-والنظر في أصول هذا الباب، أما أولا فهل يجوز أم لا؟ وإن جاز، فكم مدة الخيار؟ وهل يشترط النقدية فيه أم لا؟ وممن ضمان المبيع في مدة الخيار؟ وهل يورث الخيار أم لا؟ ومن يصح خياره ممن لا يصح؟ وما يكون من الأفعال خيارا كالقول؟. أما جواز الخيار فعليه الجمهور، إلا الثوري وابن أبي شبرمة وطائفة من أهل الظاهر. وعمدة الجمهور حديث حبان بن منقذ وفيه "ولك الخيار ثلاثا" وما روي في حديث ابن عمر "البيعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار". وعمدة من منعه أنه غرر وأن الأصل هو اللزوم في البيع إلا أن يقوم دليل على جواز البيع على الخيار من كتاب الله أو سنة ثابتة أو إجماع. قالوا: وحديث حبان إما أنه ليس بصحيح، وإما أنه خاص لما شكي إليه صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع. قالوا: وأما حديث ابن عمر وقوله فيه "إلا بيع الخيار" فقد فسر المعنى المراد بهذا اللفظ، وهو ما ورد فيه من لفظ آخر وهو "أن يقول أحدهما لصاحبه اختر" وأما مدة الخيار عند الذين قالوا بجوازه فرأى مالك أن ذلك ليس له قدر محدود في نفسه وأنه إنما يتقدر بتقدير الحاجة إلى اختلاف المبيعات، وذلك يتفاوت بتفاوت المبيعات فقال: مثل اليوم واليومين في اختيار الثوب، والجمعة والخمسة أيام في اختيار الجارية، والشهر ونحوه في اختيار الدار. وبالجملة فلا يجوز عنده الأجل الطويل الذي فيه فضل عن اختيار المبيع. وقال الشافعي وأبو حنيفة: أجل الخيار ثلاثة أيام لا يجوز أكثر من ذلك. وقال أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن يجوز الخيار لأي مدة اشترطت، وبه قال داود. واختلفوا في الخيار المطلق دون المقيد بمدة معلومة، فقال الثوري والحسن ابن جني وجماعة بجواز اشتراط الخيار مطلقا ويكون له الخيار أبدا، وقال مالك: يجوز الخيار المطلق ولكن السلطان يضرب فيه أجل مثله. وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجوز بحال الخيار المطلق ويفسد البيع. واختلف أبو حنيفة والشافعي إن وقع الخيار في الثلاثة الأيام زمن الخيار المطلق، فقال أبو حنيفة: إن وقع في الثلاثة الأيام جاز، وإن مضت الثلاثة فسد البيع؛ وقال الشافعي: بل هو فاسد على كل حال، فهذه هي أقاويل فقهاء الأمصار في مدة الخيار، وهي هل يجوز مطلقا أو مقيدا؟ وإن جاز مقيدا فكم مقداره؟ وإن لم يجز مطلقا فهل من شرط ذلك أن لا يقع الخيار في الثلاث أم لا يجوز بحال؟ وإن وقع في الثلاث.
فأما أدلتهم فإن عمدة من لم يجز الخيار هو ما قلناه. وأما عمدة من لم يجز الخيار إلا ثلاثا فهو أن الأصل هو أن لا يجوز الخيار فلا يجوز منه إلا ما ورد فيه النص في حديث منقذ بن حبان أو حبان بن منقذ، وذلك كسائر الرخص المستثناة من الأصول مثل استثناء العرايا من المزابنة وغير ذلك. قالوا: وقد جاء تحديد الخيار بالثلاث في حديث المصراة وهو قوله "من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام" وأما حديث منقذ، فأشبه طرقه المتصلة ما رواه محمد ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمنقذ وكان يخدع في البيع "إذا بعت فقل لا خلابة وأنت بالخيار ثلاثا". وأما عمدة أصحاب مالك، فهو أن المفهوم من الخيار هو اختيار المبيع، وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون ذلك محدودا بزمان إمكان اختيار المبيع، وذلك يختلف بحسب مبيع مبيع، فكأن النص إنما ورد عندهم تنبيها على هذا المعنى، وهو عندهم من باب الخاص أريد به العام، وعند الطائفة الأولى من باب الخاص أريد به الخاص.
وأما اشتراط النقد فإنه لا يجوز عند مالك وجميع أصحابه لتردده عندهم بين السلف والبيع، وفيه ضعف. وأما ممن ضمان المبيع في مدة الخيار فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك وأصحابه والليث والأوزاعي: مصيبته من البائع والمشتري أمين، وسواء كان الخيار لهما أو لأحدهما؛ وقد قيل في المذهب إنه إن كان هلك بيد البائع فلا خلاف في ضمانه إياه، وإن كان هلك بيد المشتري فالحكم كالحكم في الرهن والعارية إن كان مما يغاب عليه فضمانه منه، وإن كان مما لا يغاب عليه فضمانه من البائع. وقال أبو حنيفة: إن كان شرط الخيار لكليهما أو للبائع وحده فضمانه من البائع والمبيع على ملكه، وأما إن كان شرطه المشتري وحده فقد خرج المبيع عن ملك البائع ولم يدخل في ملك المشتري، وبقي معلقا حتى ينقضي الخيار، وقد قيل عنه إن على المشتري الثمن، وهذا يدل على أنه دخل عنده في ملك المشتري.
وللشافعي قولان: أشهرهما أن الضمان من المشتري لأيهما كان الخيار. فعمدة من رأى أن الضمان من البائع على كل حال أنه عقد غير لازم، فلم ينتقل الملك عن البائع كما لو قال بعتك ولم يقل المشتري قبلت. وعمدة من رأى أنه من المشتري تشبيهه بالبيع اللازم وهو ضعيف لقياسه موضع الخلاف على موضع الاتفاق. وأما من جعل الضمان لمشترط الخيار إذا شرطه أحدهما ولم يشترطه الثاني فلأنه إن كان البائع هو المشترط فالخيار له إبقاء للمبيع على ملكه، وإن كان المشتري هو المشترط له فقط فقد صرفه البائع من ملكه وأبانه فوجب أن يدخل في ملك المشتري إذا كان المشتري هو الذي شرطه فقط قال: قد خرج عن ملك البائع لأنه لم يشترط خيارا ولم يلزم أن يدخل في ملك المشتري لأنه شرط الخيار في رد الآخر له، ولكن هذا القول يمانع الحكم، فإنه لابد أن تكون مصيبته من أحدهما، والخلاف آيل إلى هل الخيار مشترط لإيقاع الفسخ في البيع أو لتتميم البيع، فإذا قلنا لفسخ البيع فقد خرج من ضمان البائع، وإن قلنا لتتميمه فهو في ضمانه.
-(وأما المسألة الخامسة) وهي هل يورث خيار المبيع أم لا؟ فإن مالكا والشافعي وأصحابهما قالوا: يورث، وإنه إذا مات صاحب الخيار فلورثته من الخيار مثل ما كان له؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: يبطل الخيار بموت من له الخيار ويتم البيع، وهكذا عنده خيار الشفعة وخيار قبول الوصية وخيار الإقالة. وسلم لهم أبو حنيفة خيار الرد بالعيب: أعني أنه قال يورث، وكذلك خيار استحقاق الغنيمة قبل القسم وخيار القصاص وخيار الرهن. وسلم لهم مالك خيار رد الأب ما وهبه لابنه، أعني أنه لم ير لورثة الميت من الخيار في رد ما وهبه لابنه ما جعل له الشرع من ذلك: أعني للأب، وكذلك خيار الكتابة والطلاق واللعان. ومعنى خيار الطلاق أن يقول الرجل لرجل آخر طلق امرأتي متى شئت، فيموت الرجل المجعول له الخيار، فإن ورثته لا يتنزلون منزلته عند مالك. وسلم الشافعي ما سلمت المالكية للحنفية من هذه الخيارات، وسلم زائدا خيار الإقالة والقبول فقال: لا يورثان. وعمدة المالكية والشافعية أن الأصل هو أن تورث الحقوق والأموال إلا ما قام دليل على مفارقة الحق في هذا المعنى للمال. وعمدة الحنفية أن الأصل هو أن يورث المال دون الحقوق إلا ما قام دليله من إلحاق الحقوق بالأموال، فموضع الخلاف هل الأصل هو أن تورث الحقوق كالأموال أم لا؟ وكل واحد من الفريقين يشبه من هذا ما لم يسلمه له خصمه منها بما يسلمه منها له ويحتج على خصمه؛ فالمالكية والشافعية تحتج على أبي حنيفة بتسلميه وراثة خيار الرد بالعيب، ويشبه سائر الخيارات التي يورثها به؛ والحنفية تحتج أيضا على المالكية والشافعية بما تمنع من ذلك، وكل واحد منهم يروم أن يعطي فارقا فيما يختلف فيه قوله ومشابها فيما يتفق فيه قوله، ويروم في قوله خصمه بالضد، أعني أن يعطي فارقا فيما يضعه الخصم متفقا، ويعطي اتفاقا فيما يضعه الخصم متباينا، ومثل ما تقول المالكية: إنما قلنا إن خيار الأب في رد هبته لا يورث، لأن ذلك خيار راجع إلى صفة في الأب لا توجد في غيره وهي الأبوة، فوجب أن لا تورث لا إلى صفة في العقد. وهذا هو سبب اختلافهم في خيار خيار، أعني أنه من انقدح له في شيء منها أنه صفة للعقد ورثه، ومن انقدح له أنه صفة خاصة بذي الخيار لم يورثه.
-(وأما المسألة السادسة) وهي من يصح خياره فإنهم اتفقوا على صحة خيار المتبايعين، واختلفوا في اشتراط خيار الأجنبي، فقال مالك: يجوز ذلك والبيع صحيح؛ وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يجوز إلا أن يوكله الذي جعل له الخيار ولا يجوز الخيار عنده على هذا القول لغير العاقد، وهو قول أحمد؛ وللشافعي قول آخر مثل قول مالك، وبقول مالك قال أبو حنيفة؛ واتفق المذهب على أن الخيار للأجنبي إذا جعله له المتبايعان، وأن قوله لهما. واختلف المذهب إذا جعله أحدهما فاختلف البائع ومن جعل له البائع الخيار أو المشتري ومن جعل له المشتري الخيار، فقيل القول في الإمضاء، والرد قول الأجنبي سواء اشترط خياره البائع أو المشتري، وقال عكس هذا القول من جعل خياره هنا كالمشورة، وقيل بالفرق بين البائع والمشتري: أي أن القول في الإمضاء والرد قول البائع دون الأجنبي، وقول الأجنبي دون المشتري إن كان المشتري هو المشترط الخيار؛ وقيل القول قول من أراد منهما الإمضاء، وإن أراد البائع الإمضاء، وأراد الأجنبي الذي اشترط خياره الرد ووافقه المشتري، فالقول قول البائع في الإمضاء، وإن أراد البائع الرد وأراد الأجنبي الإمضاء ووافقه المشتري فالقول قول المشتري؛ وكذلك إن اشتراط الخيار للأجنبي المشتري، فالقول فيهما قول من أراد الإمضاء، وكذلك الحال في المشتري؛ وقيل بالفرق في هذا بين البائع والمشتري: أي إن اشترطه البائع فالقول قول من أراد الإمضاء منهما، وإن اشترطه المشتري فالقول قول الأجنبي، وهو ظاهر ما في المدونة، وهذا كله ضعيف. واختلفوا فيمن اشترط من الخيار ما لا يجوز، مثل أن يشترط أجلا مجهولا وخيارا فوق الثلاث عند من لا يجوز الخيار فوق الثلاث، أو خيار رجل بعيد الموضع بعينه: أعني أجنبيا، فقال مالك والشافعي: لا يصح البيع وإن أسقط الشرط الفاسد؛ وقال أبو حنيفة: يصح البيع مع إسقاط الشرط الفاسد، فأصل الخلاف هل الفساد الواقع في البيع من قبل الشرط يتعدى إلى العقد أم لا يتعدى، وإنما هو في الشرط فقط؟ فمن قال يتعدى أبطل البيع وإن أسقطه؛ ومن قال لا يتعدى قال: البيع يصح إذا أسقط الشرط الفاسد لأنه يبقى العقد صحيحا.
-أجمع جمهور العلماء على أن البيع صنفان: مساومة ومرابحة؛ وأن المرابحة هي أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط عليه ربحا ما للدينار أو الدرهم. واختلفوا من ذلك بالجملة في موضعين: أحدهما فيما للبائع أن يعده من رأس مال السلعة مما أنفق على السلعة بعد الشراء مما ليس له أن يعده من رأس المال. والموضع الثاني إذا كذب البائع للمشتري فأخبره أنه اشتراه بأكثر مما اشترى السلعة به، أو وهم فأخبر بأقل مما اشترى به السلعة ثم ظهر له أنه اشتراها بأكثر، ففي هذا الكتاب بحسب اختلاف فقهاء الأمصار بابان: الباب الأول: فيما يعد من رأس مال مما لا يعد، وفي صفة رأس المال الذي يجوز أن يبني عليه الربح. الثاني: في حكم ما وقع من الزيادة أو النقصان في خبر البائع بالثمن.
-فأما ما يعد في الثمن مما لا يعد، فإن تحصيل مذهب مالك في ذلك أن ما ينوب البائع على السلعة زائدا على الثمن ينقسم ثلاثة أقسام: قسم يعد في أصل الثمن ويكون له حظ من الربح. وقسم لا يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح. وقسم لا يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح. فأما الذي يحسبه في رأس المال ويجعل له حظا من الربح فهو ما كان مؤثرا في عين السلعة مثل الخياطة والصبغ. وأما الذي يحسبه في رأس المال ولا يجعل له حظا من الربح فما لا يؤثر في عين السلعة مما لا يمكن البائع أن يتولاه بنفسه كحمل المتاع من بلد إلى بلد وكراء البيوت التي توضع فيها. وأما ما لا يحتسب فيه الأمرين جميعا، فما ليس له تأثير في عين السلعة مما يمكن أن يتولاه صاحب السلعة بنفسه كالسمسرة والطي والشد. وقال أبو حنيفة: بل يحمل على ثمن السلعة كل ما نابه عليها. وقال أبو ثور: لا يجوز المرابحة إلا بالثمن الذي اشترى به السلعة فقط إلا أن يفصل ويفسخ عنده إن وقع قال لأنه كذب، لأنه يقول له: ثمن سلعتي كذا وكذا وليس الأمر كذلك، وهو عنده من باب الغش. وأما صفة رأس الثمن الذي يجوز أن يخبر به فإن مالكا والليث قالا فيمن اشترى سلعة بدنانير والصرف يوم اشتراها صرف معلوم ثم باعها بدراهم والصرف قد تغير إلى زيادة أنه ليس له أن يعلم يوم باعها بالدنانير التي اشتراها لأنه من باب الكذب والخيانة، وكذلك إن اشتراها بدراهم ثم باعها بدنانير وقد تغير الصرف. واختلف أصحاب مالك من هذا الباب فيمن ابتاع سلعة بعروض هل يجوز له أن يبيعها مرابحة أم لا يجوز؟ فإذا قلنا بالجواز فهل يجوز بقيمة العرض أو بالعرض نفسه؟ فقال ابن القاسم: يجوز له بيعها على ما اشتراه به من العروض ولا يجوز على القيمة. وقال أشهب: لا يجوز لمن اشترى سلعة بشيء من العروض أن يبيعها مرابحة لأنه يطالبه بعروض على صفة عرضه، وفي الغالب ليس يكون عنده فهو من باب بيع ما ليس عنده. واختلف مالك وأبو حنيفة فيمن اشترى سلعة بدنانير فأخذ في الدنانير عروضا أو دراهم هل يجوز له بيعها مرابحة دون أن يعلم بما نقد أم لا يجوز؟ فقال مالك: لا يجوز إلا أن يعلم ما نقد؛ وقال أبو حنيفة: يجوز أن يبيعها منه مرابحة على الدنانير التي ابتاع بها السلعة دون العروض التي أعطى فيها أو الدراهم؛ قال مالك أيضا فيمن اشترى سلعة بأجل فباعها مرابحة أنه لا يجوز حتى يعلم بالأجل. وقال الشافعي إن وقع كان للمشتري مثل أجله؛ وقال أبو ثور: هو كالعيب وله الرد به، وفي هذا الباب في المذهب فروع كثيرة ليست مما قصدناه.
-واختلفوا فيمن ابتاع سلعة مرابحة على ثمن ذكره، ثم ظهر بعد ذلك إما بإقراره وإما ببينة أن الثمن كان أقل والسلعة قائمة؛ فقال مالك وجماعة: المشتري بالخيار، إما أن يأخذ بالثمن الذي صح أو يترك إذا لم يلزمه البائع أخذها بالثمن الذي صح وإن ألزمه لزمه؛ وقال أبو حنيفة وزفر: بل المشتري بالخيار على الإطلاق، ولا يلزمه الأخذ بالثمن الذي إن ألزمه البائع لزمه؛ وقال الثوري وابن أبي ليلى وأحمد وجماعة: بل يبقى البيع لازما لهما بعد حط الزيادة؛ وعن الشافعي القولان: القول بالخيار مطلقا، والقول باللزوم بعد الحط. فحجة من أوجب البيع بعد الحط أن المشتري إنما أربحه على ما ابتاع به السلعة لا غير ذلك، فلما ظهر خلاف ما قال وجب أن يرجع إلى الذي ظهر، كما لو أخذه بكيل معلوم فخرج بغير ذلك الكيل أنه يلزمه توفية ذلك الكيل. وحجة من رأى أن الخيار مطلقا تشبيه الكذب في هذه المسألة بالعيب، أعني أنه كما يوجب العيب الخيار كذلك يوجب الكذب. وأما إذا فاتت السلعة فقال الشافعي: يحط مقدار ما زاد من الثمن وما وجب له من الربح؛ وقال مالك: إن كانت قيمتها يوم القبض أو يوم البيع على خلاف عنه في ذلك مثل ما وزن المبتاع أو أقل فلا يرجع عليه المشتري بشيء، وإن كانت القيمة أقل خير البائع بين رده للمشتري القيمة أو رده الثمن أو إمضائه السلعة بالثمن الذي صح. وأما إذا باع الرجل سلعته مرابحة ثم أقام البينة أن ثمنها أكثر مما ذكره وأنه وهم في ذلك وهي قائمة، فقال الشافعي: لا يسمع من تلك البينة لأنه كذبها؛ وقال مالك: يسمع منها ويجبر المبتاع على ذلك الثمن، وهذا بعيد لأنه بيع آخر. وقال مالك في هذه المسألة: إذا فاتت السلعة أن المبتاع مخير بين أن يعطي قيمة السلعة يوم قبضها أو أن يأخذها بالثمن الذي صح، فهذه هي مشهورات مسائلهم في هذا الباب. ومعرفة أحكام هذا البيع تنبني في مذهب مالك على معرفة أحكام ثلاثة مسائل وما تركب منها، حكم مسألة الكذب، وحكم مسألة الغش، وحكم مسألة وجود العيب. فأما حكم الكذب فقد تقدم. وأما حكم الرد بالعيب فهو حكمه في البيع المطلق. وأما حكم الغش عنده فهو تخيير البائع مطلقا، وليس للبائع أن يلزمه البيع وإن حط عنه مقدار الغش كما له ذلك في مسألة الكذب، هذا عند ابن القاسم. وأما عند أشهب، فإن الغش عنده ينقسم قسمين: قسم مؤثر في الثمن، وقسم غير مؤثر. فأما غير المؤثر فلا حكم عنده فيه. وأما المؤثر فحكمه عنده حكم الكذب. وأما التي تتركب فهي أربع مسائل: كذب وغش، وكذب وتدليس، وغش وتدليس بعيب، وكذب وغش وتدليس بعيب؛ وأصل مذهب ابن القاسم فيها أنه يأخذ بالذي بقي حكمه إن كان فات بحكم أحدهما أو بالذي هو أرجح له إن لم يفت حكم أحدهما، إما على التخيير حيث يمكن التخيير، أو الجمع حيث يمكن الجمع، وتفصيل هذا لائق بكتب الفروع، أعني مذهب ابن القاسم وغيره.
-اختلف الفقهاء في معنى العرية والرخصة التي أتت فيها في السنة، فحكى القاضي أبو محمد عبد الوهاب المالكي أن العرية في مذهب مالك هي أن يهب الرجل ثمرة نخلة أو نخلات من حائطه لرجل بعينه، فيجوز للمعرى شراؤها من المعري له بخرصها تمرا على شروط أربعة: أحدها: أن تزهي. والثاني أن تكون خمسة أوسق فما دون، فإن زادت فلا يجوز. والثالث أن يعطيه التمر الذي يشتريها به عند الجذاذ، فإن أعطاه نقدا لم يجز. والرابع أن يكون التمر من صنف تمر العرية ونوعها، فعلى مذهب مالك الرخصة في العرية إنما هي في حق المعري فقط، والرخصة فيها إنما هي استثناؤها من المزابنة، وهي بيع الرطب بالتمر الجاف الذي ورد النهي عنه، ومن صنفي الربا أيضا: أعني التفاضل والنَّساء، وذلك أن بيع ثمر معلوم الكيل بثمر معلوم بالتخمين وهو الخرص، فيدخله بيع الجنس الواحد متفاضلا، وهو أيضا ثمر بثمر إلى أجل، فهذا هو مذهب مالك فيما هي العرية، وماهي الرخصة فيها، ولمن الرخصة فيها؟. وأما الشافعي فمعنى الرخصة الواردة عنده فيها ليست للمعري خاصة، وإنما هي لكل أحد من الناس أراد أن يشتري هذا القدر من التمر: أعني الخمسة أوسق أو ما دون ذلك بتمر مثلها؛ وروي أن الرخصة فيها إنما هي معلقة بهذا القدر من التمر لضرورة الناس أن يأكلوا رطبا وذلك لمن ليس عنده رطب ولا تمر (هكذا بالنسخ، ولعله: وعنده تمر يشتري، إذ هي فسحة لمن عنده تمر وليس عنده رطب أن يشتري الرطب بالتمر، ولذلك اشتراط الشافعي دفع التمر نقدا، فتأمل ا هـ مصححه) يشتري به الرطب.
والشافعي يشترط في إعطاء التمر الذي تباع في العرية أن يكون نقدا، ويقول: إن تفرقا قبل القبض فسد البيع. والعرية جائزة عند مالك في كل ما ييبس ويدخر، وهي عند الشافعي في التمر والعنب فقط ولا خلاف في جوازها فيما دون الخمسة الأوسق عند مالك والشافعي، وعنهما الخلاف إذا كانت خمسة أوسق، فروي الجواز عنهما والمنع، والأشهر عند مالك الجواز. فالشافعي يخالف مالكا في العرية في أربعة مواضع: أحدها في سبب الرخصة كما قلنا. والثاني أن العرية التي رخص فيها ليست هبة، وإنما سميت هبة على التجوز. والثالث في اشتراط النقد عند البيع. والرابع في محلها. فهي عنده كما قلنا في التمر والعنب فقط، وعند مالك في كل ما يدخر وييبس. وأما أحمد بن حنبل فيوافق مالكا في أن العرية عنده هي الهبة، ويخالفه في أن الرخصة إنما هي عنده فيها للموهوب له أعني المعرى له لا المعري، وذلك أنه يرى أن له أن يبيعها ممن شاء بهذه الصفة لا من المعري خاصة كما ذهب إليه مالك.
وأما أبو حنيفة فيوافق مالكا في أن العرية هي الهبة، ويخالفه في صفة الرخصة، وذلك أن الرخصة عنده فيها ليست هي من باب استثنائها من المزابنة ولا هي في الجملة في البيع، وإنما الرخصة فيها عنده من باب رجوع الواهب في هبته إذ كان الموهوب له لم يقبضها وليست عنده ببيع، وإنما هي رجوع في الهبة على صفة مخصوصة، وهو أن يعطي بدلها تمرا بخرصها. وعمدة مذهب مالك في العرية أنها بالصفة التي ذكر سنتها المشهورة عندهم بالمدينة، قالوا: وأصل هذا أن الرجل كان يهب النخلات من حائطه فيشق عليه دخول الموهوب له عليه، فأبيح له أن يشتريها بخرصها تمرا عند الجذاذ. ومن الحجة له في أن الرخصة إنما هي للمعري حديث سهل بن أبي حثمة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالرطب إلا أنه رخص في العرية أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبا" قالوا: فقوله يأكلها رطبا دليل على أن ذلك خاص بمعريها، لأنهم في ظاهر هذا القول أهلها.
ويمكن أن يقال إن أهلها هم الذين اشتروها كائنا من كان، لكن قوله رطبا هو تعليل لا يناسب المعري، وعلى مذهب الشافعي هو مناسب، وهم الذين ليس عندهم رطب ولا تمر يشترونها به، ولذلك كانت الحجة للشافعي. وأما أن العرية عنده هي الهبة فالدليل على ذلك من اللغة، فإن أهل اللغة قالوا: العرية هي الهبة، واختلف في تسميتها بذلك، فقيل لأنها عريت من الثمن، وقيل إنها مأخوذة من عروت الرجل أعروه إذا سألته، ومنه قوله تعالى
وأما أحمد فحجته ظاهر الأحاديث المتقدمة أنه رخص في العرايا ولم يخص المعري من غيره. وأما أبو حنيفة فلما لم يجز عنده المزابنة وكانت إن جعلت بيعا نوعا من المزابنة رأى أن انصرافها إلى المعري ليس هو من باب البيع وإنما هو من باب رجوع الواهب فيما وهب باعطاء خرصها تمرا، أو تسميته إياها بيعا عنده مجازا، وقد التفت إلى هذا المعنى مالك في بعض الروايات عنه، فلم يجز بيعها بالدراهم ولا بشيء من الأشياء سوى الخرص، وإن كان المشهور عنه جواز ذلك. وقد قيل إن قول أبي حنيفة هذا هو من باب تغليب القياس على الحديث، وذلك أنه خالف الأحاديث في مواضع منها أنه لم يسمها بيعا، وقد نص الشارع على تسميتها بيعا. ومنها أنه جاء في الحديث أنه نهى عن المزابنة ورخص في العرايا، وعلى مذهبه لا تكون العرية استثناء من المزابنة، لأن المزابنة هي في البيع. والعجب منه أنه سهل عليه أن يستثنيها من النهي عن الرجوع في الهبة التي لم يقع فيها الاستثناء بنص الشرع، وعسر عليه أن يستثنيها مما استثنى منه الشارع، وهي المزابنة، والله أعلم.
(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-والنظر في هذا الكتاب شبيه بالنظر في البيوع: أعني أصوله تنحصر بالنظر في أنواعها وفي شروط الصحة فيها والفساد وفي أحكامها، وذلك في نوع نوع منها، أعني فيما يخص نوعا نوعا منها، وفيما يعم أكثر من واحد منها فهذا الكتاب ينقسم أولا إلى قسمين: القسم الأول: في أنواعها وشروط الصحة والفساد. والثاني: في معرفة أحكام الإجارات، وهذا كله بعد قيام الدليل على جوازها. فلنذكر أولا ما في ذلك من الخلاف ثم نصير إلى ذكر ما في ذينك القسمين من المسائل المشهورة، إذ كان قصدنا إنما هو ذكر المسائل التي تجري من هذه الأشياء مجرى الأمهات، وهي التي اشتهر فيها الخلاف بين فقهاء الأمصار. فنقول: إن الإجارة جائزة عند جميع فقهاء الأمصار والصدر الأول. وحكي عن الأصم وابن علية منعها. ودليل الجمهور قوله تعالى
-(القسم الأول) وهذا القسم النظر فيه إلى جنس الثمن وجنس المنفعة التي يكون الثمن مقابلا له وصفتها. فأما الثمن فينبغي أن يكون مما يجوز بيعه، وقد تقدم ذلك في باب البيوع. وأما المنفعة فينبغي أن تكون من جنس ما لم ينه الشرع عنه، وفي كل هذه مسائل اتفقوا عليها واختلفوا فيها؛ فمما اجتمعوا على إبطال إجارته كل منفعة كانت لشيء محرم العين، كذلك كل منفعة كانت محرمة بالشرع، مثل أجر النوائح وأجر المغنيات، وكذلك كل منفعة كانت فرض عين على الإنسان بالشرع مثل الصلاة وغيرها، واتفقوا على إجارة الدور والدواب والناس على الأفعال المباحة، وكذلك الثياب والبسط. واختلفوا في إجارة الأرضين وفي إجارة المياه وفي إجارة المؤذن، وفي الإجارة على تعليم القرآن، وفي إجارة نزو الفحول. فأما كراء الأرضين فاختلفوا فيها اختلافا كثيرا؛ فقوم لم يجيزوا ذلك بتة وهم الأقل، وبه قال طاوس وأبو بكر ابن عبد الرحمن؛ وقال الجمهور بجواز ذلك. واختلف هؤلاء فيما يجوز به كراؤها؛ فقال قوم: لا يجوز كراؤها إلا بالدراهم والدنانير فقط، وهو مذهب ربيعة وسعيد بن المسيب؛ وقال قوم: يجوز كراء الأرض بكل شيء ما عدا الطعام، وسواء كان ذلك بالطعام الخارج منها أو لم يكن، وما عدا ما ينبت فيها كان طعاما أو غيره، وإلى هذا ذهب مالك وأكثر أصحابه. وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بما عدا الطعام فقط؛ وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بكل العروض والطعام وغير ذلك ما لم يكن بجزء مما يخرج منها من الطعام، وممن قال بهذا القول سالم بن عبد الله وغيره من المتقدمين، وهو قول الشافعي وظاهر قول مالك في الموطأ؛ وقال قوم: يجوز كراؤها بكل شيء وبجزء مما يخرج منها، وبه قال أحمد والثوري والليث وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وابن أبي ليلى والأوزاعي وجماعة. وعمدة من لم يجز كراءها بحال ما رواه مالك بسنده عن رافع بن خديج "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع" قالوا: وهذا عام، وهؤلاء لم يلتفتوا إلى ما روى مالك من تخصيص الراوي له حين روى عنه، قال حنظلة: فسألت رافع بن خديج عن كرائها بالذهب والورق فقال: لا بأس به. وروي هذا عن رافع ابن عمر وأخذ بعمومه، وكان ابن عمر قبل يكري أرضه فترك ذلك، وهذا بناء على رأي من يرى أنه لا يخصص العموم بقول الراوي. وروي عن رافع ابن خديج عن أبيه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجارة الأرضين" قال أبو عمر بن عبد البر.
واحتجوا أيضا بحديث ضمرة عن ابن شوذب عن مطرف عن عطاء عن جابر قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرعها ولا يؤاجرها" فهذه هي جملة الأحاديث التي تمسك بها من لم يجز كراء الأرض. وقالوا أيضا من جهة المعنى: إنه لم يجز كراؤها لما في ذلك من الغرر، لأنه ممكن أن يصيب الزرع جائحة من نار أو قحط أو غرق، فيكون قد لزمه كراؤها من غير أن ينتفع من ذلك بشيء. قال القاضي: ويشبه أن يقال في هذا إن المعنى في ذلك قصد الرفق بالناس لكثرة وجود الأرض كما نهى عن بيع الماء، ووجه الشبه بينهما أنهما أصلا الخلقة. وأما عمدة من لم يجز كراءها إلا بالدراهم والدنانير فحديث طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إنما يزرع ثلاثة، رجل له أرض فيزرعها، ورجل منح أرضا فهو يزرع ما منح، ورجل اكترى بذهب أو فضة" قالوا: فلا يجوز أن يتعدى ما في هذا الحديث والأحاديث الأخر مطلقة وهذا مقيد، ومن الواجب حمل المطلق على المقيد. وعمدة من أجاز كراءها بكل شيء ما عدا الطعام، وسواء كان الطعام مدخرا أو لم يكن حديث يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرعها أخاه بثلث ولا ربع ولا بطعام معين" قالوا: وهذا هو معنى المحاقلة التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، وذكروا حديث سعيد بن المسيب مرفوعا، وفيه: والمحاقلة استكراء الأرض بالحنطة. قالوا: وأيضا فإنه من باب بيع الطعام بالطعام نسيئة.
وعمدة من لم يجز كراءها بالطعام ولا بشيء مما يخرج منها، أما بالطعام فحجته حجة من لم يجز كراءها بالطعام. وأما حجته على منع كرائها مما تنبت فهو ما ورد من نهيه صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، قالوا: وهي كراء الأرض بما يخرج منها وهذا هو قول مالك وكل أصحابه. وعمدة من أجاز كراءها بجميع العروض والطعام وغير ذلك مما يخرج منها أنه كراء منفعة معلومة بشيء معلوم، فجاز قياسا على إجارة سائر المنافع، وكأن هؤلاء ضعفوا أحاديث رافع. روي عن سالم ابن عبد الله وغيره في حديث رافع أنهم قالوا: اكترى رافع. قالوا: وقد جاء في بعض الروايات عنه ما يجب أن يحمل عليها سائرها قال "كنا أكثر أهل المدينة حقلا، قال: وكان أحدنا يكري أرضه ويقول: هذه القطعة لي وهذه لك، وربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم "خرجه البخاري. وأما من لم يجز كراءها بما يخرج منها، فعمدته النظر والأثر. وأما الأثر فما ورد من النهي عن المخابرة، وما ورد من حديث ابن خديج عن ظهير بن رافع قال "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان رفقا بنا، فقلت ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق قال: "دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلنا: نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من التمر والشعير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا، ازرعوها أو زارعوها أو أمسكوها" وهذا الحديث اتفق على تصحيحه الإمامان البخاري ومسلم. وأما من أجاز كراءها بما يخرج منها فعمدته حديث ابن عمر الثابت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم على نصف ما تخرجه الأرض والثمرة" قالوا: وهذا الحديث أولى من أحاديث رافع لأنها مضطربة المتون، وإن صحت أحاديث رافع حملناها على الكراهية لا على الحظر، بدليل ما خرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ولكن قال: إن يمنح أحدكم أخاه يكن خيرا له من أن يأخذ منه شيئا" قالوا: وقد قدم معاذ بن جبل اليمن حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يخابرون فأقرهم. (وأما إجارة المؤذن) فإن قوما لم يروا في ذلم بأسا؛ وقوما كرهوا ذلك. والذين كرهوا ذلك وحرموه احتجوا بما روي عن عثمان بن أبي العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا" والذين أباحوه قاسوه على الأفعال غير الواجبة، وهذا هو سبب الاختلاف، أعني هل هو واجب أم ليس بواجب؟.
وأما الاستئجار على تعليم القرآن فقد اختلفوا فيه أيضا، وكرهه قوم، وأجازه آخرون. والذين أباحوه قاسوه على سائر الأفعال، واحتجوا بما روي عن خارجة بن الصامت عن عمه قال: "أقبلنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتينا على حي من أحياء العرب فقالوا: إنكم جئتم من عند هذا الرجل فهل عندكم دواء أو رقية، فإن عندنا معتوها في القيود، فقلنا لهم نعم، فجاءوا به، فجعلت أقرأ عليه بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشية أجمع بريقي ثم أتفل عليه، فكأنما أنشط من عقال، فأعطوني جعلا، فقلت لا حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته فقال: "كل فلعمري لمن أكل برقية باطلا فلقد أكلت برقية حقا" وبما روي عن أبي سعيد الخدري "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في غزاة، فمروا بحي من أحياء العرب، فقالوا: هل عندكم من راق، فإن سيد الحي قد لدغ أو قد عرض له، قال: فرقي رجل بفاتحة الكتاب فبرئ، فأعطى قطيعا من الغنم، فأبى أن يقبلها، فسأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بم رقيته؟ قال: بفاتحة الكتاب، قال: وما يدريك أنها رقية؟ قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوها واضربوا لي معكم فيها بسهم". وأما الذين كرهوا الجعل على تعليم القرآن فقالوا: هو من باب الجعل على تعليم الصلاة. قالوا: ولم يكن الجعل المذكور في الإجارة على تعليم القرآن وإنما كان على الرقي، وسواء كان الرقي بالقرآن أو غيره الاستئجار عليه عندنا جائز كالعلاجات. قالوا: وليس واجبا على الناس، وأما تعليم القرآن فهو واجب على الناس. وأما إجارة الفحول من الإبل والبقر والدواب، فأجاز مالك أن يكري الرجل فحله على أن ينزو أكواما معلومة، ولم يجز ذلك أبو حنيفة ولا الشافعي.
وحجة من لم يجز ذلك ما جاء من النهي عن عسيب الفحل؛ ومن أجازه شبهه بسائر المنافع، وهذا ضعيف لأنه تغليب القياس على السماع. واستئجار الكلب أيضا هو من هذا الباب، وهو لا يجوز عند الشافعي ولا عند مالك. والشافعي يشترط في جواز استئجار المنفعة أن تكون متقومة على انفرادها، فلا يجوز استئجار تفاحة للشم، ولا طعام لتزين الحانوت، إذ هذه المنافع ليس لها قيم على انفرادها، فهو لا يجوز عند مالك ولا عند الشافعي. ومن هذا الباب اختلاف المذهب في إجارة الدراهم والدنانير، بالجملة كل ما لا يعرف بعينه، فقال ابن القاسم: لا يصح إجارة هذا الجنس وهو قرض، وكان أبو بكر الأبهري وغيره أن ذلك يصح وتلزم الأجرة فيه، وإنما منع من منع إجارتها، لأنه لم يتصور فيها منفعة إلا بإتلاف عينها؛ ومن أجاز إجارتها تصور فيها منفعة، مثل أن يتحمل بها أو يتكثر أو غير ذلك مما يمكن أن يتصور في هذا الباب، فهذه هي مشهورات مسائل الخلاف المتعلقة بجنس المنفعة. وأما مسائل الخلاف المتعلقة بجنس الثمن فهي مسائل الخلاف المتعلقة بما يجوز أن يكون ثمنا في المبيعات وما لا يجوز.
ومما ورد النهي فيه من هذا الباب ما روي "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن عسيب الفحل وعن كسب الحجام وعن قفيز الطحان" قال الطحاوي: ومعنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان هو ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من دفع القمح إلى الطحان بجزء من الدقيق الذي يطحنه، قالوا: وهذا لا يجوز عندنا، وهو استئجار من المستأجر بعين ليس عنده، ولا هي من الأشياء التي تكون ديونا على الذمم، ووافقه الشافعي على هذا. وقال أصحابه: لو استأجر السلاخ بالجلد والطحان بالنخالة أو بصاع من الدقيق فسد لنهيه صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان، وهذا على مذهب مالك جائز، لأنه استأجره على جزء من الطعام؛ معلوم، وأجرة الطحان ذلك الجزء وهو معلوم أيضا. وأما كسب الحجام؛ فذهب قوم إلى تحريمه، وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: كسبه رديء يكره للرجل؛ وقال آخرون: بل هو مباح. والسبب في اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب؛ فمن رأى أنه حرام احتج بما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من السحت كسب الحجام"، وبما روي عن أنس بن مالك قال "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كسب الحجام" وروي عن عون بن أبي جحيفة قال: اشترى أبي حجاما فكسر محاجمه، فقلت له يا أبت لم كسرتها؟ فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم". وأما من رأى إباحة ذلك، فاحتج بما روي عن ابن عباس قال "احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره" قالوا: ولو كان حراما لم يعطه، وحديث جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبا طيبة فحجمه، فسأله كم ضريبتك؟ فقال: ثلاثة آصع، فوضع عنه صاعا" وعنه أيضا "أنه أمر للحجام بصاع من طعام" وأمر موالية أن يخففوا عنه"
(القسم الأول) وهذا القسم النظر فيه إلى جنس الثمن وجنس المنفعة التي
وأما الذين قالوا بكراهيته فاحتجوا بما روي أن رفاعة بن رافع أو رافع بن رفاعة جاء إلى مجلس الأنصار فقال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام وأمرنا أن نطعمه ناضحنا" وبما روي "عن رجل من بني حارثة كان له حجام، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنهاه، ثم عاد فنهاه، ثم عاد فنهاه، فلم يزل يراجعه حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعلف كسبه ناضحك وأطعمه رقيقك". ومن هذا الباب أيضا اختلافهم في إجارة دار بسكنى دار أخرى، فأجار ذلك مالك ومنعه أبو حنيفة، ولعله رآها من باب الدين بالدين، وهذا ضعيف، فهذه مشهورات مسائلهم فيما يتعلق بجنس الثمن وبجنس المنفعة. وأما ما يتعلق بأوصافها فنذكر أيضا المشهور منها؛ فمن ذلك أن جمهور فقهاء الأمصار مالك وأبو حنيفة والشافعي اتفقوا بالجملة أن من شرط الإجارة أن يكون الثمن معلوما والمنفعة معلومة القدر، وذلك إما بغايتها مثل خياطة الثوب وعمل الباب، وإما بضرب الأجل إذا لم تكن لها غاية مثل خدمة الأجير، وذلك إما بالزمان إن كان عملا واستيفاء منفعة متصلة الوجود مثل كراء الدور والحوانيت، وإما بالمكان إن كان مشيا مثل كراء الرواحل. وذهب أهل الظاهر وطائفة من السلف إلى جواز إجارات المجهولات مثل أن يعطي الرجل حماره لمن يسقي عليه أو يحتطب عليه بنصف ما يعود عليه. وعمدة الجمهور أن الإجارة بيع فامتنع فيها من الجهل {لمكان الغبن} ما امتنع في المبيعات. واحتج الفريق الثاني بقياس الإجارة على القراض والمساقاة؛ والجمهور على أن القراض والمساقاة مستثنيان بالسنة فلا يقاس عليهما لخروجهما عن الأصول؛ واتفق مالك والشافعي على أنهما إذا ضربا للمنفعة التي لبس لها غاية أمدا من الزمان محدودا، وحددوا أيضا أول ذلك الأمد، وكان أوله عقب العقد أن ذلك جائز. واختلفوا إذا لم يحددوا أول الزمان أو حددوه ولم يكن عقب العقد، فقال مالك: يجوز إذا حدد الزمان ولم يحدد أوله، مثل أن يقول له: استأجرت منك هذه الدار سنة بكذا أو شهرا بكذا، ولا يذكر أول ذلك الشهر ولا أول تلك السنة؛ وقال الشافعي لا يجوز، ويكون أول الوقت عند مالك وقت عقد الإجارة، فمنعه الشافعي لأنه غرر، وأجازه مالك لأنه معلوم بالعادة، وكذلك لم يجز الشافعي إذا كان أول العقد متراخيا عن العقد، وأجازه مالك. واختلف قول أصحابه في استئجار الأرض غير المأمونة، والتغيير فيما بعد من الزمان؛ وكذلك اختلف مالك والشافعي في مقدار الزمان الذي تقدر به هذه المنافع؛ فمالك يجيز ذلك السنين الكثيرة، مثل أن يكري الدار لعشرة أعوام أو أكثر، مما لا تتغير الدار في مثله؛ وقال الشافعي: لا يجوز ذلك لأكثر من عام واحد. واختلف قول ابن القاسم وابن الماجشون في أرض المطر وأرض السقي بالعيون وأرض السقي بالآبار والأنهار؛ فأجاز ابن القاسم فيها الكراء بالسنين الكثيرة؛
وفصل ابن الماجشون فقال: لا يجوز الكراء في أرض المطر إلا لعام واحد، وأما أرض السقي بالعيون فلا يجوز كراؤها إلا لثلاثة أعوام وأربعة؛ وأما أرض الآبار والأنهار فلا يجوز إلا لعشرة أعوام فقط. فالاختلاف ههنا في ثلاثة مواضع: في تحديد أول المدة، وفي طولها، وفي بعدها عن وقت العقد. وكذلك اختلف مالك والشافعي إذا لم يحدد المدة وحدد القدر الذي يجب لأقل المدة مثل أن يقول: أكتري منك هذه الدار الشهر بكذا، ولا يضربان لذلك أمدا معلوما، فقال الشافعي: لا يجوز؛ وقال مالك وأصحابه: يجوز على قياس: أبيعك من هذه الصبرة بحساب القفيز بدرهم، وهذا لا يجوز غيره. وسبب الخلاف اعتبار الجهل الواقع في هذه الأشياء هل هو من الغرر المعفو عنه أو المنهي عنه؟ ومن هذا الباب اختلافهم في البيع والإجارة، أجازه مالك، ومنعه الشافعي وأبو حنيفة، ولم يجز مالك أن يقترن بالبيع إلا الإجارة فقط. ومن هذا الباب اختلافهم في إجارة المشاع؛ فقال مالك والشافعي: هي جائزة؛ وقال أبو حنيفة: لا تجوز، لأن عنده أن الانتفاع بها مع الإشاعة متعذر؛ وعند مالك والشافعي أن الانتفاع بها ممكن مع شريكه كانتفاع المكري بها مع شريكه: أعنى رب المال. ومن هذا الباب استئجار الأجير بطعامه وكسوته، وكذلك الظئر، فمنع الشافعي ذلك على الإطلاق، وأجاز ذلك مالك على الإطلاق: أعني في كل أجير؛ وأجاز ذلك أبو حنيفة في الظئر فقط. وسبب الخلاف هل هي إجارة مجهولة، أم ليست مجهولة؟ فهذه هي شرائط الإجارة الراجعة إلى الثمن والمثمون. وأما أنواع الإجارة فإن العلماء على أن الإجارة على ضربين: إجارة منافع أعيان محسوسة، وإجارة منافع في الذمة قياسا على البيع. والذي في الذمة من شرطه الوصف. والذي في العين من شرطه الرؤية أو الصفة عنده كالحال في المبيعات، ومن شرط الصفة عنده ذكر الجنس والنوع، وذلك في الشيء الذي تستوفي منافعه، وفي الشيء الذي تستوفي به منافعه فلابد من وصف المركوب مثلا، والحمل الذي تستوفي به منفعة المركوب. وعند مالك أن الراكب لا يحتاج أن يوصف، وعند الشافعي يحتاج إلى الوصف، وعند ابن القاسم أنه إذا استأجر الراعي على غنم بأعيانها أن من شرط صحة العقد اشتراط الخلف، وعند غيره تلزم الجملة بغير شرط. ومن شرط إجارة الذمة أن يعجل النقد عند مالك ليخرج من الدين بالدين؛ كما أن من شرط إجارة الأرض غير المأمونة السقي عنده أن لا يشترط فيها النقد إلا بعد الري. واختلفوا في الكراء هل يدخل في أنواعه الخيار أم لا؟ فقال مالك: يجوز الخيار في الصنفين من الكراء المضمون والمعين؛ وقال الشافعي: لا يجوز، فهذه هي المشهورات من المسائل الواقعة في هذا القسم الأول من هذا الكتاب، وهو الذي يشتمل على النظر في محال هذا العقد وأوصافه وأنواعه، وهي الأشياء التي تجري من هذا العقد مجرى الأركان، وبها يوصف العقد إذا كان على الشروط الشرعية بالصحة وبالفساد إذا لم يكن على ذلك، وبقي النظر في الجزء الثاني، وهو أحكام هذا العقد.
-وأحكام الإجارات كثيرة، ولكنها بالجملة تنحصر في جملتين: الجملة الأولى في موجبات هذا العقد ولوازمه من غير حدوث طارئ عليه. الجملة الثانية: في أحكام الطوارئ. وهذه الجملة تنقسم في الأشهر إلى معرفة موجبات الضمان وعدمه، ومعرفة وجوب الفسخ وعدمه، ومعرفة حكم الاختلاف.
-فنقول: إن الفقهاء اختلفوا في عقد الإجارة؛ فذهب الجمهور إلى أنه عقد لازم، وحكي عن قوم أنه عقد جائز تشبيها بالجعل والشركة. والذين قالوا إنه عقد لازم اختلفوا فيما ينفسخ به؛ فذهب جماعة فقهاء الأمصار مالك والشافعي وسفيان الثوري وأبو ثور وغيرهم إلى أنه لا ينفسخ إلا بما تنفسخ به العقود اللازمة من وجود العيب بها أو ذهاب محل استيفاء المنفعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز فسخ عقد الإجارة للعذر الطارئ على المستأجر، مثل أن يكري دكانا يتجر فيه فيحترق متاعه أو يسرق. وعمدة الجمهور قوله تعالى {أوفوا بالعقود} لأن الكراء عقد على منافع فأشبه النكاح، ولأنه عقد على معاوضة فلم ينفسخ أصله البيع. وعمدة أبي حنيفة أنه شبه ذهاب ما به تستوفي المنفعة بذهاب العين التي فيها المنفعة. وقد اختلف قول مالك إذا كان الكراء في غير مخصوص على استيفاء منفعة من جنس مخصوص؛ فقال عبد الوهاب الظاهر من مذهب أصحابنا أن محل استيفاء المنافع لا يتعين في الإجارة، وإن عين فذلك كالوصف لا ينفسخ ببيعه أو ذهابه، بخلاف العين المستأجرة إذا تلفت قال: وذلك مثل أن يستأجر على رعاية غنم بأعيانها أو خياطة قميص بعينه فتهلك الغنم ويحترق الثوب فلا ينفسخ العقد، وعلى المستأجر أن يأتي بغنم مثلها ليرعاها أو قميص مثله ليخيطه، قال: وقد قيل إنها تتعين بالتعيين فينفسخ العقد بتلف المحل. وقال بعض المتأخرين: إن ذلك ليس اختلافا في المذهب وإنما ذلك على قسمين: أحدهما أن يكون المحل المعين لاستيفاء المنافع مما تقصد عينه أو مما لا تقصد عينه، فإن كان مما تقصد عينه انفسخت الإجارة كالظئر إذا مات الطفل، وإن كان مما لا يقصد عينه لم تنفسخ الإجارة على رعاية الغنم أو بيع طعام في حانوت وما أشبه ذلك. واشتراط ابن القاسم في المدونة أنه إذا استأجر على غنم بأعيانها فإنه لا يجوز إلا أن يشترط الخلف هو التفات منه إلى أنها تنفسخ بذهاب محل استيفاء المعين، لكن لما رأى التلف سائقا إلى الفسخ رأى أنه من باب الغرر، فلم يجز الكراء عليها إلا باشتراط الخلف. ومن نحو هذا اختلافهم في هل ينفسخ الكراء بموت أحد المتعاقدين: أعني المكري والمكتري؛ فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا ينفسخ ويورث عقد الكراء؛ وقال أبو حنيفة والثوري والليث: ينفسخ. وعمدة من لم يقل بالفسخ أنه عقد معاوضة، فلم ينفسخ بموت أحد المتعاقدين أصله البيع. وعمدة الحنفية أن الموت نقلة لأصل الرقبة المكتراة من ملك إلى ملك، فوجب أن يبطل أصله البيع في العين المستأجرة مدة طويلة: أعني أنه لا يجوز فلما كان لا يجتمع العقدان معا غلب ههنا انتقال الملك وإلا بقي الملك ليس له وارث، وذلك خلاف الإجماع، وربما شبهوا الإجارة بالنكاح إذ كان كلاهما استيفاء منافع، والنكاح يبطل بالموت وهو بعيد، وربما احتجوا على المالكية فقط بأن الأجرة عندهم تستحق جزءا فجزءا بقدر ما يقبض من المنفعة، قالوا: وإن كان هذا هكذا فإن مات المالك وبقيت الإجارة، فإن المستأجر يستوفي في ملك الوارث حقا بموجب عقد في غير ملك العاقد وذلك لا يصح، وإن مات المستأجر فتكون الأجرة مستحقة عليه بعد موته، والميت لا يثبت عليه دين بإجماع بعد موته. وأما الشافعية فلا يلزمهم هذا لأن استيفاء الأجرة يجب عندهم بنفس العقد على ما سلف من ذلك، وعند مالك أن أرض المطر إذا أكريت فمنع القحط من زراعتها أو زرعها فلم ينبت الزرع لمكان القحط أن الكراء ينفسخ، وكذلك إذا استعذرت بالمطر حتى انقضى زمن الزراعة، فلم يتمكن المكتري من أن يزرعها وسائر الجوائح التي تصيب الزرع لا يحط عنه من الكراء شيء، وعنده أن الكراء الذي يتعلق بوقت ما أنه إن كان ذلك الوقت مقصودا مثل كراء الرواحل في أيام الحج فغاب المكري عن ذلك الوقت أنه ينفسخ الكراء. وأما إن لم يكن الوقت مقصودا فإنه لا ينفسخ، هذا كله عنده في الكراء الذي يكون في الأعيان. فأما الكراء الذي يكون في الذمة فإنه لا ينفسخ عنده بذهاب العين التي قبض المستأجر ليستوفي منها المنفعة إذ كان لم ينعقد الكراء على عين بعينها وإنما انعقد على موصوف في الذمة. وفروع هذا الباب كثيرة، وأصوله هي هذه التي ذكرناها.
-والضمان عند الفقهاء على وجهين: بالتعدي، أو لمكان المصلحة وحفظ الأموال. فأما بالتعدي فيجب على المكري باتفاق، والخلاف إنما هو في نوع التعدي الذي يوجب ذلك أو لا يوجبه وفي قدره؛ فمن ذلك اختلاف العلماء في القضاء فيمن اكترى دابة إلى موضع ما فتعدى بها إلى موضع زائد على الموضع الذي انعقد عليه الكراء، فقال الشافعي وأحمد: عليه الكراء الذي التزمه إلى المسافة المشترطة، ومثل كراء المسافة التي تعدى فيها؛ وقال مالك: رب الدابة بالخيار في أن يأخذ كراء دابته في المسافة التي تعدى فيها أو يضمن له قيمة الدابة؛ وقال أبو حنيفة: لا كراء عليه في المسافة المتعداة، ولا خلاف أنها إذا تلفت في المسافة المتعداة أنه ضامن لها. فعمدة الشافعي أنه تعدى على المنفعة فلزمه أجرة المثل أصله التعدي على سائر المنافع. وأما مالك فكأنه لما حبس الدابة عن أسواقها رأى أنه قد تعدى عليها فيها نفسها فشبهه بالغاصب، وفيه ضعف. وأما مذهب أبي حنيفة فبعيد جدا عما تقتضيه الأصول الشرعية، والأقرب إلى الأصول في هذه المسألة هو قول الشافعي. وعند مالك أن عثار الدابة لو كانت عثور تعد من صاحب الدابة يضمن بها الحمل، وكذلك إن كانت الحبال رثة، ومسائل هذا الباب كثيرة. وأما الذين اختلفوا في ضمانهم من غير تعد إلا من جهة المصلحة فهم الصناع، ولا خلاف عندهم أن الأجير ليس بضامن لما هلك عنده مما استؤجر عليه إلا أن يتعدى ما عدا حامل الطعام والطحان، فإن مالكا ضمنه ما هلك عنده، إلا أن تقوم له بينة على هلاكه من غير سببه. وأما تضمين الصناع ما ادعوا هلاكه من المصنوعات المدفوعة إليهم، فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك وابن أبي ليلى وأبو يوسف: يضمنون ما هلك عندهم، وقال أبو حنيفة: لا يضمن من عمل بغير أجر ولا الخاص، ويضمن المشترك ومن عمل بأجر. وللشافعي قولان في المشترك. والخاص عندهم هو الذي يعمل في منزل المستأجر، وقيل هو الذي لم ينتصب للناس، وهو مذهب مالك في الخاص، وهو عنده غير ضامن، وتحصيل مذهب مالك على هذا أن الصانع المشترك يضمن، وسواء عمل بأجر أو بغير أجر، وبتضمين الصناع قال علي وعمر، وإن كان قد اختلف عن علي في ذلك. وعمدة من لم ير الضمان عليهم أنه شبه الصانع بالمودع عنده والشريك والوكيل وأجير الغنم ومن ضمنه فلا دليل له إلا النظر إلى المصلحة وسد الذريعة. وأما من فرق بين أن يعملوا بأجر أو لا يعملوا بأجر، فلأن العامل بغير أجر إنما قبض المعمول لمنفعة صاحبه فقط فأشبه المودع، وإذا قبضها بأجر فالمنفعة لكليهما، فغلبت منفعة القابض، أصله القرض والعارية عند الشافعي، وكذلك أيضا من لم ينصب نفسه لم يكن في تضمينه سد ذريعة، والأجير عند مالك كما قلنا لا يضمن إلا أنه استحسن تضمين حامل القوت وما يجري مجراه، وكذلك الطحان وما عدا غيرهم فلا يضمن إلا بالتعدي، وصاحب الحمام لا يضمن عنده، هذا هو المشهور عنه، وقد قيل يضمن. وشذ أشهب فضمن الصناع ما قامت البينة على هلاكه عندهم من غير تعد منهم ولا تفريط وهو شذوذ، ولا خلاف أن الصناع لا يضمنون ما لم يقبضوا في منازلهم. واختلف أصحاب مالك إذا قامت البينة على هلاك المصنوع وسقط الضمان عنهم هل تجب لهم الأجرة أم لا، إذا كان هلاكه بعد إتمام الصنعة أو بعد تمام بعضها؟ فقال ابن القاسم: لا أجرة لهم، وقال ابن المواز: لهم الأجرة؛ ووجه ما قال ابن المواز أن المصيبة إذا نزلت بالمستأجر فوجب أن لا يمضي عمل الصانع باطلا؛ ووجه ما قال ابن القاسم أن الأجرة إنما استوجبت في مقابلة العمل، فأشبه ذلك إذا هلك بتفريط من الأجير، وقول ابن المواز أقيس، وقول ابن القاسم أكثر نظرا إلى المصلحة لأنه رأى أن يشتركوا في المصيبة. ومن هذا الباب اختلافهم في ضمان صاحب السفينة، فقال مالك: لا ضمان عليه، وقال أبو حنيفة: عليه الضمان إلا من الموج، وأصل مذهب مالك أن الصناع يضمنون كل ما أتى على أيديهم من حرق أو كسر في المصنوع أو قطع إذا عمله في حانوته، وإن كان صاحبه قاعدا معه، إلا فيما كان فيه تغرير من الأعمال، مثل ثقب الجواهر ونقش الفصوص وتقويم السيوف واحتراق الخبز عند الفران والطبيب يموت العليل من معالجته وكذلك البيطار إلا أن يعلم أنه تعدى فيضمن حينئذ. وأما الطبيب وما أشبهه إذا أخطأ في فعله، وكان من أهل المعرفة فلا شيء عليه في النفس، والدية على العاقلة فيما فوق الثلث وفي ماله فيما دون الثلث، وإن لم يكن من أهل المعرفة فعليه الضرب والسجن والدية، قيل في ماله، وقيل على العاقلة.
-وهو النظر في الاختلاف، وفي هذا الباب أيضا مسائل: فمنها أنهم اختلفوا إذا اختلف الصانع ورب المصنوع في صفة الصنعة، فقال أبو حنيفة: القول قول رب المصنوع، وقال مالك وابن أبي ليلى: القول قول الصانع. وسبب الخلاف من المدعي منهما على صاحبه، ومن المدعى عليه؟. ومنها إذا ادعى الصناع رد ما استصنعوا فيه وأنكر ذلك الدافع، فالقول عند مالك قول الدافع، وعلى الصناع البينة لأنهم كانوا ضامنين لما في أيديهم؛ وقال ابن الماجشون: القول قول الصناع إن كان ما دفع إليهم دفع بغير بينة، وإن كان دفع إليهم ببينة فلا يبرءون إلا ببينة. وإذا اختلف الصانع ورب المتاع في دفع الأجرة، فالمشهور في المذهب أن القول قول الصانع مع يمينه إن قام يحدثان ذلك، وإن تطاول فالقول قول رب المصنوع، وكذلك إذا اختلف المكري والمكتري، وقيل بل القول قول الصانع وقول المكري وإن طال، وهو الأصل. وإذا اختلف المكري والمكتري أو الأجير والمستأجر في مدة الزمان الذي وقع فيه استيفاء المنفعة إذا اتفقا على أن المنفعة لم تستوف في جميع الزمان المضروب في ذلك، فالمشهور في المذهب أن القول قول المكتري والمستأجر لأنه الغارم، والأصول على أن القول قول الغارم؛ وقال ابن الماجشون: القول قول المكتري له والمستأجر إذا كانت العين المستوفاة منها المنافع في قبضهما مثل الدار وما أشبه ذلك. وأما ما لم يكن في قبضه مثل الأجير فالقول قول الأجير. ومن مسائل المذهب المشهورة في هذا الباب اختلاف المتكاريين في الدواب وفي الرواحل، وذلك أن اختلافهما لا يخلو أن يكون في قدر المسافة أو نوعها، أو قدر الكراء أو نوعه، فإن كان اختلافهما في نوع المسافة، أو في نوع الكراء، فالتحالف والتفاسخ كاختلاف المتبايعين في نوع الثمن، قال ابن القاسم: انعقد أو لم ينعقد، وقال غيره: القول قول رب الدابة إذا انعقد وكان يشبه ما قال. وإن كان اختلافهما في قدر المسافة، فإن كان قبل الركوب أو بعد ركوب يسير، فالتحالف والتفاسخ، وإن كان بعد ركوب كثير، أو بلوغ المسافة التي يدعيها رب الدابة فالقول قول رب الدابة في المسافة إن انتقد وكان يشبه ما قال، وإن لم ينتقد وأشبه قوله تحالفا ويفسخ الكراء على أعظم المسافتين، فما جعل منه للمسافة التي ادعاها رب الدابة أعطيه، وكذلك إن انتقد ولم يشبه قوله وإن اختلفا في الثمن واتفقا على المسافة فالقول قول المكتري نقد أو لم ينقد لأنه مدعى عليه. وإن اختلفا في الأمرين جميعا في المسافة والثمن مثل أن يقول رب الدابة بقرطبة: اكتريت منك إلى قرمونة بدينارين ويقول المكتري بل بدينار إلى إشبيلية، فإن كان أيضا قبل الركوب أو بعد ركوب لا ضرر عليهما في الرجوع تحالفا وتفاسخا، وإن كان بعد سير كثير أو بلوغ المسافة التي يدعيها رب الدابة، فإن كان لم ينقد المكتري شيئا كان القول قول رب الدابة في المسافة، والقول قول المكتري في الثمن، ويغرم من الثمن ما يجب له من قرطبة إلى قرمونة، على أنه لو كان الكراء به إلى إشبيلية وذلك أنه أشبه قول المكتري، وإن لم يشبه ما قال وأشبه رب الدابة غرم دينارين وإن كان المكتري نقد الثمن الذي يدعى أنه للمسافة الكبرى وأشبه قول رب الدابة كان القول قول رب الدابة في المسافة ويبقى له ذلك الثمن الذي قبضه لا يرجع عليه بشيء منه إذ هو مدعي عليه في بعضه، وهو يقول: بل هو لي وزيادة، فيقبل قوله فيه لأنه قبضه، ولا يقبل قوله في الزيادة، ويسقط عنه ما لم يقرب به من المسافة أشبه ما قال أو لم يشبه، إلا أنه إذا لم يشبه قسم الكراء الذي أقر به المكتري على المسافة كلها، فيأخذ رب الدابة من ذلك ما ناب المسافة التي ادعاها، وهذا القدر كاف في هذا الباب.
(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-والجعل هو الإجارة على منفعة مظنون حصولها، مثل مشارطة الطبيب على البرء والمعلم على الحذاق والناشد على وجود العبد الآبق. وقد اختلف العلماء في منعه وجوازه؛ فقال مالك: يجوز ذلك في اليسير بشرطين: أحدهما أن لا يضرب لذلك أجلا. والثاني أن يكون الثمن معلوما؛ وقال أبو حنيفة: لا يجوز؛ وللشافعي قولان وعمدة من أجازه قوله تعالى
(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما).
-ولا خلاف بين المسلمين في جواز القراض، وأنه مما كان في الجاهلية فأقره الإسلام. وأجمعوا على أن صفته أن يعطي الرجل الرجل المال على أن يتجر به على جزء معلوم يأخذه العامل من ربح المال، أي جزء كان مما يتفقان عليه ثلثا أو ربعا أو نصفا، وأن هذا مستثنى من الإجارة المجهولة، وأن الرخصة في ذلك إنما هي لموضع الرفق بالناس، وأنه لا ضمان على العامل فيما تلف من رأس المال إذا لم يتعد، وإن كان اختلفوا فيما هو تعد مما ليس بتعد. وكذلك أجمعوا بالجملة على أنه لا يقترن به شرط يزيد في مجهلة الربح أو في الغرر الذي فيه وإن كان اختلفوا فيما يقتضي ذلك من الشروط مما لا يقتضي. وكذلك اتفقوا على أنه يجوز بالدنانير والدراهم، واختلفوا في غير ذلك. وبالجملة فالنظر فيه: في صفته وفي محله وفي شروطه وفي أحكامه، ونحن نذكر في باب باب من هذه الثلاثة الأبواب مشهورات مسائلهم.
-أما صفته فقد تقدمت وأنهم أجمعوا عليها. وأما محله فإنهم أجمعوا على أنه جائز بالدنانير والدراهم، واختلفوا في العروض فجمهور فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز القراض بالعروض، وجوزه ابن أبي ليلى. وحجة الجمهور أن رأس المال إذا كان عروضا كان غررا لأنه يقبض العرض وهو يساوي قيمة ما، ويرده وهو يساوي قيمة غيرها، فيكون رأس المال والربح مجهولا. وأما إن كان رأس المال ما به يباع العروض، فإن مالكا منعه والشافعي أيضا، وأجازه أبو حنيفة. وعمدة مالك أنه قارضه على ما بيعت به السلعة وعلى بيع السلعة نفسها، فكأنه قراض ومنفعة، مع أن ما يبيع به السلعة مجهول، فكأنه إنما قارضه على رأس مال مجهول، ويشبه أن يكون أيضا إنما منع المقارضة على قيم العروض لمكان ما يتكلف المقارض في ذلك من البيع، وحينئذ ينض رأس مال القراض، وكذلك إن أعطاه العرض بالثمن الذي اشتراه به، ولكنه أقرب الوجوه إلى الجواز، ولعل هذا هو الذي جوزه ابن أبي ليلى، بل هو الظاهر من قولهم؛ فإنهم حكوا عنه أنه يجوز أن يعطي الرجل ثوبا يبيعه، فما كان فيه من ربح فهو بينهما، وهذا إنما هو على أن يجعلا أصل المال الثمن الذي اشترى به الثوب، ويشبه أيضا إن جعل رأس المال الثمن أن يتهم المقارض في تصديقه رب المال بخرصه على أخذ القراض منه. واختلف قول مالك في القراض بالنقد من الذهب والفضة، فروي عنه أشهب منع ذلك، وروى ابن القاسم جوازه، ومنعه في المصوغ، وبالمنع في ذلك قال الشافعي والكوفي، فمن منع القراض بالنقد شبهها بالعروض، ومن أجازه شبهها بالدراهم والدنانير لقلة اختلاف أسواقها. واختلف أيضا أصحاب مالك في القراض بالفلوس، فمنعه ابن القاسم، وأجازه أشهب، وبه قال محمد بن الحسن؛ وجمهور العلماء مالك والشافعي وأبو حنيفة على أنه إذا كان لرجل على رجل دين لم يجز أن يعطيه له قراضا قبل أن يقبضه؛ أما العلة عند مالك فمخافة أن يكون أعسر بماله، فهو يريد أن يؤخره عنه على أن يزيد فيه، فيكون الربا المنهي عنه. وأما العلة عند الشافعي وأبي حنيفة، فإن ما في الذمة لا يتحول ويعود أمانة. واختلفوا فيمن أمر رجلا أن يقبض دينا له على رجل آخر، ويعمل فيه على جهة القراض فلم يجز ذلك مالك وأصحابه، لأنه رأى أنه ازداد على العامل كلفة، وهو ما كلفه من قبضه، وهذا على أصله أن من اشترط منفعة زائدة في القراض أنه فاسد؛ وأجاز ذلك الشافعي والكوفي، قالوا: لأنه وكله على القبض، لا أنه جعل القبض شرطا في المصارفة، فهذا هو القول في محله. وأما صفته فهي الصفة التي قدمناها.
-وجملة ما لا يجوز من الشروط عند الجميع هي ما أدى عندهم إلى غرر أو إلى مجهلة زائدة. ولا خلاف بين العلماء أنه إذا اشترط أحدهما لنفسه من الربح شيئا زائدا غير ما انعقد عليه القراض أن ذلك لا يجوز، لأنه يصير ذلك الذي انعقد عليه القراض مجهولا، وهذا هو الأصل عند مالك في أن لا يكون مع القراض بيع ولا كراء ولا سلف ولا عمل ولا مرفق يشترطه أحدهما لصاحبه مع نفسه، فهذه جملة ما اتفقوا عليه وإن كانوا قد اختلفوا في التفصيل؛ فمن ذلك اختلافهم إذا شرط العامل الربح كله له، فقال مالك: يجوز، وقال الشافعي: لا يجوز، وقال أبو حنيفة: هو قرض لا قراض؛ فمالك رأى أنه إحسان من رب المال وتطوع، إذ كان يجوز له أن يأخذ منه الجزء القليل من المال الكثير والشافعي رأى أنه غرر، لأنه إن كان خسران فعلى رب المال وبهذا يفارق القرض، وإن كان ربح فليس لرب المال فيه شيء. ومنها إذا شرط رب المال الضمان على العامل، فقال مالك: لا يجوز القراض وهو فاسد، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه؛ القراض جائز والشرط باطل. وعمدة مالك أن اشتراط الضمان زيادة غرر في القراض ففسد؛ وأما أبو حنيفة فشبهه بالشرط الفاسد في البيع على رأيه أن البيع جائز والشرط باطل اعتمادا على حديث بريرة المتقدم. واختلفوا في المقارض يشترط رب المال عليه خصوص التصرف، مثل أن يشترط عليه تعيين جنس ما من السلع، أو تعيين جنس ما من البيع، أو تعيين موضع ما من التجارة، أو تعيين صنف ما من الناس يتجر معهم. فقال مالك والشافعي في اشتراط جنس من السلع: لا يجوز ذلك إلا أن يكون ذلك الجنس من السلع لا يختلف وقتا ما من أوقات السنة؛ وقال أبو حنيفة: يلزمه ما اشترط عليه، وإن تصرف في غير ما اشترط عليه ضمن. فمالك والشافعي رأيا أن هذا الاشتراط من باب التضييق على المقارض فيعظم الغرر بذلك؛ وأبو حنيفة استخف الغرر الموجود في ذلك، كما لو اشترط عليه أن لا يشتري جنسا ما من السلع لكان على شرطه في ذلك باجماع. ولا يجوز القراض المؤجل عند الجمهور، وأجازه أبو حنيفة إلا أن يتفاسخا؛ فمن لم يجزه رأى أن في ذلك تضييقا على العامل يدخل عليه مزيد غرر، لأنه ربما بارت عنده سلع فيضطر عند بلوغ الأجل إلى بيعها فيلحقه في ذلك ضرر؛ ومن أجاز الأجل شبه القراض بالإجارة ومن هذا الباب اختلافهم في جواز اشتراط رب المال زكاة الربح على العامل في حصته من الربح، فقال مالك في الموطأ: لا يجوز، ورواه عنه أشهب؛ وقال ابن القاسم: ذلك جائز، ورواه عن مالك، وبقول مالك قال الشافعي. وحجة من لم يجزه أنه تعوض حصة العامل ورب المال مجهولة، لأنه لا يدري كم يكون المال في حين وجوب الزكاة فيه، وتشبيها باشتراط زكاة أصل المال عليه: أعني على العامل، فإنه لا يجوز باتفاق وحجة ابن القاسم أنه يرجع إلى جزء معلوم النسبة وإن لم يكن معلوم القدر، لأن الزكاة معلومة النسبة من المال المزكى، فكأنه اشترط عليه في الربح الثلث إلا ربع العشر، أو النصف إلا ربع العشر، أو الربع إلا ربع العشر، وذلك جائز وليس مثل اشتراطه زكاة رأس المال، لأن ذلك معلوم القدر غير معلوم النسبة، فكان ممكنا أن يحيط بالربح فيبقى عمل المقارض باطلا، وهل يجوز أن يشترط ذلك المقارض على رب المال؟ في المذهب فيه قولان: قيل بالفرق بين العامل ورب المال، وقيل يجوز أن يشترطه العامل على رب المال، ولا يجوز أن يشترطه رب المال على العامل؛ وقيل عكس هذا. واختلفوا في اشتراط العامل على رب المال غلاما بعينه على أن يكون للغلام نصيب من المال، فأجازه مالك والشافعي وأبو حنيفة؛ وقال أشهب من أصحاب مالك: لا يجوز ذلك، فمن أجاز ذلك شبهه بالرجل يقارض الرجلين، ومن لم يجز ذلك رأى أنها زيادة ازدادها العامل على رب المال. فأما إن اشترط العامل غلامه، فقال الثوري: لا يجوز، وللغلام فيما عمل أجرة المثل، وذلك أن حظ العامل يكون عنده مجهولا.
-والأحكام، منها ما هي أحكام القراض الصحيح، ومنها ما هي أحكام القراض الفاسد. وأحكام القراض الصحيح، منها ما هي من موجبات العقد، أعني أنها تابعة لموجب العقد، ومختلف فيها هل هي تابعة أو غير تابعة؟ ومنها أحكام طوارئ تطرأ على العقد مما لم يكن موجبه من نفس العقد، مثل التعدي والاختلاف وغير ذلك. ونحن نذكر من هذه الأوصاف ما اشتهر عند فقهاء الأمصار. ونبدأ من ذلك بموجبات العقد فنقول: إنه أجمع العلماء على أن اللزوم ليس من موجبات عقد القراض، وأن لكل واحد منهما فسخه ما لم يشرع العامل في القراض. واختلفوا إذا شرع العامل، فقال مالك: هو لازم، وهو عقد يورث، فإن مات وكان للمقارض بنون أمناء كانوا في القراض مثل أبيهم، وإن لم يكونوا أمناء كان لهم أن يأتوا بأمين؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: لكل واحد منهم الفسخ إذا شاء، وليس هو عقد يورث. فمالك ألزمه بعد الشروع في العمل لما فيه من ضرر، ورآه من العقود الموروثة. والفرقة الثانية شبهت الشروع في العمل بما بعد الشروع في العمل. ولا خلاف بينهم أن المقارض إنما يأخذ حظه من الربح بعد أن ينض جميع رأس المال، وأنه إن خسر ثم أتجر ثم ربح جبر الخسران من الربح. واختلفوا في الرجل يدفع إلى رجل مالا قراضا فيهلك بعضه قبل أن يعمل فيه، ثم يعمل فيه فيربح، فيريد المقارض أن يجعل رأس المال بقية المال بعد الذي هلك، هل له ذلك أم لا؟ فقال مالك وجمهور العلماء: إن صدقه رب المال، أو دفع رجل مالا قراضا لرجل فهلك منه جزء قبل أن يعمل فأخبره بذلك فصدقه ثم قال له يكون الباقي عندك قراضا على الشرط المتقدم لم يجز حتى يفاصله ويقبض منه رأس ماله وينقطع القراض الأول. وقال ابن حبيب من أصحاب مالك إنه يلزمه في ذلك القول، ويكون الباقي قراضا، وهذه المسألة هي من أحكام الطوارئ، ولكن ذكرناها هنا لتعلقها بوقت وجوب القسمة، وهي من أحكام العقد. واختلفوا هل للعامل نفقته من المال المقارض عليه أم لا؟ على ثلاثة أقوال: فقال الشافعي في أشهر أقواله: لا نفقة له أصلا إلا أن يأذن له رب المال؛ وقال قوم: له نفقته، وبه قال إبراهيم النخعي والحسن، وهو أحد ما روي عن الشافعي؛ وقال آخرون: له النفقة في السفر من طعامه وكسوته، وليس له شيء في الحضر، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري وجمهور العلماء، إلا أن مالكا قال: إذا كان المال يحمل ذلك؛ وقال الثوري: ينفق ذاهبا ولا ينفق راجعا؛ وقال الليث: يتغدى في المصر ولا يتعشى؛ وروي عن الشافعي أن له نفقته في المرض، والمشهور عنه مثل قول الجمهور: أن لا نفقة له في المرض. وحجة من لم يجزه أن ذلك زيادة منفعة في القراض فلم يجز. أصله المنافع. وحجة من أجازه أن عليه العمل في الصدر الأول، ومن أجازه في الحضر شبهه بالسفر. وأجمع علماء الأمصار على أنه لا يجوز للعامل أن يأخذ نصيبه من الربح إلا بحضرة رب المال، وأن حضور رب المال شرط في قسمة المال وأخذ العامل حصته، وأنه ليس يكفي في ذلك أن يقسمه بحضور بينة ولا غيرها.
-واختلفوا إذا أخذ المقارض حصته من غير حضور رب المال، ثم ضاع المال أو بعضه؛ فقال مالك: إن أذن له رب المال في ذلك فالعامل مصدق فيما ادعاه من الضياع؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: ما أخذ العامل يرده ويجبر به رأس المال، ثم يقتسمان فضلا إن كان هنالك. واختلفوا إذا هلك مال القراض بعد أن اشترى العامل به سلعة ما وقبل أن ينقده البائع. فقال مالك: البيع لازم للعامل، ورب المال مخير إن شاء دفع قيمة السلعة مرة ثانية، ثم تكون بينهما على ما شرطا من المقارضة، وإن شاء تبرأ عنها؛ وقال أبو حنيفة: بل يلزم ذلك الشراء رب المال شبه بالوكيل، إلا أنه قال: يكون رأس المال في ذلك القراض الثمنين، ولا يقتسمان الربح إلا بعد حصوله عينا: أعني ثمن تلك السلعة التي تلفت أولا، والثمن الثاني الذي لزمه بعد ذلك. واختلفوا في بيع العامل من رب المال بعض سلع القراض، فكره ذلك مالك، وأجازه أبو حنيفة على الإطلاق، وأجازه الشافعي بشرط أن يكونا قد تبايعا بما لا يتغابن الناس بمثله. ووجهة ما كره من ذلك مالك أن يكون يرخص له في السلعة من أجل ما قارضه، فكأن رب المال أخذ من العامل منفعة سوى الربح الذي اشترط عليه. ولا أعرف خلافا بين فقهاء الأمصار أنه إن تكارى العامل على السلع إلى بلد فاستغرق الكراء قيم السلع وفضل عليه فضلة أنها على العامل لا على رب المال، لأن رب المال إنما دفع ماله إليه ليتجر به، فما كان من خسران في المال فعليه، وكذلك ما زاد على المال واستغرقه. واختلفوا في العامل يستدين مالا فيتجر به مع مال القراض، فقال مالك: ذلك لا يجوز؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: ذلك جائز، ويكون الربح بينهما على شرطهما. وحجة مالك أنه كما لا يجوز أن يستدين على المقارضة، كذلك لا يجوز أن يأخذ دينا فيها. واختلفوا هل للعامل أن يبيع بالدين إذا لم يأمره به رب المال؟ فقال مالك: ليس له ذلك، فإن فعل ضمن، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: له ذلك. والجميع متفقون على أن العامل إنما يجب له أن يتصرف في عقد القراض ما يتصرف فيه الناس غالبا في أكثر الأحوال؛ فمن رأى أن التصرف بالدين خارج عما يتصرف فيه الناس في الأغلب لم يجزه؛ ومن رأى أنه مما يتصرف فيه الناس أجازه. واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة والليث في العامل يخلط ماله بمال القراض من غير إذن رب المال، فقال هؤلاء كلهم ما عدا مالكا: هو تعد ويضمن؛ وقال مالك: ليس بتعد. ولم يختلف هؤلاء المشاهير من فقهاء الأمصار أنه إن دفع العامل رأس مال القراض إلى مقارض آخر أنه ضامن إن كان خسران، وإن كان ربح فذلك على شرطه، ثم يكون للذي عمل شرطه على الذي دفع إليه، فيوفيه حظه مما بقي من المال. وقال المزني عن الشافعي: ليس له إلا أجرة مثله، لأنه عمل على فساد.
-واتفقوا على أن حكم القراض الفاسد فسخه ورد المال إلى صاحبه ما لم يفت بالعمل. واختلفوا إذا فات بالعمل ما يكون للعامل فيه في واجب عمله على أقوال: أحدها أنه يرد جميعه إلى قراض مثله، وهي رواية ابن الماجشون عن مالك، وهو قوله وقول أشهب. والثاني أنه يرد جميعه إلى إجارة مثله، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وعبد العزيز بن أبي سلمة من أصحاب مالك، وحكى عبد الوهاب أنها رواية عن مالك. والثالث أنه يرد إلى قراض مثله ما لم يكن أكثر مما سماه، وإنما له الأقل مما سمي أو من قراض مثله إن كان رب المال هو مشترط الشرط على المقارض، أو الأكثر من قراض مثله، أو من الجزء الذي سمى له إن كان المقارض هو مشترط الشرط الذي يقتضي الزيادة التي من قبلها فسد القراض، وهذا القول يتخرج رواية عن مالك. والرابع أنه يرد إلى قراض مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين على صاحبه في المال مما ليس ينفرد أحدهما بها عن صاحبه، وإلى إجارة مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين خالصة لمشترطها مما ليست في المال وفي كل قراض فاسد من قبل الغرر والجهل، وهو قول مطرف وابن نافع وابن عبد الحكم وأصبغ، واختاره ابن حبيب؛ وأما ابن القاسم فاختلف قوله في القراضات الفاسدة، فبعضها وهو الأكثر قال: إن فيها أجرة المثل، وفي بعضها قال: فيها قراض المثل. فاختلف الناس في تأويل قوله؛ فمنهم من حمل اختلاف قوله فيها على الفرق الذي ذهب إليه ابن عبد الحكم ومطرف، وهو اختيار ابن حبيب واختيار جدي رحمة الله عليه. ومنهم من لم يعلل قوله وقال: إن مذهبه أن كل قراض فاسد ففيه أجرة المثل إلا تلك التي نص فيها قراض المثل وهي سبعة: القراض بالعروض، والقراض بالضمان، والقراض إلى أجل، والقراض المبهم، وإذا قال له اعمل على أن لك في المال شركا، وإذا اختلف المتقارضان وأتيا بما لا يشبه فحلفا على دعواهما، وإذا دفع إليه المال على أن لا يشتري به إلا بالدين فاشترى بالنقد، أو على أن لا يشتري إلا سلعة كذا وكذا والسلعة غير موجودة فاشترى غير ما أمر به. وهذه المسائل يجب أن ترد إلى علة واحدة، وإلا فهو اختلاف من قول ابن القاسم، وحكى عبد الوهاب عن ابن القاسم أنه فصل فقال: إن كان الفساد من جهة العقد رد إلى قراض المثل، وإن كان من جهة زيادة ازدادها أحدهما على الآخر رد إلى أجرة المثل، والأشبه أن يكون الأمر في هذا بالعكس. والفرق بين الأجرة وقراض المثل أن الأجرة تتعلق بذمة رب المال سواء كان في المال ربح أو لم يكن، وقراض المثل هو على سنة القراض إن كان فيه ربح كان للعامل منه، وإلا فلا شيء له.
-واختلف الفقهاء إذا اختلف العامل ورب المال في تسمية الجزء الذي تقارضا عليه، فقال مالك: القول قول العامل لأنه عنده مؤتمن، وكذلك الأمر عنده في جميع دعاويه إذا أتى بما يشبه، وقال الليث: يحمل على قراض مثله، وبه قال مالك إذا أتى بما لا يشبه؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: القول قول رب المال، وبه قال الثوري؛ وقال الشافعي: يتحالفان ويتفاسخان، ويكون له أجرة مثله. وسبب اختلاف مالك وأبو حنيفة اختلافهم في سبب ورود النص بوجوب اليمين على المدعى عليه، هل ذلك لأنه مدعى عليه، أو لأنه في الأغلب أقوى شبهة؛ فمن قال لأنه مدعى عليه قال القول قول رب المال؛ ومن قال لأنه أقواهما شبهة في الأغلب قال: القول قول العامل لأنه عنده مؤتمن؛ وأما الشافعي فقاس اختلافهما على اختلاف المتبايعين في ثمن السلعة. وهذا كاف في هذا الباب.
(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما)
القول في المساقاة. أما أولا ففي جوازها. والثاني: في معرفة الفساد والصحة فيها. والثالث: في أحكامها.
-فأما جوازها فعليه جمهور العلماء مالك والشافعي والثوري وأبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة وأحمد وداود، وهي عندهم مستثناة بالسنة من بيع ما لم يخلق، ومن الإجارة المجهولة؛ وقال أبو حنيفة: لا تجوز المساقاة أصلا. وعمدة الجمهور في إجازتها حديث ابن عمر الثابت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها" خرجه البخاري ومسلم وفي بعض رواياته "أنه صلى الله عليه وسلم ساقاهم على نصف ما تخرجه الأرض والثمرة" وما رواه مالك أيضا من مرسل سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليهود خيبر يوم افتتح خيبر "أقركم على ما أقركم الله على أن التمر بيننا وبينكم" قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص بينه وبينهم، ثم يقول "إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي" وكذلك مرسله أيضا عن سليمان بن يسار في معناه، وأما أبو حنيفة ومن قال بقوله فعمدتهم مخالفة هذا الأثر للأصول مع أنه حكم مع اليهود، واليهود يحتمل أن يكون أقرهم على أنهم عبيد، ويحتمل أن يكون أقرهم على أنهم ذمة، إلا أنا إذا أنزلنا أنهم ذمة كان مخالفا للأصول، لأنه بيع ما لم يخلق؛ وأيضا فإنه من المزابنة، وهو بيع التمر بالتمر متفاضلا، لأن القسمة بالخرص بيع الخرص، واستدلوا على مخالفته للأصول بما روي في حديث عبد الله بن رواحة أنه كان يقول لهم عند الخرص "إن شئتم فلكم وتضمنون نصيب المسلمين، وإن شئتم فلي وأضمن نصيبكم" وهذا حرام بإجماع. وربما قالوا إن النهي الوارد عن المخابرة هو ما كان من هذا الفعل بخيبر. والجمهور يرون أن المخابرة هي كراء الأرض ببعض ما يخرج منها، قالوا: ومما يدل على نسخ هذا الحديث، أو أنه خاص باليهود ما ورد من حديث رافع وغيره من النهي عن كراء الأرض بما يخرج منها، لأن المساقاة تقتضي جواز ذلك، وهو خاص أيضا في بعض روايات أحاديث المساقاة، ولهذا المعنى لم يقل بهذه الزيادة مالك ولا الشافعي، أعني بما جاء من "أنه صلى الله عليه وسلم ساقاهم على نصف ما تخرجه الأرض والثمرة" وهي زيادة صحيحة وقال بها أهل الظاهر.
-والنظر في الصحة راجع إلى النظر في أركانها، وفي وقتها، وفي شروطها المشترطة في أركانها. وأركانها أربعة: المحل المخصوص بها. والجزء الذي تنعقد عليه. وصفة العمل الذي تنعقد عليه. والمدة التي تجوز فيها وتنعقد عليها.
-(
-(
-(
-(
-والمساقاة عند مالك من العقود اللازمة باللفظ لا بالعمل بخلاف القراض عنده الذي ينعقد بالعمل لا باللفظ، وهو عند مالك عقد موروث، ولورثة المساقي أن يأتوا بأمين يعمل إن لم يكونوا أمناء، وعليه العمل إن أبى الورثة من تركته؛ وقال الشافعي إذا لم يكن له تركة سلم إلى الورثة رب المال أجرة ما عمل وفسد العقد، وإن كانت له تركة لزمته المساقاة؛ وقال الشافعي: تنفسخ المساقاة بالعجز ولم يفصل؛ وقال مالك إذا عجز وقد حل بيع الثمر لم يكن له أن يساقي غيره ووجب عليه أن يستأجر من يعمل وإن يكن له شيء استؤجر من حظه من الثمر، وإن كان العامل لصا أو ظالما لم ينفسخ العقد بذلك عند مالك. وحكي عن الشافعي أنه قال: يلزمه أن يقيم غيره للعمل؛ وقال الشافعي: إذا هرب العامل قبل تمام العمل استأجر القاضي عليه من يعمل عمله، ويجوز عند مالك أن يشترط كل واحد منهما على صاحبه الزكاة بخلاف القراض، ونصابهما عنده نصاب الرجل الواحد بخلاف قوله في الشركاء. وإذا اختلف رب المال والعامل في مقدار ما وقعت عليه المساقاة من الثمر، فقال مالك: القول قول العامل مع يمينه إذا أتى بما يشبه؛ وقال الشافعي: يتحالفان ويتفاسخان، وتكون للعامل الأجرة شبهة بالبيع؛ وأوجب مالك اليمين في حق العامل لأنه مؤتمن، ومن أصله أن اليمين تجب على أقوى المتداعيين شبهة. وفروع هذا الباب كثيرة، لكن التي اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء هي هذه التي ذكرناها.
-واتفقوا على أن المساقاة إذا وقعت على غير الوجه الذي جوزها الشرع أنها تنفسخ ما لم تفت بالعمل. واختلفوا إذا فاتت بالعمل ماذا يجب فيها؟ فقيل إنها ترد إلى إجارة المثل في كل نوع من أنواع الفساد، وهو قياس قول الشافعي وقياس إحدى الروايتين عن مالك؛ وقيل إنها ترد إلى مساقاة المثل بإطلاق، هو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك؛ وأما ابن القاسم فقال في بعضها: ترد إلى مساقاة مثلها، وفي بعضها: إلى إجارة المثل. واختلف التأويل عنه في ذلك، فقيل في مذهبه إنها ترد إلى إجارة المثل إلا في أربع مسائل فإنها ترد إلى مساقاة مثلها: إحداها المساقاة في حائط فيه تمر قد أطعم. والثانية إذا اشترط المساقي على رب المال أن يعمل معه. والثالثة المساقاة مع البيع في صفقة واحدة. والرابعة إذا ساقاه في حائط سنة على الثلث وسنة على النصف؛ وقيل إن الأصل عنده في ذلك أن المساقاة إذا لحقها الفساد من قبل ما دخلها من الإجارة الفاسدة أو من بيع الثمر من قبل أن يبدو صلاحه، وذلك مما يشترطه أحدهما على صاحبه من زيادة رد فيها إلى أجرة المثل، مثل أن يساقيه على أن يزيد أحدهما صاحبه دنانير أو دراهم، وذلك أن هذه الزيادة إن كانت من رب الحائط كانت إجارة فاسدة، وإن كانت من العامل كانت بيع الثمر قبل أن يخلق. وأما فساده من قبل الغرر مثل المساقاة على حوائط مختلفة فيرد إلى مساقاة المثل، وهذا كله استحسان جار على غير قياس. وفي المسألة قول رابع، وهو أنه يرد إلى مساقاة مثله ما لم يكن أكثر من الجزء الذي شرط عليه إن كان للمساقي، أو أقل إن كان الشرط للمساقي، وهذا كاف بحسب غرضنا.
(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
-والنظر في الشركة، في أنواعها، وفي أركانها الموجبة للصحة في الأحكام ونحن نذكر من هذه الأبواب ما اتفقوا عليه، وما اشتهر الخلاف فيه بينهم على ما قصدناه في هذا الكتاب. والشركة بالجملة عند فقهاء الأمصار على أربعة أنواع: شركة العنان: وشركة الأبدان. وشركة المفاوضة. وشركة الوجوه. واحدة منها متفق عليها، وهي شركة العنان، وإن كان بعضهم لم يعرف هذا اللفظ ، وإن كانوا اختلفوا في بعض شروطها على ما سيأتي بعد. والثلاثة مختلف فيها، ومختلف في بعض شروطها عند من اتفق منهم عليها.
-وأركان هذه الشركة ثلاثة: الأول: محلها من الأموال. والثاني: في معرفة قدر الربح من قدر المال المشترك فيه. والثالث في معرفة قدر العمل من الشريكين من قدر المال.
-(الركن الأول) فأما محل الشركة، فمنه ما اتفقوا عليه، ومنه ما اختلفوا فيه؛ فاتفق المسلمون على أن الشركة تجوز في الصنف الواحد من العين: أعني الدنانير والدراهم، وإن كانت في الحقيقة بيعا لا تقع فيه مناجزة، ومن شرط البيع في الذهب وفي الدراهم المناجزة، لكن الإجماع خصص هذا المعنى في الشركة، وكذلك اتفقوا فيما أعلم على الشركة بالعرضين يكونان بصفة واحدة واختلفوا في الشركة بالعرضين المختلفين وبالعيون المختلفة، مثل الشركة بالدنانير. من أحدها والدراهم من الآخر، وبالطعام الربوي إذا كان صنفا واحدا، فههنا ثلاث مسائل:
-(المسألة الأولى) فأما إذا اشتركا في صنفين من العروض، أو في عروض ودراهم ودنانير، فأجاز ذلك ابن القاسم، وهو مذهب مالك، وقد قيل عنه إنه كره ذلك. وسبب الكراهية اجتماع الشركة فيها والبيع، وذلك أن يكون العرضان مختلفين، كأن كل واحد منهما باع جزءا من عرضه بجزء من العرض الآخر؛ ومالك يعتبر في العروض إذا وقعت فيها الشركة القيم؛ والشافعي يقول: لا تنعقد الشركة إلا على أثمان العروض؛ وحكى أبو حامد أن ظاهر مذهب الشافعي يشير إلى أن الشركة مثل القراض لا تجوز إلا بالدراهم والدنانير، قال: والقياس أن الإشاعة فيها تقوم مقام الخلط.
-(المسألة الثانية) وإما إن كان الصنفان مما لا يجوز فيهما النَّساء مثل الشركة بالدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر، أو بالطعامين المختلفين، فاختلف في ذلك قول مالك، فأجازه مرة، ومنعه مرة، وذلك لما يدخل الشركة بالدراهم من عند أحدهما والدنانير من عند الآخر من الشركة والصرف معا وعدم التناجز، ولما يدخل الطعامين المختلفين من الشركة وعدم التناجز؛ وبالمنع قال ابن القاسم، ومن لم يعتبر هذه العلل أجازها.
-(المسألة الثالثة) وأما الشركة بالطعام من صنف واحد، فأجازها ابن القاسم قياسا على إجماعهم على جوازها في الصنف الواحد من الذهب أو الفضة ومنعها مالك في أحد قوليه وهو المشهور بعدم المناجزة الذي يدخل فيه، إذ رأى أن الأصل هو أن لا يقاس على موضع الرخصة بالإجماع؛ وقد قيل إن وجه كراهية مالك لذلك أن الشركة تفتقر إلى الاستواء في القيمة، والبيع يفتقر إلى الاستواء في الكيل، فافتقرت الشركة بالطعامين من صنف واحد إلى استواء القيمة والكيل وذلك لا يكاد يوجد، فكره مالك ذلك، فهذا هو استواء القيمة والكيل وذلك لا يكاد يوجد، فكره مالك ذلك فهذا هو اختلافهم في جنس محل الشركة. واختلفوا هل من شرط مال الشركة أن يختلطا إما حسا وإما حكما، مثل أن يكونا في صندوق واحد وأيديهما مطلقة عليهما؛ وقال الشافعي: لا تصح الشركة حتى يخلطا ماليهما خلطا لا يتميز به مال أحدهما من مال الآخر؛ وقال أبو حنيفة: تصح الشركة وإن كان مال كل واحد منهما بيده. فأبو حنيفة اكتفى في انعقاد الشركة بالقول؛ ومالك اشترط إلى ذلك اشتراك التصرف في المال؛ والشافعي اشترط إلى هذين الاختلاط. والفقه أن بالاختلاط يكون عمل الشريكين أفضل وأتم، لأن النصح يوجد منه لشريكه كما يوجد لنفسه، فهذا هو القول في هذا الركن وفي شروطه.
-(فأما الركن الثاني) وهو وجه اقتسامهما الربح، فإنهم اتفقوا على أنه إذا كان الربح تابعا لرؤوس الأموال، أعني إن كان أصل مال الشركة متساويين كان الربح بينهما نصفين. واختلفوا هل يجوز أن يختلف رؤوس أموالهما ويستويان في الربح؟ فقال مالك والشافعي: ذلك لا يجوز؛ وقال أهل العراق: يجوز ذلك. وعمدة من منع ذلك أن تشبيه الربح بالخسران، فكما أنه لو اشترط أحدهما جزءا من الخسران لم يجز كذلك إذا اشترط جزءا من الربح خارجا عن ماله وربما شبهوا الربح بمنفعة العقار الذي بين الشريكين: أعني أن المنفعة بينهما تكون على نسبة أصل الشركة. وعمدة أهل العراق تشبيه الشركة بالقراض، وذلك أنه لما جاز في القراض أن يكون للعامل من الربح ما اصطلحا عليه، والعامل ليس يجعل مقابله إلا عملا فقط كان في الشركة أحرى أن يجعل للعمل جزء من المال إذا كانت الشركة مالا من كل واحد منهما وعملا، فيكون ذلك الجزء من الربح مقابلا لفضل عمله على عمل صاحبه، فإن الناس يتفاوتون في العمل كما يتفاوتون في غير ذلك.
-(وأما الركن الثالث) الذي هو العمل، فإنه تابع كما قلنا عند مالك للمال فلا يعتبر بنفسه، وهو عند أبي حنيفة يعتبر مع المال؛ وأظن أن من العلماء من لا يجيز الشركة إلا أن يكون مالاهما متساويين التفاتا إلى العمل، فإنهم يرون أن العمل في الغالب مستو فإذا لم يكن المال بينهما على التساوي كان هنالك غبن على أحدهما في العمل، ولهذا قال ابن المنذر: أجمع العلماء على جواز الشركة التي يخرج فيها كل واحد من الشريكين مالا مثل مال صاحبه من نوعه: أعني دراهم أو دنانير، ثم يخلطانهما حتى يصيرا مالا واحدا لا يتميز. على أن يبيعا ويشتريا ما رأيا من أنواع التجارة، وعلى أن ما كان من فضل فهو بينهما بنصفين، وما كان من خسارة فهو كذلك، وذلك إذا باع كل واحد منهما بحضرة صاحبه، واشتراطه هذا الشرط يدل على أن فيه خلافا والمشهور عند الجهمور أنه ليس من شرط الشركاء أن يبيع كل واحد منهما بحضرة صاحبه.
-واختلفوا في شركة المفاوضة؛ فاتفق مالك وأبو حنيفة بالجملة على جوازها، وإن كان اختلفوا في بعض شروطها؛ وقال الشافعي: لا تجوز. ومعنى شركة المفاوضة أن يفوض كل واحد من الشريكين إلى صاحبه التصرف في ماله مع غيبته وحضوره، وذلك واقع عندهم في جميع أنواع الممتلكات. وعمدة الشافعي أن اسم الشركة إنما ينطلق على اختلاط الأموال، فإن الأرباح فروع، ولا يجوز أن تكون الفروع مشتركة إلا باشتراك أصولها؛ وأما إذا اشترط كل واحد منهما ربحا لصاحبه في ملك نفسه فذلك من الغرر ومما لا يجوز، وهذه صفة شركة المفاوضة. وأما مالك فيرى أن كل واحد منهما قد باع جزءا من ماله بجزء من مال شريكه، ثم وكل واحد منهما صاحبه على النظر في الجزء الذي بقي في يده. والشافعي يرى أن الشركة ليست هي بيعا ووكالة. وأما أبو حنيفة فهو ههنا على أصله في أنه لا يراعي في شركة العنان إلا النقد فقط. وأما ما يختلف فيه مالك وأبو حنيفة من شروط هذه الشركة، فإن أبا حنيفة يرى أن من شرط المفاوضة التساوي في رؤوس الأموال؛ وقال مالك: ليس من شرطها ذلك تشبيها بشركة العنان؛ وقال أبو حنيفة: لا يكون لأحدهما شيء إلا أن يدخل في الشركة. وعمدتهم أن اسم المفاوضة يقتضي هذين الأمرين، أعني تساوي المالين وتعميم ملكهما.
-وشركة الأبدان بالجملة عند أبي حنيفة والمالكية جائزة، ومنع منها الشافعي. وعمدة الشافعية أن الشركة إنما تختص بالأموال لا بالأعمال، لأن ذلك لا ينضبط فهو غرر عندهم، إذ كان عمل كل واحد منهما مجهولا عند صاحبه. وعمدة المالكية اشتراك الغانمين في الغنيمة، وهم إنما استحقوا ذلك بالعمل. وما روي من أن ابن مسعود شارك سعدا يوم بدر، فأصاب سعد فرسين ولم يصب ابن مسعود شيئا، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهما. وأيضا فإن المضاربة إنما تنعقد على العمل فجاز أن تنعقد عليه الشركة؛ وللشافعي أن المفارضة خارجة عن الأصول فلا يقاس عليها، وكذلك يشبه أن يكون حكم الغنيمة خارجا عن الشركة؛ ومن شرطها عند مالك اتفاق الصنعتين والمكان؛ وقال أبو حنيفة: تجوز مع اختلاف الصنعتين، فيشترك عنده الدباغ والقصار، ولا يشتركان عند مالك. وعمدة مالك زيادة الغرر الذي يكون عند اختلاف الصنعتين أو اختلاف المكان. وعمدة أبي حنيفة جواز الشركة على العمل.
-وشركة الوجوه عند مالك والشافعي باطلة؛ وقال أبو حنيفة: جائزة. وهذه الشركة هي الشركة على الذمم من غير صنعة ولا مال. وعمدة مالك والشافعي أن الشركة إنما تتعلق على المال أو على العمل، وكلاهما معدومان في هذه المسألة مع ما في ذلك من الغرر، لأن كل واحد منهما عاوض صاحبه بكسب غير محدود بصناعة ولا عمل مخصوص؛ وأبو حنيفة يعتمد أنه عمل من الأعمال فجاز أن تنعقد عليه الشركة.
-وهي من العقود الجائزة لا من العقود اللازمة: أي لأحد الشريكين أن ينفصل من الشركة متى شاء، وهي عقد غير موروث، ونفقتهما وكسوتهما من مال الشركة إذا تقاربا في العيال ولم يخرجا عن نفقة مثلهما ويجوز لأحد الشريكين أن يبضع وأن يقارض وأن يودع إذا دعت إلى ذلك ضرورة، ولا يجوز له أن يهب شيئا من مال الشركة، ولا أن يتصرف فيه إلا تصرفا يرى أنه نظر لهما؛ وأما من قصر في شيء أو تعدى فهو ضامن مثل أن يدفع مالا من التجارة فلا يشهد وينكره القابض، فإنه يضمن لأنه قصر إذ لم يشهد، وله أن يقبل الشيء المعيب في الشراء وإقرار أحد الشريكين في مال لمن يتهم عليه لا يجوز، وتجوز إقالته وتوليته، ولا يضمن أحد الشريكين ما ذهب من مال التجارة باتفاق، ولا يجوز للشريك المفاوض أن يقارض غيره إلا بإذن شريكه ويتنزل كل واحد منهما منزلة صاحبه فيما له وفيما عليه في مال التجارة، وفروع هذا الباب كثيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق