس لها تأثير ولا سيما في البعض وهو أحسن. وعن الشافعي في بطلان الصرف بالزيوف قولان، فيتحصل لفقهاء الأمصار في هذه المسألة أربعة أقوال: قول بإبطال الصرف مطلقا عند الرد؛ وقول بإثبات الصرف ووجوب البدل؛ وقول بالفرق بين القليل والكثير؛ وقول بالتخيير بين بدل الزائف أو يكون شريكا له. وسبب الخلاف في هذا كله: هل الغلبة على التأخير في الصرف مؤثرة فيه أو غير مؤثرة؟ وإن كانت مؤثرة فهل هي مؤثرة في القليل أو في الكثير؟ وأما وجود النقصان فإن المذهب اضطرب فيه، فمرة قال فيه إنه إن رضي بالنقصان جاز الصرف، وإن طلب البدل انتقض الصرف قياسا على الزيوف، ومرة قال: يبطل الصرف وإن رضي به، وهو ضعيف. واختلفوا أيضا إذا قبض بعض الصرف وتأخر بعضه، أعني الصرف المنعقد على التناجز، فقيل يبطل الصرف كله، وبه قال الشافعي؛ وقيل يبطل منه المتأخر فقط، وبه قال أبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف، والقولان في المذهب؛ ومبني الخلاف الخلاف في الصفقة الواحدة يخالطها حرام وحلال هل تبطل الصفقة كلها، أو الحرام منها فقط؟.
-(المسألة الخامسة) أجمع العلماء على أن المراطلة جائزة في الذهب بالذهب وفي الفضة بالفضة، وإن اختلف العدد لاتفاق الوزن، وذلك إذا كانت صفة الذهبين واحدة. واختلفوا في المراطلة في موضعين: أحدهما أن تختلف صفة الذهبين. والثاني أن ينقص أحد الذهبين عن الآخر، فيريد الآخر أن يزيد بذلك عرضا أو دراهم إن كانت المراطلة بذهب، أو ذهبا إن كانت المراطلة بدراهم، فذهب مالك، أما في الموضع الأول، وهو أن يختلف جنس المراطل بهما في الجودة والرداءة أنه متى راطل بأحدهما بصنف من الذهب الواحد وأخرج الآخر ذهبين، أحدهما أجود من ذلك الصنف الواحد والآخر أردأ، فإن ذلك عنده لا يجوز، وإن كان الصنف الواحد من الذهبين، أعني الذي أخرجه وحده أجود من الذهبين المختلفين اللذين أخرجهما الآخر أو أردأ منهما معا، أو مثل أحدهما وأجود من الثاني جازت المراطلة عنده. وقال الشافعي: إذا اختلف الذهبان فلا يجوز ذلك. وقال أبو حنيفة وجميع الكوفيين والبصريين يجوز جميع ذلك. وعمدة مذهب مالك في منعه ذلك الاتهام، وهو مصير إلى القول بسد الذرائع، وذلك أنه يتهم أن يكون المراطل إنما قصد بذلك بيع الذهبين متفاضلا، فكأنه أعطى جزءا من الوسط بأكثر منه من الأردأ، أو بأقل منه من الأعلى، فيتذرع من ذلك إلى بيع الذهب بالذهب متفاضلا، مثال ذلك أن إنسانا قال لآخر: خذ مني خمسة وعشرين مثقالا وسطا بعشرين من الأعلى، فقال: لا يجوز هذا لنا، ولكن أعطيك عشرين من الأعلى وعشرة أدنى من ذهبك، وتعطيني أنت ثلاثين من الوسط، فتكون العشرة الأدنى يقابلها خمسة من ذهبك، ويقابل العشرين من ذهب الوسط العشرين من ذهبك الأعلى. وعمدة الشافعي اعتبار التفاضل الموجود في القيمة. وعمدة أبي حنيفة اعتبار وجود الوزن من الذهبين ورد القول بسد الذرائع. وكمثل اختلافهم في المصارفة التي تكون بالمراطلة اختلفوا في هذا الموضع في المصارفة التي تكون بالعدد، أعني إذا اختلفت جودة الذهبين أو الأذهاب. وأما اختلافهم إذا نقصت المراطلة، فأراد أحدهما أن يزيد شيئا آخر مما فيه الربا، أو مما لا ربا فيه، فقريب من هذا الاختلاف، مثل أن يراطل أحدهما صاحبه ذهب بذهب، فينقص أحد الذهبين عن الآخر، فيريد الذي نقص ذهبه أن يعطي عوض الناقص دراهم أو عرضا، فقال مالك والشافعي والليث: إن ذلك لا يجوز والمراطلة فاسدة؛ وأجاز ذلك كله أبو حنيفة والكوفيون. وعمدة الحنفية تقدير وجود المماثلة من الذهبين وبقاء الفضل مقابل العرض. وعمدة مالك التهمة في أن يقصد بذلك بيع الذهب بالذهب متفاضلا. وعمدة الشافعي عدم المماثلة بالكيل أو الوزن أو العدد الذي بالفضل، ومثل هذا يختلفون إذا كانت المصارفة بالعدد.
-(المسألة السادسة) واختلفوا في الرجلين يكون لأحدهما على صاحبه دنانير وللآخر عليه دراهم، هل يجوز أن يتصارفاها وهي في الذمة؟ فقال مالك: ذلك جائز إذا كانا قد حلا معا؛ وقال أبو حنيفة يجوز في الحال وفي غير الحال؛ وقال الشافعي والليث: لا يجوز ذلك حلا أو لم يحلا. وحجة من لم يجزه أنه غائب بغائب، وإذا لم يجز غائب بناجز كان أحرى أن لا يجوز غائب بغائب. وأما مالك فأقام حلول الأجلين في ذلك مقام الناجز بالناجز، وإنما اشترط أن يكونا حالين معا، لئلا يكون ذلك من بيع الدين بالدين. وبقول الشافعي قال ابن وهب وابن كنانة من أصحاب مالك؛ وقريب من هذا اختلافهم في جواز الصرف على ما ليس عندهما إذا دفعه أحدهما إلى صاحبه قبل الافتراق مثل أن يستقرضاه في المجلس فتقابضاه قبل الافتراق فأجاز ذلك الشافعي وأبو حنيفة وكرهه ابن القاسم من الطرفين واستخفه من الطرف الواحد، أعني إذا كان أحدهما هو المستقرض فقط. وقال زفر: لا يجوز ذلك إلا أن يكون من طرف واحد. ومن هذا الباب اختلافهم في الرجل يكون له على الرجل دراهم إلى أجل هل يأخذ فيها إذا حل الأجل ذهبا أو بالعكس؟ فذهب مالك إلى جواز ذلك إذا كان القبض قبل الافتراق، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه أجاز ذلك وإن لم يحل الأجل ولم يجز ذلك جماعة من العلماء، سواء كان الأجل حالا أو لم يكن، وهو قول ابن عباس وابن مسعود. وحجة من أجاز ذلك حديث ابن عمر قال "كنت أبيع الإبل بالبقيع، أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فسألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا بأس بذلك إذا كان بسعر يومه" خرجه أبو داود. وحجة من لم يجزه ما جاء في حديث أبي سعيد وغيره "ولا تبيعوا منها غائبا بناجز".
-(المسألة السابعة) اختلف في البيع والصرف في مذهب مالك فقال: إنه لا يجوز إلا أن يكون أحدهما الأكثر والآخر تبع لصاحبه، وسواء كان الصرف في دينار واحد أو في دنانير؛ وقيل إن كان الصرف في دينار واحد جاز كيفما وقع، وإن كان في أكثر اعتبر كون أحدهما تابعا للآخر في الجواز، فإن كانا معا مقصودين لم يجز، وأجاز أشهب الصرف والبيع وهو أجود، لأنه ليس في ذلك ما يؤدي إلى ربا ولا إلى غرر.
-وفي هذا الكتاب ثلاثة أبواب: الباب الأول: في محله وشروطه. الباب الثاني: فيما يجوز أن يقتضي من المسلم إليه بدل ما انعقد عليه السلم، وما يعرض في ذلك من الإقالة والتعجيل والتأخير. الباب الثالث: في اختلافهم في السلم.
-أما محله، فإنهم اجمعوا على جوازه في كل ما يكال أو يوزن لما ثبت من حديث ابن عباس المشهور قال "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلمون في التمر السنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسلف فليسلف في ثمن معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" واتفقوا على امتناعه فيما لا يثبت في الذمة، وهي الدور والعقار. وأما سائر ذلك من العروض والحيوان فاختلفوا فيها، فمنع ذلك داود وطائفة من أهل الظاهر مصيرا إلى ظاهر هذا الحديث. والجمهور على أنه جائز في العروض التي تنضبط بالصفة والعدد. واختلفوا من ذلك فيما ينضبط مما لا ينضبط بالصفة، فمن ذلك الحيوان والرقيق، فذهب مالك والشافعي والأوزاعي والليث إلى أن السلم فيهما جائز، وهو قول ابن عمر من الصحابة. وقال أبو حنيفة والثوري وأهل العراق: لا يجوز السلم في الحيوان، وهو قول ابن مسعود. وعن عمر في ذلك قولان. وعمدة أهل العراق في ذلك ما روي عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السلف في الحيوان" وهذا الحديث ضعيف عند الفريق الأول. وربما احتجوا أيضا بنهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. وعمدة من أجاز السلم في الحيوان ما روي عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا، فنفذت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلاص الصدقة، فأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة" وحديث أبي رافع أيضا "أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا" قالوا: وهذا كله يدل على ثبوته في الذمة. فسبب اختلافهم شيئان: أحدهما تعارض الآثار في هذا المعنى. والثاني تردد الحيوان بين أن يضبط بالصفة أو لا يضبط، فمن نظر إلى تباين الحيوان في الخلق والصفات وبخاصة صفات النفس قال: لا تنضبط؛ ومن نظر إلى تشابهها قال: تنضبط. ومنها اختلافهم في البيض والدر وغير ذلك، فلم يجز أبو حنيفة السلم في البيض وأجازه مالك بالعدد، وكذلك في اللحم أجازه مالك والشافعي، ومنعه أبو حنيفة؛ وكذلك السلم في الرءوس والأكارع، أجازه مالك، ومنعه أبو حنيفة. واختلف في ذلك قول أبي حنيفة والشافعي؛ وكذلك السلم في الدر والفصوص، أجازه مالك، ومنعه الشافعي، وقصدنا من هذه المسائل إنما هو الأصول الضابطة للشريعة لا إحصاء الفروع، لأن ذلك غير منحصر.
(وأما شروطه) فمنها مجمع عليها ومنها مختلف فيها، فأما المجمع عليها فهي ستة: منها أن يكون الثمن والمثمون مما يجوز فيه النَّساء، وامتناعه فيما لا يجوز فيه النَّساء، وذلك إما اتفاق المنافع على ما يراه مالك رحمه الله، وإما اتفاق الجنس على ما يراه أبو حنيفة، وإما اعتبار الطعم مع الجنس على ما يراه الشافعي في علة النَّساء. ومنها أن يكون مقدرا إما بالكيل أو بالوزن أو بالعدد إن كان مما شأنه أن يلحقه التقدير، أو منضبطا بالصفة إن كان مما المقصود منه الصفة. ومنها أن يكون موجودا عند حلول الأجل. ومنها أن يكون الثمن غير مؤجل أجلا بعيدا، لئلا يكون من باب الكالئ بالكالئ، هذا في الجملة. واشترطوا في اشتراط اليومين والثلاثة في تأخير نقد الثمن بعد اتفاقهم على أن لا يجوز في المدة الكثيرة ولا مطلقا، فأجاز مالك اشتراط تأخير اليومين والثلاثة، وأجاز تأخيره بلا شرط. وذهب أبو حنيفة إلى أن من شرطه التقابض في المجلس كالصرف، فهذه ستة متفق عليها. واختلفوا في أربعة: أحدها الأجل، هل هو شرط فيه أم لا؟ والثاني هل من شرطه أن يكون جنس المسلم فيه موجودا في حال عقد السلم أم لا؟. والثالث اشتراط مكان دفع المسلم فيه. والرابع أن يكون الثمن مقدرا إما مكيلا وإما موزونا وإما معدودا وأن لا يكون جزافا. فأما الأجل فإن أبا حنيفة هو عنده شرط صحة بلا خلاف عنه في ذلك؛ وأما مالك فالظاهر من مذهبه، والمشهور عنه أنه من شرط السلم، وقد قيل إنه يتخرج من بعض الروايات عنه جواز السلم الحالّ. وأما اللخمي فإنه فصل الأمر في ذلك فقال: إن السلم في المذهب يكون على ضربين: سلم حالّ، وهو الذي يكون من شأنه بيع تلك السلعة وسلم مؤجل، وهو الذي يكون ممن ليس من شأنه بيع تلك السلعة. وعمدة من اشترط الأجل شيئان: ظاهر حديث ابن عباس؛ والثاني أنه إذا لم يشترط فيه الأجل كان من باب بيع ما ليس عند البائع المنهي عنه. وعمدة الشافعي أنه إذا أجاز مع الأجل فهو حالا أجوز لأنه أقل غررا، وربما استدلت الشافعية بما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى جملا من أعرابي بوسق تمر، فلما دخل البيت لم يجد التمر، فاستقرض النبي صلى الله عليه وسلم تمرا وأعطاه إياه" قالوا: فهذا هو شراء حالّ بتمر في الذمة، وللمالكية من طريق المعنى أن السلم إنما جوز لموضع الارتفاق، ولأن المسلف يرغب في تقديم الثمن لاسترخاص المسلم فيه، والمسلم إليه يرغب فيه لموضع النسيئة، وإذا لم يشترط الأجل زال هذا المعنى. واختلفوا في الأجل في موضعين: أحدهما هل يقدر بغير الأيام والشهور مثل الجذاذ والقطاف والحصاد والموسم؟. والثاني في مقداره من الأيام. وتحصيل مذهب مالك في مقداره من الأيام أن المسلم فيه على ضربين: ضرب يقتضي بالبلد المسلم فيه، وضرب يقتضي بغير البلد الذي وقع فيه السلم؛ فإن اقتضاه في البلد المسلم فيه، فقال ابن القاسم: إن المعتبر في ذلك أجل تختلف فيه الأسواق، وذلك خمسة عشر يوما أو نحوها. وروي عن ابن وهب عن مالك أنه يجوز اليومين والثلاثة؛ وقال ابن عبد الحكم: لا بأس به إلى اليوم الواحد. وأما ما يقتضي ببلد آخر، فإن الأجل عندهم فيه هو قطع المسافة التي بين البلدين قلت أم كثرت، وقال أبو حنيفة: لا يكون أقل من ثلاثة أيام؛ فمن جعل الأجل شرطا غير معلل اشترط منه أقل ما ينطلق عليه الاسم؛ ومن جعله شرطا معللا باختلاف الأسواق اشترط من الأيام ما تختلف فيه الأسواق غالبا. وأما الأجل إلى الجذاذ والحصاد وما أشبه ذلك فأجازه مالك ومنعه أبو حنيفة والشافعي؛ فمن رأى أن الاختلاف الذي يكون في أمثال هذه الآجال يسير أجاز ذلك، إذ الغرر اليسير معفو عنه في الشرع، وشبهه بالاختلاف الذي يكون في الشهور من قبل الزيادة والنقصان؛ ومن رأى أنه كثير، وأنه أكثر من الاختلاف الذي يكون من قبل نقصان الشهور وكمالها لم يجزه. وأما اختلافهم في هل من شرط السلم أن يكون جنس المسلم فيه موجودا في حين عقد السلم، فإن مالكا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور لم يشترطوا ذلك وقالوا: يجوز السلم في غير وقت إبانه. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي: لا يجوز السلم إلا في إبان الشيء المسلم فيه. فحجة من لم يشترط الإبان ما ورد في حديث ابن عباس أن الناس كانوا يسلمون في التمر السنتين والثلاث فأقروا على ذلك ولم ينهوا عنه. وعمدة الحنفية ما روي من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تسلموا في النخل حتى يبدو صلاحها" وكأنهم رأوا أن الغرر يكون فيه أكثر إذا لم يكن موجودا في حال العقد، وكأنه يشبه بيع ما لم يخلق أكثر، وإن كان ذلك معينا وهذا في الذمة، وبهذا فارق السلم بيع ما لم يخلق.
(وأما الشرط الثالث) وهو مكان القبض، فإن أبا حنيفة اشترطه تشبيها بالزمان ولم يشترطه غيره وهم الأكثر. وقال القاضي أبو محمد: الأفضل اشتراطه. وقال ابن المواز: ليس يحتاج إلى ذلك.
(وأما الشرط الرابع) وهو أن يكون الثمن مقدرا مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا لا جزافا، فاشترط ذلك أبو حنيفة، ولم يشترطه الشافعي ولا صاحبا أبي حنيفة أبو يوسف ومحمد، قالوا: وليس يحفظ عن مالك في ذلك نص، إلا أنه يجوز عنده بيع الجزاف، إلا فيما يعظم الغرر فيه على ما تقدم من مذهبه. وينبغي أن تعلم أن التقدير في السلم يكون بالوزن فيما يمكن فيه الوزن، وبالكيل فيما يمكن فيه الكيل، وبالذرع فيما يمكن فيه الذرع، وبالعدد فيما يمكن فيه العدد. وإن لم يكن فيه أحد هذه التقديرات انضبط بالصفات المقصودة من الجنس مع ذكر الجنس إن كان أنواعا مختلفة، أو مع تركه إن كان نوعا واحدا، ولم يختلفوا أن السلم لا يكون إلا في الذمة وأنه لا يكون في معين؛ وأجاز مالك السلم في قرية معينة إذا كانت مأمونة، وكأنه رآها مثل الذمة.
-وفي هذا الباب فروع كثيرة، لكن نذكر منها المشهور:
-(مسألة) اختلف العلماء فيمن أسلم في شيء من الثمر، فلما حل الأجل تعذر تسليمه حتى عدم ذلك المسلم فيه وخرج زمانه، فقال الجمهور: إذا وقع ذلك كان المسلم بالخيار بين أن يأخذ الثمن أو يصير إلى العام القابل، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وابن القاسم؛ وحجتهم أن العقد وقع على موصوف في الذمة فهو باق على أصله، وليس من شرط جوازه أن يكون من ثمار هذه السنة، وإنما هو شيء شرطه المسلم فهو في ذلك بالخيار. وقال أشهب من أصحاب مالك: ينفسخ السلم ضرورة ولا يجوز التأخير، وكأنه رآه من باب الكالئ بالكالئ. وقال سحنون: ليس له أخذ الثمن، وإنما له أن يصبر إلى القابل، واضطرب قول مالك في هذا والمعتمد عليه في هذه المسألة ما رآه أبو حنيفة والشافعي وابن القاسم، وهو الذي اختاره أبو بكر الطرطوشي، والكالئ بالكالئ المنهى عنه إنما هو المقصود، لا الذي يدخل اضطرارا.
-(مسألة) اختلف العلماء في بيع المسلم فيه إذا حان الأجل من المسلم إليه قبل قبضه؛ فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلا، وهم القائلون بأن كل شيء لا يجوز بيعه قبل قبضه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق. وتمسك أحمد وإسحاق في منع هذا بحديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أسلم في شيء فلا يصرفه في غيره". وأما مالك فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين: أحدهما إذا كان المسلم فيه طعاما، وذلك بناء على مذهبه في أن الذي يشترطه في بيعه القبض هو الطعام على ما جاء عليه النص في الحديث. والثاني إذا لم يكن المسلم فيه طعاما فأخذ عوضه المسلم ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله مثل أن يكون المسلم فيه عرضا والثمن عرضا مخالفا له فيأخذ المسلم من المسلم إليه إذا حان الأجل شيئا من جنس ذلك العرض الذي هو الثمن، وذلك أن هذا يدخله إما سلف وزيادة إن كان العرض المأخوذ أكثر من رأس مال السلم، وإما ضمان وسلف إن كان مثله أو أقل. وكذلك إن كان رأس مال السلم طعاما لم يجز أن يأخذ فيه طعاما آخر أكثر، لا من جنسه ولا من غير جنسه، فإن كان مثل طعامه في الجنس والكيل والصفة فيما حكاه عبد الوهاب جاز، لأنه يحمله على العروض، وكذلك يجوز عنده أن يأخذ من الطعام المسلم فيه طعاما من صفته وإن كان أقل جودة، لأنه عنده من باب البدل في الدنانير. والإحسان مثل أن يكون له عليه قمح فيأخذ بمكيلته شعيرا، وهذا كله من شرطه عند مالك أن لا يتأخر القبض لأنه يدخله الدين بالدين. وإن كان رأس مال السلم عينا وأخذ المسلم فيه عينا من جنسه جاز ما لم يكن أكثر منه، ولم يتهمه على بيع العين بالعين نسيئة إذا كان مثله أو أقل، وإن أخذ دراهم في دنانير لم يتهمه على الصرف المتأخر، وكذلك إن أخذ فيه دنانير من غير صنف الدنانير التي هي رأس مال السلم. وأما بيع السلم من غير المسلم إليه، فيجوز بكل شيء يجوز التبايع به ما لم يكن طعاما، لأنه لا يدخله بيع الطعام قبل قبضه. وأما الإقالة فمن شرطها عند مالك أن لا يدخلها زيادة ولا نقصان، فإن دخلها زيادة أو نقصان كان بيعا من البيوع ودخلها ما يدخل البيوع، أعني أنها تفسد عنده بما يفسد بيوع الآجال مثل أن يتذرع إلى بيع وسلف، أو إلى: ضع وتعجل، أو إلى بيع السلم بما لا يجوز بيعه. مثال ذلك في دخول بيع وسلف به إذا حل الأجل، فأقاله على أن أخذ البعض وأقال من البعض فإنه لا يجوز عنده فإنه يدخله التذرع إلى بيع وسلف، وذلك جائز عند الشافعي وأبي حنيفة، لأنهما لا يقولان بتحريم بيوع الذرائع.
-(مسألة) اختلف العلماء في الشراء برأس مال السلم من المسلم إليه شيئا بعد الإقالة بما لا يجوز قبل الإقالة؛ فمن العلماء من لم يجزه أصلا، ورأى أن الإقالة ذريعة إلى أن يجوز من ذلك ما لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه، إلا أن عند أبي حنيفة لا يجوز على الإطلاق، إذ كان لا يجوز عنده بيع المسلم فيه قبل القبض على الإطلاق؛ ومالك يمنع ذلك في المواضع التي يمنع بيع المسلم فيه قبل القبض على ما فصلناه قبل هذا من مذهبه؛ ومن العلماء من أجازه، وبه قال الشافعي والثوري. وحجتهم أن بالإقالة قد ملك رأس ماله، فإذا ملكه جاز له أن يشتري به ما أحب، والظن الرديء بالمسلمين غير جائز. قال: وأما حديث أبي سعيد فإنه إنما وقع النهي فيه قبل الإقالة.
-(مسألة) اختلفوا إذا ندم المبتاع في السلم فقال للبائع: أقلني وأنظرك بالثمن الذي دفعت إليك، فقال مالك وطائفة: ذلك لا يجوز؛ وقال قوم: يجوز؛ واعتل مالك في ذلك مخافة أن يكون المشتري لما حل له الطعام على البائع أخره عنه على أن يقبله، فكان ذلك من باب بيع الطعام إلى أجل قبل أن يستوفي؛ وقوم اعتلوا لمنع ذلك بأنه من باب فسخ الدين بالدين؛ والذين رأوه جائزا رأوه أنه من باب المعروف والإحسان الذي أمر الله تعالى به. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أقال مسلما صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة، ومن أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله".
-(مسألة) أجمع العلماء على أنه كان لرجل على رجل دراهم أو دنانير إلى أجل فدفعها إليه عند محل الأجل وبعده أنه يلزمه أخذها. واختلفوا في العروض المؤجلة من السلم وغيره، فقال مالك والجمهور: إن أتى بها قبل محل الأجل لم يلزمه أخذها. وقال الشافعي: إن كان مما لا يتغير ولا يقصد به النظارة لزمه أخذه كالنحاس والحديد، وإن كان مما يقصد به النظارة كالفواكه لم يلزمه. وأما إذا أتى به بعد محل الأجل فاختلف في ذلك أصحاب مالك فروي عنه أنه يلزمه قبضه مثل أن يسلم في قطائف الشتاء فيأتي بها في الصيف، فقال ابن وهب وجماعة: لا يلزمه ذلك. وحجة الجمهور في أنه لا يلزمه قبض العروض قبل محل الأجل من قبل أنه من ضمانه إلى الوقت المضروب الذي قصده، ولما كان عليه من المؤنة في ذلك، وليس كذلك الدنانير والدراهم، إذ لا مؤنة فيها، ومن لم يلزمه بعد الأجل فحجته أنه رأى أن المقصود من العروض إنما كان وقت الأجل لا غيره. وأمر من أجاز ذلك في الوجهين، أعني بعد الأجل أو قبله فشبهه بالدنانير والدراهم.
-(مسألة) اختلف العلماء فيمن أسلم إلى آخر أو باع منه طعاما على مكيلة ما فأخبر البائع أو المسلم إليه المشتري بكيل الطعام، هل للمشتري أن يقبضه منه دون أن يكيله وأن يعمل في ذلك على تصديقه؟ فقال مالك: ذلك جائز في السلم وفي البيع بشرط النقد، وإلا خيف أن يكون من باب الربا، كأنه إنما صدقه في الكيل لمكان أنه أنظره بالثمن. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي والليث: لا يجوز ذلك حتى يكيله البائع للمشتري مرة ثانية بعد أن كاله لنفسه بحضرة البائع. وحجتهم أنه لما كان ليس للمشتري أن يبيعه إلا بعد أن يكيله لم يكن له أن يقبضه إلا بعد أن يكيله البائع له، لأنه لما كان من شرط البيع الكيل فكذلك القبض واحتجوا بما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري. واختلفوا إذا هلك الطعام في يد المشتري قبل الكيل، فاختلفا في الكيل، فقال الشافعي: القول قول المشتري، وبه قال أبو ثور؛ وقال مالك: القول قول البائع لأنه قد صدقه المشتري عند قبضه إياه، وهذا مبني عنده على أن البيع يجوز بنفس تصديقه.
-والمتبايعان في السلم إما أن يختلفا في قدر الثمن أو المثمون، وإما في جنسهما، وإما في الأجل، وإما في مكان قبض السلم. فأما اختلافهم في قدر المسلم فيه، فالقول فيه قول المسلم إليه إن أتى بما يشبه، وإلا فالقول أيضا قول المسلم إن أتى أيضا بما يشبه، فإن أتيا بما لا يشبه فالقياس أن يتحالفا ويتفاسخا. وأما اختلافهم في جنس المسلم فيه، فالحكم في ذلك التحالف والتفاسخ، مثل أن يقول أحدهما: أسلمت في تمر، ويقول الآخر: في قمح. وأما اختلافهم في الأجل فإن كان في حلوله فالقول قول المسلم إليه، وإن كان في قدره فالقول أيضا قول المسلم إليه إلا أن يأتي بما لا يشبه، مثل أن يدعي المسلم وقت إبان المسلم فيه، ويدعي المسلم إليه غير ذلك الوقت، فالقول قول المسلم. وأما اختلافهم في موضع القبض، فالمشهور أن من ادعى موضع عقد السلم فالقول قوله، وإن لم يدعه واحد منهما فالقول قول المسلم إليه. وخالف سحنون في الوجه الأول فقال: القول قول المسلم إليه وإن ادعى القبض في موضع العقد وخالف أبو الفرج في الموضع الثاني فقال: إذا لم يدع واحد منهما موضع العقد تحالفا وتفاسخا. وأما اختلافهم في الثمن فحكمه حكم اختلاف المتبايعين قبل القبض، وقد تقدم ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق