يسؤني قط أيها الناس إني راض عن عمر وعثمان وعلي وفلان وفلان
فقد تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه دون غيره مع أنه قد جعل غيره من أصحابه أيضا لكن خصه بكمال الصحبة
ولهذا قال من قال من العلماء إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره
ومن أراد أن يعرف فضائلهم ومنازلهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فليتدبر الأحاديث الصحيحة التى صححها أهل العلم بالحديث الذين كملت خبرتهم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ومحبتهم له وصدقهم في التبليغ عنه وصار هواهم تبعا لما جاء به فليس لهم غرض إلا معرفة ما قاله وتمييزه عما يخلط بذلك من كذب الكاذبين وغلط الغالطين
كأصحاب الصحيح مثل البخاري ومسلم والإسماعيلي
والبرقاني وأبي نعيم والدارقطني ومثل صحيح ابن خزيمة وابن منده وأبي حاتم البستي والحاكم
وما صححه أئمة أهل الحديث الذين هم أجل من هؤلاء أو مثلهم من المتقدمين والمتأخرين مثل مالك وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وابن المبارك وأحمد وابن معين وابن المديني وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين وخلائق لا يحصى عددهم إلا الله تعالى
فإذا تدبر العاقل الأحاديث الصحيحة الثابتة عند هؤلاء وأمثالهم عرف الصدق من الكذب فإن هؤلاء من أكمل الناس معرفة بذلك وأشدهم رغبة في التمييز بين الصدق والكذب وأعظمهم ذبا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم المهاجرون إلى سنته وحديثه والأنصار له في الدين يقصدون ضبط ما قاله وتبليغه للناس وينفون عنه ما كذبه الكذابون وغلط فيه الغالطون ومن شركهم في علمهم علم ما قالوه وعلم بعض قدرهم وإلا فليسلم القوس إلى باريها كما يسلم إلى الأطباء طبهم وإلى النحاة نحوهم وإلى الفقهاء فقههم وإلى أهل الحساب حسابهم مع أن جميع هؤلاء قد يتفقون على خطأ في
صناعتهم إلا الفقهاء فيما يفتون به من الشرع وأهل الحديث فيما يفتون به من النقل فلا يجوز أن يتفقوا على التصديق بكذب ولا على التكذيب بصدق بل إجماعهم معصوم في التصديق والتكذيب بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم كما أن إجماع الفقهاء معصوم في الإخبار عن الفعل بدخوله في أمره أو نهيه أو تحليله أو تحريمه
ومن تأمل هذا وجد فضائل الصديق التي في الصحاح كثيرة وهي خصائص مثل حديث المخالة وحديث إن الله معنا وحديث إنه أحب الرجال إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحديث الإتيان إليه بعده وحديث كتابة العهد إليه بعده وحديث تخصيصه بالتصديق ابتداء والصحبة وتركه له وهو قوله
فهل أنتم تاركولي صاحبي وحديث دفعه عنه عقبة بن أبي معيط لما وضع الرداء في عنقه حتى خلصه أبو بكر وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وحديث استخلافه في الصلاة وفي الحج وصبره وثباته بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقياد الأمة له وحديث الخصال التي اجتمعت فيه في يوم وما اجتمعت في رجل إلا وجبت له الجنة وأمثال ذلك
ثم له مناقب يشركه فيها عمر كشهادته بالإيمان له ولعمر وحديث علي حيث يقول كثيرا ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول خرجت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وحديث استقائه من القليب وحديث البقرة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم
أومن بها أنا وأبو بكر وعمر وأمثال ذلك
وأما مناقب علي التي في الصحاح فأصحها قوله يوم خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وقوله في غزوة تبوك
ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ومنها دخوله في المباهلة وفي الكساء ومنها قوله
أنت مني وأنا منك وليس في شيء من ذلك خصائص وحديث
لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ومنها ما تقدم من حديث الشورى وإخبار عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو راض عن عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن
فمجموع ما في الصحيح لعلي نحو عشرة أحاديث ليس فيها ما يختص به ولأبي بكر في الصحاح نحو عشرين حديثا أكثرها خصائص
وقول من قال صح لعلي من الفضائل مالم يصح لغيره كذب لا يقول أحمد ولا غيره من أئمة الحديث لكن قد يقال روي له ما لم يرو لغيره لكن أكثر ذلك من نقل من علم كذبه أو خطؤه ودليل واحد صحيح المقدمات سليم عن المعارضة خير من عشرين دليلا مقدماتها ضعيفة بل باطلة وهي معارضة بأصح منها يدل على نقيضها
والمقصود هنا بيان اختصاصه في الصحبة الإيمانية بما لم يشركه مخلوق لا في قدرها ولا في صفتها ولا في نفعها فإنه لو أحصى الزمان الذي كان يجتمع فيه أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم والزمان الذي كان يجتمع فيه عثمان أو علي أو غيرهما من الصحابة لوجد ما يختص به أبو بكر أضعاف ما اختص به واحد منهم لا أقول ضعفه
وأما المشترك بينهم فلا يختص به واحد
1 - وأما كمال معرفته ومحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وتصديقه له فهو
مبرز في ذلك على سائرهم تبريزا باينهم فيه مباينه لا تخفى على من كان له معرفة بأحوال القوم ومن لا معرفة له بذلك لم تقبل شهادته
وأما نفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ومعاونته له على الدين فكذلك
فهذه الأمور التي هي مقاصد الصحبة ومحامدها التي بها يستحق الصحابة أن يفضلوا بها على غيرهم لأبي بكر فيها من الاختصاص بقدرها ونوعها وصفتها وفائدتها ما لا يشركه فيه أحد
ويدل على ذلك ما رواه البخاري عن أبي الدرداء قال كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل أبو بكر آخذا بطرق ثوبه حتى أبدي عن ركبتيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم
أما صاحبكم فقد غامر فسلم وقال إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته ان يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك فقال
يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أثم أبو بكر قالوا لا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه وقال يا رسول الله والله أنا كنت أظلم مرتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي مرتين فما أوذي بعدها
وفي رواية كانت بين أبي بكر وعمر محاورة فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه مغضبا فأتبعه أبو بكر يسأله أن يغفر له فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه فأقبل أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم الحديث قال وغضب النبي صلى الله عليه وسلم وفيه
إني قلت يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت
فهذا الحديث الصحيح فيه تخصيصه بالصحبة في قوله
فهل أنتم تاركو لي صاحبي وبين فيه من أسباب ذلك أن الله لما بعثه إلى الناس قال
إني رسول الله إليكم جميعا قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت فهذا يبين فيه أنه لم يكذبه قط وأنه صدقه حين كذبه الناس طرا
وهذا ظاهر في أنه صدقه قبل أن يصدقه أحد من الناس الذين بلغهم الرسالة وهذا حق فإنه أول ما بلغ الرسالة فآمن
وهذا موافق لما رواه مسلم عن عمرو بن عبسة قلت يا رسول الله من معك على هذا الأمر قال
حر وعبد ومعه يومئذ أبو بكر وبلال
وأما خديجة وعلي وزيد فهؤلاء كانوا من عيال النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيته وخديجة عرض عليها أمره لما فجأه الوحي وصدقته ابتداء قبل أن يؤمر بالتبليغ وذلك قبل أن يجب الإيمان به فإنه إنما يجب إذا بلغ الرسالة فأول من صدق به بعد وجوب الإيمان به أبو بكر من الرجال فإنه لم يجب عليه أن يدعو عليا إلى الإيمان لأن عليا كان صبيا والقلم عنه مرفوع
ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالإيمان وبلغه الرسالة قبل يأمر أبا بكر ويبلغه ولكنه كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيمكن أنه آمن به لما سمعه يخبر خديجة وإن كان لم يبلغه فإن ظاهر قوله
يا أيها الناس إني أتيت اليكم فقلت إني رسول الله إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت كما في الصحيحين يدل على أن كل من بلغه الرسالة كذبه أولا إلا أبا بكر
ومعلوم أن خديجة وعليا وزيدا كانوا في داره وخديجة لم تكذبه فلم تكن داخله فيمن بلغ
وقوله في حديث عمرو بن عبسة قلت يا رسول الله من معك على هذا الأمر قال
حر وعبد
والذي في صحيح مسلم موافق لهذا أي اتبعه من المبلغين المدعوين ثم ذكر قوله
وواساني بنفسه وماله وهذه خاصة لم يشركه فيها أحد
وقد ذكر هذا النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث المخالة التي هي متواترة عنه كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال
إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر وقال فديناك بآبائنا وأمهاتنا قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن من آمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أنا بكر خليلا ولكن غخوة الإسلام لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر وفي رواية للبخاري لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام
ومودته وفي رواية إلا خلة الاسلام وفيه قد فعجبنا له وقال الناس انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه الله من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده وهو يقول فديناك بآبائنا وأمهاتنا وفي رواية
وبين ما عنده فاختار ما عنده وفيه فقال
لا تبك إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر
وروى البخارى من حديث ابن عباس قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال
إنه ليس أحد من الناس أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذا من الناس خليلالاتخذت أبا بكر خليلا ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر
وفي رواية
لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذته ولكن أخوة الإسلام أفضل
وفي رواية
ولكن أخي وصاحبي
ورواه البخاري عن ابن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسلم
لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذته يعني أبا بكر
ورواه مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا
وفي رواية لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لأتخذت ابن أبي قحافة ولكن صاحبكم خليل الله
وفي أخرى
ألا إني إبرأ كل خل من خله ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا إن صاحبكم خليل الله
فهذه النصوص كلها مما تبين اختصاص أبي بكر من فضائل الصحبة ومناقبها والقيام بها وبحقوقها بما لم يشركه فيه أحد حتى استوجب أن يكون خليله دون الخلق لو كانت المخالة ممكنة
وهذه النصوص صريحة بأنه أحب الخلق إليه وأفضلهم عنده كما صرح بذلك في حديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل قال
فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك قال
عائشة قلت فمن الرجال قال أبوها قلت ثم من قال عمر وعد رجالا وفي رواية للبخاري
قال فسكت مخافة أن يجعلني آخرهم
فصل
ومما يبين من القرآن فضيلة أبو بكر في الغار أن الله تعالى ذكر نصره لرسوله في هذه الحال التي يخذل فيها عامة الخلق إلا من نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار سورة التوبة 40 أي أخرجوه في هذه القلة من العدد لم يصحبه إلا الواحد فإن الواحد أقل ما يوجد فإذا لم يصحبه إلا واحد دل على أنه في غاية القلة
ثم قال إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة 40 وهذا يدل على أن صاحبه كان مشفقا عليه محبا له ناصرا له حيث حزن وإنما يحزن الإنسان حال الخوف على من يحبه وأما عدوه فلا يحزن إذا انعقد سبب هلاكه
فلو كان أبو بكر مبغضا كما يقول المفترون لم يحزن ولم ينه عن الحزن بل كان يضمر الفرح والسرور ولا كان الرسول يقول له لا تحزن إن الله معنا
فإن قال المفتري إنه خفي على الرسول حاله لما أظهر له الحزن وكان في الباطن مبغضا
قيل له فقد قال
إن الله معنا فهذا إخبار بأن الله معهما جميعا بنصره ولا يجوز للرسول أن يخبر بنصر الله لرسوله وللمؤمنين وأن الله معهم ويجعل ذلك في الباطن منافقا فإنه معصوم في خبره عن الله لا يقول عليه إلا الحق وإن جاز أن يخفى عليه حال بعض الناس فلا يعلم أنه منافق كما قال وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سورة التوبة 101 فلا يجوز أن يخبر عنهم بما يدل على إيمانهم
ولهذا لما جاءه المخلفون عام تبوك فجعلوا يحلفون ويعتذرون وكان يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله لا يصدق أحدا منهم فلما جاء كعب وأخبره بحقيقة أمره قال
أما هذا فقد صدق أو قال صدقكم
وأيضا فإن سعد بن أبي وقاص لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم أعطيت فلانا وفلانا وتركت فلانا وهو مؤمن قال أو مسلم مرتين أو ثلاثا فأنكر عليه إخباره بالإيمان ولم يعلم منه إلا ظاهر الإسلام
فكيف يشهد لأبي بكر بأن الله معهما وهو لا يعلم ذلك والكلام بلا علم لا يجوز
وأيضا فإن الله أخبر بهذا عن الرسول إخبار مقرر له لا إخبار منكر له فعلم أن قوله إن الله معنا من الخبر الصدق الذي أمر الله به ورضيه لا مما أنكره وعابه
وأيضا فمعلوم أن أضعف الناس عقلا لا يخفى عليه حال من يصحبه في مثل هذا السفر الذي يعاديه فيه الملأ الذين هم بين أظهرهم ويطلبون قتله وأولياؤه هناك لا يستطيعون نصره فكيف يصحب واحدا ممن يظهر له موالاته دون غيره وقد أظهر له هذا حزنه وهو مع ذلك عدو له في الباطن والمصحوب يعتقد أنه وليه وهذا لا يفعله إلا أحمق الناس وأجهلهم
فقبح الله من نسب رسوله الذي هو أكمل الخلق عقلا وعلما وخبرة إلى مثل هذه الجهالة والغباوة
ولقد بلغني عن ملك المغول خدابنده الذي صنف له هذا الرافضي
كتابه هذا في الإمامة أن الرافضة لما صارت تقول له مثل هذا الكلام إن أبا بكر كان يبغض النبي صلى الله عليه وسلم وكان عدوه ويقولون مع هذا إنه صحبه في سفر الهجرة الذي هو أعظم الأسفار خوفا قال كلمة تلزم عن قولهم الخبيث وقد برأ الله رسوله منها لكن ذكرها على من افترى الكذب الذي أوجب أن يقال في الرسول مثلها حيث قال كان قليل العقل
ولا ريب أن فعل ما قالته الرافضة فهو قليل العقل وقد برأ الله رسوله وصديقه من كذبهم وتبين أن قولهم يستلزم القدح في الرسول
فصل
ومما يبين أن الصحبة فيها خصوص وعموم كالولاية والمحبة والإيمان وغير ذلك من الصفات التي يتفاضل فيها الناس في قدرها ونوعها وصفتها ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه انفرد مسلم بذكر خالد وعبد الرحمن دون البخاري فالنبي
صلى الله عليه وسلم يقول لخالد ونحوه لا تسبوا اصحابي يعني عبد الرحمن بن عوف وأمثاله لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون وهم الذين أسلموا قبل الفتح وقاتلوا وهم أهل بيعة الرضوان فهؤلاء أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان وهم الذين أسلموا بعد الحديبية وبعد مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة ومنهم خالد وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة وأمثالهم
وهؤلاء أسبق من الذين تأخر إسلامهم إلى أن فتحت مكة وسموا الطلقاء مثل سهيل بن عمرو والحارث بن هشام وأبي سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية وأبي سفيان بن الحارث وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم مع أنه قد يكون في هؤلاء من برز بعلمه على بعض من تقدمه كثيرا كالحارث بن هشام وأبي سفيان بن الحارث وسهيل بن عمرو وعلى بعض من أسلم قبلهم ممن أسلم قبل الفتح وقاتل وكما برز عمر بن الخطاب على أكثر الذين أسلموا قبله
والمقصود هنا أنه نهى لمن صحبه آخرا يسب من صحبه أولا لامتيازهم عنهم في الصحبة بما لا يمكن أن يشركهم فيه حتى قال
لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه
فإذا كان هذا حال الذين أسلموا من بعد الفتح وقاتلوا وهم من أصحابه التابعين للسابقين مع من أسلم من قبل الفتح وقاتل وهم أصحابه السابقون فكيف يكون حال من ليس من أصحابه بحال مع أصحابه
وقوله لا تسبوا أصحابي قد ثبت في الصحيحين من غير وجه منها ما تقدم ومنها ما أخرجوه في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه
فصل
وأما قول الرافضي يجوز أن يستصحبه معه لئلا يظهر أمره حذرا منه
والجواب أن هذا باطل من وجوه كثيرة لا يمكن استقصاؤها
أحدها أنه قد علم بدلالة القرآن موالاته له ومحبته لا عداوته فبطل هذا
الثاني أنه قد علم بالتواتر أن أبا بكر كان محبا للنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به من أعظم الخلق اختصاصا به أعظم مما تواتر
من شجاعة عنترة ومن سخاء حاتم ومن موالاة علي ومحبته له ونحو ذلك من التواترات المعنوية فيها الأخبار الكثيرة على مقصود واحد
والشك في محبة أبي بكر كالشك في غير وأشد ومن الرافضة من ينكر كون أبي عمر مدفونين في الحجرة النبوية وبعض غلاتهم ينكر أن يكون هو صاحبه الذي كان معه في الغار وليس هذا من بهتانهم ببعيد فإن القوم قوم بهت يجحدون المعلوم ثبوته بالاضطرار ويدعون ثبوت ما يعلم انتفاؤه بالاضطرار في العقليات والنقليات
ولهذا قال من قال لو قيل من أجهل الناس لقيل الرافضة حتى فرضها بعض الفقهاء مسألة فقهية فيما إذا أوصى لأجهل الناس قال هم الرافضة لكن هذه الوصية باطلة فإن الوصية باطلة فإن الوصية والوقف لا يكونان معصية بل على جهة لا تكون مذمومة في الشرع والوقف والوصية لأجهل الناس فيه جعل الأجهلية والبدعية موجبة للاستحقاق فهو كما لو أوصى لأكفر الناس أو للكفار دون المسلمين بحيث يجعل الكفر شرطا في الاستحقاق فإن هذا لا يصح
وكون أبيبكر كان مواليا للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم من غيره أمر علمه المسلمون والكفار والأبرار والفجار حتى أني أعرف طائفة من الزنادقة كانوا يقولون إن دين الإسلام اتفق عليه في الباطن النبي صلى
الله عليه وسلم وأبو بكر وثالثهما عمر لكن لم يكن عمر مطلعا على سرهما كله كما وقعت دعوة الإسماعيلية الباطنية والقرامطة فكان كل من كان أقرب إلى إمامهم كان أعلم بباطن الدعوة وأكتم لباطنها من غيره
ولهذا جعلوهم مراتب فالزنادقة المنافقون لعلمهم بأن أبا بكر أعظم موالاة واختصاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم من غيره جعلوه ممن يطلع على باطن أمره ويكتمه عن غيره ويعاونه على مقصوده بخلاف غيره
فمن قال إنه كان في الباطن عدوه كان من أعظم أهل الأرض فرية ثم إن قاتل هذا إذا قيل له مثل هذا في علي وقيل له إنه كان في الباطن معاديا للنبي صلى الله عليه وسلم وإنه كان عاجزا في ولاية الخلفاء الثلاثة عن إفساد ملته فلما ذهب أكابر الصحابة وبقي هو طلب حينئذ إفساد ملته وإهلاك أمته ولهذا قتل من المسلمين خلقا كثيرا وكان مراده إهلاك الباقين لكن عجز وإنه بسبب ذلك انتسب إليه الزنادقة المنافقون المبغضون للرسول كالقرامطة والإسماعيلية والنصيرية فلا تجد عدوا للإسلام إلا وهو يستعين على ذلك بإظهار موالاة على استعانة لا تمكنه بإظهار موالاة أبي بكر وعمر
فالشبهة في دعوى موالاة علي للرسول أعظم من الشبهة في دعوى معاداة أبي بكر وكلاهما باطل معلوم الفساد بالاضطرار لكن الحجج الدالة على بطلان هذه الدعوى في أبي بكر أعظم من الحجج الدالة على بطلانها في حق علي فإذا كانت الحجة على موالاة علي صحيحة والحجة على معاداته باطلة فالحجة على موالاة أبي بكر أولى بالصحة والحجة على معاداته أولى بالبطلان
الوجه الثالث أن قوله استصحبه حذرا من أن يظهر أمره
كلام من هو من أجهل الناس بما وقع فأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم في خروجه من مكة ظاهر عرفه أهل مكة وأرسلوا الطلب فإنه في الليلة التي خرج فيها عرفوا في صبيحتها أنه خرج وانتشر ذلك وأرسلوا إلى أهل الطرق يبذلون الدية فيه وفي أبي بكر بذلوا الدية لمن يأتى بأبي بكر فأي شيء كان يخاف وكون المشركين بذلوا الدية لمن يأتى بأبي بكر دليل على أنهم كانوا يعلمون موالاته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه كان عدوهم في الباطن ولو كان معهم في الباطن لم يفعلوا ذلك
الرابع أنه إذا كان خرج ليلا كان وقت الخروج لم يعلم به أحد فما يصنع بأبي بكر واستصحابه معه
فإن قيل فلعله علم خروجه دون غيره
قيل أولا قد كان يمكنه أن يخرج في وقت لا يشعر به كما خرج
في وقت لم يشعر به المشركون وكان يمكنه أن لا يعينه
فكيف وقد ثبت في الصحيحين أن أبا بكر استأذنه في الهجرة فلم يأذن له حتى هاجر معه والنبي صلى الله عليه وسلم أعلمه بالهجرة في خلوة
ففي الصحيحين عن البراء بن عازب قال جاء أبو بكر إلى أبي في منزله فاشترى منه رحلا فقال لعازب أبعث ابنك معي يحمله إلى منزلي فحملته وخرج أبي معه ينتقد ثمنه فقال أبي يا أبا بكر حدثني كيف صنعتما ليلة سريت مع النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم سرينا ليلتنا كلها ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يمر بنا فيه أحد حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها ثم بسطت عليه فروة ثم قلت نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك فنام رسول الله
صلى الله عليه وسلم في ظلها وخرجت أنفض ما حوله فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا فلقيته فقلت لمن أنت يا غلام فقال لرجل من أهل المدينة يريد مكة لرجل من قريش سماه فعرفته فقلت له أفي غنمك لبن فقال نعم قلت أفتحلب لي قال نعم فأخذ شاة فقلت له انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن قال ومعي إداوة أرتوى فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منها ويتوضأ قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكرهت أن أوقظه من نومه فوافيته قد استيقظ فصببت على اللبن الماء حتى برد أسفله فقلت يا رسول الله اشرب من هذا اللبن فشرب حتى رضيت ثم قال
ألم يأن للرحيل قلت بلى فارتحلنا بعد ما زالت الشمس واتبعنا سراقة بن مالك قال ونحن في جلد من الأرض فقلت
يا رسول الله أتينا فقال لا تحزن إن الله معنا فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتطمت فرسه إلى بطنها فقال إني قد علمت أنكما دعوتما علي فادعوا لله لي فالله لكما أن أرد عنكما اطلب فدعا الله فنجا فرجع لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتم ماهنا ولا يلقى أحدا إلا رده وقال خذ سهما من كنانتي فإنك قمر بإبلي وغلماني فخذ منها حاجتك فقال
لا حاجة لي في أبلك قال فقدمنا المدينة فتنازعوا أيهم ينزل عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك فصعد الرجال والنساء فوق البيوت وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون يا محمد يا رسول الله يا محمد يا رسول الله
وروى البخاري عن عائشة قالت لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا
إلى الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال أين تريد يا أبا بكر قال أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي قال ابن الدغنة إن مثلك لا يخرج ولا يخرج فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق وأنا لك جار فاعبد ربك ببلدك فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجل يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف
ويعين على نوائب الحق فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بالصلاة والقراءة في غير داره ثم بدا لأبي بكر فأبتني بفناء داره مسجدا وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فتنقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا إنا كنا قد أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن بالصلاة والقراءة وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإلا فإن أبي إلا أن يعلن ذلك فسله
أن يرد إليك جوارك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان قالت عائشة فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال قد علمت الذي عقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له قال أبو بكر إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله ورسول الله يومئذ بمكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان فهاجر من هاجر إلى المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم
على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي قال نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر وهو
لخبط أربعة أشهر قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر فداه أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر
أخرج من عندك فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله قال
فإني قد أذن لي في الخروج قال أبو بكر الصحابة يا رسول الله قال نعم قال أبو بكر فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن قالت عائشة
فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين قالت ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر هو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت ولا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما
حين تذهب ساعة من الليل فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا والخريت الماهر بالهداية قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث فانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل وأخذ بهما طريق الساحل قال ابن شهاب فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة ابن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم يقول جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم فقلت له إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقا بأعيننا ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها علي وأخذت رمحي ثم خرجت به من ظهر البيت فحططت بزحة الأرض وخفضت عالية حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم
أرده فآخذ المائة ناقة أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
الوجه الخامس أنه لما كان في الغار كان يأتيه بالأخبار عبد الله بن أبي بكر وكان معهما عامر بن فهيرة كما تقدم ذلك فكان يمكنه أن
يعلمهم بخبره
السادس أنه إذا كان كذلك والعدو قد جاء إلى الغار ومشوا فوقه كان يمكنه حينئذ أن يخرج من الغار وينذر العدو به وهو وحده ليس معه أحد يحميه منه ومن العدو فمن يكون مبغضا لشخص طالبا لإهلاكه ينتهز الفرصة في مثل هذه الحال التي لا يظفر فيها عدو بعدوه إلا أخذه فإنه وحده في الغار والعدو قد صاروا عند الغار وليس لمن في الغار هناك من يدفع عنه وأولئك هم العدو الظاهرون الغالبون المتسلطون بمكة ليس بمكة من يخافونه إذا أخذوه فإن كان أبو بكر معهم مباطنا لهم كان الداعي إلى أخذه تاما والقدرة تامة وإذا اجتمع القدرة التامة والداعي التام وجب وجود الفعل فحيث لم يوجد دل على انتفاء الداعي أو انتفاء القدرة والقدرة موجودة فعلم انتفاء الداعي وأن أبا بكر لم يكن له غرض في أذاه كما يعلم ذلك جميع الناس إلا من أعمى الله قلبه
ومن هؤلاء المفترين من يقول إن أبا بكر كان يشير بإصبعه إلى العدو يدلهم على النبي صلى الله عليه وسلم فلدغته حيه فردها حتى كفت عنه الألم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له إن نكثت نكث يدك وإنه نكث بعد ذلك فمات منها وهذا يظهر كذبه من وجوده نبهنا على بعضها
ومنهم من قال أظهر كعبه ليشعروا به فلدغته الحية وهذا من نمط الذي قبله
فصل
وأما قول الرافضي الآية تدل على نقصه لقوله تعالى لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة 40 فإنه يدل على خوره وقله صبره وعدم يقينه وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره
فالجواب أولا أن هذا يناقض قولكم إنه استصحبه حذرا منه لئلا يظهر أمره فإنه إذا كان عدوه وكان مباطنا لعداه الذين يطلبونه كان ينبغي أن يفرح ويسر ويطمئن إذا جاء العدو وأيضا فالعدو قد جاءوا ومشوا فوق الغار فكان ينبغي أن ينذرهم به
وأيضا فكان الذي يأتيه بأخبار قريش ابنه عبد الله فكان يمكنه أن يأمر ابنه أن يخبر بهم قريشا
وأيضا فغلامه عامر بن فهيرة هو الذي كان معه رواحلهما فكان يمكنه أن يقول لغلامه أخبرهم به
فكلامهم في هذا يبطل قولهم إنه كان منافقا ويثبت أنه كان مؤمنا به
واعلم أنه ليس في المهاجرين منافق وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار لأن أحدا لم يهاجر إلا باختياره والكافر بمكة لم يكن يختار
الهجرة ومفارقة وطنه وأهله لنصر عدوه وإنما يختارها الذين وصفهم الله تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون سورة الحشر 8
وقوله أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله سورة الحج 39 40
وأبو بكر أفضل هؤلاء كلهم
وإذا كان هذا الكلام يستلزم إيمانه فمعلوم أن الرسول لا يختار لمصاحبته في سفر هجرته الذي هو أعظم الأسفار خوفا وهو السفر الذي جعل مبدأ التاريخ لجلالة قدره في النفوس ولظهور أمره فإن التاريخ لا يكون إلا بأمر ظاهر معلوم لعامة الناس لا يستصحب الرسول فيه من يختص بصحبته إلا وهو من أعظم الناس طمأنينة إليه ووثوقا به
ويكفي هذا في فضائل الصديق وتمييزه على غيره وهذا من فضائل الصديق التي لم يشركه فيها غيره ومما يدل على أنه أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده
فصل
وأما قوله إنه يدل على نقصه
فنقول أولا النقص نوعان نقص ينافي إيمانه ونقص عمن هو أكمل منه
فإن أراد الأول فهو باطل فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون سورة النحل 127
وقال للمؤمنين عامة ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون سورة آل عمران 139
وقال ولقد أتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لاتمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم سورة الحجر 87 88 فقد نهى نبيه عن الحزن في غير موضع ونهى المؤمنين جملة فعلم أن ذلك لا ينافي الإيمان
وإن أراد بذلك أنه ناقص عمن هو أكمل منه فلا ريب أن حال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من حال أبي بكر وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل السنة ولكن ليس في هذا ما يدل على أن عليا أو عثمان أو عمر أو غيرهم أفضل منه لأنهم لم يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في
هذه الحال ولو كانوا معه لم يعلم أن حالهم يكون أكمل من حال الصديق بل المعروف من حالهم دائما وحاله أنهم وقت المخاوف يكون الصديق أكمل منهم كلهم يقينا وصبرا وعند وجود أسباب الريب يكون الصديق أعظم يقينا وطمأنينة وعند ما يتأذى منه النبي صلى الله عليه وسلم يكون الصديق أتبعهم لمرضاته وأبعدهم عما يؤذيه
هذا هو المعلوم لكل من استقرأ أحوالهم في محيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته حتى أنه لما مات وموته كان أعظم المصائب التي تزلزل بها الإيمان حتى ارتد أكثر الأعراب واضطرب لها عمر الذي كان أقواهم إيمانا وأعظمهم يقينا كان مع هذا تثبيت الله تعالى للصديق بالقول الثابت أكمل وأتم من غيره وكان في يقينه وطمأنينته وعلمه وغير ذلك أكمل من عمر وغيره فقال الصديق رضي الله عنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت
ثم قرأ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفأن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا الآية سورة آل عمران 144
وفي البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح فقام عمر يقول والله ما مات رسول الله قالت وقال عمر والله ما كان يقع في نفسي إلا ذلك وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فجاء أبو بكر فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله وقال بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا
ثم خرج فقال أيها الحالف على رسلك فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال إنك ميت وإنهم ميتون سورة الزمر 30 وقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين سورة آل عمران 144 قال فنشج الناس يبكون
وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سمع خطبة عمر الأخيرة حين جلس على المنبر وذلك وذلك الغد من يوم توفى رسول الله عليه وسلم فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم قال كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا يريد بذلك أن يكون آخرهم فإن بك محمد قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا
تهتدون به وبه هدى الله محمدا وإن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ثاني اثنين وإنه أولى المسلمين بأمورهم فقوموا فبايعوه وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة وكانت بيعة العامة على المنبر
وفي طريق آخر في البخاري أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم وهذا الذي هدى به رسوله فخذوا به تهتدوا وإنما هدى الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ذكره البخاري في كتاب الاعتصام بالسنة
وروى البخاري أيضا عن عائشة في هذه القصة قالت ما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها لقد خوف عمر الناس وإن فيهم لنفاقا فردهم الله بذلك ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى وعرفهم الحق الذي عليهم
وأيضا فقصة يوم بدر في العريش ويوم الحديبية في طمأنينته وسكينته معروفة برز بذلك على سائر الصحابة فكيف ينسب إلى
الجزع
وأيضا فقيامه بقتال المرتدين ومانعي الزكاة وتثبيت المؤمنين مع تجهيز أسامة مما يبين أنه أعظم الناس طمأنينة ويقينا وقد روى أنه قيل له قد نزل بك ما لو نزل بالجبال لهاضها وبالبحار لغاضها وما نراك ضعفت فقال ما دخل قلبي رعب بعد ليلة الغار فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حزني أو كما قال لا عليك يا أبا بكر فإن الله قد تكفل لهذا الأمر بالتمام
ثم يقال من شبه يقين أبي بكر وصبره بغيره من الصحابة عمر أو عثمان أو علي فإنه يدل على جهله والسنى لا ينازع في فضله على عمر وعثمان ولكن الرافضي الذي أدعى أن عليا كان أكمل من الثلاثة في هذه الصفات دعواه بهت وكذب وفرية فإن من تدبر سيرة عمر وعثمان علم أنهما كانا في الصبر والثبات وقلة الجزع في المصائب أكمل من علي فعثمان حاصروه وطلبوا خلعه من الخلافة أو قتله ولم يزالوا به حتى قتلوه وهو يمنع الناس من مقاتلتهم إلى أن قتل شهيدا وما دافع عن نفسه فهل هذا إلا من أعظم الصبر على المصائب
ومعلوم أن عليا لم يكن صبره كصبر عثمان بل كان يحصل له من إظهار التأذي من عسكره الذين يقاتلون معه ومن العسكر الذين
يقاتلهم ما لم يكن يظهر مثله لا من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان مع كون الذين يقاتلونهم كانوا كفارا وكان الذين معهم بالنسبة إلى عدوهم أقل من الذين مع علي بالنسبة إلى من يقاتله فإن الكفار الذين قاتلهم أبو بكر وعمر وعثمان كانوا أضعاف المسلمين ولم يكن جيش معاوية أكثر من جيش علي بل كانوا أقل منه
ومعلوم أن خوف الإمام من استيلاء الكفار على المسلمين أعظم من خوفه من استيلاء بعض المسلمين على بعض فكان ما يخافه الأئمة الثلاثة أعظم مما يخافه علي والمقتضي للخوف منهم أعظم ومع هذا فكانوا أكمل يقينا وصبرا مع أعدائهم ومحاربيهم من علي مع أعدائه ومحاربيه فكيف يقال إن يقين علي وصبره كان أعظم من يقين أبي بكر وصبره وهل هذا إلا من نوع السفسطة والمكابرة لما علم بالتواتر خلافة
فصل
قول الرافضي إن الآية تدل على خوره وقلة صبره وعدم يقينه بالله وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره
فهذا كله كذب منه ظاهر ليس في الأية ما يدل على هذا وذلك من وجهين
أحدهما أن النهي عن الشيء لا يدل على وقوعه بل يدل على أنه ممنوع منه لئلا يقع فيما بعد كقوله تعالى يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين سورة الاحزاب 1 فهذا لا يدل على أنه كان يطيعهم
وكذلك قوله ولا تدع مع الله إلها آخر سورة القصص 88 أو لا تجعل مع الله إلها آخر سورة الإسراء 22 فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مشركا قط لا سيما بعد النبوة فالأمة متفقة على أنه معصوم من الشرك بعد النبوة وقد نهى عن ذلك بعد النبوة ونظائره كثيرة فقوله لا تحزن لا يدل على أن الصديق كان قد حزن لكن من الممكن في العقل أنه يحزن فقد ينهى عن ذلك لئلا يفعله
الثاني أنه بتقدير أن يكون حزن على النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يقتل فيذهب الإسلام وكان يود أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة ووراءه تارة فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون وراءك رواه أحمد
في كتاب مناقب الصحابة فقال حدثنا وكيع عن نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة قال لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم خرج معه أبو بكر فأخذ طريق ثور قال فجعل أبو بكر يمشي خلفه ويمشي أمامه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مالك قال يا رسول الله أخاف أن تؤتى من خلفك فأتأخر وأخاف أن تؤتى من أمامك فأتقدم قال فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر يا رسول الله كما أنت حتى أقمه قال نافع حدثني رجل عن ابن أبي مليكة أن أبا بكر رأى جحرا في الغار فألقمها قدمه وقال يا رسول الله إن كانت لسعة أو لدغة كانت بي
وحينئذ لم يكن يرضى بمساواة النبي صلى الله عليه وسلم لا بالمعنى الذي أراده الكاذب المفترى عليه أنه لم يرض بأن يموتا جميعا بل كان لا يرضى بأن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش هو بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله
وهذا واجب على كل مؤمن والصديق أقوم المؤمنين بذلك قال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم سورة الأحزاب 6 وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من ولده ووالده والناس أجمعين
وحزنه على النبي صلى الله عليه وسلم يدل على كمال موالاته ومحبته ونصحه له واحتراسه عليه وذبه عنه ودفع الأذى عنه وهذا من أعظم الإيمان وإن كان مع ذلك يحصل له بالحزن نوع ضعف فهذا يدل على أن الأتصاف بهذه الصفات مع عدم الحزن هو المأمور به فإن مجرد الحزن لا فائدة فيه ولا يدل ذلك على أن هذا ذنب يذم به فإن من المعلوم أن الحزن على الرسول اعظم من حزن الإنسان على ابنه فإن محبة الرسول أوجب من محبة الإنسان على ابنه فإن محبة الرسول أوجب من محبة الإنسان لابنه
ومع هذا فقد أخبر الله عن يعقوب أنه حزن على ابنه يوسف وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله الآية سورة يوسف 84 86 فهذا إسرائيل نبي كريم قد حزن على ابنه هذا الحزن على النبي صلى الله عليه وسلم خوفا أن يقتل وهو الذي علقت به سعادة الدنيا والآخرة
ثم إن هؤلاء الشيعة وغيرهم يحكون عن فاطمة من حزنها على النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يوصف وأنها بنت بيت الأحزان ولا يجعلون ذلك ذما لها مع أنه حزن على أمر فائت لا يعود وأبو بكر إنما حزن عليه في حياته خوف أن يقتل وهو حزن يتضمن الاحتراس ولهذا لما مات لم يحزن هذا الحزن لأنه لا فائدة فيه فحزن أبي بكر بلا ريب
أكمل من حزن فاطمة فإن كان مذموما على حزنه ففاطمة أولى بذلك وإلا فأبو بكر أحق بأن لا يذم على حزنه على النبي صلى الله عليه وسلم من حزن غيره عليه بعد موته
وإن قيل أبو بكر إنما حزن على نفسه لا يقتله الكفار
قيل فهذا يناقض قولكم إنه كان عدوه وكان استصحبه لئلا يظهر أمره
وقيل هذا باطل بما علم بالتواتر من حال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم وبما أوجبه الله على المؤمنين
ثم يقال هب أن حزنه كان عليه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أفيستحق أن يشتم على ذلك ولو قدر أنه حزن خوفا أن يقتله عدوه لم يكن هذا مما يستحق به هذا السب
ثم إن قدر أن ذلك ذنب فلم يصبر عنه بل لما نهاه عنه انتهى فقد نهى الله تعالى الأنبياء عن أمور كثيرة انتهوا عنها ولم يكونوا مذمومين بما فعلوه قبل النهي
وأيضا فهؤلاء ينقلون عن علي وفاطمة من الجزع والحزن على فوت مال فدك وغيرها من الميراث ما يقتضي أن صاحبه إنما يحزن على فوت الدنيا وقد قال تعالى لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم سورة الحديد 23 فقد دعا الناس إلى أن لا يأسوا على ما فاتهم من الدنيا ومعلوم أن الحزن على الدنيا أولى بأن ينهى عنه من الحزن على الدين
وإن قدر أنه حزن على الدنيا فحزن الإنسان على نفسه خوفا أن يقتل أولى أن يعذر به من حزنه على مال لم يحصل له
وهؤلاء الرافضة من أجهل الناس يذكرون فيمن يوالونه من أخبار المدح وفيمن يعادونه من أخبار الذم ما هو بالعكس أولى فلا تجدهم يذمون أبا بكر وأمثاله بأمر إلا ولو كان ذلك الأمر ذما لكان علي أولى بذلك ولا يمدحون عليا بمدح يستحق أن يكون مدحا إلا وأبو بكر أولى بذلك فإنه أكمل في الممادح كلها وأبرأ من المذام كلها حقيقيها وخياليها
فصل
وأما قوله إنه يدل على قلة صبره
فباطل بل ولا يدل على انعدام شي من الصبر المأمور به فإن الصبر على المصائب واجب بالكتاب والسنة ومع هذا فحزن القلب لا ينافي ذلك
كما قال صلى الله عليه وسلم
إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب ولكن يؤاخذ على هذا يعني اللسان أو
يرحم
وقوله إنه يدل على عدم يقينه بالله
كذب وبهت فإن الأنبياء قد حزنوا ولم يكن ذلك دليلا على عدم يقينهم بالله كما ذكر الله عن يعقوب وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم قال
تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون
وقد نهى الله عن الحزن نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله ولا تحزن عليهم سورة النحل 127
وكلك قوله يدل على الخور وعدم الرضا بقضاء الله وقدره هو باطل كما تقدم نظائره
فصل
وقوله وإن كان الحزن طاعة استحال نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه وإن كان معصية كان ما ادعوه فضيلة رذيلة
والجواب أولا أنه لم يدع أحد أن مجرد الحزن كان هو الفضيلة بل الفضيلة ما دل عليه قوله تعالى إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا الآية سورة التوبة 40
فالفضيلة كونه هو الذي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال واختص بصحبته وكان له كمال الصحبة مطلقا وقول النبي صلى الله عليه وسلم له إن الله معنا وما يتضمنه ذلك من كمال موافقته للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وطمأنينته وكمال معونته للنبي صلى الله عليه وسلم وموالاته ففي هذه الحال من كمال إيمانه وتقواه ما هو الفضيلة
وكمال محبته ونصره للنبي صلى الله عليه وسلم هو الموجب لحزنه إن كان حزن مع أن القرآن لم يدل على أنه حزن كما تقدم
ويقال ثانيا هذا بعينه موجود في قوله تعالى لنبيه ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون سورة النحل 127 وقوله لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم سورة الحجر 88 ونحو ذلك بل في قوله تعالى لموسى خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى سورة طه 21
فيقال إن كان الخوف طاعة فقد نهى عنه وإن كان معصية فقد عصى
ويقال إنه أمر أن يطمئن ويثبت لأن الخوف يحصل بغير اختيار العبد إذا لم يكن له ما يوجب الأمن فإذا حصل ما يوجب الأمن زال الخوف
فقول لموسى ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى سورة طه 21 هو أمر مقرون بخبره بما يزيل الخوف
وكذلك قوله فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى سورة طه 67 68 هو نهي عن الخوف مقرون بما يوجب زواله
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لصديقه
لا تحزن إن الله معنا نهى عن الحزن مقرون بما يوجب زواله وهو قوله
إن الله معنا وإذا حصل الخبر بما يوجب زوال الحزن والخوف زال وإلا فهو تهجم على الإنسان بغير اختياره
وهكذا قول صاحب مدين لموسى لما قص عليه القصص لا تخف نجوت من القوم الظالمين سورة القصص 25 وكذلك قوله ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين سورة آل عمران 139 قرن النهى عن ذلك بما يزيله من إخباره أنهم هم الأعلون إن كانوا مؤمنين وكذلك قوله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون سورة
النحل 127 مقرون بقوله إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون سورة النحل 128 وإخبارهم بأن الله معهم يوجب زوال الضيق من مكر عدوهم
وقد قال لما أنزل الله الملائكة يوم بدر وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم سورة آل عمران 126
ويقال ثالثا ليس في نهيه عن الحزن ما يدل على وجوده كما تقدم بل قد ينهى عنه لئلا يوجد إذا وجد مقتضيه وحينئذ فلا يضرنا كونه معصية لو وجد قالنهي قد يكون نهي تسلية وتعزية وتثبيت وإن لم يكن المنهي عنه معصية بل قد يكون مما يحصل بغير اختيار المنهى وقد يكون الحزن من هذا الباب
ولذلك قد ينهى الرجل عن إفراطه في الحب وإن كان الحب مما لا يملك وينهى عن الغشى والصعق والاختلاج وإن كان هذا يحصل بغير اختياره والنهي عن ذلك ليس لأن المنهى عنه معصية إذا حصل بغير اختياره ولم يكن سببه محظورا
فإن قيل فيكون قد نهي عما لا يمكن تركه
قيل المراد بذلك أنه مأمور بأن يأتي بالضد المنافي للحزن وهو قادر على اكتسابه فإن الإنسان قد يسترسل في أسباب الحزن والخوف وسقوط بدنه فإذا سعى في اكتساب ما يقويه ثبت قلبه وبدونه وعلى
هذا فيكون النهي عن هذا أمرا بما يزيله وإن لم يكن معصية كما يؤمر الإنسان بدفع عدوه عنه وبإزالة النجاسة ونحو ذلك مما يؤذيه وإن لم يكن حصل بذنب منه
والحزن يؤذي القلب فأمر بما يزيله كما يؤمر بما يزيل النجاسة والحزن إنما حصل بطاعة وهو محبة الرسول ونصحه وليس هو بمعصية يذم عليه وإنما حصل بسبب الطاعة لضعف القلب الذي لا يذم المرء عليه وأمر باكتساب قوة تدفعه عنه ليثاب على ذلك
ويقال رابعا لو قدر أن الحزن كان معصية فهو فعله قبل أن ينهى عنه فلما نهي عنه لم يفعله وما فعل قبل التحريم فلا إثم فيه كما كانوا قبل تحريم الخمر يشربونها ويقامرون فلما نهوا عنها انتهوا ثم تابوا كما تقدم
قال أبو محمد بن حزم وأما حزن أبي بكر رضي الله عنه فإنه قبل أن ينهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كان غاية الرضا لله فإنه كان إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك كان الله معه والله لا يكون قط مع العصاه بل عليهم وما حزن أبو بكر قط بعد أن
نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن ولو كان لهؤلاء الأرذال حياء أو علم لم يأتوا بمثل هذا إذ لو كان حزن أبي بكر عيبا عليه لكان ذلك على محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام عيبا لأن الله تعالى قال لموسى سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون سورة القصص 35 ثم قال عن السحرة لما قالوا إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى إلى قوله فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى سورة طه 67 68 فهذا موسى رسول الله وكليمه كان قد أخبره الله تعالى بأن فرعون وملأه لا يصلون إليهما وأنه هو الغالب ثم أوجس في نفسه خيفة بعد ذلك فإيجاس موسى لم يكن إلا لنسيانه الوعد المتقدم وحزن أبي بكر كان قبل أن ينهى عنه وأما
محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله قال ومن كفر فلا يحزنك كفره سورة لقمان 23 وقال تعالى ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون سورة النحل 127 وقال فلا يحزنك قولهم سورة يس 76 فلا تذهب نفسك عليهم حسرات سورة فاطر ووجدناه تعالى قد قال قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون سورة الأنعام 33 فقد أخبرنا أنه يعلم أن رسوله يحزنه الذي يقولون ونهاه عن ذلك فيلزمهم في حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي أوردوا في حزن أبي بكر سواء ونعم إن حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كانوا يقولون من الكفر كان طاعة لله قبل أن ينهاه الله كما كان حزن أبي بكر طاعه لله قبل أن ينهاه عنه وما حزن أبو بكر
بعد ما نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن فكيف وقد يمكن أن أبا بكر لم يكن حزن يومئذ لكن نهاه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون منه حزن كما قال تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا سورة الإنسان 24
فصل
قال شيخ الإسلام المصنف رحمه الله تعالى ورضي الله عنه وقد زعم بعض الرافضة أن قوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة 40 لا يدل على إيمان أبي بكر فإن الصحبة قد تكون من المؤمن والكافر
كما قال تعالى واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا سورة الكهف 32 35 إلى قوله قال له صاحبه وهو
يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة سورة الكهف 37 الآية
فيقال معلوم أن لفظ الصاحب في اللغة يتناول من صحب غيره ليس فيه دلالة بمجرد هذا اللفظ على أنه وليه أو عدوه أو مؤمن أو كافر إلا لما يقترن به
وقد قال تعالى والصاحب بالجنب وابن السبيل سورة النساء 36 وهو يتناول الرفيق في السفر والزوجة وليس فيه دلالة على إيمان أو كفر
وكذلك قوله تعالى والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى سورة النجم 1 2 وقوله وما صاحبكم بمجنون سورة التكوير 22 المراد به محمد صلى الله عليه وسلم لكونه صحب البشر فإنه إذا كان قد صحبهم كان بينه وبينهم من المشاركة ما يمكنهم أن ينقلوا عنه ما جاءه من الوحي وما يسمعون به كلامه ويفقهون معانيه بخلاف الملك الذي لم يصحبهم فإنه لا يمكنهم الأخذ عنه
وأيضا قد تضمن ذلك أنه بشر من جنسهم وأخص من ذلك أنه عربي بلسانهم كما قال تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه سورة التوبة 128 وقال وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه سورة إبراهيم 4 فإنه إذا كان قد صحبهم كان قد تعلم لسانهم وأمكنه
أن يخاطبهم بلسانهم فيرسل رسولا بلسانهم ليتفقهوا عنه فكان ذكر صحبته لهم هنا على اللطف بهم والإحسان إليهم
وهذا بخلاف إضافة الصحبة إليه كقوله تعالى لا تحزن إن الله معنا وقول النبي صلى الله عليه وسلم
لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقوله
هل أنتم تاركي لي صاحبي وأمثال ذلك
فإن إضافة الصحبة إليه في خطابه وخطاب المسلمين تتضمن صحبة موالاة له وذلك لا يكون إلا بالإيمان به فلا يطلق لفظ صاحبه على من صحبه في سفره وهو كافر به
والقرآن يقول فيه إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة 40 فأخبر الرسول أن الله معه ومع صاحبه وهذا المعية تتضمن النصر والتأييد وهو إنما ينصره على عدوه وكل كافر عدوه فيمتنع أن يكون الله مؤيدا له ولعدوه معا ولو كان مع عدوه لكان ذلك مما يوجب الحزن ويزيل السكينة فعلم أن لفظ صاحبه تضمن صحبة ولاية ومحبة وتستلزم الإيمان له وبه
وأيضا فقوله لا تحزن دليل على أنه وليه وإنه حزن خوفا من عدوهما فقال له لا تحزن إن الله معنا ولو كان عدوه لكان لم يحزن إلا حيث يتمكن من قهره فلا يقال له لا تحزن إن الله معنا لأن كون الله مع نبيه مما يسر النبي وكونه مع عدوه مما يسوءه فيمتنع أن يجمع بينهما لا سيما مع قوله لا تحزن ثم قوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار سورة التوبة 40
ونصره لا يكون بأن يقترن به عدوه وحده وإنما يكون باقتران وليه ونجاته من عدوه فكيف لا ينصر على الذين كفروا من يكونون قد لزموه ولم يفارقوه ليلا ولا نهارا وهم معه في سفره
وقوله ثاني اثنين حال من الضمير في أخرجه أي أخرجوه في حال كونه نبيا ثاني اثنين فهو موصوف بأنه أحد الاثنين فيكون الاثنان مخرجين جميعا فإنه يمتنع أن يخرج ثاني اثنين إلا مع الآخر فإنه لو أخرج دونه لم يكن قد أخرج ثاني اثنين فدل على أن الكفار أخرجوه ثاني اثنين فأخرجوه مصاحبا لقرينه في حال كونه معه فلزم أن يكونوا أخرجوهما
وذلك هو الواقع فإن الكفار أخرجوا المهاجرين كلهم كما قال تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون
فضلا من الله ورضوانا سورة الحشر 8
وقال تعالى أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله سورة الحج 39 40
وقال إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم سورة الممتحنة 9
وذلك أنهم منعوهم أن يقيموا بمكة مع الإيمان وهم لا يمكنهم ترك الإيمان فقد أخرجوهم إذا كانوا مؤمنين وهذا يدل على أن الكفار أخرجوا صاحبه كما أخرجوه والكفار إنما أخرجوا أعداءهم لا من كان كافرا منهم
فهذا يدل على أن صحبته صحبة موالاة وموافقة على الإيمان لا صحبة مع الكفر
وإذا قيل هذا يدل على أنه كان مظهرا للموافقة وقد كان يظهر الموافقة له من كان في الباطن منافقا وقد يدخلون في لفظ الأصحاب في مثل قوله لما استؤذن في قتل بعض المنافقين قال
لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه فدل على أن هذا اللفظ قد كان الناس يدخلون فيه من هو منافق
قيل قد ذكرنا فيما تقدم أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق وينبغي أن يعرف أن المنافقين كانوا قليلين بالنسبة إلى المؤمنين وأكثرهم انكشف حاله لما نزل فيهم القرآن وغير ذلك وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف كلا منهم بعينه فالذين باشروا ذلك كانوا يعرفونه
والعلم يكون الرجل مؤمنا في الباطن أو يهوديا أو نصرانيا أو مشركا أمر لا يخفى مع طول المباشرة فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه
وقال تعالى ولو نشا لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم سورة محمد 30 وقال ولتعرفنهم في لحن القول سورة محمد 30 فالضمر للكفر لا بد أن يعرف في لحن القول وأما بالسيما فقد يعرف وقد لا يعرف
وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنونهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار سورة الممتحنة 10
والصحابة المذكورون في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والذين يعظمهم المسلمون على الدين كلهم كانوا مؤمنين به ولم يعظم المسلمون ولله الحمد على الدين منافقا
والإيمان يعلم من الرجل كما يعلم سائر أحوال قلبه من موالاته ومعاداته وفرحه وغضبه وجوعه وعطشه وغير ذلك فإن هذه الأمور لها لوازم ظاهرة والأمور الظاهرة تستلزم أمورا باطنة وهذا أمر يعرفه
الناس فيمن جربوه وامتحنوه
ونحن نعلم بالاضطرار أن ابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبا سعيد الخدري وجابر أو نحوهم كانوا مؤمنين بالرسول محبين له معظمين له ليسوا منافقين فكيف لا يعلم ذلك في مثل الخلفاء الراشدين الذين أخبارهم وإيمانهم ومحبتهم ونصرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد طبقت البلاد مشارقها ومغاربها
فهذا مما ينبغي أن يعرف ولا يجعل وجود قوم منافقين موجبا للشك في إيمان هؤلاء الذين لهم في الأمة لسان صدق بل نحن نعلم بالضرورة إيمان سعيد بن المسيب والحسن وعلقمة والأسود ومالك والشافعي وأحمد والفضيل والجنيد ومن هو دون هؤلاء فكيف لا يعلم إيمان الصحابة ونحن نعلم إيمان كثير ممن باشرناه من الأصحاب
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن العلم بصدق الصادق في أخباره إذا كان دعوى نبوة أو غير ذلك وكذب الكاذب مما يعلم بالاضطرار في مواضع كثيرة بأسباب كثيرة
وإظهار الإسلام من هذا الباب فإن الإنسان إما صادق وإما كاذب
فهذا يقال أولا ويقال ثانيا وهو ما ذكره أحمد وغيره ولا أعلم بين العلماء فيه نزاعا أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق أصلا وذلك
لأن المهاجرين إنما هاجروا باختيارهم لما آذاهم الكفار على الإيمان وهم بمكة لم يكن يؤمن أحدهم إلا باختياره بل مع احتمال الأذى فلم يكن أحد يحتاج أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر لا سيما إذا هاجر إلى دار يكون فيها سلطان الرسول عليه ولكن لما ظهر الإسلام في قبائل الأنصار صار بعض من لم يؤمن بقلبه يحتاج إلى أن يظهر موافقة قومه لأن المؤمنين صار لهم سلطان وعز ومنعة وصار معهم السيف يقتلون من كفر
ويقال ثالثا عامة عقلاء بني آدم إذا عاشر أحدهم الآخر مدة يتبين له صداقته من عداوته فالرسول يصحب أبا بكر بمكة بضع عشرة سنة ولا يتبين له هل هو صديقه أو عدوه وهو يجتمع معه في دار الخوف وهل هذا إلا قدح في الرسول
ثم يقال جميع الناس كانوا يعرفون أنه أعظم أوليائه من حين المبعث إلى الموت فإنه أول من آمن به من الرجال الأحرار ودعا غيره إلى الإيمان به حتى آمنوا وبذل أمواله في تخليص من كان آمن به من المستضعفين مثل بلال وغيره وكان يخرج معه إلى الموسم فيدعو القبائل إلى الإيمان به ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم إلى بيته إما غدوة وإما عشية وقد آذاه الكفار على إيمانه حتى خرج من مكة فلقيه ابن الدغنة أمير من أمراء العرب سيد القارة وقال إلى
أين وقد تقدم حديثه فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل أن مثل هذا لا يفعله إلا من هو في غاية الموالاة والمحبة للرسول ولما جاء به وأن موالاته ومحبته بلغت به إلى أن يعادي قومه ويصبر على أذاهم وينفق أمواله على من يحتاج إليه من إخوانه المؤمنين
وكثير من الناس يكون مواليا لغيره لكن لا يدخل معه في المحن والشدائد ومعاداة الناس وإظهار موافقته على ما يعاديه الناس عليه فأما إذا أظهر اتباعه وموافقته على ما يعاديه عليه جمهور الناس وقد صبر على أذى المعادين وبذل الأموال في موافقته من غير أن يكون هناك داع يدعو إلى ذلك من الدنيا لأنه لم يحصل له بموافقته في مكة شيء من الدنيا لا مال ولا رياسة ولا غير ذلك بل لم يحصل له من الدنيا إلا ما هو أذى ومحنة وبلاء
والإنسان قد يظهر موافقته للغير إما لغرض يناله منه أو لغرض آخر يناله بذلك مثل أن يقصد قتله أو الأحتيال عليه وهذا كله كان منتفيا بمكة فإن الذين كانوا يقصدون أذى النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من أعظم الناس عداوة لأبي بكر لما آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن بهم اتصال يدعو إلى ذلك ألبتة ولم يكونوا يحتاجون في مثل ذلك إلى أبي بكر بل كانوا أقدر على ذلك ولم يكن يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أذى قط من أبى بكر مع خلوته به واجتماعه به ليلا ونهارا وتمكنه مما يريد المخادع من إطعام سم أو قتل أو غير ذلك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق