قيل لهم إن قلتم هو علة أزلية لهذا الحادث لزم وجوده في الأزل
وإن قلتم لا يصير علة تامة إلا بحدوث القوابل
قيل لكم فإذا كان حدوث القوابل منه فهو المحدث لهما جيمعا فقبل إحداثهما لم يكن علة تامة لا لهذا ولا لهذا ثم أحدثهما جميعا القابل والمقبول فإذا كان أحدثهما بدون تجدد شيء لزم أن يكون لم يزل علة تامة لهما أو لم يصر علة تامة لهما فيلزم إما قدم هذين الحادثين وإما عدمهما
فإنه إن لم يزل علتهما لزم قدمهما وإن لم يحدث لزم عدمهما وأنتم تجعلون علة هذين الحادثين حدثت بعد أن لم تكن أي حدثت بتمامها بعد أن لم تكن وليس هنا شيء أوجب حدوث التمام فإن الفاعل للتمام حالة بعد التمام وحالة قبل التمام سواء فيمتنع أن
يكون علة تامة له في إحدى الحالين دون الأخرى وكل ما يقدرونه مما حصل تمام العلة هو أيضا حادث عن الأول فحقيقة قولكم أن حوادث العالم تحدث عنه مع أنه لم يزل علة تامة لها أو مع أنه لم يصر علة تامة مع أن العلة التامة إنما تكون تامة عند معلولها لا قبل ولا بعد وهذا يتقضي عدم الحوادث أو قدم الحوادث وكلاهما مخالف للمشاهدة
ولهذا كان حقيقة قولهم إن الحوادث تحدث بلا محدث لها وقولهم في حركة الفلك يشبه قول القدرية في حركة الحيوان فإن القدرية تقول إن الحيوان قادر مريد وإنه يفعل ما يفعل بدون سبب أوجب الفعل بل مع كون نسبة الأسباب الموجبة للحدوث إلى هذا الحادث وهذا الحادث سواء فإن عندهم كل ما يؤمن به المؤمن ويطيع به المطيع قد حصل لكل من أمر بالإيمان والطاعة لكن المؤمن المطيع رجح الإيمان والطاعة بدون سبب اختص به حصل به الرجحان والكافر بالعكس
وهذا يقوله هؤلاء في حركة الفلك إنه يتحرك دائما بإرادته وقدرته من غير سبب أوجب كونه مريدا قادرا مع أن إرادته وقدرته وحركاته حادثة بعد أن لم تكن حادثة من غير شيء جعله مريدا متحركا فقد حصل الممكن بدون المرجح التام الذي أوجب رجحانه وحصل الحادث بدون السبب التام الذي أوجب حدوثه
ثم إنهم ينكرون على القدرية قولهم إن القادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح بل بإرادة يحدثها هو من غير أن يحدث له غيره تلك الإرادة ويقولون إنه أوجب الإرادة بلا إرادة
وهؤلاء يقولون ما هو أبلغ من ذلك في حركة الفلك وهو يناقض أصولهم الصحيحة فإذا كانوا يسلمون أن الإرادات الحادثة والحركات الحادثة لا تحدث إلا بسبب يوجب حدوثها وأنه عند كمال السبب يجب حدوثها وعند نقصه يمتنع حدوثها علموا أن ما قالوه في قدم العالم وسبب الحوادث باطل
فإنه ليس فوق الفلك عندهم سبب يوجب حدوث ما يحدث له من التصورات والإرادات إلا من جنس ما للمخلوق الفقير إلى واجب
الوجود ومعلوم أن ما كان بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا بمخرج فلا بد أن يكون فوق الفلك ما يوجب حدوث حركته
وما يذكره أرسطو وأتباعه أن الأول هو يحرك الفلك حركة المعشوق لعاشقه وأن الفلك يتحرك للتشبه به وأنه بذلك علة العلل وبه قوام الفلك إذ كان قوام الفلك بحركته وقوام حركته بإرادته وشوقه وقيام إرادته وشوقه بوجود المحبوب السابق المراد الذي تحرك للتشبه به فهذا الكلام مع ما فيه من الكلام الباطل الذي بين في غير هذا الموضع غايته إثبات العلة الغائية لحركة الفلك ليس فيه بيان العلة الفاعلية لحركته إلا أن يقولوا هو المحدث لتصوراته وحركاته من غير احتياج إلى واجب الوجود وإلى العلة الأولى في كونه فاعلا لذلك كما أن المحب العاشق لا يحتاج إلى المحبوب المعشوق من جهة كونه فاعلا للحركة إليه بل من جهة كونه هو المراد المطلوب بالحركة وهذا قول باستغناء الحركات المحدثة والمتحركات عن رب العالمين وأنه لا يفعل شيئا من هذه الحوادث ولا هو ربها
فإن قالوا مع ذلك بأنه لم يبدع الفلك بل هو قديم واجب الوجود بنفسه لم يكن رب شيء من العالم وإن قالوا هو الذي أبدعه كان تناقضا منهم كتناقض القدرية فإن إبداعه لذاته وصفاته يوجب أن لا
يحدث منه شيء إلا بفعل الرب لذلك وإحداثه له كما لا يحدث من سائر الحيوانات حادث إلا بخلق الرب لذلك وإحداثه له فقولهم متردد بين التعطيل العام وبين التعطيل الخاص الذي يكونون فيه شرا من القدرية وردهم إنما كان على القدرية وهم خير منهم على كل تقدير
وقد ذكر ما ذكروه من كلام أرسطو في هذا المقام وبين ما فيه من الخطأ والضلال في غير هذا الموضع وأن القوم من أبعد الناس عن معرفة الله ومعرفة خلقه وأمره وصفاته وأفعاله وأن اليهود والنصارى خير منهم بكثير في هذا الباب وهذه الطريقة التي سلكها أرسطو والقدماء في إثبات العلة الأولى هي طريق الحركة الإرادية حركة الفلك وأثبتوا علة غائية كما ذكر
فلما رأى ابن سينا وأمثاله من المتأخرين ما فيها من الضلال عدلوا إلى طريقة الوجود والوجوب والإمكان وسرقوها من طريق المتكلمين المعتزلة وغيرهم فإن هؤلاء احتجوا بالمحدث على المحدث فاحتج أولئك بالممكن على الواجب وهي طريقة تدل على إثبات وجود واجب وأما إثبات تعيينه فيحتاجون فيه إلى دليل آخر وهم سلكوا
طريقة التركيب وهي أيضا مسروقة من كلام المعتزلة وإلا فكلام أرسطو في الإلهيات في غاية القلة مع كثرة الخطأ فيه ولكن ابن سينا وأمثاله وسعوه وتكلموا في الإلهيات والنبوات وأسرار الآيات ومقامات العارفين بل وفي معاد الأرواح بكلام لا يوجد لأولئك وما فيه من الصواب فجروا فيه على منهاج الأنبياء وما فيه من خطأ بنوه على أصول سلفهم الفاسدة
ولهذا كان ابن رشد وأمثاله من المتفلسفة يقولون إن ما ذكره ابن سينا في الوحي والمنامات وأسباب العلم بالمستقبلات ونحو ذلك هو أمر ذكره من تلقاء نفسه ولم يقله قبله المشاءون سلفه
وأما أبو البركات صاحب المعتبر ونحوه فكانوا بسبب عدم تقليدهم لأولئك وسلوكهم طريقة النظر العقلي بلا تقليد واستنارتهم بأنوار النبوات أصلح قولا في هذا الباب من هؤلاء وهؤلاء فأثبت علم الرب بالجزئيات ورد على سلفه ردا جيدا وكذلك أثبت صفات الرب وأفعاله وبين ما بينه من خطاء سلفه ورأى فساد قولهم في أسباب الحوادث فعدل عن ذلك إلى أن أثبت للرب ما يقوم به الإرادات الموجبة للحوادث وقولهم مبسوط في غير هذا الموضع
فهؤلاء يقولون إنما حدثت الحوادث شيئا بعد شيء لما يقوم بذات الرب من الأسباب الموجبة لذلك فلا يثبتون أمورا متجددات مختلفة
عن واحد بسيط لا صفة له ولا فعل كما قال أولئك بل وافقوا قول أساطين الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو الذين يثبتون ما يقوم بذات الرب من الصفات والأفعال ويقولون إن الحادث المعين إنما حدث لما حصلت علته التامة التي لم تتم إلا عند حدوثه وتمام العلة كان بما يحدثه الرب تعالى وما يقوم به من إرادته وأفعاله أو غير ذلك مما يقولونه في هذا المقام
ولهذا يقولون إنه لا يمكن أن يكون الرب مدبرا لهذا العالم إلا على قولنا بحدوث الحوادث فيه من الإرادات والعلوم وغيرها ويقولون إن من نفى ذلك من أصحابنا وغيرهم فلم ينفه بدليل عقلي دل على ذلك بل لمجرد تنزيه وإجلال مجمل وإنه يجب التنزيه والإجلال من هذا التنزيه والإجلال
فإذا قيل لهؤلاء فعند حدوث الحادث الثاني لا بد من وجود العلة التامة ولا يكفي عدم الأول
قالوا بل حصل من كمال الإرادة الجازمة والقدرة التامة ما أوجب حدوث المقدور ولا نقول إن حال الفاعل قبل وبعد واحد لم يتجدد أمر يفعل به الثاني بل تتنوع أحوال الفاعل ونفسه هي الموجبة لتلك الأحوال القائمة به لكن وجود الحال الثاني مشروط بعدم ما
يضاده ونفس الفاعل هي الموجبة للأمور الوجودية الموجبة للحال الثاني
فواجب الوجود لا يحتاج ما يحدث عنه أن يضاف إلى غيره كما في الممكنات بل نفسه الواجبة هي الموجبة لكل ما يحدث عنه وهو سبحانه الفاعل للملزوم ولوازمه والفاعل لأحد المتنافيين عند عدم الآخر وهو على كل شيء قدير
لكن اجتماع الضدين ليس بشيء باتفاق العقلاء بل هو قادر على تحريك الجسم بدلا عن تسكينه وعلى تسكينه بدلا عن تحريكه وعلى تسويده بدلا عن تبيضه وعلى تبيضه بدلا عن تسويده وهو يفعل أحد الضدين دون الآخر إذا حصلت إرادته التامة مع قدرته الكاملة ونفسه هي الموجبة لذلك كله وإن كان فعلها للأول شرطا في حصول الثاني فليست في تلك مفتقرة إلى غيرها بل كل ما سواها فقير إليها وهي غنية عن كل ما سواها
وهؤلاء تخلصوا مما ورد على من قبلهم ومن فساد تمثيلهم وكان هؤلاء إذا مثلوا قولهم بما يعقل من حركة الحيوان والشمس لا يرد عليهم من الفرق والنقض وغير ذلك ما يرد على من قبلهم
لكن هؤلاء يقال لهم من أين لكم قدم شيء من العالم وليس في
العقل ما يدل على شيء من ذلك وأنتم فجميع ما تذكرونه أنتم وأمثالكم إنما يدل على دوام الفعل لا على دوام فعل معين ولا مفعول معين فمن أين لكم دوام الفلك أو مادة الفلك أو العقول أو النفوس أو غير ذلك مما يقول القائلون بالقدم إنه قديم أزلي لم يزل ولا يزال مقارنا للرب تعالى قديما بقدمه أبديا بأبديته
فيخاطبون أولا مخاطبة المطالبة بالدليل وليس لهم على ذلك دليل صحيح أصلا بل إنما طمعوا في مناظرتهم من أهل الكلام والفلسفة الذين قالوا إن جنس الكلام والفعل صار ممكنا بعد أن كان ممتنعا من غير تجدد شيء وصار الفاعل قادرا على ذلك بعد أن لم يكن وأنه يحدث الحوادث لا في زمان وإنه لم يزل القديم معطلا عن الفعل والكلام لا يتكلم ولا يفعل من الأزل إلى أن تكلم وفعل ثم يقول كثير منهم إنه يتعطل عن الفعل والكلام فتفنى الجنة والنار أو تفنى حركتهما كما قاله الجهم بن صفوان في فناء الجنة والنار وكما قاله أبو الهذيل العلاف في فناء الحركات وجعلوا مدة فعل الرب وكلامه مدة في غاية القلة بالنسبة إلى الأزل والأبد
فطمع هؤلاء في هؤلاء المبتدعين من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم في أصولهم وأقاموا الشناعة على أهل الملل بسبب هؤلاء المتكلمين والمبتدعين وظنوا أن لا قول إلا قول هؤلاء المبتدعين أو قول أولئك الفلاسفة الملحدين ورأوا أن العقل يفسد قول هؤلاء المبتدعين ورأوا السمع إلى هؤلاء المبتدعين أقرب وعن الملحدين أبعد فقالوا إن الأنبياء ضربوا الأمثال وخيلوا ولم يمكنهم الإخبار بالحقائق ودخلوا من باب الإلحاد وتحريف الكلم عن مواضعه بحسب ما أنكروه من السمعيات وإن كان أولئك الفلاسفة الذين نفوا صفات الرب وأفعاله القائمة به الذين قبل هؤلاء أعظم إلحادا وتحريفا للكلم عن مواضعه من هؤلاء الذين أثبتوا الصفات والأمور الأختيارية القائمة به وقالوا مع ذلك بقدم العالم
وكلتا الطائفتين خرجت عن صريح المعقول كما خرجت عن صحيح المنقول بحسب ما أخطأته في هذا الباب وكل من أقر بشيء من الحق كان ذلك أدعى له إلى قبول غيره وكان يلزمه من قبوله ما لم يلزم من لم يعرف ذلك الحق وكان القول بنفي الصفات والأفعال
القائمة بالرب باختياره ينافى كونه فاعلا ومحدثا
ولهذا لما ذكر ابن سينا في إشاراته أقوال القائلين بالقدم والحدوث لم يذكر إلا قول من أثبت قدماء مع الله تعالى غير معلولة كالقول الذي يحكي عن ذيمقراطيس بالقدماء الخمسة واختاره ابن زكريا المتطبب وقول المجوس القائلين بأصلين قديمين وقول المتكلمين من المتعزلة ونحوهم وقول أصحابه فلم يذكر قول أئمة الملل ولا أئمة الفلاسفة الذين أثبتوا ما يقوم بالرب من الأمور الاختيارية وأنه لم يزل متكلما بمشيئته إذا شاء فعالا بمشيئته وذكر حجج هؤلاء وهؤلاء ثم أمر الناظر أن يختار أي القولين ترجح مع تمسكه بالتوحيد الذي هو عنده نفي الصفات فإن هذا جعله أصلا متفقا عليه بينه وبين خصومه
واعترض عليه الرازي بأن مسألة الصفات لا تتعلق بمسألة حدوث العالم وليس الأمر كما قاله الرازي بل نفى الصفات مما يقوي شبهة
القائلين بالقدم ومع إثبات الصفات والأفعال القائمة به يتبين فساد أدلتهم إلى الغاية بل فساد قولهم مع أن نفي الصفات يدل على فساد قوله أكثر مما يدل على فساد قول منازعيه
ولكن ابن سينا نشأ بين المتكلمين النفاة للصفات وابن رشد نشأ بين الكلابية وأبو البركات نشأ ببغداد بين علماء السنة والحديث فكان كل من هؤلاء بعده عن الحق بحسب بعده عن معرفة آثار الرسل وقربه من الحق بحسب قربه من ذلك
وهؤلاء المتفلسفة رأوا ما قاله أولئك في مسألة حدوث العالم باطلا ورأوا أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بقي قولهم وجعلوا القول بدوام الفاعلية مجملا كما جعل أولئك قولهم إن مالا يسبق الحوادث فهو حادث مجملا فقول هؤلاء أوجب أن ظن كثير ممن سمع قول هؤلاء امتناع كون الرب تعالى لم يزل متكلما إذا شاء إذ لم يفرقوا بين النوع والعين وقول أولئك أوجب أن ظن كثير ممن سمع قولهم دوام الفلك أو شئ من العالم إذ لم يفرقوا بين النوع والعين أيضا
ودوام الفاعلية مجمل يراد به دوام الفاعلية المعينة ودوام الفاعلية المطلقة ودوام الفاعلية العامة ومعلوم أن دوام الفاعلية العامة وهو دوام المفعولات كلها مما لا يقوله عاقل ودوام الفاعلية المعينة لمفعول معين مما ليس لهم عليه دليلا أصلا بل الأدلة العقلية تنفيه كما نفته الأدلة السمعية
وأما دوام الفاعلية المطلقة فهذه لا تثبت قولهم بل إنما تثبت خطأ أولئك النفاة الذين خاصموهم من أهل الكلام والفلسفة ولا يلزم من بطلان هذا القول صحة القول الآخر إلا إذا لم يكن إلا هذان القولان فأما إذا كان هناك قول ثالث لم يلزم صحة أحد القولين فكيف إذا كان ذلك الثالث هو موجب الأدلة العقلية والنقلية
والمقصود هنا أن كلتا الطائفتين التي قالت بقدم الأفلاك ملحدة سواء قالت بقيام الصفات والأفعال بالرب أو لم تقل ذلك فهؤلاء الفلاسفة مع كونهم متفاضلين في الخطأ والصواب في العلوم الإلاهية إنما ردهم المتوجه لهم على البدع التي أحدثها من أحدثها من أهل الكلام ونسبوها إلى الملة
وأولئك المتفلسفة أبعد عن معرفة الملة من أهل الكلام فمنهم من ظن أن ذلك من الملة ومنهم من كان أخبر بالسمعيات من غيره فجعلوا يردون من كلام المتكلمين مالم يكن معهم فيه سمع وما كان معهم فيه سمع كانوا فيه على أحد قولين إما أن يقروه باطنا وظاهرا إن وافق معقولهم وإلا ألحقوه بأمثاله وقالوا إن الرسل تكلمت به على سبيل التمثيل والتخييل للحاجة
وابن رشد ونحوه يسلكون هذه الطريقة ولهذا كان هؤلاء أقرب إلى الإسلام من ابن سينا وأمثاله وكانوا في العمليات أكثر محافظة لحدود الشرع من أولئك الذين يتركون واجبات الإسلام ويستحلون محرماته وإن كان في كل من هؤلاء من الإلحاد والتحريف بحسب ما خالف به الكتاب والسنة ولهم من الصواب والحكمة بحسب ما وافقوا فيه ذلك
ولهذا كان ابن رشد في مسألة حدوث العالم ومعاد الأبدان مظهرا للوقف ومسوغا للقولين وإن كان باطنه إلى قول سلفه أميل وقد رد على أبي حامد في تهافت التهافت ردا أخطأ في كثير منه والصواب مع أبي حامد وبعضه جعله من كلام ابن سينا لا من كلام سلفه وجعل الخطأ فيه من ابن سينا وبعضه استطال فيه على أبي حامد ونسبه فيه إلى قلة الإنصاف لكونه بناه على أصول كلامية فاسدة مثل كون الرب لا يفعل شيئا بسبب ولا لحكمة وكون القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وبعضه حار فيه جميعا لاشتباه المقام
وقد تكلمت على ذلك وبينت تحقيق ما قاله أبو حامد في ذلك من الصواب الموافق لأصول الإسلام وخطأ ما خالفه من كلام ابن رشد وغيره من الفلاسفة وأن ما قالوه من الحق الموافق للكتاب والسنة لا يرد بل يقبل وما قصر فيه أبو حامد من إفساد أقوالهم الفاسدة فيمكن رده بطريق أخرى يعان بها أبو حامد على قصده الصحيح وإن كان هذا وأمثاله إنما استطالوا عليه بما وافقهم عليه من أصول فاسدة وبما يوجد في كتبه من الكلام الموافق لأصولهم وجعل هذا وأمثاله ينشدون فيه ... يوما يمان إذا ما جئت ذا يمن ... وإن لقيت معديا فعدناني ...
ولهذا جعلوا كثيرا من كلامه برزخا بين المسلمين والفلاسفة المشائين فالمسلم يتفلسف به على طريقة المشائين تفلسف مسلم والفيلسوف يسلم به إسلام فيلسوف فلا يكون مسلما محضا ولا فيلسوفا محضا على طريقة المشائين
وأما نفي الفلسفة مطلقا أو إثباتها فلا يمكن إذ ليس للفلاسفة مذهب معين ينصرونه ولا قول يتفقون عليه في الإلهيات والمعاد والنبوات والشرائع بل وفي الطبيعيات والرياضيات بل ولا في كثير من المنطق ولا يتفقون إلا على ما يتفق عليه جميع بني آدم من الحسيات المشاهدة
والعقليات التي لا ينازع فيها أحد ومن حكى عن جميع الفلاسفة قولا واحدا في هذه الأجناس فإنه غير عالم بأصنافهم واختلاف مقالاتهم بل حسبه النظر في طريقة المشائين أصحاب أرسطو كثامسطيوس والإسكندر الأفروديسي وبرقلس من القدماء وكالفارابي وابن سينا والسهروردي المقتول وابن رشد الحفيد وأبي البركات ونحوهم من المتأخرين وإن كان لكل من هؤلاء في الإلهيات والنبوات والمعاد قول لا ينقل عن سلفه المتقدمين إذ ليس لهم في هذا الباب علم تستفيده الأتباع وإنما عامة علم القوم في الطبيعيات فهناك يسرحون ويتبجحون وبه بنحوه عظم من عظم أرسطو واتبعوه لكثرة كلامه في الطبيعيات وصوابه في أكثر ذلك فأم الإلهيات فهو وأتباعه من أبعد الناس عن معرفتها
وجميع ما يوجد في كلام هؤلاء وغيرهم من العقليات الصحيحة ليس فيه ما يدل على خلاف ما أخبرت به الرسل وليس لهم أصلا دليل ظني فضلا عن قطعي على قدم الأفلاك بل ولا على قدم شيء منها وإنما عامة أدلتهم أمور مجملة تدل على الأنواع العامة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم فما أخبرت به الرسل أن الله خلقه كإخبارها أن الله
خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام لا يقدا أحد من الناس أن يقيم دليلا عقليا صحيحا على نفي ذلك
وأما الكلام الذي يستدل به المتكلمون في الرد على هؤلاء وغيرهم فمنه صواب ومنه خطأ ومنه ما يوافق الشرع والعقل ومنه ما يخالف ذلك وبكل حال فهم أحذق في النظر والمناظرة والعلوم الكلية الصادقة وأعلم بالمعقولات المتعلقة بالإلهيات وأكثر صوابا وأسد قولا من هؤلاء المتفلسفة والمتفلسفة في الطبيعيات والرياضيات أحذق ممن لم يعرفها كمعرفتهم مع ما فيها من الخطأ
والمقصود هنا أن يقال لأئمتهم وحذاقهم الذين ارتفعت عقولهم ومعارفهم في الإلهيات عن كلام أرسطو وأتباعه وكلام ابن سينا وأمثاله ما الموجب أولا لقولكم بقدم شيء من العالم وأنتم لا دليل لكم على قدم شيء من ذلك
وأصل الفلسفة عندكم مبني على الإنصاف واتباع العلم والفيلسوف هو محب الحكمة والفلسفة محبة الحكمة وأنتم إذا نظرتم في كلام كل من تكلم في هذا الباب وفي غير ذلك لم تجدوا في ذلك ما يدل على قدم شيء من العالم مع علمكم أن جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون بأن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن وهذا قول الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم
وذلك القول بحدوث هذا العالم هو قول أساطين الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو بل هم يذكرون أن أرسطو أول من صرح بقدم الأفلاك وأن المتقدمين قبله من الأساطين كانوا يقولون إن هذا العالم محدث إما بصورته فقط وإما بمادته وصورته وأكثرهم يقولون بتقدم مادة هذا العالم على صورته
وهذا موافق لما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم فإن الله أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء سورة هود 7
وأخبر أنه استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض آئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين سورة فصلت 11
وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه علي الماء
وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض وفي رواية ثم خلق السموات والأرض والآثار متواترة عن الصحابة والتابعين بما يوافق القرآن والسنة من أن الله خلق السماوات من بخار الماء الذي سماه الله دخانا
وقد تكلم علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في أول هذه المخلوقات على قولين حكاهما الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره أحدهما أنه هو العرش والثاني أنه هو القلم ورجحوا القول الأول لما دل عليه الكتاب والسنة أن الله تعالى لما قدر مقادير الخلائق بالقلم الذي أمره أن يكتب في اللوح كان عرشه على الماء فكان العرش مخلوقا قبل القلم وقالوا والآثار المروية أن أول ما خلق الله
القلم معناها من هذا العالم وقد أخبر الله أنه خلقه في ستة أيام فكان حين خلقه زمن يقدر به خلقه ينفصل إلى أيام فعلم أن الزمان كان موجودا قبل أن يخلق الله الشمس والقمر ويخلق في هذا العالم الليل والنهار
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته عام حجة الوداع إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا ومنها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان وفي
الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم
وهكذا في التوراة ما يوافق خبر الله في القرآن وأن الأرض كانت مغمورة بالماء والهواء يهب فوق الماء وأن في أول الأمر خلق الله السماوات والأرض وأنه خلق ذلك في أيام ولهذا قال من قال من علماء أهل الكتاب ما ذكره الله في التوراة يدل على أنه خلق هذا العالم من مادة أخرى وأنه خلق ذلك في زمان قبل أن يخلق الشمس والقمر
وليس فيما أخبر الله تعالى به في القرآن وغيره أنه خلق السماوات والأرض من غير مادة ولا أنه خلق الإنس أو الجن أو الملائكة من غير مادة بل يخبر الله أنه خلق ذلك من مادة وإن كانت المادة مخلوقة من مادة أخرى كما خلق الإنس من آدم وخلق آدم من طين وفي صحيح
مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خلقت الملائكة من نور وخلقت الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم
والمقصود هنا أن المنقول عن أساطين الفلاسفة القدماء لا يخالف ما أخبرت به الأنبياء من خلق هذا العالم من مادة بل المنقول عنهم أن هذا العالم محدث كائن بعد أن لم يكن
وأما قولهم في تلك المادة هل هي قديمة الأعيان أو محدثة بعد أن لم تكن أو محدثة من مادة أخرى بعد مادة قد تضطرب النقول عنهم في هذا الباب والله أعلم بحقيقة ما يقوله كل من هؤلاء فإنها أمة عربت كتبهم ونقلت من لسان إلى لسان وفي مثل ذلك قد يدخل من الغلط والكذب ما لا يعلم حقيقته ولكن ما تواطأت به النقول عنهم يبقى مثل المتواتر وليس لنا غرض معين في معرفة قول كل واحد منهم بل تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون سورة البقرة 134 141
لكن الذي لا ريب فيه أن هؤلاء أصحاب التعاليم كأرسطو وأتباعه كانوا مشركين يعبدون المخلوقات ولا يعرفون النبوات ولا المعاد البدني وأن اليهود والنصارى خير منهم في الإلهيات والنبوات والمعاد
وإذا عرف أن نفس فلسفتهم توجب عليهم أن لا يقولوا بقدم شيء من العالم علم أنهم مخالفون لصريح المعقول كما أنهم مخالفون لصحيح المنقول وأنهم في تبديل القواعد الصحيحة المعقولة من جنس اليهود والنصارى في تبديل ما جاءت به الرسل وهذا هو المقصود في هذا الباب
ثم إنه إذا قدر أنه ليس عندهم من المعقول ما يعرفون به أحد الطرفين فيكفي في ذلك إخبار الرسل باتفاقهم عن خلق السماوات والأرض وحدوث هذا العالم والفلسفة الصحيحة المبنية على المعقولات المحضة توجب عليهم تصديق الرسل فيما أخبرت به وتبين أنهم علموا ذلك بطريق يعجزون عنها وأنهم أعلم بالأمور الإلهية والمعاد وما يسعد النفوس ويشقيها منهم وتدلهم على أن من اتبع الرسل كان سعيدا في الآخرة ومن كذبهم كان شقيا في الآخرة وأنه لو علم الرجل من الطبيعيات والرياضيات ما عسى أن يعلم وخرج عن دين الرسل كان شقيا وأن من أطاع الله ورسوله بحسب طاقته كان سعيدا في الآخرة وإن لم يعلم شيئا من ذلك
ولكن سلفهم أكثروا الكلام في ذلك لأنهم لم يكن عندهم من آثار الرسل ما يهتدون به إلى توحيد الله وعبادته وما ينفع في الآخرة وكان
الشرك مستحوذا عليهم بسبب السحر والأحوال الشيطانية وكانوا ينفقون أعمارهم في رصد الكواكب ليستعينوا بذلك على السحر والشرك وكذلك الأمور الطبيعية وكان منتهى عقلهم أمورا عقلية كلية كالعلم بالوجود المطلق وانقسامه إلى علة ومعلول وجوهر وعرض وتقسيم الجواهر ثم تقسيم الأعراض وهذا هو عندهم الحكمة العليا والفلسفة الأولى ومنتهى ذلك العلم بالوجود المطلق الذي لا يوجد إلا في الأذهان دون الأعيان
ومن هنا دخل من سلك مسلكهم من المتصوفة المتفلسفة كابن عربي وابن سبعين والتلمساني وغيرهم فكان منتهى معرفتهم
الوجود المطلق ثم ظن من ظن منهم أن ذلك هو الوجود الواجب وفي ذلك من الضلال ما قد بسط في غير هذا الموضع
وجعلوا غاية سعادة النفس أن تصير عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود وليس في ذلك إلا مجرد علوم مطلقة ليس فيها علم بموجود معين لا بالله ولا بالملائكة ولا بغير ذلك وليس فيها محبة لله ولا عبادة لله فليس فيها علم نافع ولا عمل صالح ولا ما ينجى النفوس من عذاب الله فضلا على أن يوجب لها السعادة وهذا مبسوط في غير هذا الموضع وإنما جاء ذكره هنا بالعرض لننبه على أن من عدل عن طريق المرسلين فليس معه في خلافهم لا معقول صريح ولا منقول صحيح وأن من قال بقدم العالم أو شيء منه فليس معه إلا مجرد الجهل والاعتقاد الذي لا دليل عليه وهذا الخطاب كاف في هذا الباب وتفصيله مذكور في غير هذا الموضع
وقد سلك هذا المسلك غير واحد من أهل الملل المسلمين واليهود
والنصارى وغيرهم فبينوا فساد ما سلكه القائلون بقدم العالم من العقليات وذكروا الحجج المنقولة عن أرسطو وغير واحدة واحدة وبينوا فسادها ثم قالوا نتلقى هذه المسألة من السمع فالرسل قد أخبرت بما لا يقوم دليل عقلي على نقيضه فوجب تصديقهم في هذا
ولم يمكن تأويل ذلك لوجوه
أحدها أنه قد علم بالاضطرار مرادهم فليس في تأويل ذلك إلا التكذيب المحض للرسل
والثاني أن هذا متفق عليه بين أهل الملل سلفهم وخلفهم باطنا وظاهرا فيمتنع مع هذا أن تكون الرسل كانت مضمرة لخلاف ذلك كما يقوله من يقوله من هؤلاء الباطنية
الثالث أنه ليس في العقل ما ينافي ذلك بل كل ما ينافيه من المعقولات فهو فاسد يعلم فساده بصريح العقل
الرابع أن في العقليات ما يصدق ذلك ثم كل منهم يسلك في ذلك ما تيسر له من العقليات
الخامس أنه معلوم بالفطرة والضرورة أنه لا بد من محدث
للمحدثات وفاعل للمصنوعات وأن كون المفعول مقارنا لفاعله لم يزل ولا يزال معه ممتنع في فطر العقول وهذا مما يحتج به على هؤلاء كما قد بسط في موضعه فإنه إذا بين لهم فساد قول إخواتهم وتبين لهم أن الفاعل لا بد أن يقوم به من الأحوال مما يصير به فاعلا امتنع مع هذا أن يكون مفعوله المعين مقارنا له أزلا وأبدا فإن هذا إخراج له من أن يكون مفعولا له
السادس أن يقال لهؤلاء وهؤلاء جميعا أصل ما أنتم عليه الرجوع إلى الوجود والفلسفة معرفة الوجود على ما هو عليه والفلسفة الحقيقية هي العلوم الوجودية التي بها يعرف الوجود وأنتم لا تثبتون شيئا في الغالب إلا بقياس إما شمولي وإما تمثيلي فهل علمتم فاعلا يلزمه مفعوله أو يقارنه في زمانه لا يحدث شيئا فشيئا سواء كان فاعلا بالإرادة أو بالطبع
وهل علمتم فاعلا لم يزل موجبا لمفعوله ولم يزل مفعوله معلولا له فهذا شيء لا تعقلونه أنتم ولا غيركم فكيف تثبتون بالمعقول ما لا يعقل أصلا معينا فضلا عن أن يعقل مطلقا والمطلق فرع
المعين فما لا يكون موجودا معينا لا يعقل لا معينا ولا مطلقا ولكن يقدر تقديرا في الذهن كما تقدر الممتنعات
يبين ذلك أن العلم بكون الشيء ممكنا في الخارج يكون العلم بوجوده أو بوجود ما ذلك الشيء أولى بالوجود منه كما يذكره الله في كتابه في تقرير إمكان المعاد كقوله لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس سورة غافر 57 وقوله وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه سورة الروم 27 وقوله ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والاثنى أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى سورة القيامة 37 40 وقوله أو لم يروا أن الله خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى بلى إنه على كل شيء قدير سورة الأحقاف 33 وقوله وضرب لنا مثلا ونسي خلقه سورة يس 78 إلى قوله أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى سورة يس 81 وأمثال ذلك مما يدل على أن إعادة الخلق أولى بالإمكان من ابتدائه وخلق الصغير أولى بالإمكان من خلق العظيم فأما مالا يعلم أنه ممكن إذا عرض على العقل ولم يعلم امتناعه فإمكانه ذهني بمعنى عدم العلم بالامتناع ليس إمكانه خارجيا بمعنى العلم بالإمكان في الخارج
ولهذا ما تذكره طائفة من النظار كالآمدي وغيره أراد أن يقرر
إمكان الشيء بأنه لو قدر وجوده لم يلزم منه محال مجرد دعوى وغايته أن يقول لا نعلم أنه يلزم منه محال وعدم العلم ليس علما بالعدم فهؤلاء إذا أرادوا أن يثبتوا إمكان كون المفعول لازما لفاعله لا بد أن يعلموا ثبوت ذلك في الخارج أو ثبوت ما ذاك أولى بالإمكان منة وكلاهما منتف فلا يعلم قط فاعل إلا فاعلا يحدث فعله أو مفعوله لا يقارنه مفعوله المعين ويلازمه بل هذا إلى نفي كونه فاعلا ووصفه بالعجز عن نفي اللازم له أقرب منه إلى كونه فاعلا قادرا فقد جعلوا الله مثل السوء وهذا باطل
والواجب في الأدلة الإلهية أن يسلك بها هذا المسلك فيعلم أن كل كمان كان لمخلوق فالخالق أحق به فإن كمال المخلوق من كمال خالقه وعلى اصطلاحهم كمال المعلول من كمال العلة ولأن الواجب أكمل من الممكن فهو أحق بكل كمال ممكن لا نقص فيه من كل ممكن ويعلم أن كل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه فإن النقص يناقض الكمال فإذا كان أحق بثبوت الكمال كان أحق بنفي النقص وهذه برهانية يقينية وهم يسلمونها
وهم يقولون أيضا إن الفعل صفة كمال ويردون على من يقول من
أهل الكلام إنه ليس صفة كمال ولا نقص وقد قال تعالى أفمن يخلق كمن لا بخلق أفلا تذكرون سورة النحل 17
وإذا كان كذلك فمن المعقول أن الفاعل الذي يفعل بقدرته ومشيئته أكمل ممن لا قدرة له ولا إرادة والفاعل القادر المختار الذي يفعل شيئا بعد شيء أكمل ممن يكون مفعوله لازما له يقدر على إحداث شيء ولا تغييره من حال إلى حال إن كان يعقل فاعلا يلزمه مفعوله المعين فإن الذي يقدر أن يفعل مفعولات متعددة ويقدر على تغييرها من حال إلى حال أكمل ممن ليس كذلك فلماذا يصفون واجب الوجود بالفعل الناقص إن كان ذلك ممكنا كيف وما ذكروه ممتنع لا يعقل فاعل على الوجه الذي قالوه
بل من قدر شيئا فاعلا للازمه الذي لا يفارقه بحال كان مخالفا لصريح المعقول عند الناس وقيل له هذا صفة له أو مشارك له ليس مفعولا له ولو قيل لعامة العقلاء السليمي الفطرة إن الله خلق السماوات والأرض ومع هذا فلم تزالا معه لقالوا هذا ينافي خلقه لهما فلا يعقل خلقه لهما إلا إذا خلقهما بعد أن لم تكونا موجودتين
وأما إذا قيل لم تزالا موجودتين كان القول مع ذلك بأنه خلقهما جميعا
بين المتناقضين في فطر الناس وعقولهم التي لم تغير عن فطرتها
ولهذا كان مجرد إخبار الرسل بأن الله خلق السماوات والأرض ونحو ذلك كافيا في الإخبار بحدوثهما لم يحتاجوا مع ذلك أن يقولوا خلقهما بعد عدمهما ولكن أخبروا بزمان خلقهما كما في قوله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام سورة يونس 3
والإنسان لما كان يعلم أنه خلق بعد أن لم يكن ذكر بذلك ليستدل به على قدرة الخالق على تغيير العادة ولهذا ذكر تعالى ذلك في خلق يحيى بن زكريا عليه السلام وفي النشأة الثانية قال تعالى يا زكريا إنا نبشرك بغلام أسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا قال رب أني يكون لي غلام وكانت أمرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا قال كذلك قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا سورة مريم 7 9 وقال تعالى ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا سورة مريم 66 67
فذكر الإنسان بما يعلمه من أنه خلقه ولم يك شيئا ليستدل بذلك على قدرته على مثل ذلك وعلى ما هو أهون منه
الوجه السابع إن هؤلاء الذين قالوا بقدم العالم عن علة قديمة قالوا مع ذلك بأنه في نفسه ممكن ليس له وجود من نفسه وإنما وجوده من مبدعه فوصفوا الموجود الذي لم يزل موجودا الواجب بغيره بأنه ممكن الوجود فخالفوا بذلك طريق سلفهم وما عليه عامة بني آدم من أن الممكن لا يكون إلا معدوما ولا يعقل ما يمكن أن يوجد وأن لا يوجد إلا ما كان معدوما وهذا قول أرسطو وقدماء الفلاسفة ولكن ابن سينا وأتباعه خالفوا هؤلاء وقد تعقب ذلك عليهم ابن رشد وغيره وقالوا إنه لا يعقل الممكن إلا ما أمكن وجوده أمكن عدمه فجاز أن يكون موجودا وأن يكون معدوما أي مستمر العدم
ولهذا قالوا إن الممكن لا بد له من محل كما يقال يمكن أن تحمل المرأة وأن تنبت الأرض وأن يتعلم الصبي فمحل الإمكان هو الرحم والأرض والقلب فيمكن أن يحدث في هذه المحال ما هي قابلة له من الحرث والنسل والعلم
أما الشيء الذي لم يزل ولا يزال إما بنفسه وإما بغيره فكيف يقال يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد وإذا قيل هو باعتبار ذاته يقبل الأمرين قيل إن أردتم بذاته ما هو موجود في الخارج فذاك لا يقبل الأمرين فإن الوجود الواجب بغيره لا يقبل العدم إلا أن يريدوا أنه يقبل أن يعدم بعد وجوده وحينئذ فلا يكون واجبا بغيره دائما فمتى قبل العدم
في المستقيل أو كان معدوما لم يكن أزليا أبديا قديما واجبا بغيره دائما كما يقول هؤلاء في العالم
فإن أريد بقبول الوجود والعدم في حال واحدة فهو ممتنع وإن أريد في الحالين أي يقبل الوجود تارة والعدم أخرى امتنع أن يكون أزليا أبديا لتعاقب الوجود والعدم عليه وإن أريد أن ذاته التي تقبل الوجود والعدم شيء غير الوجود في الخارج فذاك ليس بذاته
وإن قيل يريد به أن ما يتصوره في النفس يمكن أن يصير موجودا في الخارج ومعدوما كما يتصوره الإنسان في نفسه من الأمور
قيل هذا أيضا يبين أن الإمكان مستلزم للعدم لأن ما ذكرتموه إنما هو في شيء يتصوره الفاعل في نفسه يمكن أن يجعله موجودا في الخارج ويمكن أن يبقى معدوما وهذا إنما يعقل فيما يعدم تارة ويوجد أخرى وأما ما لم يزل موجودا واجبا بغيره فهذا لا يعقل فيه الإمكان أصلا وإذا قال قائل ذاته تقبل الوجود والعدم كان متكلما بما لا يعقل
وهذا الموضع قد تفطن له أذكياء النظار فمنهم من أنكره على ابن سينا وأتباعه كما أنكر ذلك ابن رشد ومنهم من جعل هذا سؤالات واردة على الممكن كما يفعله الرازي وأتباعه ولم يجيبوا عنه بجواب صحيح
وسبب ذلك أنهم اتبعوا ابن سينا في تجويزه أن يكون الشيء ممكنا بنفسه واجبا بغيره دائما أزلا وأبدا بل هذا باطل كما عليه جماهير الأمم من أهل الملل والفلاسفة وغيرهم وعليه نظر المسلمين وعليه أئمة الفلاسفة أرسطو وأتباعه لا يكون الممكن عندهم إلا ما يكون معدوما تارة وموجودا أخرى فالإمكان والعدم متلازمان
وإذا كان ما سوى الرب تعالى ليس موجودا بنفسه بل كان ممكنا وجب أن يكون معدوما في بعض الأحوال ولا بد ليصح وصفه بالإمكان
وهذا برهان مستقل في أن كل ما سوى الله محدث كائن بعد أن لم يكن وأنه سبحانه خالق كل شيء بعد أن لم يكن شيئا فسبحان من تفرد بالبقاء والقدم وألزم ما سواه بالحدوث عن العدم
يوضح ذلك أنه إما أن يقال وجود كل شيء في الخارج عين ماهيته كما هو قول نظار أهل السنة الذين يقولون إن المعدوم ليس بشيء في الخارج أصلا ويقولون إنه ليس في الخارج للموجودات ماهيات غير ما هو الموجود في الخارج فيخالفون من يقول المعدوم شيء من المعتزلة وغيرهم ومن قال إن وجود كل شيء الثابت في الخارج مغاير لماهيته ولحقيقته الثابتة في الخارج كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة ونحوهم
وإما أن يقال وجود الشيء في الخارج زائد على ماهيته
فإن قيل بالأول لم يكن للعالم في الخارج ذات غير ما هو موجود في الخارج حتى يقال إنها تقبل الوجود والعدم
وإذا قيل بالثاني فإن قدر أنه لم يزل موجودا لم يكن للذات حال تقبل الوجود والعدم بل لم تزل متصفة بالوجود
فقول القائل إن الممكن هو الذي يقبل الوجود والعدم مع قوله بأنه لم يزل موجودا جمع بين قولين متناقضين
وإذا قيل هو ممكن باعتبار ذاته كان قوله أيضا متناقضا سواء عني بذاته الوجود في الخارج أو شيئا آخر يقبل الوجود في الخارج فإن تلك إذا لم تزل موجودة ووجودها واجب لم تكن قابلة للعدم أصلا ولم يكن عدمها ممكن أصلا
وقول القائل هي باعتبار ذاتها غير موجودة مع قوله إنها لم تزل موجودة معناه أن الذات لم تزل موجودة واجبة بغيرها يمتنع عدمها هي باعتبار الذات تقبل الوجود والعدم ويمكن فيها هذا وهذا وبسط هذا بتمام الكلام على الممكن كما قد بسطوه في موضعه
يبين ذلك أن الممكن هو الفقير الذي لا يوجد بنفسه وإنما يوجده غيره فلا بد أن يكون هنا شيء يوصف بالفقر والإمكان وقبول
العدم ثم يوصف بالغنى والوجود فأما ما لم يزل موجودا غنيا فكيف يوصف بفقر وإمكان فإنه إن حكم بالفقر والإمكان وقبول العدم على الموجود الغنى كان ذلك ممتنعا فيه كما تقدم إذا كان لا يقبل العدم ألبتة وإن حكم بالفقر والإمكان وقبول العدم على ما في الذهن بمعنى أنه يفتقر وجوده في الخارج إلى فاعل فهذا يؤيد ما قلناه من أنه لا بد أن يكون معدوما ثم يوجد
وإن قيل بل فاعله يتصوره في نفسه مع دوام فعله له والممكن هو ما في النفس
قيل ما في النفس الواجب واجب به لا يقبل العدم وما في الخارج واجب به لا يقبل العدم فأين القابل للوجود والعدم
وإن قيل ما تصور في النفس يقبل الوجود والعدم في الخارج
قيل هذا ممتنع مع وجوب وجوده دائما في الخارج بل هذا معقول فيما يعدم تارة ويوجد أخرى فإذا كان كل ما سوى الله ممكنا فقيرا وجب أن يكون موجودا تارة ومعدوما أخرى
وهذا الدليل مستقر في فطر الناس فكل من يتصور شيئا من الأشياء محتاجا إلى الله مفتقرا إليه ليس موجودا بنفسه بل وجوده بالله تصور أنه مخلوق كائن بعد أن لم يكن فأما إذا قيل هو فقير مصنوع محتاج وأنه دائما معه لم يحدث عن عدم لم يعقل هذا ولم يتصور إلا كما
تتصور الممتنعات بأن يقدر في الذهن تقديرا لا يتصور تحققه في الخارج فإن تحققها في الخارج ممتنع
وعلى هذا فإذا قيل المحوج إلى المؤثر هو الإمكان أو هو الحدوث لم يكن بين القولين منافاة فإن كل ممكن حادث وكل حادث ممكن فهما متلازمان ولهذا جمع بين القولين من قال إن المحوج إلى المؤثر هو الإمكان والحدوث جميعا فالأقوال الثلاثة صحيحة في نفس الأمر وإنما وقع النزاع لما ظن من ظن أنه يكون الشيء ممكنا مع كونه غير حادث
وهذا الذي قرر في امتناع كون العالم قديما وامتناع كون فاعله علة قديمة أزلية صحيح سواء قيل إنه مريد بإرادة أزلية مستلزمة لاقتران مرادها بها أو قيل ليس بمريد وسواء قيل إنه علة للفلك مع حركته أو للفلك بدون حركته
وهكذا القول في كل ما يقدر قديما معه فإنه لا بد أن يكون مقارنا لشيء من الحوادث أو ممكنا أن يقارنه شيء من الحوادث وعلى التقديرين يمتنع أن يكون قديما مع الله تعالى لأن القديم لا يكون إلا عن موجب تام مستلزم لموجبه وثبوت هذا في الأزل يقتضي أنه لا يحدث عنه شيء والحوادث لا تحدث إلا عنه فلا يكون موجب أزلي
إلا إذا حدث عنه شيء ولكن فاعل العالم يمتنع أن لا يحدث عنه شيء فيمتنع أن يكون موجبا بالذات في الأزل
وإذا قيل هو مريد بإرادة أزلية مقارنة لمرادها الذي هو العالم أو يتأخر عنها مرادها الذي هو حوادثه كان القول كذلك فإنه إذا لم يكن له إلا إرادة أزلية مقارنة لمرادها امتنع أن تحدث عنه الحوادث لكنه يمتنع أن لا تحدث عنه الحوادث فيمتنع أن لا يكون له إلا إرادة أزلية مقارنة لمرادها مع أن الإرادة لمفعولات لازمة للفاعل غير معقول بل إنما يعقل في حق الفاعل بإراداته أن يفعل شيئا بعد شيء ولهذا لم يقل أحد إن الرب يتكلم بمشيئته وقدرته وإن الكلام المقدور المعين قديم لازم لذاته فإذا لم يعقل هذا في المقدور القائم به فكيف يعقل في المباين له
وإذا قيل له إرادة أزلية مقارنة للمراد وإرادة أخرى حادثة مع الحوادث
قيل فحدوث هذه الإرادة الحادثة إن كان بتلك الإرادة الأزلية التي يجب مقارنة مرادها لها كان ذلك ممتنعا لأن الثانية حادثة فيمتنع أن
تكون مقارنة للقديمة التي قارنها مرادها وإن كان بدون تلك الإرادة لزم حدوث الحوادث بدون إرادته وهذا يقتضي جواز حدوث الحوادث بدون إرادته فلا يكون فاعلا مختارا فإن الإرادة الحادثة إن كانت فعله فقد حدثت بغير إرادة وإن لم تكن فعله كان قد حدث حادث بلا فعله وهذا ممتنع وهو مما أنكره جماهير الناس على المعتزلة البصريين في قولهم بحدوث إرادة الله بدون إرادة أخرى وبقيام إرادته لا في محل
وإن قيل بل لم تزل تقوم به الإرادات للحوادث كما يقول ذلك من يقوله من أهل الحديث والفلاسفة الذي يقولون لم يزل يتكلم إذا شاء ولم يزل فعالا لما يشاء
قيل فعلى هذا التقدير ليس هنا إرادة قديمة لمفعول قديم
وإن قيل يجتمع فيه هذا وهذا
قيل فهذا ممتنع من جهة امتناع كون المفعول المعين للفاعل لا سيما المختار ملازما له ومن جهة كون المفعول بالإرادة لا بد وأن تتقدمه الإرادة وأن تثبت إلى أن يوجد بل هذا في كل مفعول ومن جهة أن ما قامت به الإرادات المتعاقبة كانت مراداته أيضا متعاقبة وكذلك أفعاله القائمة بنفسه وكانت تلك الإرادات من لوازم نفسه
لم يجز أن تكون مرادة لإرادة قديمة لأنها إن كانت ملزومة لمرادها لزم كون الحادث المعين في الأزل وإن كان مرادها متأخرا عنها كانت تلك الإرادة كافية في حصول المرادات المتأخرة فلم يكن هناك ما يقتضي وجودها فلا توجد إذ الحادث لا يوجد إلا لوجود مقتضيه التام
فإن قدر أن الفاعل يريد شيئا بعد شيء ويفعل شيئا بعد شيء لزم أن يكون هذا من لوازم نفسه فتكون نفسه مقتضية لحدوث أفعاله شيئا بعد شيء فتكون مفعولاته شيئا بعد شيء بطريق الأولى والأحرى
وإذا كان كذلك كانت نفسه مقتضية لحدوث كل من هذه الأفعال والمفعولات وإذا كانت نفسه مقتضية لذلك امتنع مع ذلك أن يكون مقتضية لقدم فعل ومفعول مع إرادتهما المستلزمة لهما فإن ذاته تكون مقتضية لأمرين متناقضين لأن اقتضاءهما حدوث أفراد الفعل والمفعول وقدم النوع مناقض لاقتضائها قدم عين الفعل والمفعول
وإن قدر أن هذا المفعول غير تلك المفعولات فإنه ملزوم لها لا يوجد بدونها ولا توجد إلا به فهما متلازمان وإذا تلازمت المفعولات فتلازم أفعالها وإرادتها أولى فيكون كل من القدماء الثلاثة الإرادة المعينة وفعلها ومفعولها ملزوما لحوادث لا نهاية لها لازما
وحينئذ فالذات في فعلها للمفعول المعين علة تامة أزلية موجبة له وهي في سائر الحوادث ليست علة أزلية تحدث فاعليتها وتمام إيجابها شيئا بعد شيء
والذات موصوفة بغاية الكمال الممكن فإن كان كمالها في أن يكون ما فيها بالقوة هو بالفعل من غير إمكان ذلك ولا كون دوام الإحداث هو أكمل من أن لا يحدث عنها شيء كما قد يقوله هؤلاء الفلاسفة فيجب أن لا يحدث عنها شيء أصلا ولا يكون في الوجود حادث وإن كان كمالها في أن تحدث شيئا بعد شيء لأن ذلك أكمل من أن لا يمكنها إحداث شيء بعد شيء ولأن الفعل صفة كمال والفعل لا يعقل إلا على هذا الوجه ولأن حدوث الحوادث دائما أكمل من أن لا يحدث شيء ولأن هذا الذي بالقوة هو جنس الفعل وهذا بالفعل دائما
وأما كون كل من المفعولات أو شيء من المفعولات أزليا فهذا ليس
بالقوة فيمتنع أن يكون بالفعل فليس في مقارنة مفعولها المعين لها كمال سواء كان ممتنعا أو كان نقصا ينافي الكمال الواجب لها لا سيما ومعلوم أن إحداث نوع المفعولات شيئا بعد شيء أكمل من أن يكون منها ما هو مقارن الفاعل أزليا معه
فعلى التقديرين يجب نفيه عنها فلا يكون لها مفعول مقارن لها فلا يكون في العالم شيء قديم وهو المطلوب وهذا برهان مستقل متلقى من قاعدة الكمال الواجب له وتنزهه عن النقص
ومما يوضح ذلك أن يقال من المعلوم بالضرورة أن إحداث مفعول بعد مفعول لا الى نهاية أكمل من أن لا يفعل إلا مفعولا واحدا لازما لذاته إن قدر ذلك ممكنا وإذا كان ذلك أكمل فهو ممكن لأن التقدير أن الذات يمكنها أن تفعل شيئا بعد شيء بل يجب ذلك لها وإذا كان هذا ممكنا بل هو واجب لها وجب اتصافها به دون نقيضه الذي هو أنقض منه وليس في هذا تعطيل عن الفعل بل هو اتصاف بالفعل على أكمل الوجوه
وبيان هذا أن الفعل المعين والمفعول المعين المقارن له أزلا وأبدا إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممتنعا امتنع قدم
شيء من العالم وهو المطلوب وإن كان ممكنا فإما أن يكون هو الأكمل أو لا يكون فإن كان هو الأكمل وجب أن لا يحدث شيء وإحداثه حينئذ عدول عن الأكمل وهو محال وإن لم يكن هو الأكمل فالأكمل نقيضه وهو إحداث شيء بعد شيء فلا يكون شيء من الأفعال قديما
وهذا لا يرد عليه إلا سؤالا معلوم الفساد وهو أن يقال ما كان يمكن إلا هذا فلا يمكن في الفلك أن يتأخر وجوده ولا في الحوادث أن يكون منها شيء قديم
قيل إن أردتم امتناع هذا لذاته فهو مكابرة فإنه لو قدر قبل الفلك فلك وقبله فلك لم يكن امتناع هذا بأعظم من امتناع دوام الفلك بل إذا كان الواحد من النوع دوامه فدوام النوع أولي
ولهذا لا يعقل أن يكون واحد من البشر قديما أزليا مع امتناع قدم نوعه واحدا بعد واحد وإن قدرتم إنه ممتنع لأمر يرجع إلى غيره لوجود مضاد له أو لانتفاء حكمة الفاعل ونحو ذلك فكل أمر ينافي قدم نوع المفعول فهو أشد منافاة لقدم عينه فإن جاز قدم عينه فقدم النوع من حدوث الأفراد أجوز وإن امتنع هذا الثاني فالأول أشد امتناعا وكل شيء أوجب حدوث أفراد بعض المفعولات الممكن قدمها فهو أيضا موجب لحدوث نظيره
وهب أنهم يقولون الحركة لذاتها لا تقبل البقاء لكن الحوادث جواهر كثيرة شيئا بعد شيء فالعناصر الأربعة إن أمكن أن تكون قديمة
الأعيان أمكن إبقاؤها قديمة الصورة فلا يجوز استحالتها من حال إلى حال وهو خلاف المشاهدة وإن لم يمكن قدم أعيانها حصل المطلوب
وإن قيل هذا ممكن دون هذا كان مكابرة
وإن قيل الموجب لاستحالتها حركة الأفلاك
قيل من المعلوم بالاضطرار إمكان تحرك الأفلاك دون استحالة العناصر كما أمكن تحرك الفلك الأعلى دون استحالة الثاني وتقدير استحالة الفلك الثاني والثالث وبقائهما كتقدير استحالة العناصر وبقائها لا يمكن أن يقال هذا ممكن لذاته دون الآخر فعلم إن ذلك يرجع إلى أمر خارج يتعلق بالمفعولات المتعلقة بمشيئة الفاعل وحكمته
وهذا لا ريب فيه فإننا لا ننازع أن فعل الشيء يوجب فعل لوازمه وينافى وجود أضداده وأن الحكمة المطلوبة من فعل شيء قد يكون لها شروط وموانع فالخالق الذي اقتضت حكمته إحداث أنواع الحيوانات والنباتات والمعادن اقتضت أن تنقل موادها من حال إلى حال ولكن المقصود أنه ليس لأحد الجسمين حقيقة اقتضت
اختصاصه بالقدم بحسب ذاته دون الأخرى لا سيما ولا حقيقة لوجود شيء سوى الموجود الثابت في الخارج فلا اقتضاء لحقيقته قبل وجود حقيقته ولكن الباري تعالى يعلم ما يريد أن يفعله فعلمه وإرادته هو الذي يوجب الاختصاص
فقد تبين أنه إذا كان مقارنة المفعول المعين للفاعل أزلا وأبدا ممتنعا أو نقصا امتنع قدم شيء من العالم فكيف إذا كان كل منهما ثابتا هو ممتنع ومع تقدير إمكانه فهو نقص فإن قدم نوعه أكمل من قدم عينه وهو أولى بالإمكان منه فإذا كان أولى بالإمكان وهو أكمل امتنع أن يكون نقيضه هو الممكن وإذا امتنع ذلك قدم شيء من العالم
وعلي هذا فكل ما يذكرونه من دوام فاعلية الرب هو حجة عليهم فإن فاعلية النوع أكمل من فاعلية الشخص وهو الذي يشهد به الشخص قطعا وحسا فإنا نشهد بفاعلية نوع شيئا بعد شي فإن كان دوام الفاعلية ممكنا فهذا ممكن لوجوده ولسنا نعلم دوام الفاعلية لشيء معين فلا يلزم من علمنا بدوام الفاعلية دوام شيء معين أصلا ودوام النوع يقتضى حدوث أفراده فكل ما سوى الله حادث بعد أن لم يكن وهو المطلوب فتبين أن القول بمقارنة مراده له في الأزل ممتنع يمنع صدور الحوادث عنه
وهذا لا يحتاج فيه إلى أن يقال الإرادة الحادثة لا يقارنها مرادها
بل يمكن أن يقال مع ذلك إن الإرادة الحادثة يقارنها مرادها كما يقولون إن القدرة الحادثة يقارنها مقدورها وإن كان من الناس من ينازع في ذلك
والمقصود هنا أنه إذا قيل بأن الإرادة يجب أن يقارنها مرادها وكان ذلك دليلا على حدوث كل ما سوى الله وإن قيل يجوز أن يقارنها مرادها ويجوز أن لا يقارنها أو قيل يمتنع مقارنة مرادها لها فعلى التقديرات الثلاثة يجب حدوث كل ما سوى الله
أما على تقدير وجوب مقارنة المراد للإرادة فلأنه إن كانت الإرادة أزلية لزم أن يكون جميع المرادات أزلية فلا يحدث شيء وهو خلاف الحس والعيان وهذا مثل قولنا لو كان موجبا بذاته أزليا أو علة تامة لمعلوله لزم أن يكون جميع موجبه ومعلوله مقارنا له أزليا فيمتنع حدوث شيء عنه
وإن كان هناك إرادة حادثة فإن الكلام فيها كالكلام في غيرها من الحوادث إن حدثت عن تلك الإرادة الأزلية التي يجب مقارنة مرادها لها كان ممتنعا وإن حدثت بلا إرادة ولا سبب حادث كان ذلك ممتنعا
فتبين أنه على القول بوجوب مقارنة المراد للإرادة يمتنع قدم شيء من
العالم سواء قيل بقدم الإرادة أو حدوثها أو قدم شيء منها وحدوث شيء آخر
وإن قيل بأن المراد يجوز مقارنته للإرادة ويجوز تأخره عنها فإنه على هذا التقدير يجوز حدوث جميع العالم بإرادة قديمة إزلية من غير تجدد شيء كما تقول ذلك الكلابية ومن وافقهم من الأشعرية والكرامية والفقهاء المنسوبين إلى الأئمة الأربعة وغيرهم وعلى هذا التقدير فإنه يجوز حدوث الحوادث بلا سبب حادث وترجيح أحد المتماثلين على الآخر بمجرد الإرادة القديمة وعلى هذا التقدير فإنه يبطل حجة القائلين بقدم العالم
وهؤلاء إنما قالوا هذا لاعتقادهم بطلان التسلسل في الآثار وامتناع حوادث لا أول لها فإن كان ما قالوه حقا وأنه يمتنع حوادث لا أول لها لزم حينئذ حدوث العالم وامتنع القول بقدمه لأنه لا يخلو شيء منه عن مقارنة شيء من الحوادث حتى العقول والنفوس عند من يقول بإثباتها فإنها عندهم لا بد أن تقارن الحوادث فإذا امتنع حوادث لا أول لها كان ما لم يسبق الحوادث بمنزلتها يمتنع قدمه كما يمتنع قدمها
وإن كان ما قاله هؤلاء باطلا أمكن دوام الحوادث وعلى هذا التقدير فيجوز مقارنة المراد للإرادة في الأزل ويمتنع حدوث شيء إلا بسبب حادث وحينئذ فيمتنع كون شيء من العالم أزليا وإن جاز أن
يكون نوع الحوادث دائما لم يزل فإن الأزل ليس هو عبارة عن شيء محدد بل ما من وقت يقدر إلا وقبله وقت آخر فلا يلزم من دوام النوع قدم شيء بعينه
وإنما قيل يمتنع قدم شيء بعينه لأنه إذا جاز أن يقارنها المراد في الأزل وجب أن يقارنها المراد لأن الإرادة التي يجوز مقارنة مرادها لها لا يتخلف عنها مرادها إلا لنقص في القدرة وإلا فإذا كانت القدرة تامة والإرادة التي يمكن مقارنة مرادها لها حاصلة لزم حصول المراد لوجود المقتضى التام للفعل إذ لو لم يلزم مع كون المراد ممكنا لكان حصوله بعد ذلك يستلزم ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بدون مرجح وهو باطل على هذا التقدير
ولهذا كان الذين يقولون بامتناع شيء من الحوادث في الأزل يقولون إن حصول شيء من الإرادات في الأزل ممتنع لا يقولون بأنه ممكن وأنه يمكن مقارنة مراده له
لكن أورد الناس عليهم أنه إذا كان نسبة جميع الأوقات والحوادث إلى الإرادة الأزلية نسبة واحدة فترجيح أحد الوقتين أو ما يقدر فيه الوقت بالحدوث ترجيح بلا مرجح وتخصيص لأحد المتماثلين بلا مخصص
وهذا الكلام لا يقدح في مقصودنا هنا فإنا لم ننصر هذا القول ولكن بينا امتناع قدم شيء من العالم على كل تقدير وأن دوام الحوادث سواء كان ممكنا أو ممتنعا فإنه يجب حدوث كل شيء من العالم على التقديرين وأن الإرادة سواء قيل بوجوب مقارنة مرادها لها أو بجواز تأخره عنها يلزم حدوث كل شيء من العالم على كل من التقديرين
فإن القائلين بتأخر مرادها إنما قالوا ذلك فرارا من القول بدوام الحوادث ووجود حوادث لا أول لها وعلى هذا التقدير فيلزم حدوث العالم وإلا فلو جاز دوام الحوادث لجاز عندهم وجود المراد في الأزل ولو جاز ذلك لم يقولوا بتأخر المراد عن الإرادة القديمة الأزلية مع ما في ذلك من ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وما في ذلك من الشناعة عليهم ونسبة كثير من العقلاء إلى أنهم خالفوا صريح المعقول
فإنهم إنما صاروا إلى هذا القول لاعتقادهم امتناع حوادث لا أول لها فاحتاجوا لذلك أن يثبتوا إرادة قديمة أزلية يتأخر عنها المراد ويحدث بعد ذلك من غير سبب حادث واحتاجوا أن يقولوا إن نفس الإرادة تخصص أحد المتماثلين على الآخر
وإلا فلو اعتقدوا جواز دوام الحوادث وتسلسلها لأمكن أن يقولوا بأنه
تحدث الإرادات والمرادات ويقولون بجواز قيام الحوادث بالقديم ولرجعوا عن قولهم بأن نفس الإرادة القديمة تخصص أحد المثلين في المستقبل وعن قولهم بحدوث الحوادث بلا سبب حادث وكانوا على هذا التقدير لا يقولون بقدم شيء من العالم بل يقولون إن كل ما سوى الله فإنه حادث كائن بعد أن لم يكن
وكان هذا لازما على هذا التقدير لأنه حينئذ إذا لم يجز حدوث شيء من الحوادث إلا بسبب حادث ولم يترجح أحد الوقتين بحدوث شيء فيه إلا بمرجح يقتضى ذلك لا يكون تأخر المراد عن الإرادة إلا لتعذر المراد إذ لو كان المراد ممكنا أن يقارن الإرادة وممكنا أن يتأخر عنها لكان تخصيص أحد الزمانين بالإحداث تخصيصا بلا مخصص
فعلم أنه يجب أحد الأمرين على هذا التقدير وجوب مقارنة المراد للإرادة أو أمتناعه وأنه يجب مقارنته للإرادة إذا كان ممكنا وأنه لا يتأخر إلا لتعذر مقارنته إما لامتناعه في نفسه وإما لامتناع لوازمه
وامتناع اللازم يقتضي امتناع الملزوم لكن يكون امتناعه لغيره لا لنفسه كما يقول المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله وجب كونه بمشيئته لا بنفسه وما لم يشأ يمتنع كونه لا بنفسه بل لأنه لا يكون إلا بمشيئته فإذا لم يشأ امتنع كونه
وإذا كان على هذا التقدير أحد الأمرين لازما إما مقارنة المراد للإرادة وإما امتناعه لنفسه أو لغيره دل ذلك على أنه لو كان شيء من العالم يمكن أن يكون قديما لوجب أن يكون قديما لوجوب مقارنته له في الأزل إذ التقدير أنه لا بد من وجوب المقارنة أو امتناع المراد فإن كان المراد ممكنا في الأزل لزم وجوب المقارنة لكن وجوب المقارنة ممتنع لأن ذلك يستلزم أن لا يحدث شيء من الحوادث كما تقدم فلزم القسم الآخر وهو امتناع شيء من المراد المعين في الأزل وهو المطلوب
فأما إذا قيل بأنه يجب تأخر المراد عن الإرادة كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام فبتقدير كونه مريدا يمتنع قدم شيء من العالم وهو المطلوب
فتبين حدوث كل ما سوى الله على كل تقدير وهو المطلوب واعلم أن من فهم هذه الطريق استفاد بها أمورا
أحدها ثبوت حدوث كل ما سوى الله حتى إذا قدر أن هناك موجودا سوى الأجسام كما يقول من يثبت العقول والنفوس من المتفلسفة والمتكلمة إنها جواهر قائمة بأنفسها وليست أجساما فإن هذه الطريق يعلم بها حدوث ذلك
وطائفة من متأخري أهل الكلام كالشهرستاني والرازي والأمدي وغيرهم قالوا إن قدماء أهل الكلام لم يقيموا دليلا على نفي هذه ودليلهم على حدوث الأجسام لا يتناول هذه
وقد بين في غير هذا الموضع أن هؤلاء النظار كأبي الهذيل والنظام والهشامين وابن كلاب وابن كرام والأشعري والقاضي أبي بكر وأبي
المعالي وأبي علي وأبي هاشم وأبي الحسين البصري وأبي بكر بن العربي وأبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء بن
عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وغير هؤلاء يثبتون امتناع وجود موجود ممكن قائم بنفسه لا يشار إليه فبينوا بطلان ثبوت تلك المجردات في الخارج لكن منهم من أبطل ثبوت ما لا يشار إليه مطلقا ومنهم من أبطل ذلك في الممكنات
ومما يستفاد بهذه الطريق التي قررناها الخلاص عن إثبات الحدوث بلا سبب حادث والخلاص عن نفي ما يقوم بذات الله من صفاته وأفعاله
ومما يستفاد بذلك أنها برهان باهر على بطلان قول القائلين بقدم العالم أو شيء منه وهو متضمن الجواب عن عمدتهم
ومما يستفاد بذلك الاستدلال على المطلوب من غير احتياج إلى الفرق بين الموجب بالذات والفاعل بالاختيار وذلك أن كثيرا من أهل النظر غلطوا في الفرق بين هذا وهذا من المعتزلة والشيعة وصار كثير من الناس كالرازي وأمثاله مضطربين في هذا المقام فتارة يوافقون المعتزلة على الفرق وتارة يخالفونهم وإذا خالفوهم فهم مترددون بين أهل السنة وبين الفلاسفة أتباع أرسطو
وأصل ذلك أنا نعلم أن القادر المختار يفعل بمشيئته وقدرته لكن هل يجب وجود المفعول عند وجود الإرادة الجازمة والقدرة التامة أم لا
فمذهب الجمهور من أهل السنة المثبتين للقدر وغيرهم من نفاة القدر أنه يجب وجود المفعول عند وجود المقتضي التام وهو الإرادة الجازمة والقدرة التامة
وطائفة أخرى من مثبتة القدر الجهمية وموافقيهم ومن نفاة القدر المعتزلة وغيرهم لا توجب ذلك بل يقولون القادر هو الذي يفعل على وجه الجواز لا على وجه الوجوب ويجعلون هذا هو الفرق بينه وبين الموجب بالذات وهؤلاء يقولون إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح كالجائع مع الرغيفين والهارب مع الطريقين
ثم القدرية من هؤلاء يقولون العبد قادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح كما يقولون مثل ذلك في الرب ولهذا كان من قول هؤلاء القدرية إن الله لم ينعم على أهل الطاعة بنعم خصهم بها حتى أطاعوه بها بل تمكينه للمطيع وغيره سواء لكن هذا رجح الطاعة بلا مرجح بل بمجرد قدرته من غير سبب أوجب ذلك وهذا رجح المعصية بمجرد قدرته من غير سبب أوجب ذلك
وأما الجبرية كجهم وأصحابه فعندهم أنه ليس للعبد قدرة ألبتة
والأشعري يوافقهم في المعنى فيقول ليس للعبد قدرة مؤثرة ويثبت شيئا يسميه قدرة يجعل وجوده كعدمه وكذلك الكسب الذي يثبته
وهؤلاء لا يمكنهم أن يحتجوا على بطلان قول القدرية بأن رجحان فاعلية العبد على تاركيته لا بد لها من مرجح كما يفعل ذلك الرازي وطائفة من الجبرية ولهذا لم يذكر الأشعري وقدماء أصحابه هذه الحجة
وطائفة من الناس كالرازي وأتباعه إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر أبطلوا هذا الأصل وبينوا أن الفعل يجب وجوده عند وجود المرجح التام وأنه يمتنع فعله بدون المرجح التام ونصروا أن القادر المختار لا يرجح أحد مقدوريه على الآخر إلا بالمرجح التام وإذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم وإثبات الفاعل المختار وإبطال قولهم بالموجب بالذات سلكوا مسلك المعتزلة والجهمية في القول بأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وعامة الذين سلكوا مسلك أبي عبدالله بن الخطيب وأمثاله تجدهم يتناقضون هذا التناقض
وفصل الخطاب أن يقال أي شيء يراد بلفظ الموجب بالذات إن عنى به أنه يوجب بذات مجردة عن المشيئة والقدرة فهذه الذات لا حقيقة لها ولا ثبوت في الخارج فضلا عن أن تكون موجبة
والفلاسفة يتناقضون فإنهم يثبتون للأول غاية ويثبتون العلل الغائية في إبداعه وهذا يستلزم الإرادة
وإذا فسروا الغاية بمجرد العلم وجعلوا العلم مجرد الذات كان هذا في غاية الفساد والتناقض فإنا نعلم بالضرورة أن الإرادة ليست مجرد العلم وأن العلم ليس هو مجرد العالم لكن هذا من تناقض هؤلاء الفلاسفة في هذا الباب فإنهم يجعلون المعاني المتعددة معنى واحدا فيجعلون العلم هو القدرة وهو الإرادة ويجعلون الصفة هي نفس الموصوف كما يجعلون العلم هو نفس العالم والقادر هو القدرة والإرادة هي المريد والعشق هو العاشق
وهذا قد صرح به فضلاؤهم وحتى المنتصرون لهم مثل ابن رشد الحفيد الذي رد على أبي حامد الغزالي في تهافت التهافت وأمثاله
وأيضا فلو قدر وجود ذات مجردة عن المشيئة والاختيار فيمتنع أن يكون العالم صادرا عن موجب بالذات بهذا التفسير لأن الموجب
بالذات بهذا الاعتبار يستلزم موجبه ومقتضاه فلو كان مبدع العالم موجبا بالذات بهذا التفسير لزم أن لا يحدث في العالم شيء وهو خلاف المشاهدة فقولهم بالموجب بالذات يستلزم نفي صفاته ونفي أفعاله ونفي حدوث شيء من العالم وهذا كله معلوم البطلان
وأبطل من ذلك أنهم جعلوه واحدا بسيطا وقالوا إنه لا يصدر عنه إلا واحد ثم احتالوا في صدور الكثرة عنه بحيل تدل على عظيم حيرتهم وجهلهم بهذا الباب كقولهم إن الصادر الأول هو العقل الأول وهو موجود واجب بغيره ممكن بنفسه ففيه ثلاث جهات فصدر عنه باعتبار وجوبه عقل آخر وباعتبار وجوده نفس وباعتبار إمكانه فلك وربما قالوا وباعتبار وجوده صورة الفلك وباعتبار إمكانه مادته وهم متنازعون في النفس الفلكية هل هي جوهر مفارق له أم عرض قائم به
ولهذا أطنب الناس في بيان فساد كلامهم وذلك أن هذا الواحد الذي فرضوه لا يتصور وجوده إلا في الأذهان لا في الأعيان ثم قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد قضية كلية وهم لو علموا ثبوتها في بعض الصور لم يلزم أن تكون كلية إلا بقياس التمثيل فكيف وهم لا يعلمون واحدا صدر عنه شيء
وما يمثلون به من صدور التسخين عن النار والتبريد عن الماء باطل فإن تلك الآثار لا تصدر إلا عن شيئين فاعل وقابل والأول تعالى كل ما سواه صادر عنه ليس هناك قابل موجود
وإن قالوا الماهيات الثابتة في الخارج الغنية عن الفاعل هي القابل كان هذا باطلا من وجوه
منها أن هذا بناء على أصلهم الفاسد وهو إثبات ماهيات موجودة في الخارج مغايرة للأعيان الموجودة وهذا باطل قطعا وما يذكرونه من أن المثلث يتصور قبل أن يعلم وجوده لا يدل على ثبوت المثلث في الخارج بل يدل على ثبوته في الذهن ولا ريب في حصول الفرق بين ما في الأذهان وما في الأعيان ومن هنا كثر غلطهم فإنهم تصوروا أمورا في الأذهان فظنوا ثبوتها في الأعيان كالعقول والماهيات الكلية والهيولي ونحو ذلك
ومنها أن الماهيات هي بحسب ما يوجد فكل ما وجد له عندهم ماهية كما يقوله من يقول إن المعدوم شيء من المعتزلة والشيعة فلا يجوز قصر الموجودات على أمور لتوهم أنه لا ماهية تقبل الوجود غيرها
ومنها أن يقال الماهيات الممكنة في نفسها لا نهاية لها
ومنها أن يقال الواحد المشهود الذي تصدر عنه الآثار له قوابل موجودة والباري تعالى هو المبدع لوجود كل ما سواه فلا يعلم أمر صادر عن ممكن إلا عن شيئين فصاعدا مع أنه قد يكون هناك مانع يمنع التأثير وليس في الموجودات ما يصدر عنه وحده شيء إلا الله تعالى
فقولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد قضية كلية إن أدرجوا فيها ما سوى الله فذاك لا يصدر عنه وحده شيء وإن لم يريدوا بها إلا الله وحده فهذا محل النزاع وموضع الدليل فكيف يكون المدلول عليه هو الدليل وذلك الواحد لا يعلمون حقيقته ولا كيفية الصدور عنه
وأيضا فالواحد الذي يثبتونه هو وجود مجرد عن الصفات الثبوتية عن بعضهم كابن سينا وأتباعه أو عن الثبوتيه والسلبية عند بعضهم وهذا لا حقيقة له في الخارج بل يمتنع تحققه في الخارج وإنما هو أمر يقدر في الأذهان كما تقدر الممتنعات ولهذا كان ما ذكره ابن سينا في هذا الباب مما نازعه فيه ابن رشد وغيره من الفلاسفة وقالوا إن هذا ليس هو قول أئمة الفلاسفة وإنما ابن
سينا وأمثاله أحدثوه ولهذا لم يعتمد عليه أبو البركات صاحب المعتبرة وهو من أقرب هؤلاء إلى اتباع الحجة الصحيحة بحسب نظره والعدول عن تقليد سلفهم مع أن أصل آمرهم وحكمتهم أن العقليات لا تقليد فيها
وأيضا فإذا لم يصدر عنه إلا واحد كما يقولونه في العقل الأول فذلك الصادر الأول إن كان واحدا من كل وجه لزم أن لا يصدر عنه إلا واحد وهلم جرا وإن كان فيه كثرة ما بوجه من الوجوه والكثرة وجودية كان قد صدر عن الأول أكثر من واحد وإن كانت عدمية لم يصدر عنها وجود فلا يصدر عن الصادر الأول واحد
وأما احتجاجهم على ذلك بقولهم لو صدر عنه شيئان لكان مصدر هذا غير مصدر ذلك ولزم التركيب
فيقال أولا ليس الصدور عن الباري كصدور الحرارة عن النار بل هو فاعل بالمشيئته والاختيار ولو قدر تعدد المصدر فهو تعدد أمور إضافية وتعدد الإضافات والسلوب ثابتة له بالاتفاق ولو فرض أنه تعدد صفات فهذا يستلزم القول بثبوت الصفات وهذا حق
وقولهم إن هذا تركيب والتركيب ممتنع قد بينا فساده بوجوه
كثيرة في غير هذا الموضع وبينا أن لفظ التركيب والافتقار والجزء والغير ألفاظ مشتركة مجملة وأنها لا تلزم بالمعنى الذي دل الدليل على نفيه وإنما تلزم بالمعنى الذي لا ينفيه الدليل بل يثبته الدليل
والمقصود هنا أن الموجب بالذات إذا فسر بهذا فهو باطل وأما إذا فسر الموجب بالذات بأنه الذي يوجب مفعوله بمشيئته وقدرته لم يكن هذا المعنى منافيا لكونه فاعلا بالاختيار بل يكون فاعلا بالاختيار موجبا بذاته التي هي فاعل قادر مختار وهو موجب بمشيئته وقدرته
وإذا تبين أن الموجب بالذات يحتمل معنيين أحدهما لا ينافى كونه فاعلا بمشيئته وقدرته والآخر ينافي كونه فاعلا بمشيئته وقدرته فمن قال القادر لا يفعل إلا على وجه الجواز كما يقوله من يقوله من القدرية والجهمي يجعل الفعل بالاختيار منافيا للإيجاب لا يجامعه بوجه من الوجوه ويقولون إن القادر المختار لا يكون قادرا مختارا إلا إذا فعل على وجه الجواز لا على وجه الوجوب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق