-والنظر في الشفعة أولا قسمين: القسم الأول: في تصحيح هذا الحكم وفي أركانه. القسم الثاني: في أحكامه.
(
-فأما وجوب الحكم بالشفعة، فالمسلمون متفقون عليه، لما ورد في ذلك من الأحاديث الثابتة، إلا ما يتأمل على من لا يرى بيع الشقص المشاع [قال في النهاية: ... الشِّقصُ والشَّقِيص: النصيبُ في العين المُشْتركة من كل شيء. دار الحديث]، وأركانها أربعة: الشافع، والمشفوع عليه، والمشفوع فيه، وصفة الأخذ بالشفعة.
(
(
(
(
-(
-(
-(فأما المسألة الأولى) وهي إذا لم يكن شريكا في حال البيع، وذلك يتصور بأن يكون يتراخى عن الأخذ بالشفعة بسبب من الأسباب التي لا يقطع له الأخذ بالشفعة حتى يبيع الحظ الذي كان به شريكا. فروى أشهب أن قول مالك اختلف في ذلك، فمرة قال: له الأخذ بالشفعة، ومرة قال: ليس له ذلك؛ واختار أشهب أنه لا شفعة له، وهو قياس قول الشافعي والكوفيين، لأن المقصود بالشفعة إنما هو إزالة الضرر من جهة الشركة، وهذا ليس بشريك. وقال ابن القاسم: له الشفعة إذا كان قيامه في أثره، لأنه يرى أن الحق الذي وجب له لم يرتفع ببيعه حظه.
-(وأما المسألة الثانية) فصورتها أن يستحق إنسان شقصا في أرض قد بيع منها قبل وقت الاستحقاق شقص ما، هل له أن يأخذ بالشفعة أم لا؟ فقال قوم: له ذلك، لأنه وجبت له الشفعة بتقدم شركته قبل البيع، ولا فرق في ذلك كانت يده عليه أو لم تكن؛ وقال قوم: لا تجب له الشفعة، لأنه إنما ثبت له مال الشركة يوم الاستحقاق، قالوا: ألا ترى أنه لا يأخذ الغلة من المشتري؛ فأما مالك فقال: إن طال الزمان فلا شفعة، وإن لم يطل ففيه الشفعة، وهو استحسان. وأما متى يأخذ وهو له الشفعة؟ فإن الذي له الشفعة رجلان حاضر أو غائب. فأما الغائب فأجمع له العلماء على أن الغائب على شفعته ما لم يعلم ببيع شريكه؛ واختلفوا إذا علم وهو غائب؛ فقال قوم: تسقط شفعته؛ وقال قوم: لا تسقط، وهو مذهب مالك، والحجة له ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر أنه قال "الجار أحق بصقبه" أو قال "بشفعته ينتظر بها إذا كان غائبا" وأيضا فإن الغائب في الأكثر معوق عن الأخذ بالشفعة، فوجب عذره. وعمدة الفريق الثاني أن سكوته مع العلم قرينة تدل على رضاه بإسقاطها. وأما الحاضر، فإن الفقهاء اختلفوا في وقت وجوب الشفعة له، فقال الشافعي وأبو حنيفة: هي واجبة له على الفور بشرط العلم وإمكان الطلب، فإن علم وأمكن الطلب، ولم يطلب بطلت شفعته، إلا أن أبا حنيفة قال: إن أشهد بالأخذ لم تبطل وإن تراخى. وأما مالك فليست عنده على الفور، بل وقت وجوبها متسع، واختلف قوله في هذا الوقت هل هو محدود أم لا؟ فمرة قال: هو غير محدود وأنها لا تنقطع أبدا إلا أن يحدث المبتاع بناء أو تغييرا كثيرا بمعرفته وهو حاضر عالم ساكت؛ ومرة حدد هذا الوقت، فروى عنه السنة وهو الأشهر، وقيل أكثر من سنة، وقد قيل عنه إن الخمسة أعوام لا تنقطع فيها الشفعة. واحتج الشافعي بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال "الشفعة كحل العقال" وقد روي عن الشافعي أن أمدها ثلاثة أيام. وأما من لم يسقط الشفعة بالسكوت واعتمد على أن السكوت لا يبطل حق امرئ مسلم ما لم يظهر من قرائن أحواله ما يدل على إسقاطه، وكان هذا أشبه بأصول الشافعي، لأن عنده أنه ليس يجب أن ينسب إلى ساكت قول قائل، وإن اقترنت به أحوال تدل على رضاه، ولكنه فيما أحسب اعتمد الأثر، فهذا هو القول في أركان الشفعة وشروطها المصححة لها وبقي القول في الأحكام.
-وهذه الأحكام كثيرة، ولكن نذكر منها ما اشتهر فيه الخلاف بين فقهاء الأمصار، فمن ذلك اختلافهم في ميراث حق الشفعة، فذهب الكوفيون إلى أنه لا يورث كما أنه لا يباع؛ وذهب مالك والشافعي وأهل الحجاز إلى أنها موروثة قياسا على الأموال وقد تقدم. سبب الخلاف في هذه المسائل في مسألة الرد بالعيب، ومنها اختلافهم في عهدة الشفيع هل هي على المشتري أو على البائع؟ فقال مالك والشافعي: هي على المشتري؛ وقال ابن أبي ليلى: هي على البائع. وعمدة مالك أن الشفعة إنما وجبت للشريك بعد حصول ملك المشتري وصحته، فوجب أن تكون عليه العهدة. وعمدة الفريق الآخر أن الشفعة إنما وجبت للشريك بنفس البيع، فطروؤها على البيع فسخ له وعقد لها. وأجمعوا على أن الإقالة لا تبطل الشفعة من رأى أنها بيع، ومن رأى أنها فسخ: أعني الإقالة. واختلف أصحاب مالك على من عهدة الشفيع في الإقالة؟ فقال ابن القاسم: على المشتري؛ وقال أشهب: هو مخير. ومنها اختلافهم إذا أحدث المشتري بناء أو غرسا أو ما يشبه في الشقص قبل قيام الشفيع، ثم قام الشفيع يطلب شفعته، فقال مالك: لا شفعة إلا أن يعطي المشتري قيمة ما بنى وما غرس؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: هو متعد وللشفيع أن يعطيه قيمة بنائه مقلوعا أو يأخذه بنقضه. والسبب في اختلافهم تردد تصرف المشفوع عليه العالم بوجوب الشفعة عليه بين شبهة تصرف الغاصب وتصرف المشتري الذي يطرأ عليه الاستحقاق وقد بني في الأرض وغرس، وذلك أنه وسط بينهما، فمن غلب عليه شبه الاستحقاق لم يكن له أن يأخذ القيمة، ومن غلب عليه شبه التعدي قال: له أن يأخذه بنقضه أو يعطيه قيمته منقوضا. ومنها اختلافهم إذا اختلف المشتري والشفيع في مبلغ الثمن، فقال المشتري: اشتريت الشقص بكذا، وقال الشفيع: بل اشتريته بأقل، ولم يكن لواحد منهما بينة، فقال جمهور الفقهاء: القول قول المشتري، لأن الشفيع مدع والمشفوع عليه مدعى عليه وخالف في ذلك بعض التابعين فقالوا: القول قول الشفيع، لأن المشتري قد أقر له بوجوب الشفعة وادعى عليه مقدارا من الثمن لم يعترف له به. وأما أصحاب مالك فاختلفوا في هذه المسألة، فقال ابن القاسم: القول قول المشتري إذا أتى بما يشبه باليمين، فإن أتى بما لا يشبه فالقول قول الشفيع وقال أشهب: إذا أتى بما يشبه فالقول قول المشتري بلا يمين وفيما لا يشبه باليمين. وحكي عن مالك أنه قال: إذا كان المشتري ذا سلطان يعلم بالعادة أنه يزيد في الثمن قبل قول المشتري بغير يمين وقيل إذا أتى المشتري بما لا يشبه رد الشفيع إلى القيمة، وكذلك فيما أحسب إذا أتى كل واحد منهما بما لا يشبه. واختلفوا إذا أتى كل واحد منهما ببينة وتساوت العدالة فقال ابن القاسم يسقطان معا ويرجع إلى الأصل من أن القول قول المشتري مع يمينه. وقال أشهب: البينة بينة المشتري لأنها زادت علما.
(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-والأصل في هذا الكتاب قوله
-والنظر في القسمة ينقسم أولا إلى قسمين: قسمة رقاب الأموال. والثاني: منافع الرقاب.
(
(
-فأما الرباع والأصول، فيجوز أن تقسم بالتراضي وبالسهمة إذا عدلت بالقيمة، اتفق أهل العلم على ذلك اتفاقا مجملا، وإن كانوا اختلفوا في محل ذلك وشروطه. والقسمة لا تخلو أن تكون في محل واحد أو في محال كثيرة، فإذا كانت في محل واحد فلا خلاف في جوازها إذا انقسمت إلى أجزاء متساوية بالصفة ولم تنقص منفعة الأجزاء بالانقسام ويجبر الشركاء على ذلك. وأما إذا انقسمت إلى ما لا منفعة فيه، فاختلف في ذلك مالك وأصحابه، فقال مالك: إنها تقسم بينهم إذا دعا أحدهم إلى ذلك ولو لم يصر لواحد منهم إلا ما لا منفعة فيه مثل قدر القدم، وبه قال ابن كنانة من أصحابه فقط، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وعمدتهم في ذلك قوله تعالى
-وأما الحيوان والعروض، فاتفق الفقهاء على أنه لا يجوز قسمة واحد منهما للفساد الداخل في ذلك. واختلفوا إذا تشاح الشريكان في العين الواحدة منهما، ولم يتراضيا بالانتفاع بها على الشياع، وأراد أحدهما أن يبيع صاحبه معه، فقال مالك وأصحابه: يجبر على ذلك، فإن أراد أحدهما أن يأخذه بالقيمة التي أعطى فيها أخذه، وقال أهل الظاهر: لا يجبر، لأن الأصول تقتضي أن لا يخرج ملك أحد من يده إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع. وحجة مالك أن في ترك الإجبار ضررا، وهذا من باب القياس المرسل، وقد قلنا في غير ما موضع إنه ليس يقول به أحد من فقهاء الأمصار إلا مالك، ولكنه كالضروري في بعض الأشياء. وأما إذا كانت العروض أكثر من جنس واحد، فاتفق العلماء على قسمتها على التراضي؛ واختلفوا في قسمتها بالتعديل والسهمة، فأجازها مالك وأصحابه في الصنف الواحد ومنع من ذلك عبد العزيز ابن أبي سلمة وابن الماجشون. واختلف أصحاب مالك في تمييز الصنف الواحد الذي تجوز فيه السهمة من التي لا تجوز فاعتبره أشهب بما لا يجوز تسليم بعضه في بعض. وأما ابن القاسم فاضطرب، فمرة أجاز القسم بالسهمة فيما لا يجوز تسليم بعضه في بعض، فجعل القسمة أخف من السلم، ومرة منع القسمة فيما منع فيه السلم؛ وقد قيل إن مذهبه أن القسمة في ذلك أخف، وأن مسائله التي يظن من قبلها أن القسمة عنده أشد من السلم تقبل التأويل على أصله الثاني. وذهب ابن حبيب إلى أنه يجمع في القسمة ما تقارب من الصنفين مثل الخز والحرير والقطن والكتان. وأجاز أشهب جمع صنفين في القسمة بالسهمة مع التراضي، وذلك ضعيف لأن الغرر لا يجوز بالتراضي.
-فأما المكيل والموزون فلا تجوز فيه القرعة باتفاق إلا ما حكى اللخمي، والمكيل أيضا لا يخلو أن يكون صبرة واحدة أو صبرتين فزائدا، فإن كان صنفا واحدا، فلا يخلو أن تكون قسمته على الاعتدال بالكيل أو الوزن إذا دعا إلى ذلك أحد الشريكين، ولا خلاف في جواز قسمته على التراضي على التفضيل البين كان ذلك من الربوي أو من غير الربوي: أعني الذي لا يجوز فيه التفاضل، ويجوز ذلك بالكيل المعلوم والمجهول، ولا يجوز قسمته جزافا بغير كيل ولا وزن. وأما إن كانت قسمته تحريا، فقيل لا يجوز في المكيل ويجوز في الموزون، ويدخل في ذلك من الخلاف ما يدخل في جواز بيعه تحريا. وأما إن لم يكن ذلك من صبرة واحدة وكانا صنفين، فإن كان ذلك مما لا يجوز فيه التفاضل فلا تجوز قسمتها على جهة الجمع إلا بالكيل المعلوم فيما يكال، وبالوزن بالصنجة المعروفة فيما يوزن، لأنه إذا كان بمكيال مجهول لم يدر كم يحصل فيه من الصنف الواحد إذا كانا مختلفين من الكيل المعلوم، وهذا كله على مذهب مالك، لأن أصل مذهبه أنه يحرم التفاضل في الصنفين إذا تقاربت منافعهما مثل القمح والشعير، وأما إن كان مما لا يجوز فيه التفاضل فيجوز قسمته على الاعتدال والتفاضل البين المعروف بالمكيال المعروف أو الصنجة المعروفة: أعني على جهة الجمع وإن كانا صنفين، وهذا الجواز كله في المذهب على جهة الرضا. وأما في واجب الحكم فلا تنقسم كل صبرة إلا على حدة وإذا قسمت كل صبرة على حدة جازت قسمتها بالمكيال المعلوم والمجهول، فهذا كله هو حكم القسمة التي تكون في الرقاب.
-فأما قسمة المنافع، فإنها لا تجوز بالسهمة على مذهب ابن القاسم، ولا يجبر عليها من أباها، ولا تكون القرعة على قسمة المنافع. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجبر على قسمة المنافع، وقسمة المنافع هي عند الجميع بالمهايأة، وذلك إما بالأزمان وإما بالأعيان. وأما قسمة المنافع بالأزمان فهو أن ينتفع كل واحد منهما بالعين مدة متساوية لمدة انتفاع صاحبه. وأما قسم الأعيان بأن يقسما الرقاب على أن ينتفع كل واحد منهما بما حصل له مدة محدودة والرقاب باقية على أصل الشركة. وفي المذهب في قسمة المنافع بالزمان اختلاف في تحديد المدة التي تجوز فيها القسمة لبعض المنافع دون بعض للاغتلال أو الانتفاع مثل استخدام العبد وركوب الدابة وزراعة الأرض، وذلك أيضا فيما ينقل ويحول، أو لا ينقل ولا يحول. فأما فيما ينقل ويحول فلا يجوز عند مالك وأصحابه في المدة الكثيرة ويجوز في المدة اليسيرة، وذلك في الاغتلال والانتفاع وأما فيما لا ينقل ولا يحول، فيجوز في المدة البعيدة والأجل البعيد، وذلك في الاغتلال والانتفاع واختلفوا في المدة اليسيرة فيما ينقل ويحول في الاغتلال فقيل اليوم الواحد ونحوه، وقيل لا يجوز ذلك في الدابة والعبد. وأما الاستخدام فقيل يجوز في مثل الخمسة الأيام، وقيل في الشهر وأكثر من الشهر قليلا. وأما التهايؤ في الأعيان بأن يستعمل هذا دارا مدة من الزمان، وهذا دارا تلك المدة بعينها، فقيل يجوز في سكنى الدار وزراعة الأرضين، ولا يجوز ذلك في الغلة والكراء إلا في الزمان اليسير، وقيل يجوز على قياس التهايؤ بالأزمان، وكذلك القول في استخدام العبد والدواب يجري القول فيه على الاختلاف في قسمتها بالزمان. فهذا هو القول في أنواع القسمة في الرقاب، وفي المنافع وفي الشروط المصححة والمفسدة. وبقي من هذا الكتاب القول في الأحكام.
-والقسمة من العقود اللازمة لا يجوز للمتقاسمين نقضها ولا الرجوع فيها إلا بالطوارئ عليها. والطوارئ ثلاثة غبن؛ أو وجود عيب، أو استحقاق. فأما الغبن فلا يوجب الفسخ إلا في قسمة القرعة باتفاق في المذهب إلا على قياس من يرى له تأثير في البيع، فيلزم على مذهبه أن يؤثر في القسمة. وأما الرد بالعيب، فإنه لا يخلو عن مذهب ابن القاسم أن يجد العيب في جل نصيبه أو في أقله، فإن وجده في جل نصيبه، فإنه لا يخلو أن يكون النصيب الذي حصل لشريكه قد فات أو لم يفت، فإن كان قد فات رد الواجد للعيب نصيبه على الشركة وأخذ من شريكه نصف قيمة نصيبه يوم قبضه، وإن كان لم يفت انفسخت القسمة وعادت الشركة إلى أصلها، وإن كان العيب في أقل ذلك رد ذلك الأقل على أصل الشركة فقط، سواء فات نصيب صاحبه أو لم يفت، ورجع على شريكه بنصف قيمة الزيادة ولا يرجع في شيء مما في يده وإن كان قائما بالعيب. وقال أشهب: والذي يفيت الرد قد تقدم في كتاب البيوع. وقال عبد العزيز بن الماجشون: وجود العيب يفسخ القسمة التي بالقرعة ولا يفسخ التي بالتراضي، لأن التي بالتراضي هي بيع، وأما التي بالقرعة فهي تمييز حق، وإذا فسخت بالغبن وجب أن تفسخ بالرد بالعيب. وحكم الاستحقاق عند ابن القاسم حكم وجود العيب إن كان المستحق كثيرا وحظ الشريك لم يفت رجع معه شريكا فيما في يديه، وإن كان قد فات رجع عليه بنصف قيمة ما في يديه، وإن كان يسيرا رجع عليه بنصف قيمة ذلك الشيء. وقال محمد: إذا استحق ما في يد أحدهما بطلت القسمة في قسمة القرعة، لأنه قد تبين أن القسمة لم تقع على عدل كقول ابن الماجشون في العيب وأما إذا طرأ على المال حق فيه مثل طوارئ الدين على التركة بعد القسمة أو طرو الوصية أو طرو وارث، فإن أصحاب مالك اختلفوا في ذلك. فأما إن طرأ الدين قيل في المشهور في المذهب وهو قول ابن القاسم: إن القسمة تنتقض إلا أن يتفق الورثة على أن يعطوا الدين من عندهم، وسواء كانت حظوظهم باقية بأيديهم أو لم تكن، هلكت بأمر من السماء أو لم تهلك. وقد قيل إن القسمة أيضا إنما تنتقض بيد من بقي في يده حظه ولم تهلك بأمر من السماء، وأما من هلك حظه بأمر من السماء فلا يرجع عليه بشيء من الدين، ولا يرجع هو على الورثة بما بقي بأيديهم بعد أداء الدين؛ وقيل بل تنتقض القسمة ولا بد لحق الله تعالى لقوله
(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى
-(
-(
-(
-وأما شروط الرهن، فالشروط المنطوق بها في الشرع ضربان: شروط صحة، وشروط فساد. فأما شروط الصحة المنطوق بها في الرهن: أعني في كونه رهنا فشرطان: أحدهما متفق عليه بالجملة ومختلف في الجهة التي هو بها شرط وهو القبض. والثاني مختلف في اشتراطه، فأما القبض فاتفقوا بالجملة على أنه شرط في الرهن لقوله تعالى
-وهذا الجزء ينقسم إلى معرفة ما للراهن من الحقوق في الرهن وما عليه، وإلى معرفة ما للمرتهن في الرهن وما عليه، وإلى معرفة اختلافهما في ذلك، وذلك إما من نفس العقد، وإما لأمور طارئة على الرهن، ونحن نذكر من ذلك ما اشتهر الخلاف فيه بين فقهاء الأمصار والاتفاق. أما حق المرتهن في الرهن فهو أن يمسكه حتى يؤدي الراهن ما عليه، فإن لم يأت به عند الأجل كان له أن يرفعه إلى السلطان، فيبيع عليه الرهن وينصفه منه إن لم يجبه الراهن إلى البيع، وكذلك إن كان غائبا، وإن وكل الراهن المرتهن على بيع الرهن عند حلول الأجل جاز؛ وكرهه مالك إلا أن يرفع الأمر إلى السلطان. والرهن عند الجمهور يتعلق بجملة الحق المرهون فيه وببعضه، أعني أنه إذا رهنه في عدد ما فأدى منه بعضه، فإن الرهن بأسره يبقى بعد بيد المرتهن حتى يستوفي حقه وقال قوم: بل يبقى من الرهن بيد المرتهن بقدر ما يبقى من الحق. وحجة الجمهور أنه محبوس بحق، فوجب أن يكون محبوسا بكل جزء منه أصله حبس التركة على الورثة حتى يؤدوا الدين الذي على الميت. وحجة الفريق الثاني أن جميعه محبوس بجميعه، فوجب أن يكون أبعاضه محبوسة بأبعاضه، أصله الكفالة.
ومن مسائل هذا الباب المشهورة اختلافهم في نماء الرهن المنفصل، مثل الثمرة في الشجر المرهون، ومثل الغلة، ومثل الولد هل يدخل في الرهن أم لا؟ فذهب قوم إلى أن نماء الرهن المنفصل لا يدخل شيء منه في الرهن: أعني الذي يحدث منه في يد المرتهن، وممن قال بهذا القول الشافعي؛ وذهب آخرون إلى أن جميع ذلك يدخل في الرهن، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة والثوري؛ وفرق مالك فقال: ما كان من نماء الرهن المنفصل على خلقته وصورته، فإنه داخل في الرهن كولد الجارية مع الجارية وأما ما لم يكن على خلقته فإنه لا يدخل في الرهن كان متولدا عنه كثمر النخل أو غير متولد ككراء الدار وخراج الغلام. وعمدة من رأى أن نماء الرهن وغلته للراهن قوله عليه الصلاة والسلام "الرهن محلوب ومركوب" قالوا: ووجه الدليل من ذلك أنه لم يرد بقوله "مركوب ومحلوب" أي يركبه الراهن ويحلبه، لأنه كان يكون غير مقبوض، وذلك مناقض لكونه رهنا، فإن الراهن من شرطه القبض، قالوا: ولا يصح أيضا أن يكون معناه أن المرتهن يحلبه ويركبه، فلم يبق إلا أن يكون المعنى في ذلك أن أجرة ظهرة لربه ونفقته عليه. واستدلوا أيضا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه" قالوا: ولأنه نماء زائد على مارضيه رهنا، فوجب أن لا يكون له إلا بشرط زائد. وعمدة أبي حنيفة أن الفروع تابعة للأصول فوجب لها حكم الأصل، ولذلك حكم الولد تابع لحكم أمه في التدبير والكتابة. وأما مالك فاحتج بأن الولد حكمه حكم أمه في البيع: أي هو تابع لها، وفرق بين الثمر والولد في ذلك بالسنة المفرقة في ذلك، وذلك أن الثمر لا يتبع بيع الأصل إلا بالشرط وولد الجارية يتبع بغير شرط. والجمهور على أن ليس للمرتهن أن ينتفع بشيء من الرهن؛ وقال قوم: إذا كان الرهن حيوانا فللمرتهن أن يحلبه ويركبه بقدر ما يعلفه وينفق عليه، وهو قول أحمد وإسحق، واحتجوا بما رواه أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "الرهن محلوب ومركوب" ومن هذا الباب اختلافهم في الرهن يهلك عند المرتهن ممن ضمانه؟ فقال قوم: الرهن أمانة وهو من الراهن، والقول قول المرتهن مع يمينه أنه ما فرط فيه وما جنى عليه، وممن قال بهذا القول الشافعي وأحمد وأبو ثور وجمهور أهل الحديث؛ وقال قوم: الرهن من المرتهن ومصيبته منه، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة وجمهور الكوفيين.
والذين قالوا بالضمان انقسموا قسمين: فمنهم من رأى أن الرهن مضمون بالأقل من قيمته أو قيمة الدين، وبه قال أبو حنيفة وسفيان وجماعة. ومنهم من قال: هو مضمون بقيمته قلت أو كثرت، وإنه إن فضل للراهن شيء فوق دينه أخذه من المرتهن، وبه قال علي ابن أبي طالب وعطاء وإسحق. وفرق قوم بين ما لا يغاب عليه مثل الحيوان والعقار مما لا يخفى هلاكه، وبين ما يغاب عليه من العروض، فقالوا: هو ضامن فيما يغاب عليه ومؤتمن فيما لا يغاب عليه، وممن قال بهذا القول مالك والأوزاعي وعثمان البتي، إلا أن مالكا يقول: إذا شهد الشهود بهلاك ما يغاب عليه من غير تضييع ولا تفريط، فإنه لا يضمن وقال الأوزاعي وعثمان البتي: بل يضمن على كل حال قامت بينة أو لم تقم، وبقول مالك قال ابن القاسم، وبقول عثمان والأوزاعي قال أشهب. وعمدة من جعله أمانة غير مضمون حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يغلق الرهن وهو ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه": أي له غلته وخراجه، وعليه افتكاكه مصيبته منه. قالوا: وقد رضي الراهن أمانته فأشبه المودع عنده. وقال المزني من أصحاب الشافعي محتجا له: قد قال مالك ومن تابعه إن الحيوان وما ظهر هلاكه أمانة، فوجب أن يكون كله كذلك. وقد قال أبو حنيفة: إن ما زاد من قيمة الرهن على قيمة الدين فهو أمانة فوجب أن يكون كله أمانة، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام عند مالك ومن قال بقوله "وعليه غرمه" أي نفقته. قالوا: ومعنى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام "الرهن مركوب ومحلوب" أي أجرة ظهره لربه، ونفقته عليه،
وأما أبو حنيفة وأصحابه فتأولوا قوله عليه الصلاة والسلام "له غنمه وعليه غرمه" أن غنمه ما فضل منه على الدين، وغرمه ما نقص. وعمدة من رأى أنه مضمون من المرتهن أنه عين تعلق بها حق الاستيفاء ابتداء فوجب أن يسقط بتلفه، أصله تلف المبيع عند البائع إذا أمسكه حتى يستوفي الثمن، وهذا متفق عليه من الجمهور، وإن كان عند مالك كالرهن؛ وربما احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن رجلا ارتهن فرسا من رجل، فنفق في يده، فقال عليه الصلاة والسلام للمرتهن: ذهب حقك" وأما تفريق مالك بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه فهو استحسان، ومعنى ذلك أن التهمة تلحق فيما يغاب عليه، ولا تلحق فيما لا يغاب عليه. وقد اختلفوا في معنى الاستحسان الذي يذهب إليه مالك كثيرا، فضعفه قوم وقالوا: إنه مثل استحسان أبي حنيفة، وحدوا الاستحسان بأنه قول بغير دليل. ومعنى الاستحسان عند مالك هو جمع بين الأدلة المتعارضة، وإذا كان ذلك كذلك فليس هو قول بغير دليل. والجمهور على أنه لا يجوز للراهن بيع الرهن ولا هبته، وأنه إن باعه فللمرتهن الإجارة أو الفسخ. قال مالك: وإن زعم أن إجارته ليتعجل حقه حلف على ذلك وكان له. وقال قوم: يجوز بيعه. وإن كان للرهن غلاما أو أمة فأعتقها الراهن فعند مالك أنه إن كان الراهن موسرا جاز عتقه وعجل للمرتهن حقه، وإن كان معسرا بيعت وقضي الحق من ثمنها وعند الشافعي ثلاثة أقوال: الرد، والإجازة، والثالث مثل قول مالك وأما اختلاف الراهن والمرتهن في قدر الحق الذي وجب به الرهن، فإن الفقهاء اختلفوا في ذلك، فقال مالك: القول قول المرتهن فيما ذكره من قدر الحق ما لم تكن قيمة الرهن أقل من ذلك، فما زاد على قيمة الرهن فالقول قول الراهن. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجمهور فقهاء الأمصار: القول في قدر الحق قول الراهن
وعمدة الجمهور أن الراهن مدعى عليه، والمرتهن مدع، فوجب أن تكون اليمين على الراهن على ظاهر السنة المشهورة. وعمدة مالك ههنا أن المرتهن وإن كان مدعيا فله ههنا شبهة بنقل اليمين إلى حيزه، وهو كون الرهن شاهدا له، ومن أصوله أن يحلف أقوى المتداعيين شبهة، وهذا لا يلزم عند الجمهور، لأنه قد يرهن الراهن الشيء وقيمته أكثر من المرهون فيه. وأما إذا تلف الرهن واختلفوا في صفته، فالقول ههنا عند مالك قول المرتهن لأنه مدعى عليه، وهو مقر ببعض ما ادعى عليه وهذا على أصوله، فإن المرتهن أيضا هو الضامن فيما يغاب عليه. وأما على أصول الشافعي، فلا يتصور على المرتهن يمين إلا أن يناكره الراهن في إتلافه. وأما عند أبي حنيفة فالقول قول المرتهن في قيمة الرهن، وليس يحتاج إلى صفة، لأن مالك يحلف على الصفة وتقويم تلك الصفة. وإذا اختلفوا في الأمرين جميعا، أعني في صفة الرهن وفي نقدار الرهن كان القول قول المرتهن في صفة الرهن، وفي الحق ما كنت قيمة الصفة التي حلف عليها شاهدة له، وفيه ضعف، وهل يشهد الحق لقيمة الرهن إذا اتفقا في الحق واختلفا في قيمة الرهن؟ في المذهب فيه قولان، والأقيس الشهادة، لأنه إذا شهد الرهن للدين شهد الدين للمرهون. وفروع هذا الباب كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية في غرضنا.
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-والنظر في هذا الكتاب في ثلاثة أبواب: الباب الأول: في أصناف المحجورين. الثاني: متى يخرجون من الحجر، ومتى يحجر عليهم، وبأي شروط يخرجون. الثالث: في معرفة أحكام أفعالهم في الرد والإجازة.
-أجمع العلماء على وجوب الحجر على الأيتام الذين لم يبلغوا الحلم لقوله تعالى
والمحجورون عند مالك ستة: الصغير ، والسفيه، والعبد، والمفلس، والمريض، والزوجة. وسيأتي ذكر كل واحد منهم في بابه.
-والنظر في هذا الباب في موضعين: في وقت خروج الصغار من الحجر، ووقت خروج السفهاء. فنقول: إن الصغار بالجملة صنفان: ذكور، وإناث، وكل واحد من هؤلاء إما ذو أب، وإما ذو وصي، وإما مهمل، وهم الذين يبلغون ولا وصي لهم ولا أب. فأما الذكور الصغار ذوو الآباء فاتفقوا على أنهم لا يخرجون من الحجر إلا ببلوغ سن التكليف وإيناس الرشد منهم، وإن كانوا قد اختلفوا في الرشد ما هو، وذلك لقوله تعالى
والنظر في هذا الباب في شيئين: أحدهما ما يجوز لصنف صنف من المحجورين من الأفعال، وإذا فعلوا فكيف حكم أفعالهم في الرد والإجازة، وكذلك أفعال المهملين وهم الذين بلغوا الحلم من غير أب ولا وصي، وهؤلاء كما قلنا إما صغار وإما كبار متصلو الحجر من الصغر وإما مبتدأ حجرهم. فأما الصغار الذين لم يبلغوا الحلم من الرجال ولا المحيض من النساء فلا خلاف في المذهب في أنه لا يجوز له في ماله معروف من هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق وإن أذن له الأب في ذلك أو الوصي، فإن أخرج من يده شيئا بغير عوض كان موقوفا على نظر وليه إن كان له ولي، فإن رآه رشدا أجازه وإلا أبطله، وإن لم يكن له ولي قدم له ولي ينظر في ذلك، وإن عمل في ذلك حتى يلي أمره كان النظر إليه في الإجازة أو الرد. واختلف إذا كان فعله سدادا ونظرا فيما كان يلزم الولي أن يفعله هل له أن ينقضه إذا آل الأمر إلى خلاف بحوالة الأسواق أو نماء فيما باعه أو نقصان فيما ابتاعه، فالمشهور أن ذلك له، وقيل إن ذلك ليس له، ويلزم الصغير ما أفسد في ماله مما لم يؤتمن عليه. واختلف فيما أفسد وكسر مما اؤتمن عليه، ولا يلزمه بعد بلوغه رشده عتق ما حلف بحريته في صغره وحنث به في صغره. واختلف فيما حنث فيه في كبره وحلف به في صغره، فالمشهور أنه لا يلزمه. وقال ابن كنانة: يلزمه ولا يلزمه فيما ادعى عليه يمين. واختلف إذا كان له شاهد واحد هل يحلف معه؟ فالمشهور أنه لا يحلف، وروي عن مالك والليث أنه يحلف. وحال البكر ذات الأب والوصي كالذكر ما لم تعنس على مذهب من يعتبر تعنيسها. أما السفيه البالغ، فجمهور العلماء على أن المحجور إذا طلق زوجته أو خالعها مضى طلاقه وخلعه، إلا ابن أبي ليلى وأبا يوسف، وخالف ابن أبي ليلى في العتق فقال: إنه ينفذ، وقال الجمهور: إنه لا ينفذ. وأما وصيته فلا أعلم خلافا في نفوذها، ولا تلزمه هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق ولاشيء من المعروف إلا أن يعتق أم ولده، فيلزمه عتقها، وهذا كله في المذهب، وهل يتبعها مالها؟ فيه خلاف، قيل يتبع، وقيل لا يتبع، وقيل بالفرق بين القليل والكثير. وأما ما يفعله بعوض، فهو أيضا موقوف على نظر وليه إن كان له ولي، فإن لم يكن له ولي قدم له ولي، فإن رد بيعه الولي وكان قد أتلف الثمن لم يتبع من ذلك بشيء، وكذلك إن أتلف عين المبيع.
وأما أحكام أفعال المحجورين أو المهملين على مذهب مالك فإنها تنقسم إلى أربعة أحوال: فمنهم من تكون أفعاله كلها مردودة، وإن كان فيها ما هو رشد. ومنهم ضد هذا، وهو أن تكون أفعاله كلها محمولة على الرشد وإن ظهر فيها ما هو سفه. ومنهم من تكون أفعاله كلها محمولة على السفه ما لم يتبين رشده. وعكس هذا أيضا وهو أن تكون أفعاله كلها محمولة على الرشد حتى يتبين سفهه. فأما الذي يحكم له بالسفه وإن ظهر رشده فهو الصغير الذي لم يبلغ، والبكر ذات الأب، والوصي ما لم تعنس على مذهب من يعتبر التعنيس. واختلف في حده اختلافا كثيرا من دون الثلاثين إلى الستين، والذي يحكم له بحكم الرشد وإن علم سفهه، فمنها السفيه إذا لم تثبت عليه ولاية من قبل أبيه، ولا من قبل السلطان على مشهور مذهب مالك، خلافا لابن القاسم الذي يعتبر نفس الرشد لا نفس الولاية، والبكر اليتيمة المهملة على مذهب سحنون. وأما الذي يحكم عليه بالسفه بحكم ما لم يظهر رشده: فالابن بعد بلوغه في حياة أبيه على المشهور في المذهب، وحال البكر ذات الأب التي لا وصي لها إذا تزوجت ودخل بها زوجها ما لم يظهر رشدها، وما لم تبلغ الحد المعتبر في ذلك من السنين عند من يعتبر ذلك، وكذلك اليتيمة التي لا وصي لها على مذهب من يرى أن أفعالها مردودة. وأما الحال التي يحكم فيها بحكم الرشد حتى يتبين السفه: فمنها حال البكر المعنس عند من يعتبر التعنيس، أو التي دخل بها زوجها ومضى لدخوله الحد المعتبر من السنين عند من يعتبر الحد، وكذلك حال الإبن ذي الأب إذا بلغ وجهلت حاله على إحدى الروايتين، والابنة البكر بعد بلوغها على الرواية التي لا تعتبر فيها دخولها مع زوجها. فهذه هي جمل ما في الكتاب والفروع كثيرة.
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-والنظر في هذا الكتاب فيما هو الفلس، وفي أحكام المفلس، فنقول: إن الإفلاس في الشرع يطلق على معنيين: أحدهما أن يستغرق الدين مال المدين، فلا يكون في ماله وفاء بديونه. والثاني أن لا يكون له مال معلوم أصلا، وفي كلا الفلسين قد اختلف العلماء في أحكامهما. فأما الحالة الأولى وهي إذا ظهر عند الحاكم من فلسه ما ذكرنا، فاختلف العلماء في ذلك هل للحاكم أن يحجر عليه التصرف في ماله حتى يبيعه عليه ويقسمه على الغرماء على نسبة ديونهم، أم ليس له ذلك؟ بل يحبس حتى يدفع إليهم جميع ماله على أي نسبة اتفقت أو لمن اتفق منهم، وهذا الخلاف بعينه يتصور فيمن كان له مال يفي بدينه، فأبى أن ينصف غرماءه، هل يبيع عليه الحاكم فيقسمه عليهم، أم يحبسه حتى يعطيهم بيده ما عليه؟ فالجمهور يقولون: يبيع الحاكم ماله عليه، فينصف منه غرماءه أو غريمه إن كان مليا، أو يحكم عليه بالإفلاس إن لم يف ماله بديونه ويحجر عليه التصرف فيه، وبه قال مالك والشافعي، وبالقول الآخر قال أبو حنيفة وجماعة من أهل العراق. وحجة مالك والشافعي حديث معاذ بن جبل "أنه كثر دينه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزد غرماءه على أن جعله لهم من ماله، وحديث أبي سعيد الخدري" أن رجلا أصيب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمر ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء بدينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" وحديث عمر في القضاء على الرجل المفلس في حبسه وقوله فيه: أما بعد، فإن الأسيفع "أسيفع جهينة" رضي من دينه وأمانته بأن يقال سبق الحاج، وأنه ادان معرضا فأصبح قدرين عليه، فمن كان له عليه دين فليأتينا. وأيضا من طريق المعنى فإنه إذا كان المريض محجورا عليه لمكان ورثته، فأحرى أن يكون المدين محجورا عليه لمكان الغرماء، وهذا القول هو الأظهر، لأنه أعدل والله أعلم. وأما حجج الفريق الثاني الذين قالوا بالحبس حتى يعطي ما عليه أو يموت محبوسا، فيبيع القاضي حينئذ ماله ويقسمه على الغرماء، فمنها حديث جابر بن عبد الله حين استشهد أبوه بأحد وعليه دين، فلما طالبه الغرماء قال جابر "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته، فسألهم أن يقبلوا مني حائطي، ويحللوا أبي، فأبوا، فلم يعطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطي قال: ولكن سأغدو عليك، قال: فغدا علينا حين أصبح فطاف بالنخل فدعا في ثمرها بالبركة قال: فجذذتها فقضيت منها حقوقهم، وبقي من ثمرها بقية" وبما روي أيضا أنه مات أسيد بن الحضير وعليه عشرة آلاف درهم، فدعا عمر بن الخطاب غرماءه، فقبلهم أرضه أربع سنين مما لهم عليه. قالوا: فهذه الآثار كلها ليس فيها أنه بيع أصل في دين قالوا: يدل على حبسه قوله صلى الله عليه وسلم "ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته" قالوا: العقوبة هي حبسه. وربما شبهوا استحقاق أصول العقار عليه باستحقاق إجازته، وإذا قلنا إن المفلس محجور عليه، فالنظر في ماذا يحجر عليه، وبأي ديون تكون المحاصة في ماله وفي أي شيء من ماله تكون المحاصة؟ وكيف تكون؟. فأما المفلس فله حالان: حال في وقت الفلس قبل الحجر عليه، وحال بعد الحجر. فأما قبل الحجر فلا يجوز له إتلاف شيء من ماله عند مالك بغير عوض إذا كان مما لا يلزمه ومما لا تجري العادة بفعله، وإنما اشترط إذا كان مما لا يلزمه، لأن له أن يفعل ما يلزم بالشرع وإن لم يكن بعوض كنفقته على الآباء المعسرين أو الأبناء، وإنما قيل مما لم تجر العادة بفعله، لأن له إتلاف اليسير من ماله بغير عوض كالأضحية والنفقة في العيد والصدقة اليسيرة، وكذلك تراعي العادة في إنفاقه في عوض كالتزوج والنفقة على الزوجة، ويجوز بيعه وابتياعه ما لم تكن فيه محاباة، وكذلك يجوز إقراره بالدين لمن لا يتهم عليه. واختلف قول مالك في قضاء بعض غرمائه دون بعض وفي رهنه.
وأما جمهور من قال بالحجر على المفلس فقالوا: هو قبل الحكم كسائر الناس، وإنما ذهب الجمهور لهذا لأن الأصل هو جواز الأفعال حتى يقع الحجر، ومالك كأنه اعتبر المعنى نفسه، وهو إحاطة الدين بماله لكن لم يعتبره في كل حال، لأنه يجوز بيعه وشراؤه إذا لم يكن فيه محاباة، ولا يجوزه للمحجور عليه. وأما حاله بعد التفليس فلا يجوز له فيها عند مالك بيع ولا شراء ولا أخذ ولا عطاء، لا يجوز إقراره بدين في ذمته لقريب ولا بعيد، قيل إلا أن يكون لواحد منهم بينة، وقيل يجوز لمن يعلم منه إليه تقاض. واختلف في إقراره بمال معين مثل القراض والوديعة على ثلاثة أقوال في المذهب: بالجواز، والمنع، والثالث بالفرق بين أن يكون على أصل القراض أو الوديعة ببينة أو لا تكون، فقيل إن كانت صدق وإن لم تكن لم يصدق. واختلفوا من هذا الباب في ديون المفلس المؤجلة هل تحل بالتفليس أم لا؟ فذهب مالك إلى أن التفليس في ذلك كالموت، وذهب غيره إلى خلاف ذلك، وجمهور العلماء على أن الديون تحل بالموت. قال ابن شهاب: مضت السنة بأن دينه قد حل حين مات. وحجتهم أن الله تبارك وتعالى لم يبح التوارث إلا بعد قضاء الدين، فالورثة في ذلك بين أحد أمرين: إما أن لا يريدوا أن يؤخروا حقوقهم في المواريث إلى محل أجل الدين فيلزم أن يجعل الدين حالا، وإما أن يرضوا بتأخير ميراثهم حتى تحل الديون فتكون الديون حينئذ في التركة خاصة لا في ذممهم، بخلاف ما كان عليه الدين قبل الموت، لأنه كان في ذمة الميت، وذلك يحسن في حق ذي الدين. ولذلك رأى بعضهم أنه إن رضي الغرماء بتحمله في ذممهم أبقيت الديون إلى أجلها، وممن قال بهذا القول ابن سيرين واختاره أبو عبيد من فقهاء الأمصار، لكن لا يشبه الفلس في هذا المعنى الموت كل الشبه، وإن كانت كلا الذمتين قد خربت فإن ذمة المفلس يرجى المال لها بخلاف ذمة الميت. وأما النظر فيما يرجع به أصحاب الديون من مال المفلس فإن ذلك يرجع إلى الجنس والقدر. أما ما كان قد ذهب عين العوض الذي استوجب من قبله الغريم على المفلس فإن دينه في ذمة المفلس. وأما إذا كان عين العوض باقيا بعينه لم يفت إلا أنه لم يقبض ثمنه،
فاختلف في ذلك فقهاء الأمصار على أربعة أقوال: الأول أن صاحب السلعة أحق بها على كل حال إلا أن يتركها ويختار المحاصة؛ وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور. والقول الثاني ينظر إلى قيمة السلعة يوم الحكم بالتفليس فإن كانت أقل من الثمن خير صاحب السلعة بين أن يأخذها أو يحاص الغرماء، وإن كانت مساوية للثمن أخذها بعينها، وبه قال مالك وأصحابه. والقول الثالث تقوم السلعة بين التفليس، فإن كانت قيمتها مساوية للثمن أو أقل منه قضى له بها: أعني للبائع، وإن كانت أكثر دفع إليه مقدار ثمنه ويتحاصون في الباقي، وبهذا القول قال جماعة من أهل الأثر. والقول الرابع أنه أسوة الغرماء فيها على كل حال، وهو قول أبي حنيفة وأهل الكوفة والأصل في هذه المسألة ما ثبت من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أيما رجل أفلس فأدرك الرجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره" وهذا الحديث خرجه مالك والبخاري ومسلم، وألفاظهم متقاربة، وهذا اللفظ لمالك؛ فمن هؤلاء من حمله على عمومه وهو الفريق الأول؛ ومنهم من خصصه بالقياس وقالوا: إن معقوله إنما هو الرفق بصاحب السلعة لكون سلعته باقية، وأكثر ما في ذلك أن يأخذ الثمن الذي باعها به، فإما أن يعطي في هذه الحال الذي اشترك فيها مع الغرماء أكثر من ثمنها فذلك مخالف لأصول الشرع، وبخاصة إذا كان للغرماء أخذها بالثمن كما قال مالك. وأما أهل الكوفة فردوا هذا الحديث بجملته لمخالفته للأصول المتواترة على طريقتهم في رد الخبر الواحد إذا خالف الأصول المتواترة لكون خبر الواحد مظنونا، والأصول يقينية مقطوع بها، كما قال عمر في حديث فاطمة بنت قيس: ما كنا لندع كتاب الله وسنة نبينا لحديث امرأة. ورواه عن علي أنه قضى بالسلعة للمفلس، وهو رأى ابن سيرين وإبراهيم من التابعين.
وربما احتجوا بأن حديث أبي هريرة مختلف فيه، وذلك أن الزهري روى عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أيما رجل مات أو فلس فوجد بعض غرمائه ماله بعينه فهو أسوة الغرماء" وهذا الحديث أولى لأنه موافق للأصول الثابتة. قالوا: وللجمع بين الحديثين وجه، وهو حمل ذلك الحديث على الوديعة والعارية، إلا أن الجمهور دفعوا هذا التأويل بما ورد في لفظ حديث أبي هريرة في بعض الروايات من ذكر البيع، وهذا كله عند الجميع بعد قبض المشتري السلعة، فأما قبل القبض فالعلماء متفقون أهل الحجاز وأهل العراق أن صاحب السلعة أحق بها لأنها في ضمانه، واختلف القائلون بهذا الحديث إذا قبض البائع بعض الثمن، فقال مالك: إن شاء أن يرد ما قبض ويأخذ السلعة كلها، وإن شاء حاص الغرماء فيما بقي من سلعته؛ وقال الشافعي: بل يأخذ ما بقي من سلعته بما بقي من الثمن؛ وقالت جماعة من أهل العلم داود وإسحق وأحمد: إن قبض من الثمن شيئا فهو أسوة الغرماء. وحجتهم ما روى مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع أسوة الغرماء" وهو حديث وإن أرسله مالك فقد أسنده عبد الرزاق، وقد روي من طريق الزهري عن أبي هريرة فيه زيادة بيان، وهو قوله فيه "فإن كان قبض من ثمنه شيئا فهو أسوة الغرماء" ذكره أبو عبيد في كتابه في الفقه وخرجه. وحجة الشافعي أن كل سلعة أو بعضها في الحكم الواحد، ولم يختلفوا أنه إذا فوت المشتري بعضها أن البائع أحق بالمقدار الذي أدرك من سلعته، إلا عطاء فإنه قال: إذا فوت المشتري بعضها كان البائع أسوة الغرماء. واختلف الشافعي ومالك في الموت هل حكمه حكم الفلس أم لا؟
فقال مالك: هو في الموت أسوة الغرماء، بخلاف الفلس؛ وقال الشافعي: الأمر في ذلك واحد. وعمدة مالك ما رواه عن ابن شهاب عن أبي بكر وهو نص في ذلك وأيضا من جهة النظر إن فرقا بين الذمة في الفلس والموت، وذلك أن الفلس ممكن أن تثرى حاله فيتبعه غرماؤه بما بقي عليه وذلك غير متصور في الموت. وأما الشافعي فعمدته ما رواه ابن أبي ذئب بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما رجل مات أو فلس فصاحب المتاع أحق به" فسوى في هذه الرواية بين الموت والفلس. قال: وحديث ابن أبي ذئب أولى من حديث ابن شهاب، لأن حديث ابن شهاب مرسل وهذا مسند، ومن طريق المعنى فهو مال لا تصرف فيه لمالكه إلا بعد أداء ما عليه، فأشبه مال المفلس؛ وقياس مالك أقوى من قياس الشافعي، وترجيح حديثه على حديث ابن أبي ذئب من جهة أن موافقة القياس له أقوى، وذلك أن ما وافق من الأحاديث المتعارضة قياس المعنى فهو أقوى مما وافقه قياس الشبه: أعني أن القياس الموافق لحديث الشافعي هو قياس شبه، والموافق لحديث مالك قياس معنى، ومرسل مالك خرجه عبد الرزاق. فسبب الخلاف تعارض الآثار في هذا المعنى والمقاييس، وأيضا فإن الأصل يشهد لقول مالك في الموت، أعني أن من باع شيئا فليس يرجع إليه فمالك رحمه الله أقوى في هذه المسألة، والشافعي إنما ضعف عنده فيها قول مالك لما روي من المسند المرسل عنده لا يجب العمل به. واختلف مالك والشافعي فيمن وجد سلعته بعينها عند المفلس وقد أحدث زيادة مثل أن تكون أرضا يغرسها أو عرصة يبنيها، فقال مالك: العمل الزائد فيها هو فوت ويرجع صاحب شريك الغرماء. وقال الشافعي: بل يخير البائع بين أن يعطي قيمة ما أحدث المشتري في سلعته ويأخذها، أو أن يأخذ أصل السلعة ويحاص الغرماء في الزيادة، وما يكون فوتا مما لا يكون فوتا في مذهب مالك منصوص في كتبه المشهورة.
وتحصيل مذهب مالك فيما يكون الغريم به أحق من سائر الغرماء في الموت والفلس، أو في الفلس دون الموت أن الأشياء المبيعة بالدين تنقسم في التفليس ثلاثة أقسام: عرض يتعين، وعين اختلف فيه هل يتعين فيه أم لا؟ وعمل لا يتعين. فأما العرض فإن كان في يد بائعه لم يسلمه حتى أفلس المشتري، فهو أحق به في الموت والفلس، وهذا ما لا خلاف فيه، وإن كان قد دفعه إلى المشتري ثم أفلس وهو قائم بيده فهو أحق به من الغرماء في الفلس دون الموت، ولهم عنده أن يأخذوا سلعته بالثمن وقال الشافعي: ليس لهم، وقال أشهب: لا يأخذونها إلا بالزيادة يحطونها عن المفلس؛ وقال ابن الماجشون: إن شاءوا كان الثمن من أموالهم أو من مال الغريم؛ وقال ابن كنانة: بل يكون من أموالهم وأما العين فهوأحق بها في الموت أيضا، والفلس ما كان بيده. واختلف إذا دفعه إلى بائعه فيه ففلس أو مات وهو قائم بيده يعرف بعينه، فقيل إنه أحق به كالعروض في الفلس دون الموت وهو قول ابن القاسم، وقيل إنه لا سبيل له عليه، وهو أسوة الغرماء، وهو قول أشهب، والقولان جاريان على الاختلاف في تعيين العين؛ وأما إن لم يعرف بعينه فهو أسوة الغرماء في الموت والفلس. وأما تعمل الذي لا يتعين فإن أفلس المستأجر قبل أن يستوفي عمل الأجير كان الأجير أحق بما عمله في الموت والفلس جميعا، كالسلعة إذا كانت بيد البائع في وقت الفلس، وإن كان فلسه بعد أن استوفى عمل الأجير، فالأجير أسوة الغرماء بأجرته التي شارطه عليها في الفلس والموت جميعا على أظهر الأقوال، إلا أن تكون بيده السلعة التي استؤجر على عملها، فيكون أحق بذلك في الموت والفلس جميعا، لأنه كالرهن بيده، فإن أسلمه كان أسوة الغرماء بعمله، إلا أن يكون له فيه شيء أخرجه فيكون أحق به في الفلس دون الموت، وكذلك الأمر عنده في فلس مكتري الدواب إن استكرى أحق بما عليه من المتاع في الموت والفلس جميعا، وكذلك مكتري السفينة،
-والنظر في هذا الكتاب فيما هو الفلس، وفي أحكام المفلس، فنقول: إن
وهذا كله شبهه مالك بالرهن وبالجملة فلا خلاف في مذهبه أن البائع أحق بما في يديه في الموت والفلس، وأحق بسلعته القائمة الخارجة عن يده في الفلس دون الموت، وأنه أسوة الغرماء في سلعته إذا فاتت، وعندما يشبه حال الأجير عند أصحاب مالك. وبالجملة البائع منفعة بالبائع الرقبة، فمرة يشبهون المنفعة التي عمل بالسلعة التي لم يقبضها المشتري فيقولون: هو أحق بها في الموت والفلس، ومرة يشبهونه بالتي خرجت من يده ولم يمت فيقولون: هو أحق بها في الفلس دون الموت، ومرة يشبهون ذلك بالموت الذي فاتت فيه فيقولون: هو أسوة الغرماء ومثال ذلك اختلافهم فيمن استؤجر على سقي حائط فسقاه حتى أثمر الحائط ثم أفلس المستأجر فإنهم قالوا فيه الثلاثة الأقوال. وتشبيه بيع المنافع في هذا الباب ببيع الرقاب هو شيء - فيما أحسب - انفرد به مالك دون فقهاء الأمصار، وهو ضعيف لأن قياس الشبه المأخوذ من الموضع المفارق للأصول يضعف، ولذلك ضعف عند قوم القياس على موضع الرخص، ولكن انقدح هنالك قياس علة، فهو أقوى؛ ولعل المالكية تدعى وجود هذا المعنى في القياس، ولكن هذا كله ليس يليق بهذا المختصر. ومن هذا الباب اختلافهم في العبد المفلس المأذون له في التجارة هل يتبع بالدين في رقبته أم لا؟ فذهب مالك وأهل الحجاز إلى أنه إنما يتبع بما في يده لا في رقبته، ثم إن أعتق بما بقي عليه ورأى قوم أنه يباع، ورأى قوم أن الغرماء يخيرون بين بيعه وبين أن يسعى فيما بقي عليه من الدين، وبه قال شريح، وقالت طائفة: بل يلزم سيده ما عليه وإن لم يشترطه، فالذين لم يروا بيع رقبته قالوا: إنما عامل الناس على ما في يده فأشبه الحر، والذين رأوا بيعه شبهوا ذلك بالجنايات التي يجني، وأما الذين رأوا الرجوع على السيد بما عليه من الدين فإنهم شبهوا ماله بمال السيد إذ كان له انتزاعه.
فسبب الخلاف هو تعارض أقيسة الشبه في هذه المسألة، ومن هذا المعنى إذا أفلس العبد والمولى معا بأي يبدأ، هل بدين العبد، أم بدين المولى؟ فالجمهور يقولون: بدين العبد، لأن الذين داينوا العبد إنما فعلوا ذلك ثقة بما رأوا عند العبد من المال، والذين داينوا المولى لم يعتدوا بمال العبد، ومن رأى البدء بالمولى قال: لأن مال العبد هو في الحقيقة للمولى. فسبب الخلاف تردد مال العبد بين أن يكون حكمه حكم مال الأجنبي أو حكم مال السيد. وأما قدر ما يترك للمفلس من ماله فقيل في المذهب: يترك له ما يعيش به هو وأهله وولده الصغار الأيام؛ وقال في الواضحة والعتبية: الشهر ونحوه، ويترك له كسوة مثله؛ وتوقف مالك في كسوة زوجته لكونها هل تجب لها بعوض مقبوض، وهو الانتفاع بها أو بغير عوض؛ وقال سحنون لا يترك له كسوة زوجته؛ وروى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له إلا ما يواريه، وبه قال ابن كنانة. واختلفوا في بيع كتب العلم عليه على قولين: وهذا مبني على كراهية بيع الكتب الفقه أو لا كراهية ذلك.
وأما معرفة الديون التي يحاص بها من الديون التي لا يحاص بها على مذهب مالك فإنها تنقسم أولا إلى قسمين: أحدهما أن تكون واجبة عن عوض. والثاني أن تكون واجبة من غير عوض. فأما الواجبة عن عوض، فإنها تنقسم إلى عوض مقبوض وإلى عوض غير مقبوض، فأما ما كانت عن عوض مقبوض، وسواء كانت مالا أو أرش جناية، فلا خلاف في المذهب أن محاصة الغرماء بها واجبة. وأما ما كان عن عوض غير مقبوض، فإن ذلك ينقسم خمسة أقسام: أحدها أن لا يمكنه دفع العوض بحال كنفقة الزوجات لما يأتي من المدة، والثاني أن لا يمكنه دفع العوض، ولكن يمكنه دفع ما يستوفي فيه، مثل أن يكتري الرجل الدار بالنقد، أو يكون العرف فيه النقد، ففلس المكتري قبل أن يسكن أو بعد ما سكن بعض السكنى وقبل أن يدفع الكراء. والثالث أن يكون دفع العوض يمكنه وطرحه كرأس مال السلم إذا أفلس المسلم إليه قبل دفع رأس المال. والرابع أن يمكنه دفع العوض ولا يلزمه مثل السلعة إذا باعها ففلس المبتاع قبل أن يدفعها إليه البائع. والخامس أن لا يكون إليه تعجيل دفع العوض، مثل أن يسلم الرجل إلى الرجل دنانير في عروض إلى أجل فيفلس المسلم قبل أن يدفع رأس المال وقبل أن يحل أجل السلم. فأما الذي لا يمكنه دفع العوض بحال فلا محاصة في ذلك إلا في مهور الزوجات إذا فلس الزوج قبل الدخول. وأما الذي لا يمكنه دفع العوض ويمكنه دفع ما يستوفي منه، مثل المكتري يفلس قبل دفع الكراء، فقيل للمكري المحاصة بجميع الثمن وإسلام الدار للغرماء، وقيل ليس له إلا المحاصة بما سكن ويأخذ داره، وإن كان لم يسكن فليس له إلا أخذ داره. وأما ما يمكنه دفع العوض ويلزمه وهو إذا كان العوض عينا، فقيل يحاص به الغرماء في الواجب له بالعوض ويدفعه، فقيل هو أحق به وعلى هذا لا يلزمه دفع العوض. وأما ما يمكنه دفع العوض ولا يلزمه فهو بالخيار بين المحاصة والإمساك، وذلك هو إذا كان العوض عينا. وأما إذا لم يكن إليه تعجيل العوض مثل أن يفلس المسلم قبل أن يدفع رأس المال، وقبل أن يحل أجل السلم، فإن رضي المسلم إليه أن يعجل العروض ويحاصص الغرماء برأس مال السلم فذلك جائز إن رضي بذلك الغرماء، فإن أبى ذلك أحد الغرماء حاص الغرماء برأس المال الواجب له فيما وجد للغريم من مال وفى العروض التي عليه إذا حلت لأنها من مال المفلس، وإن شاءوا أن يبيعوها بالنقد ويتحاصوا فيها كان ذلك لهم. وأما ما كان من الحقوق الواجبة عن غير عوض فإن ما كان منها غير واجب بالشرع بل بالالتزام كالهبات والصدقات فلا محاصة فيها. وأما ما كان منها واجبا بالشرع كنفقة الآباء والأبناء، ففيها قولان: أحدهما أن المحاصة لا تجب بها، وهو قول ابن القاسم. والثاني أنها تجب بها إذا لزمت بحكم من السلطان، وهو قول أشهب. وأما النظر الخامس وهو معرفة وجه التحاص، فإن الحكم في ذلك أن يصرف مال الغريم من جنس ديون الغرماء، وسواء كان مال الغرماء من جنس واحد أو من أجناس مختلفة، إذ كان لا يقتضي في الديون إلا ما هو من جنس الدين إلا أن يتفقوا من ذلك على شيء يجوز. واختلفوا من هذا الباب في فرع طارئ، وهو إذا هلك مال المحجور عليه بعد الحجر وقبل قبض الغرماء: ممن مصيبته؟ فقال أشهب: مصيبته من المفلس، وقال ابن الماجشون: مصيبته من الغرماء إذا وقفه السلطان. وقال ابن القاسم: ما يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغريم لأنه إنما يباع على ملكه، وما لا يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغرماء مثل أن يكون المال عينا والدين عينا، كلهم روى قوله عن مالك. وفرق أصبغ بين الموت والفلس فقال: المصيبة في الموت من الغرماء، وفي الفلس من المفلس. فهذا هو القول في أصول أحكام المفلس الذي له من المال ما لا يفي بديونه. وأما المفلس الذي لا مال له أصلا، فإن فقهاء الأمصار مجمعون على أن العدم له تأثير في إسقاط الدين إلى وقت ميسرته، إلا ما حكي عن عمر بن عبد العزيز أن لهم أن يؤاجروه، وقال به أحمد من فقهاء الأمصار، وكلهم مجمعون على أن المدين إذا ادعى الفلس ولم يعلم صدقه أنه يحبس حتى يتبين صدقه أو يقر له بذلك صاحب الدين، فإذا كان ذلك خلي سبيله. وحكي عن أبي حنيفة أن لغرمائه أن يدوروا معه حيث دار، وإنما صار الكل إلى القول بالحبس في الديون، وإن كان لم يأت في ذلك أثر صحيح، لأن ذلك أمر ضروري في استيفاء الناس حقوقهم بعضهم من بعض، وهذا دليل على القول بالقياس الذي يقتضي المصلحة، وهو الذي يسمى بالقياس المرسل. وقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام حبس رجلا في تهمة، خرجه فيما أحسب أبو داود والمحجورون عند مالك: السفهاء والمفلسون والعبيد والمرضى والزوجة فيما فوق الثلث لأنه يرى أن للزوج حقا في المال، وخالفه في ذلك الأكثر. وهذا القدر كاف بحسب غرضنا في هذا الكتاب.
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى {والصلح خير} وما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام مرفوعا وموقوفا على عمر "إمضاء الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا" واتفق المسلمون على جوازه على الإقرار، واختلفوا في جوازه على الإنكار، فقال مالك وأبو حنيفة: يجوز على الإنكار؛ وقال الشافعي: لا يجوز على الإنكار لأنه من أكل المال بالباطل من غير عوض؛ والمالكية تقول فيه عوض، وهو سقوط الخصومة واندفاع اليمين عنه، ولا خلاف في مذهب مالك أن الصلح الذي يقع على الإقرار يراعي في صحته ما يراعي في البيوع، فيفسد بما تفسد به البيوع من أنواع الفساد الخاص بالبيوع ويصح بصحته، وهذا هو مثل أن يدعي إنسان على آخر دراهم فيصالحه عليها بعد الإقرار بدنانير نسيئة، وما أشبه هذا من البيوع الفاسدة من قبل الربا والغرر. وأما الصلح على الإنكار فالمشهور فيه عن مالك وأصحابه أنه يراعي فيه من الصحة ما يراعي في البيوع، مثل أن يدعي إنسان على آخر دراهم فينكر ثم يصالحه عليها بدنانير مؤجلة، فهذا لا يجوز عند مالك وأصحابه؛ وقال أصبغ: هو جائز، لأن المكروه فيه من الطرف الواحد، وهو من جهة الطالب لأنه يعترف أنه أخذ دنانير نسيئة في دراهم حلت له. وأما الدافع فيقول: هي هبة مني. وأما إن ارتفع المكروه من الطرفين، مثل أن يدعي كل واحد منهما على صاحبه دنانير أو دراهم فينكر كل واحد منهما صاحبه، ثم يصطلحان على أن يؤخر كل واحد منهما صاحبه فيما يدعيه قبله إلى أجل، فهذا عندهم هو مكروه، أما كراهيته فمخافة أن يكون كل واحد منهما صادقا، فيكون كل واحد منهما قد أنظر صاحبه لإنظار الآخر إياه فيدخله أسلفني وأسلفك. وأما وجه جوازه فلأن كل واحد منهما إنما يقول ما فعلت إنما هو تبرع مني، وما كان يجب علي شيء، وهذا النحو من البيوع قيل إنه يجوز إذا وقع، وقال ابن الماجشون يفسخ إذا وقع عليه أثر عقده، فإن طال مضى، فالصلح الذي يقع فيه مما لا يجوز في البيوع هو في مذهب مالك على ثلاثة أقسام: صلح يفسخ باتفاق، وصلح يفسخ باختلاف، وصلح لا يفسخ باتفاق إن طال وإن لم يطل فيه اختلاف.
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-واختلف العلماء في نوعها وفي وقتها، وفي الحكم اللازم عنها، وفي شروطها، وفي صفة لزومها، وفي محلها. ولها أسماء: كفالة، وحمالة، وضمانة، وزعامة. فأما أنواعها فنوعان: حمالة بالنفس، وحمالة بالمال. أما الحمالة بالمال فثابتة بالسنة ومجمع عليها من الصدر الأول ومن فقهاء الأمصار. وحكي عن قوم أنها ليست لازمة تشبيها بالعدة وهو شاذ. والسنة التي صار إليها الجمهور في ذلك هو قوله عليه الصلاة والسلام "الزعيم غارم". وأما الحمالة بالنفس وهي التي تعرف بضمان الوجه، فجمهور فقهاء الأمصار على جواز وقوعها شرعا إذا كانت بسبب المال. وحكي عن الشافعي في الجديد أنها لا تجوز، وبه قال داود، وحجتهما قوله تعالى
وعمدة مالك أن المتحمل بالوجه غارم لصاحب الحق فوجب عليه الغرم إذا غاب، وربما احتج لهم بما روي عن ابن عباس "أن رجلا سأل غريمه أن يؤدي إليه ماله أو يعطيه حميلا، فلم يقدر حتى حاكمه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فتحمل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أدى المال إليه" قالوا: فهذا غرم في الحمالة المطلقة. وأما أهل العراق فقالوا: إنما يجب عليه إحضار ما تحمل به وهو النفس، فليس يجب أن يعدى ذلك إلى المال إلا لو شرطه على نفسه، وقد قال عليه الصلاة والسلام "المؤمنون عند شروطهم" فإنما عليه أن يحضره أو يحبس فيه، فكما أنه إذا ضمن المال فإنما عليه أن يحضر المال أو يحبس فيه، كذلك الأمر في ضمان الوجه. وعمدة الفريق الثالث أنه إنما يلزمه إحضاره إذا كان إحضاره له مما يمكن، وحينئذ يحبس إذا لم يحضره، وأما إذا علم أن إحضاره له غير ممكن فليس يجب عليه إحضاره كما أنه إذا مات ليس عليه إحضاره. قالوا: ومن ضمن الوجه فأغرم المال فهو أحرى أن يكون مغرورا من أن يكون غارا. فأما إذا اشترط الوجه دون المال وصرح بالشرط فقد قال مالك: إن المال لا يلزمه، ولا خلاف في هذا فيما أحسب، لأنه كان يكون قد ألزم ضد ما اشترط، فهذا هو حكم ضمان الوجه. وأما حكم ضمان المال فإن الفقهاء متفقون على أنه إذا عدم المضمون أو غاب أن الضامن غارم. واختلفوا إذا حضر الضامن والمضمون وكلاهما موسر، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحق: للطالب أن يؤاخذ من شاء من الكفيل أو المكفول؛ وقال مالك في أحد قوليه: ليس له أن يأخذ الكفيل مع وجود المتكفل عنه. وله قول آخر مثل قول الجمهور. وقال أبو ثور: الحمالة والكفالة واحدة، ومن ضمن عن رجل مالا لزمه وبرئ المضمون، ولا يجوز أن يكون مال واحد على اثنين، وبه قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة. ومن الحجة لما رأى أن الطالب يجوز له مطالبة الضامن كان المضمون عنه غائبا أو حاضرا، غنيا أو عديما حديث قبيصة بن المخارقي قال "تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عنها، فقال: تخرجها عنك من إبل الصدقة يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا في ثلاث، وذكر رجلا تحمل حمالة رجل حتى يؤديها"
ووجه الدليل من هذا النبي صلى الله عليه وسلم أباح المسألة للمتحمل دون اعتبار حال المتحمل عنه. وأما محل الكفالة فهي الأموال عند جمهور أهل العلم لقوله عليه الصلاة والسلام "الزعيم غارم" أعني كفالة المال وكفالة الوجه، وسواء تعلقت الأموال من قبل أموال أو من قبل حدود مثل المال الواجب في قتل الخطأ أو الصلح في قتل العمد أو السرقة التي ليس يتعلق بها قطع وهي ما دون النصاب أو من غير ذلك. وروي عن أبي حنيفة إجازة الكفالة في الحدود القصاص، أو في القصاص دون الحدود وهو قول عثمان البتي: أعني كفالة النفس. وأما وقت وجوب الكفالة بالمال أعني مطالبته بالكفيل، فأجمع العلماء على أن ذلك بعد ثبوت الحق على المكفول إما بإقرار وإما ببينة. وأما وقت وجوب الكفالة بالوجه، فاختلفوا هل تلزم قبل إثبات الحق أم لا؟ فقال قوم: إنها لا تلزم قبل إثبات الحق بوجه من الوجوه، وهو قول شريح القاضي والشعبي، وبه قال سحنون من أصحاب مالك. وقال قوم: بل يجب أخذ الكفيل بالوجه على إثبات الحق، وهؤلاء اختلفوا متى يلزم ذلك؟، وإلى كم من المدة يلزم؟ فقال قوم: إن أتى بشبهة قوية مثل شاهد واحد لزمه أن يعطي ضامنا بوجهه حتى يلوح حقه وإلا لم يلزمه الكفيل إلا أن يذكر بينة حاضرة في المصر فيعطيه حميلا من الخمسة الأيام إلى الجمعة، وهو قول ابن القاسم من أصحاب مالك، وقال أهل العراق: لا يؤخذ عليهم حميل قبل ثبوت الحق إلا أن يدعي بينة حاضرة في المصر نحو قول ابن القاسم، إلا أنهم حدوا ذلك بالثلاثة الأيام يقولون إنه أن أتى بشبهة لزمه أن يعطيه حميلا حتى يثبت دعواه أو تبطل، وقد أنكروا الفرق في ذلك والفرق بين الذي يدعي البينة الحاضرة والغائبة، وقالوا: لا يؤخذ حميل على أحد إلا ببينة، وذلك إلى بيان صدق دعواه أو إبطالها.
وسبب هذا الاختلاف تعارض وجه العدل بين الخصمين في ذلك، فإنه إذا لم يؤخذ عليه ضامن بمجرد الدعوى لم يؤمن أن يغيب بوجهه فيعنت طالبه، وإذا أخذ عليه لم يؤمن أن تكون الدعوى باطلة فيعنت المطلوب، ولهذا فرق من فرق بين دعوى البينة الحاضرة والغائبة. وروي عن عراك بن مالك قال "أقبل نفر من الأعراب معهم ظهر فصحبهم رجلان فباتا معهم، فأصبح القوم وقد فقدوا كذا وكذا من إبلهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الرجلين: اذهب واطلب وحبس الآخر، فجاء بما ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الرجلين: استغفر لي، فقال: غفر الله لك، قال: وأنت فعفر الله لك وقتلك في سبيله" خرج هذا الحديث أبو عبيد في كتابه بالفقه قال: وحمله بعض العلماء على أن ذلك كان من رسول الله حبسا قال: ولا يعجبني ذلك، لأنه لا يجب الحبس بمجرد الدعوى، وإنما هو عندي من باب الكفالة بالحق الذي لم يجب إذا كانت هنالك شبهة لمكان صحبتهما لهم. فأما أصناف المضمونين فليس يلحق من قبل ذلك اختلاف مشهور لاختلافهم في ضمان الميت إذا كان عليه دين ولم يترك وفاء بدينه، فأجازه مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يجوز. واستدل أبو حنيفة من قبل أن الضمان لا يتعللق بمعلوم قطعا، وليس كذلك المفلس. واستدل من رأى أن الضمان يلزمه بما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في صدر الإسلام لا يصلي على من مات وعليه دين حتى يضمن عنه. والجمهور يصح عندهم كفالة المحبوس والغائب، ولا يصح عند أبي حنيفة. وأما شروط الكفالة فإن أبا حنيفة والشافعي يشترطان في وجوب رجوع الضامن على المضمون بما أدى عنه أن يكون الضمان بإذنه، ومالك لا يشترط ذلك، ولا تجوز عند الشافعي كفالة المجهول ولا الحق الذي لم يجب بعد، وكل ذلك لازم وجائز عند مالك وأصحابه. وأما ما تجوز فيه الحمالة بالمال مما لا تجوز، فإنها لا تجوز عند مالك بكل مال ثابت في الذمة إلا الكتابة وما لا يجوز فيه التأخير، وما يستحق شيئا فشيئا مثل النفقات على الأزواج، وما شاكلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق