والحج وغير ذلك مما يدخل في طاعة الله ورسوله فكيف تكون هي وحدها أشرف مسائل المسلمين وأهم مطالب الدين
فإن قيل لا يمكننا طاعة الرسول إلا بطاعة إمام فإنه هو الذي يعرف الشرع
قيل هذا هو دعوى المذهب ولا حجة فيه ومعلوم أن القرآن لم يدل على هذا كما دل على سائر أصول الدين وقد تقدم أن هذا الإمام الذي يدعونه لم ينتفع به أحد في ذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى أن ما جاء به الرسول لا يحتاج في معرفته إلى أحد من الأئمة
الوجه الثاني
أن يقال أصول الدين عن الإمامية أربعة التوحيد والعدل والنبوة والإمامة فالإمامة هي آخر المراتب والتوحيد والعدل والنبوة قبل ذلك وهم يدخلون في التوحيد نفى الصفات والقول بأن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة ويدخلون في العدل التكذيب بالقدر وأن الله لا يقدر أن يهدى من يشاء ولا يقدر أن يضل من يشاء وأنه قد يشاء مالا يكون ويكون مالا يشاء وغير ذلك فلا يقولون إنه
خالق كل شيء ولا إنه على كل شيء قدير ولا إنه ما شاء كان ومالم يشأ لم يكن لكن التوحيد والعدل والنبوة مقدم على الإمامة فكيف تكون الإمامة أشرف وأهم
وأيضا فإن الإمامة إنما أوجبوها لكونها لطفا في الواجبات فهي واجبة الوسائل فكيف تكون الوسيلة أهم وأشرف من المقصود
الوجه الثالث
أن يقال إن كانت الإمامة أهم مطالب الدين وأشرف مسائل المسلمين فأبعد الناس عن هذا الأهم الأشرف هم الرافضة فإنهم قد قالوا في الإمامة أسخف قول وأفسده في العقل والدين كما سنبينه إن شاء الله تعالى إذا تكلمنا عن حججهم ويكفيك أن مطلوبهم بالإمامة أن يكون لهم رئيس معصوم يكون لطفا في مصالح دينهم ودنياهم وليس في الطوائف أبعد عن مصلحة اللطف والإمامة منهم فإنهم يحتالون على مجهول ومعدوم لا يرى له عين ولا أثر ولا يسمع له حس ولا خبر فلم يحصل لهم من الأمر المقصود بإمامته شيء
وأي من فرض إماما نافعا في بعض مصالح الدين والدنيا كان خيرا ممن
لا ينتفع به في شيء من مصالح الإمامة ولهذا تجدهم لما فاتهم مصلحة الإمامة يدخلون في طاعة كافرا أو ظالم لينالوا به بعض مقاصدهم فبينما هم يدعون الناس إلى طاعة إمام معصوم أصبحوا يرجعون إلى طاعة ظلوم كفور فهل يكون أبعد عن مقصود الإمامة وعن الخير والكرامة ممن سلك منهاج الندامة
وفي الجملة فالله تعالى قد علق بولاة الأمور مصالح في الدين والدنيا سواء كانت الإمامة أهم الأمور أو لم تكن والرافضة أبعد الناس عن حصول هذه المصلحة لهم فقد فاتهم على قولهم الخير المطلوب من أهم مطالب الدين وأشرف مسائل المسلمين
ولقد طلب منى أكابر شيوخهم الفضلاء أن يخلو بي وأتكلم معه في ذلك فخلوت به وقررت له ما يقولونه في هذا الباب كقولهم إن الله أمر العباد ونهاهم لينالوا به بعض مقاصدهم فيجب أن يفعل بهم اللطف الذي يكونون عنده أقرب إلى فعل الواجب وترك القبيح لأن من دعا شخصا ليأكل طعامه فإذا كان مراده الأكل فعل ما يعين على ذلك من الأسباب كتلقيه بالبشر وإجلاسه في مجلس يناسبه وأمثال ذلك وإن لم يكن مراده أن يأكل عبس في وجهه وأغلق الباب ونحو ذلك
وهذا أخذوه من المعتزلة ليس هو من أصول شيوخهم القدماء
ثم قالوا والإمام لطف لأن الناس إذا كان لهم إمام يأمرهم بالواجب
وينهاهم عن القبيح كانوا أقرب إلى فعل المأمور وترك المحظور فيجب أن يكون لهم إمام ولا بد أن يكون معصوما لأنه إذا لم يكن معصوما لم يحصل به المقصود ولم تدع العصمة لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا لعلي فتعين أن يكون هو إياه للإجماع على انتفاء ما سواه وبسطت له العبارة في هذه المعاني
ثم قالوا وعلى نص على الحسن والحسن على الحسين إلى أن انتهت النوبة إلى المنتظر محمد بن الحسن صاحب السرداب الغائب
فاعترف بأن هذا تقرير مذهبهم على غاية الكمال
قلت له فأنا وأنت طالبان للعلم والحق والهدى وهم يقولون من لم يؤمن بالمنتظر فهو كافر فهذا المنتظر هل رأيته أو رأيت من رآه أو سمعت له بخبر أو تعرف شيئا من كلامه الذي قاله هو أو ما أمر به أو ما نهى عنه مأخوذا عنه كما يؤخذ عن الأئمة
قال لا
قلت فأى فائدة في إيماننا هذا وأي لطف يحصل لنا بهذا ثم كيف يجوز أن يكلفنا الله بطاعة شخص ونحن لا نعلم ما يأمر به ولا ما ينهانا عنه ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك بوجه من الوجوه وهم من أشد الناس
إنكارا لتكليف مالا يطاق فهل يكون في تكليف مالا يطاق أبلغ من هذا
فقال إثبات هذا مبني على تلك المقدمات
قلت لكن المقصود لنا من تلك المقدمات هو ما يتعلق بنا نحن وإلا فما علينا ما مضى إذا لم يتعلق بنا منه أمر ولا نهى وإذا كان كلامنا في تلك المقدمات لا يحصل لنا فائدة ولا لطفا ولا يفيدنا إلا تكليف مالا يقدر عليه علم أن الإيمان بهذا المنتظر من باب الجهل والضلال لا من باب المصلحة واللطف
والذي عنه الإمامية من النقل عن الأئمة الموتى إن كان حقا يحصل به سعادتهم فلا حاجة بهم إلى المنتظر وإن كان باطلا فهم أيضا لم ينتفعوا بالمنتظر في رد هذا الباطل فلم ينتفعوا بالمنتظر لا في إثبات حق ولا في نفي باطل ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر ولم يحصل لواحد منهم به شيء من المصلحة واللطف المطلوب من الإمامة
والجهال الذين يعقلون أمورهم بالمجهولات كرجال الغيب والقطب
والغوث والخضر ونحو ذلك مع جهلهم وضلالهم وكونهم يثبتون ما لم يحصل لهم به مصلحة ولا لطف ولا منفعة لا في الدين ولا في الدنيا أقل ضلالا من الرافضة فإن الخضر كان موجودا وقد ذكره الله في القرآن وفي قصته عبرة وفوائد وقد يرى أحدهم شخصا صالحا يظنه الخضر فينتفع به وبرؤيته وموعظته وإن كان غالطا في اعتقاده أنه الخضر فقد يرى أحدهم بعض الجن فيظن أنه الخضر ولا يخاطبه الجني إلا بما يرى أنه يقبله منه ليربطه على ذلك فيكون الرجل أتى من نفسه لا من ذلك المخاطب له ومنهم من يقول لكل زمان خضر ومنهم من يقول لكل ولي خضر وللكفار كاليهود مواضع يقولون إنهم يرون الخضر فيها وقد يرى الخضر على صور مختلفة وعلى صورة هائلة وأمثال ذلك وذلك لأن هذا الذي يقول إنه الخضر هو جني بل هو شيطان يظهر لمن يرى أنه يضله وفي ذلك حكايات كثيرة يضيق هذا الموضع عن ذكرها
وعلى كل تقدير فأصناف الشيعة أكثر ضلالا من هؤلاء فإن منتظرهم ليس عنده نقل ثابت عنه ولا يعتقدون فيمن يرونه أنه المنتظر ولما دخل السرداب كان عندهم صغيرا لم يبلغ سن التمييز
وهم يقبلون من الأكاذيب أضعاف ما يقبله هؤلاء ويعرضون عن الاقتداء بالكتاب والسنة أكثر من إعراض هؤلاء ويقدحون في خيار المسلمين قدحا يعاديهم عليه هؤلاء فهم أضل عن مصالح الإمامة من جميع طوائف الأمة فقد فاتهم على قولهم أهم الدين وأشرفه
الوجه الرابع
أن يقال قوله التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة كلام باطل فإن مجرد معرفة الإنسان إمام وقته وإدراكه بعينه لا يستحق به الكرامة إن لم يوافق أمره ونهيه وإلا فليست معرفة إمام الوقت بأعظم من معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن عرف أن محمدا رسول الله فلم يؤمن به ولم يطع أمره لم يحصل له شيء من الكرامة ولو آمن بالنبي وعصاه فضيع الفرائض وتعدى الحدود كان مستحقا للوعيد عند الإمامية وسائر طوائف المسلمين فكيف بمن عرف الإمام وهو مضيع للفرائض متعد للحدود
وكثير من هؤلاء يقول حب علي حسنة لا يضر معها سيئة وإن كانت السيئات لا تضر مع حب علي فلا حاجة إلى الإمام المعصوم الذي هو لطف في التكليف فإنه إذا لم يوجد إنما توجد سيئات ومعاص فإن كان حب علي كافيا فسواء وجد الإمام أو لم يوجد
الوجه الخامس
قوله وهي أحد أركان الإيمان المستحق بسببه الخلود في الجنان
فيقال له من جعل هذا من الإيمان إلا أهل الجهل والبهتان وسنتكلم إن شاء الله على ما ذكره من ذلك
والله تعالى وصف المؤمنين وأحوالهم والنبي صلى الله عليه وسلم قد فسر الإيمان وذكر شعبه ولم يذكر الله ولا رسوله الإمامة في أركان الإيمان ففي الحديث الصحيح حديث جبريل لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان قال له الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت قال والإيمان أن
تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره ولم يذكر الإمامة قال والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك وهذا الحديث متفق على صحته متلقى بالقبول أجمع أهل العلم بالنقل على صحته وقد أخرجه أصحاب الصحيح من غير وجه فهو متفق عليه من حديث أبي هريرة وفي أفراد مسلم من حديث عمر
وهؤلاء وإن كانوا لا يقرون بصحة هذه الأحاديث فالمصنف قد احتج بأحاديث موضوعة كذب باتفاق أهل المعرفة فإما أن نحتج بما يقوم الدليل على صحته ونحن وهم أو لا نحتج بشيء من ذلك لا نحن ولا هم فإن تركوا الرواية رأسا أمكن أن نترك الرواية وأما إذا رووا هم فلا بد من معارضة الرواية بالرواية والاعتماد على ما تقوم به
الحجة ونحن نبين الدلائل الدالة على كذب ما يعارضون به أهل السنة من الروايات الباطلة والدلائل الدالة على صحة ما نقله أهل العلم بالحديث وصححوه
وهب أن لا نحتج بالحديث فقد قال الله تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم سورة الأنفال 2 4 فشهد لهؤلاء بالايمان من غيرذكر للإمامة
وقال تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون سورة الحجرات 15 فجعلهم صادقين في الإيمان من غير ذكر للإمامة
وقال تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون سورة البقرة 177 ولم يذكر الإمامة
وقال تعالى الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين
يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون سورة البقرة 1 5 فجعلهم مهتدين مفلحين ولم يذكر الإمامة
وأيضا فنحن نعلم بالإضطرار من دين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا أسلموا لم يجعل إيمانهم موقوفا على معرفة الإمامة ولم يذكر لهم شيئا من ذلك وما كان أحد أركان الإيمان لا بد أن يبينه الرسول لأهل الإيمان ليحصل لهم به الإيمان فإذا علم بالاضطرار أن هذا مما لم يكن الرسول يشترطه في الإيمان علم أن اشتراطه في الإيمان من أقوال أهل البهتان
فإن قيل قد دخلت في عموم النصوص أو هي من باب مالا يتم الواجب إلا به أو دل عليها نص آخر
قيل هذا كله لو صح لكان غايته أن تكون من بعض فروع الدين لا تكون من أركان الإيمان فإن ركن الإيمان مالا يحصل الإيمان إلا به كالشهادتين فلا يكون الرجل مؤمنا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فلو كانت الإمامة ركنا في الإيمان لا يتم إيمان أحد إلا به لوجب أن يبين ذلك الرسول بيانا عاما قاطعا للعذر كما بين
الشهادتين والإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر فكيف ونحن نعلم بالاضطرار من دينه أن الناس الذين دخلوا في دينه أفواجا لم يشترط على أحد منهم في الإيمان الإيمان بالإمامة لا مطلقا ولا معينا
الوجه السادس
قوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية
يقال له أولا من روى هذا الحديث بهذا اللفظ وأين إسناده وكيف يجوز أن يحتج بنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير بيان الطريق الذي به يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله وهذا لو كان مجهول الحال عند أهل العلم بالحديث فكيف وهذا الحديث بهذا اللفظ لا يعرف إنما الحديث المعروف مثل ما روى مسلم في صحيحه عن نافع قال جاء عبد الله ابن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد ابن معاوية فقال اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة
فقال إني لم آتك لأجلس أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله سمعته يقول من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية
وهذا حدث به عبد الله بن عمر لعبد الله بن مطيع بن الأسود لما خلعوا طاعة أمير وقتهم يزيد مع أنه كان فيه من الظلم ما كان ثم إنه اقتتل هو وهم وفعل بأهل الحرة أمورا منكرة
فعلم أن هذا الحديث دل على ما دل عليه سائر الأحاديث الآتية من أنه لا يخرج على ولاة أمور المسلمين بالسيف وأن من لم يكن مطيعا لولاة الأمور مات ميتة جاهلية وهذا ضد قول الرافضة فإنهم أعظم الناس مخالفة لولاة الأمور وأبعد الناس عن طاعتهم إلا كرها
ونحن نطالبهم أولا بصحة النقل ثم بتقدير أن يكون ناقله واحدا فكيف يجوز أن يثبت أصل الإيمان بخبر مثل هذا الذي لا يعرف له ناقل وإن عرف له ناقل أمكن خطؤه وكذبه وهل يثبت أصل الإيمان إلا بطريق علمي
الوجه السابع
أن يقال إن كان هذا الحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم
فليس في حجة لهذا القائل فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال ومن مات ميتة جاهلية في أمور ليست من أركان الإيمان التي من تركها كان كافرا
كما في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل تحت راية عمية يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتلته جاهلية وهذا الحديث يتناول من قاتل في العصبية والرافضة رءوس هؤلاء ولكن لا يكفر المسلم بالاقتتال في العصبية كما دل على ذلك الكتاب والسنة فكيف يكفر بما هو دون ذلك
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات
مات ميتة جاهلية وهذا حال الرافضة فإنهم يخرجون عن الطاعة ويفارقون الجماعة
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإن من فارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية وفي لفظ من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإن من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية
وهذه النصوص مع كونها صريحة في حال الرافضة فهي وأمثالها المعروفة عند أهل العلم لا بذلك اللفظ الذي نقله
الوجه الثامن أن هذا الحديث الذي ذكره حجة على الرافضة لأنهم لا يعرفون إمام زمانهم فإنهم يدعون أنه الغائب المنتظر محمد بن الحسن الذي دخل
سرداب سامرا سنة ستين ومائتين أو نحوها ولم يميز بعد بل كان عمره إما سنتين أو ثلاثا أو خمسا أو نحو ذلك وله الآن على قولهم أكثر من أربعمائة وخمسين سنة ولم ير له عين ولا أثر ولا سمع له حسن ولا خبر
فليس فيهم أحد يعرفه لا بعينه ولا صفته لكن يقولون إن هذا الشخص الذي لم يره أحد ولم يسمع له خبر هو إمام زمانهم ومعلوم أن هذا ليس هو معرفة بالإمام
ونظير هذا أن يكون لرجل قريب من بني عمه في الدنيا ولا يعرف شيئا من أحواله فهذا لا يعرف ابن عمه وكذلك المال الملتقط إذا عرف أن له مالكا ولم يعرف عينه لم يكن عارفا لصاحب اللقطة بل هذا أعرف لأن هذا يمكن ترتيب بعض أحكام الملك والنسب عليه وأما المنتظر فلا يعرف له حال ينتفع به في الإمامة
فإن معرفة الإمام يخرج الإنسان فن الجاهلية هي المعرفة التي يحصل بها طاعة وجماعة خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية فإنهم لم يكن لهم إمام يجمعهم ولا جماعة تعصمهم والله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وهداهم به إلى الطاعة والجماعة وهذا المنتظر لا
يحصل بمعرفته طاعة ولا جماعة فلم يعرف معرفة تخرج الإنسان من حال الجاهلية بل المنتسبون إليه أعظم الطوائف جاهلية وأشبههم بالجاهلية وإن لم يدخلوا في طاعة غيرهم إما طاعة كافر وإما طاعة مسلم هو عندهم من الكفار أو النواصب لم ينتظم لهم مصلحة لكثرة اختلافهم وافتراقهم وخروجهم عن الطاعة والجماعة
وهذا يتبين
بالوجه التاسع
وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس لا بطاعة معدوم ولا مجهول ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شيء أصلا كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتماع والائتلاف ونهى عن الفرقة والاختلاف ولم يأمر بطاعة الأئمة مطلقا بل أمر بطاعتهم في طاعة
الله دون معصيته وهذا يبين أن الأئمة الذين أمر بطاعتهم في طاعة الله ليسوا معصومين
ففي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنوكم قال قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك قال لا ما أقاموا فيكم الصلاة ألا من ولى عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة
وفي صحيح مسلم عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برىء ومن أنكر سلم ولكن من رضى وتابع قالوا يا رسول الله أفلا نقاتلهم قال لا ما صلوا
وهذا يبين أن الأئمة هم الأمراء ولاة الأمور وأنه يكره وينكر ما يأتونه من معصية الله ولا تنزع اليد من طاعتهم بل يطاعون في طاعة الله وأن منهم خيارا وشرارا من يحب ويدعى له ويحب الناس ويدعو لهم ومن يبغض ويدعو على الناس ويبغضونه ويدعون عليه
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر قالوا فما تأمر قال فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم فقد أخبر أن بعده خلفاء كثيرين وأمر أن يوفى ببيعة
الأول فالأول وأن يعطوهم حقهم
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا فما تأمرنا يا رسول الله قال أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم وفي لفظ ستكون أثرة وأمور تنكرونها قالوا يا رسول فما تأمرنا قال تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في اليسر والعسر والمنشط والمكره وعلى أثره علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم
وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة
فإن قال أنا أردت بقولي إنها أهم المطالب في الدين وأشرف مسائل المسلمين المطالب التي تنازعت الأمة فيها بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهذه هي مسألة الإمامة
قيل له فلا لفظ فصيح ولا معنى صحيح فإن ما ذكرته لا يدل على هذا المعنى بل مفهوم اللفظ ومقتضاه أنها أهم المطالب في الدين مطلقا وأشرف مسائل المسلمين مطلقا
وبتقدير أن يكون هذا مرادك فهو معنى باطل فإن المسلمين تنازعوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل أشرف من هذه وبتقدير أن تكون هي الأشرف فالذي ذكرته فيها أبطل المذاهب وأفسد المطالب
وذلك أن النزاع في الإمامة لم يظهر إلا في خلافة علي رضي الله عنه وأما على عهد الخلفاء الثلاثة فلم يظهر نزاع إلا ما جرى يوم السقيفة
وما انفصلوا حتى اتفقوا ومثل هذا لا يعد نزاعا ولو قدر أن النزاع فيها كان عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم فليس كل ما تنوزع فيه عقب موته صلى الله عليه وسلم يكون أشرف مما تنوزع فيه بعد موته بدهر طويل
وإذا كان كذلك فمعلوم أن مسائل القدر والتعديل والتجوير والتحسين والتقبيح والتوحيد والصفات والإثبات والتنزيه أهم وأشرف من مسائل الإمامة ومسائل الأسماء والأحكام والوعد والوعيد والعفو والشفاعة والتخليد أهم من مسائل الإمامة
ولهذا كل من صنف في أصول الدين يذكر مسائل الإمامة في الآخر حتى الإمامية يذكرون مسائل التوحيد والعدل والنبوة قبل مسائل الإمامة وكذلك المعتزلة يذكرون أصولهم الخمس التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد والخامس هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبه تتعلق مسائل الإمامة
ولهذا كان جماهير الأمة نالوا الخير بدون مقصود الإمامة التي تقولها الرافضة فإنهم يقرون بأن الأمام الذي هو صاحب الزمان مفقود لا ينتفع به أحد وأنه دخل السرداب سنة ستين ومائتين أو قريبا من ذلك وهو الآن غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنه فهم في هذه المدة لم ينتفعوا
بإمامته لا في دين ولا في دنيا بل يقولون إن عندهم علما منقولا عن غيره
فإن كانت أهم مسائل الدين وهم لم ينتفعوا بالمقصود منها فقد فاتهم من الدين أهمه وأشرفه وحينئذ فلا ينتفعون بما حصل لهم من التوحيد والعدل لأنه يكون ناقصا بالنسبة إلى مقصود الإمامة فيستحقون العذاب كيف وهم يسلمون أن مقصود الإمامة إنما هو في الفروع الشرعية وأما الأصول العقلية فلا يحتاج فيها إلى الإمام وتلك هي أهم وأشرف
ثم بعد هذا كله فقولكم في الإمامة من أبعد الأقوال عن الصواب ولو لم يكن فيه إلا أنكم أوجبتم الإمامة لما فيها من مصلحة الخلق في دينهم ودنياهم وإمامكم صاحب الوقت لم يحصل لكم من جهته مصلحة لا في الدين ولا في الدنيا فأي سعى أضل من سعى من يتعب التعب الطويل ويكثر القال والقيل ويفارق جماعة المسلمين ويلعن السابقين والتابعين ويعاون الكفار والمنافقين ويحتال بأنواع الحيل ويسلك ما أمكنه من السبل ويعتضد بشهود الزور ويدلى أتباعه بحبل الغرور ويفعل ما يطول وصفه ومقصوده بذلك أن يكون له إمام يدله على أمر الله ونهيه ويعرفه ما يقربه إلى الله تعالى
ثم إنه لما علم اسم ذلك الإمام ونسبه لم يظفر بشيء من مطلوبه ولا وصل إليه شيء من تعليمه وإرشاده ولا أمره ولا نهيه ولا حصل له
من جهته منفعة ولا مصلحة أصلا إلا إذهاب نفسه وماله وقطع الأسفار وطول الانتظار بالليل والنهار ومعاداة الجمهور لداخل في سرادب ليس له عمل ولا خطاب ولو كان موجودا بيقين لما حصل به منفعة لهؤلاء المساكين فكيف عقلاء الناس يعلمون أنه ليس معهم إلا الإفلاس وأن الحسن بن علي العسكري لم ينسل ولم يعقب كما ذكر ذلك محمد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما من أهل العلم بالنسب
وهم يقولون إنه دخل السرداب بعد موت أبيه وعمره إما سنتان وإما ثلاث وإما وإما خمس نحو ذلك ومثل هذا بنص القرآن يتيم يجب أن يحفظ له ماله حتى يؤنس منه الرشد ويحضنه من يستحق حضانته من أقربائه فإذا صار له سبع سنين امر بالطهارة والصلاة فمن لا توضأ ولا صلى وهو تحت حجر وليه في نفسه وماله بنص القرآن لو كان موجودا يشهده العيان لما جاز أن يكون هو إمام أهل الإيمان فكيف إذا كان معدوما أو مفقودا مع طول هذه الغيبة
والمرأة إذا غاب عنها وليها زوجها الحاكم أو الولي الحاضر لئلا تفوت مصلحة المرأة بغيبة الولي المعلوم الموجود فكيف تضيع مصلحة الأمة مع طول هذه المدة مع هذا الإمام المفقود
فصل
قال المصنف الرافضي
الفصل الأول في نقل المذاهب في هذه المسألة
ذهبت الإمامية إلى أن الله عدل حكيم لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب وأن أفعاله إنما تقع لغرض صحيح وحكمه وأنه لا يفعل الظلم ولا العبث وأنه رءوف بالعباد يفعل ما هو الأصلح لهم والأنفع وأنه تعالى كلفهم تخييرا لا إجبارا ووعدهم الثواب وتوعدهم بالعقاب على لسان أنبيائه ورسله المعصومين بحيث لا يجوز عليهم الخطأ ولا النسيان ولا المعاصي
وإلا لم يبق وثوق بأقوالهم وأفعالهم فتنتقى فائدة البعثة
ثم أردف الرسالة بعد موت الرسول بالإمامة فنصب أولياء معصومين ليأمن الناس من غلطهم وسهوهم وخطئهم فينقادون إلى أوامرهم لئلا يخلى الله العالم من لطفه ورحمته
وأنه لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم قام بنقل الرسالة ونص على أن الخليفة بعده علي بن أبي طالب عليه السلام ثم من بعده علي ولده الحسن الزكي ثم على ولده الحسين الشهيد ثم على علي بن الحسين زيد العابدين ثم على محمد بن علي الباقر ثم على جعفر بن محمد الصادق ثم على موسى بن جعفر الكاظم ثم على علي بن موسى الرضا ثم على محمد بن علي الجواد ثم على بن محمد الهادي ثم على الحسن بن علي العسكري ثم على الخلف الحجة
محمد بن الحسن عليهم الصلاة والسلام وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت إلا عن وصية بالإمامة
قال وأهل السنة ذهبوا إلى خلاف ذلك كله فلم يثبتوا العدل والحكمة في أفعاله تعالى وجوزوا عليه فعل القبيح والإخلال بالواجب وأنه تعالى لا يفعل لغرض بل كل أفعاله لا لغرض من الأغراض ولا لحكمة ألبتة وأنه يفعل الظلم والعبث وأنه لا يفعل ما هو الأصلح لعباده بل ما هو الفساد
في الحقيقة لأن فعل المعاصي وأنواع الكفر والظلم وجميع أنواع الفساد الواقعة في العالم مسندة إليه تعالى الله عن ذلك وأن المطيع لا يستحق ثوابا والعاصي لا يستحق عقابا
بل قد يعذب المطيع طول عمره المبالغ في امتثال أوامره تعالى كالنبي صلى الله عليه وسلم ويثيب العاصي طول عمره بأنواع المعاصي وأبلغها كإبليس وفرعون
وأن الأنبياء غير معصومين بل قد يقع منهم الخطأ والزلل والفسوق والكذب والسهو وغير ذلك
وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على إمام وأنه مات عن غير وصية وأن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر بن أبي قحافة بمبايعة عمر بن الخطاب له برضاء أربعة أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة وأسيد بن حضير وبشير بن سعد بن عبادة
ثم من بعده عمر بن الخطاب بنص أبي بكر عليه ثم
عثمان بن عفان بنص عمر على ستة هو أحدهم فاختاره بعضهم ثم علي بن أبي طالب لمبايعة الخلق له
ثم اختلفوا فقال بعضهم إن الإمام بعده الحسن وبعضهم قال إنه معاوية ابن أبي سفيان
ثم ساقوا الإمامة في بني أمية إلى أن ظهر السفاح من بني العباس فساقوا الإمامة إليه
ثم انتقلت الإمامة منه إلى أخيه المنصور
ثم ساقوا الإمامة في بني العباس إلى المستعصم
قلت فهذا النقل لمذهب أهل السنة والرافضة فيه من الكذب والتحريف ما سنذكر بعضه
والكلام عليه من وجوه
أحدها
أن إدخال مسائل القدر والتعديل والتجوير في هذا الباب كلام باطل
من الجانبين إذ كل من القولين قد قال به طوائف من أهل السنة والشيعة فالشيعة فيهم طوائف تثبت القدر وتنكر مسائل التعديل والتجوير والذين يقرون بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان فيهم طوائف تقول بما ذكره من التعديل والتجوير كالمعتزلة وغيرهم ومعلوم أن المعتزلة هم أصل هذا القول وأن شيوخ الرافضة كالمفيد والموسوي والطوسي والكراجكي وغيرهم إنما أخذوا ذلك من المعتزلة وإلا فالشيعة القدماء لا يوجد في كلامهم شيء من هذا
وإن كان ما ذكره في ذلك ليس متعلقا بمذهب الإمامة بل قد يوافقهم على قولهم في الإمامية من لا يوافقهم على قولهم في القدر وقد تقول بما ذكره في القدر طوائف لا توافهم على الإمامة كان ذكر هذا في مسألة الإمامة بمنزلة سائر مسائل النزاع التي وافقوا فيها بعض المسلمين كمسائل فتنة القبر ومنكر ونكير والحوض والميزان والشفاعة وخروج أهل الكبائر من النار وأمثال ذلك من المسائل التي لا تتعلق بالإمامة بل هي مسائل مستقلة بنفسها وبمنزلة المسائل العملية كمسائل الخلاف التي صنفها الموسوي وغيره من شيوخ الإمامية فتبين أن إدخال مسائل القدر في مسألة الإمامية إما جهل وإما تجاهل
الوجه الثاني
أن يقال ما نقله عن الإمامية لم ينقله على وجهه فإنه من تمام قول قول الإمامية الذي حكاه وهو قول من وافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم من متأخري الشيعة أن الله لم يخلق شيئا من أفعال الحيوان لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم بل هذه الحوادث التي تحدث تحدث بغير قدرته ولا خلقه
ومن قولهم أيضا إن الله تعالى لا يقدر أن يهدي ضالا ولا يقدر أن يضل مهتديا ولا يحتاج أحد من الخلق إلى أن يهديه الله بل الله قد هداهم هدى البيان وأما الاهتداء فهذا يهتدى بنفسه لا بمعونة الله له وهذا يهتدى بنفسه لا بمعونة الله له
ومن قولهم إن هدى الله للمؤمنين والكفار سواء ليس له على المؤمنين نعمة في الدين أعظم من نعمته على الكافرين بل قد هدى علي بن أبي طالب كما هدى أبا جهل بمنزلة الأب الذي يعطي أحد بنيه دراهم ويعطى الآخر مثلها لكن هذا أنفقها في طاعة الله وهذا في معصيته
فليس للأب من الإنعام على هذا في دينه أكثر مما له من الإنعام على الآخر
ومن أقوالهم إنه يشاء الله مالا يكون ويكون مالا يشاء
فإن قيل فيهم من يقول إنه يخص بعضهم ممن علم منه أنه إذا خصه بمزيد لطف من عنده اهتدى بذلك وإلا فلا
قيل فهذا هو حقيقة قول أهل السنة المثبتين للقدر فإنهم يقولون كل من خصه الله بهدايته إياه صار مهتديا ومن لم يخصه بذلك لم يصر مهتديا فالتخصيص والاهتداء متلازمان عند أهل السنة
فإن قيل بل قد يخصه بما لا يوجب الاهتداء كما قال تعالى ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون سورة الأنفال 23
قيل هذا التخصيص حق لكن دعوى لا تخصيص إلا هذا غلط كما سيأتي بل كل ما يستلزم الاهتداء هو من التخصيص
وفي الجملة فالقوم لا يثبتون لله مشيئة عامة ولا قدرة تامة ولا خلقا متناولا لكل حادث وهذا القول أخذوه عن المعتزلة هم أئمتهم فيه
ولهذا كانت الشيعة فيه على قولين
الوجه الثالث
أن قوله إنه نصب أولياء معصومين لئلا يخلى الله العالم من لطفه ورحمته
إن أراد بقوله إنه نصب أولياء أنه مكنهم وأعطاهم القدرة على سياسة الناس حتى ينتفع الناس بسياستهم فهذا كذب واضح وهم لا يقولون ذلك بل يقولون إن الأئمة مقهورون مظلومون عاجزون ليس لهم سلطان ولا قدرة ولا مكنة ويعلمون أن الله لم يمكنهم ولم يملكهم فلم يؤتهم ولاية ولا ملكا كما أتى المؤمنين والصالحين ولا كما آتى الكفار والفجار
فإنه سبحانه قد آتى الملك لمن آتاه من الأنبياء كما قال في داود وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء سورة البقرة 251 وقال تعالى أم يحسدون الناس على آتاهم الله من فضله فقد أتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما سورة النساء 54 وقال تعالى وقال الملك ائتوني به سورة يوسف 54
وقال وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا سورة الكهف 79
وقال تعالى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الله الملك سورة البقرة 258
فقد آتى الملك لبعض الكفار كما آتاه لبعض الأنبياء ومن بعد علي رضي الله عنه والحسن لم يؤت الملك لأحد من هؤلاء كما أوتيه الأنبياء والصالحون ولا كما أوتيه غيرهم من الملوك فبطل أن يكون الله نصب هؤلاء المعصومين على هذا الوجه
فإن قيل المراد بنصبهم أنه أوجب على الخلق طاعتهم فإذا أطاعوهم هدوهم لكن الخلق عصوهم
فيقال فلم يحصل بمجرد ذلك في العالم لا لطف ولا رحمة بل إنما حصل تكذيب الناس لهم ومعصيتهم إياهم وأيضا فالمؤمنون بالمنتظر لم ينتفعوا به ولا حصل لهم به لطف ولا مصلحة مع كونهم يحبونه ويوالونه فعلم أنه لم يحصل به لطف ولا مصلحة لا لمن أقر بإمامته ولا لمن جحدها
فبطل ما يذكرون أن العالم حصل فيه اللطف والرحمة بهذا المعصوم وعلم بالضرورة أن هذا العالم لم يحصل فيه بهذا المنتظر شيء من ذلك لا لمن آمن به ولا لمن كفر به بخلاف الرسول والنبي الذي بعثه الله
وكذبه قوم فإنه انتفع به من آمن به وأطاعه فكان رحمة في حق المؤمن به المطيع له وأما العاصي فهو المفرط
وهذا المنتظر لم ينتفع به لا مؤمن به ولا كافر به وأما سائر الاثنى عشر سوى علي فكانت المنفعة بأحدهم كالمنفعة بأمثاله من أهل العلم والدين من جنس تعليم العلم والتحديث والافتاء ونحو ذلك وأما المنفعة المطلوبة من الأئمة ذوي السلطان والسيف فلم تحصل لواحد منهم فتبين أن ما ذكره من اللطف والمصلحة بالأئمة تلبيس محض وكذب
الوجه الرابع
أن قوله عن أهل السنة إنهم لم يثبتوا العدل والحكمة وجوزوا عليه فعل القبيح والإخلال بالواجب نقل باطل عنهم من وجهين
أحدهما أن كثير من أهل السنة الذين لا يقولون في الخلافة بالنص على علي ولا بإمامة الاثنى عشر يثبتون ما ذكره من العدل والحكمة على الوجه الذي قاله هو وشيوخه عن هؤلاء أخذوا ذلك كالمعتزلة وغيرهم ممن وافقهم متأخرو الرافضة على القدر فنقله عن جميع أهل السنة
الذين هم في اصطلاحه واصطلاح العامة من سوى الشيعة هذا القول كذب بين منه
الوجه الثاني أن سائر أهل السنة الذين يقرون بالقدر ليس فيهم من يقول إن الله تعالى ليس بعدل ولا من يقول إنه ليس بحكيم ولا فيهم من يقول إنه يجوز أن يترك واجبا ولا أن يفعل قبيحا
فليس في المسلمين من يتكلم بمثل هذا الكلام الذي أطلقه ومن أطلقه كان كافرا مباح الدم باتفاق المسلمين
ولكن هذه مسألة القدر والنزاع فيها معروف بين المسلمين فأما نفاة القدر كالمعتزلة ونحوهم فقولهم هو الذي ذهب إليه متأخرو الإمامية
وأما المثبتون للقدر وهو جمهور الأمة وأئمتها كالصحابة والتابعين لهم بإحسان وأهل البيت وغيرهم فهؤلاء تنازعوا في تفسير عدل الله وحكمته والظلم الذي يجب تنزيهه عنه وفي تعليل أفعاله وأحكامه ونحو ذلك
فقالت طائفة إن الظلم ممتنع منه غير مقدور وهو محال لذاته كالجمع بين النقيضين وإن كل ممكن مقدور فليس هو ظلما وهؤلاء
هم الذين قصدوا الرد عليهم وهؤلاء يقولون إنه لو عذب المطيعين ونعم العصاة لم يكن ظالما وقالوا الظلم التصرف فيما ليس له والله تعالى له كل شيء أو هو مخالفة الأمر والله لا آمر له وهذا قول كثير من أهل الكلام المثبتين للقدر ومن وافقهم من الفقهاء أصحاب الأئمة الأربعة
وقال طائفة بل الظلم مقدور ممكن والله تعالى منزه لا يفعله لعدله ولهذا مدح الله نفسه حيث أخبر أنه لا يظلم الناس شيئا والمدح إنما يكون بترك المقدور عليه لا بترك الممتنع
قالوا وقد قال تعالى ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما سورة طه 112 قالوا الظلم أن يحمل عليه سيئات غيره والهضم أن يهضم حسناته
وقال تعالى ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم سورة هود 100 101 فأخبر أنه لم يظلمهم لما أهلكهم بل أهلكهم بذنوبهم
وقال تعالى وجيء بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون سورة الزمر 69 فدل على أن القضاء بينهم بغير القسط ظلم والله منزه عنه
وقال تعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس
شيئا سورة الأنبياء 47 أي لا تنقص من حسناتها ولا تعاقب بغير سيئاتها فدل على أن ذلك ظلم ينزه الله عنه
وقال تعالى قال لا تختصموا لدى وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد سورة ق 28 29 وإنما نزه نفسه عن أمر يقدر عليه لا عن الممتنع لنفسه
ومثل هذا في القرآن في غير موضع مما يبين أن الله ينتصف من العباد ويقضي بينهم بالعدل وأن القضاء بينهم بغير العدل ظلم ينزه الله عنه وأنه لا يحمل على أحد ذنب غيره
وقال تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى سورة الأنعام 164 فإن ذلك ينزه الله عنه بل لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا فقد حرم على نفسه الظلم كما كتب على نفسه الرحمة في قوله كتب ربكم على نفسه الرحمة سورة الأنعام 54
وفي الحديث الصحيح لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو موضوع عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي والأمر الذي كتبه الله على نفسه أو حرمه على نفسه لا يكون إلا مقدورا له سبحانه فالممتنع لنفسه لا يكتبه على نفسه ولا يحرمه على نفسه
وهذا القول قول أكثر أهل السنة والمثبتين للقدر من أهل الحديث والتفسير والفقه والكلام والتصوف من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم
وعلى هذا القول فهؤلاء هم القائلون بعدل الله تعالى وإحسانه دون من يقول من القدرية إن من فعل كبيرة حبط إيمانه فإن هذا نوع من الظلم الذي نزه الله سبحانه نفسه عنه وهو القائل فمن يعمل
مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره سورة الزلزلة 807
وأما من اعتقد أن منته على المؤمنين بالهداية دون الكافرين ظلم منه فهذا جهل لوجهين
أحدهما أن هذا تفضل منه كما قال تعالى بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين سورة الحجرات 17
وكما قالت الأنبياء إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده سورة إبراهيم 11 وقال تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين سورة الأنعام 53
فتخصيص هذا بالإيمان كتخصيص هذا بمزيد علم وقوة وصحة وجمال ومال قال تعالى أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا سورة الزخرف 32
وإذا خص أحد الشخصين بقوة وطبيعة تقضي غذاء صالحا خصه بما يناسب ذلك من الصحة والعافية وإذا لم يعط الاخر ذلك نقص عنه وحصل له ضعف ومرض
والظلم وضع الشيء في غير موضعه فهو لا يضع العقوبة إلا في المحل الذي يستحقها لا يضعها على محسن أبدا
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه والقسط بيده الأخرى يقبض ويبسط فبين أنه سبحانه يحسن ويعدل ولا يخرج فعله عن العدل والإحسان ولهذا قيل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل
ولهذا يخبر أنه تعالى يعاقب الناس بذنوبهم وأن إنعامه عليهم إحسان منه كما في الحديث الصحيح الإلهي يقول الله تعالى يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن
وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
وقد قال تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك سورة النساء 79 أي ما أصابك من نعم تحبها كالنصر والرزق فالله أنعم بذلك عليك وما أصابك من نقم تكرهها فبذنوبك وخطاياك فالحسنات والسيئات هنا أراد بها النعم والمصائب كما قال تعالى وبلوناهم بالحسنات والسيئات سورة الأعراف 68 وكما قال تعالى إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل سورة التوبة 50 وقوله تعالى إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها سورة آل عمران 120
ومثل هذا قوله تعالى وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون سورة الروم 36
فأخبر أن ما يصيب به الناس من الخير فهو رحمة منه أحسن بها إلى
عباده وما أصابهم به من العقوبات فبذنوبهم وتمام الكلام على هذا مبسوط في مواضع أخر
وكذلك الحكمة أجمع المسلمون على أن الله تعالى موصوف بالحكمة لكن تنازعوا في تفسير ذلك
فقالت طائفة الحكمة ترجع إلى علمه بأفعال العباد وإيقاعها على الوجه الذي أراده ولم يثبتوا إلا العلم والإرادة والقدرة
وقال الجمهور من أهل السنة وغيرهم بل هو حكيم في خلقه وأمره والحكمة ليست مطلق المشيئة إذ لو كان كذلك لكن كل مريد حكيما ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى محمودة ومذمومة بل الحكمة تتضمن ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة والغايات المحبوبة والقول بإثبات هذه الحكمة ليس هو قول المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة فقط بل هو قول جماهير طوائف المسلمين من أهل التفسير والفقه والحديث والتصوف والكلام وغيرهم قائمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة والمصالح في أحكامه الشرعية وإنما ينازع في ذلك
طائفة من نفاة القياس وغير نفاته وكذلك ما في خلقه من المنافع والحكم والمصالح لعباده معلوم
وأصحاب القول الأول كجهم بن صفوان وموافقيه كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم يقولون ليس في القرآن لام التعليل في أفعال الله بل ليس فيه إلا لام العاقبة
وأما الجمهور فيقولون بل لام التعليل داخلة في أفعال الله تعالى وأحكامه
والقاضي أبو يعلى وأبو الحسن بن الزاغوني ونحوهما من أصحاب أحمد وإن كانوا قد يقولون بالأول فهم يقولون بالثاني أيضا في غير موضع وكذلك أمثالهم من الفقهاء أصحاب مالك والشافعي وغيرهما
وأما ابن عقيل والقاضي في بعض المواضع وأبو خازم بن القاضي أبي يعلى وأبو الخطاب فيصرحون بالتعليل والحكمة في أفعال الله تعالى موافقة لمن قال ذلك من أهل النظر
والحنفية هم من أهل السنة القائلين بالقدر وجمهورهم يقولون بالتعليل والمصالح والكرامية وأمثالهم هم أيضا من القائلين
بالقدر المثبتين لخلافة الخلفاء المفضلين لأبي بكر وعمر وعثمان وهم أيضا يقولون بالتعليل والحكمة وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يقولون بالتعليل والحكمة وبالتحسين والتقبيح العقلين كأبي بكر القفال وأبي علي بن أبي هريرة وغيرهم من أصحاب الشافعي وأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب من أصحاب أحمد
وفي الجملة النزاع في تعليل أفعال الله وأحكامه مسألة لا تتعلق بالإمامة أصلا وأكثر أهل السنة على إثبات الحكمة والتعليل
ولكن الذين أنكروا ذلك من أهل السنة احتجوا بحجتين
أحداهما أن ذلك يستلزم التسلسل فإنه إذا فعل لعلة فتلك العلة أيضا حادثة فتفتقر إلى علة إن وجب ان يكون لكل حادث علة
وإن عقل الإحداث بغير علة لم يحتج إلى إثبات علة فهم يقولون إن أمكن الإحداث بغير علة لم يحتج إلى علة ولم يكن ذلك عبثا وإن لم يكن وجود الإحداث إلا لعلة فالقول في حدوث العلة كالقول في حدوث المعلول وذلك يستلزم التسلسل
الحجة الثانية أنهم قالوا من فعل لعلة كان مستكملا بها لأنه لو لم يكن حصول العلة أولى من عدمها لم تكن علة والمستكمل بغيره ناقص بنفسه وذلك ممتنع على الله
وأوردوا على المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة حجة تقطعهم على أصولهم فقالوا العلة التي فعل لأجلها إن كان وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء امتنع أن تكون علة وإن كان وجودها أولى فإن كانت منفصلة عنه لزم أن يستكمل بغيره وإن كانت قائمة به لزم أن يكون محلا للحوادث
وأما المجوزون للتعليل فهم متنازعون فالمعتزلة وأتباعهم من الشيعة تثبت من التعليل مالا يعقل وهو أنه فعل لعلة منفصلة عن الفاعل مع كون وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء
وأما أهل السنة القائلون بالتعليل فإنهم يقولون إن الله يحب
ويرضى كما دل على ذلك الكتاب والسنة ويقولون إن المحبة والرضا أخص من الإرادة وأما المعتزلة وأكثر أصحاب الأشعري فيقولون إن المحبة والرضا والإرادة سواء فجمهور أهل السنة يقولون إن الله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان ولا يرضاه وإن كان داخلا في مراده كما دخلت سائر المخلوقات لما في ذلك من الحكمة وهو وإن كان شرا بالنسبة إلى الفاعل فليس كل ما كان شرا بالنسبة إلى شخص يكون عديم الحكمة بل لله في المخلوقات حكم قد يعلمها بعض الناس وقد لا يعلمها
وهؤلاء يجيبون عن التسلسل بجوابين
أحدهما أن يقال هذا التسلسل في الحوادث المستقبلة لا في الحوادث الماضية فإنه إذا فعل فعلا لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل فإذا كانت تلك الحكمة يطلب منها حكمة أخرى بعدها كان تسلسلا في المستقبل وتلك الحكمة الحاصلة محبوبة له وسبب لحكمة ثانية فهو لا يزال سبحانه يحدث من الحكم ما يحبه ويجعله سببا لما يحبه
قالوا والتسلسل في المستقبل جائز عند جماهير المسلمين وغيرهم من أهل الملل وغير أهل الملل فإن نعيم الجنة وعذاب النار دائمان مع تجدد الحوادث فيهما وإنما أنكر ذلك الجهم بن صفوان
فزعم أن الجنة والنار يفنيان وأبو الهذيل العلاف زعم أن حركات أهل الجنة والنار تنقطع ويبقون في سكون دائم
وذلك أنهم لما اعتقدوا أن التسلسل في الحوادث ممتنع في الماضي والمستقبل قالوا هذا القول الذي ضللهم به أئمة الإسلام
وأما تسلسل الحوادث في الماضي فقيه أيضا قولان لأهل الإسلام لأهل الحديث والكلام وغيرهم
فمن يقول إنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل فعالا إذا شاء أفعالا تقوم بنفسه بقدرته ومشيئته شيئا بعد شيء يقول إنه لم يزل يتكلم بمشيئته ويفعل بمشيئته شيئا بعد شيء مع قوله إن كل ما سوى الله محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن وإنه ليس في
العالم شيء قديم مساوق لله كما تقوله الفلاسفة القائلون بقدم الأفلاك وأنها مساوقة لله في وجوده فإن هذا ليس من أقوال المسلمين
وقد بينا فساد قول هؤلاء في غير هذا الموضع وبينا أن قولهم بأن المبدع علة تامة موجب بذاته هو نفسه يستلزم فساد قولهم فإن العلة التامة تستلزم معلولها فلا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها
فالحوادث مشهودة في العالم فلو كان الصانع موجبا بذاته علة تامة مستلزمة لمعلولها لم يحدث شيء من الحوادث في الوجود إذ الحادث يمتنع أن يكون صادرا عن علة تامة أزلية فلو كان العالم قديما لكان مبدعة علة تامة والعلة التامة لا يتخلف عنها شيء من معلولها فيلزم من ذلك أن لا يحدث في العالم شيء فحدوث الحوادث دليل على أن فاعلها ليس بعلة تامة في الأزل وإذا انتفت العلة التامة في الأزل بطل القول بقدم شيء من العالم لكن هذا لا ينفى أن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل حيا فعالا لما يشاء
وعمدة الفلاسفة على قدم العالم هو قولهم يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث فيمتنع تقدير ذات معطلة عن الفعل لم تفعل ثم فعلت من غير حدوث سبب
وهذا القول لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم لا الأفلاك ولا
غيرها إنما يدل على أنه لم يزل فعالا وإذا قدر أنه فعال لأفعال تقوم بنفسه أو مفعولات حادثة شيئا بعد شيء كان ذلك وفاء بموجب هذه الحجة مع القول بأن كل ما سوى الله محدث مخلوق بعد أن لم يكن كما أخبرت الرسل أن الله خالق كل شيء وإن كان النوع لم يزل متجددا كما في الحوادث المستقبلة كل منها حادث مخلوق وهي لا تزال تحدث شيئا بعد شيء
قال هؤلاء والله قد أخبر أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وأخبر أنه خالق كل شيء ولا يكون المخلوق إلا مسبوقا بالعدم فالقرآن يدل على أن كل ما سوى الله مخلوق مفعول محدث
فليس شيء من الموجودات مقارنا لله تعالى كما يقوله دهرية الفلاسفة إن العالم معلول له وهو موجب له مفيض له وهو متقدم عليه بالشرف والعلية والطبع وليس متقدما عليه بالزمان فإنه لو كان
علة تامة موجبة يقترن بها معلولها كما زعموا لم يكن في العالم شيء محدث فإن ذلك المحدث لا يحدث عن علة تامة أزلية يقارنها معلولها فإن المحدث المعين لا يكون أزليا
وسواء قيل إنه حدث بوسط أو بغير وسط كما يقولون إن الفلك تولد عنه بوسط عقل أو عقلين أو غير ذلك مما يقال فإن كل قول يقتضى أن يكون شيء من العالم قديما لازما لذات الله فهو باطل لأن ذلك يستلزم كون البارىء موجبا بالذات بحيث يقارنه موجبه إذ لولا ذلك لما قارنه بذلك الشيء ولو كان موجبا بالذات لم يتأخر عنه شيء من موجبه ومقتضاه فكان يلزم أن لا يكون في العالم شيء محدث
ولو قيل إنه موجب بذاته للفلك وأما حركات الفلك فيوجبها شيئا بعد شيء كان هذا باطلا من وجوه
أحدها
أن يقال إن كانت حركة الفلك لازمة له كما هو قولهم امتنع إبداع الملزوم دون لازمه وكونه موجبا بالذات علة تامة للحركة ممتنع لأن الحركة تحدث شيئا فشيئا والعلة التامة الموجبة لمعلولها في الأزل لا يتأخر عنها شيء من معلولها فلا تكون الحركة معلولة
للموجب بذاته في الأزل الذي يلزمه معلوله وإن لم تكن لازمة له فهي حادثة فتقتضى سببا واجبا حادثا وذلك بالحادث لا يحدث عن العلة التامة الأزلية إذ الموجب بذاته لا يتأخر عنه موجبه
ولهذا كان قول هؤلاء الذين يجعلون الحوادث صادرة عن علة تامة أزلية لا يحدث فيها ولا منها شيء أشد فسادا من قول من يقول حدثت عن القادر بدون سبب حادث لأن هؤلاء أثبتوا فاعلا ولم يثبتوا سببا حادثا وأولئك يلزمهم نفى الفاعل للحوادث لأن العلة التامة الموجبة بذاتها في الأزل لا تكون محدثة لشيء أصلا ولهذا كانت الحوادث عندهم إنما تحدث بحركة الفلك وهم لا يجعلون فوق الفلك شيئا أحدث حركته بل قولهم في حركات الأفلاك وسائر الحوادث من جنس قول القدرية في أفعال الحيوان وحقيقة ذلك أنها تحدث بلا محدث لكن القدرية خصوا ذلك بأفعال الحيوان وهؤلاء قالوا ذلك في كل حادث علوي وسفلي
الوجه الثاني
أن الفاعل سواء كان قادرا أو موجبا بذاته أو قيل هو قادر يوجب بمشيئته وقدرته لا بد أن يكون موجودا عند وجود المفعول ولا يجوز أن يكون معدوما عند وجود المفعول إذ المعدوم لا يفعل موجودا ونفس
إيجابه وفعله واقتضائه وإحداثه لا بد أن يكون ثابتا بالفعل عند وجود المفعول الموجب المحدث فلا يكون فاعلا حقيقة إلا مع وجود المفعول
فلو قدر أنه فعله واقتصاه فوجد بعد عدم للزم أن يكون فعله وإيجابه عند عدم المفعول الموجب وعند عدمه فلا إيجاب ولا فعل
وإذا كان كذلك فالموجب لحدوث الحوادث إذا قدر أنه يفعل الثاني بعد الأول من غير أن يحدث له حال يكون بها فاعلا للثاني
كان المؤثر التام معدوما عند وجود الأثر وهذا محال فإن حاله عند وجود الأثر وعدمه سواء وقبله كان يمتنع أن يكون فاعلا له فكذلك عنده أو يقال قبله لم يكن فاعلا فكذلك عنده
إذ لو جوز أن يحدث الحادث الثاني من غير حدوث حال للفاعل بها صار فاعلا لزم حدوث الحوادث كلها بلا سبب وترجيح الفاعل لأحد طرفي الممكن بل لوجود الممكن بلا مرجح لأن حاله قبل ومع وبعد سواء فتخصيص بعض الأوقات بذلك الحادث تخصيص بلا مخصص فإن كان هذا جائزا جاز حدوث كل الحوادث بلا سبب
حادث وبطل قولهم وإن لم يكن جائزا بطل أيضا قولهم فثبت بطلان قول هؤلاء المتفلسفة الدهرية على تقدير النقيضين وذلك يستلزم بطلانه في نفس الأمر
والواحد من الناس إذا قطع مسافة وكان قطعه للجزء الثاني مشروطا بالأول فإنه إذا قطع الأول حصل له أمور تقوم به من قدرة أو إرادة أو غيرهما تقوم بذاته بها صار حاصلا في الجزء الثاني لا أنه بمجرد عدم الأول صار قاطعا للثاني
فإذا شبهوا فعله للحوادث بهذا لزمهم أن يتجدد لله أحوال تقوم به عند إحداث الحوادث وإلا فإذا كان هو لم يتجدد له حال وإنما وجد الحادث الثاني بمجرد عدم الأول فحاله قبل وبعد سواء فاختصاص أحد الوقتين بالإحداث لا بد له من مخصص ونفس صدور الحوادث لا بد له من فاعل والتقدير أنه على حال واحدة من الأزل إلى الأبد فيمتنع مع هذا التقدير اختصاص وقت دون وقت بشيء أو
أن يكون فاعلا للحوادث فإنه إذا كان ولا يفعل هذا الحادث وهو الآن كما كان فهو الآن لا يفعل هذا الحادث
وابن سينا وأمثاله من القائلين بقدم العالم بهذا احتجوا على أهل الكلام من المعتزلة والجهمية ومن وافقهم فقالوا إذا كان في الأزل ولا يفعل وهو الآن على حالة فهو الآن لا يفعل وقد فرض فاعلا هذا خلف وإنما لزم ذلك من تقدير ذات معطلة عن الفعل
فيقال لهم هذا بعينه حجة عليكم في إثبات ذات بسيطة لا يقوم بها فعل ولا وصف مع صدور الحوادث عنها فإن كان بوسائط لازمة لها فالوسط اللازم لها قديم بقدمها وقد قالوا إنه يمتنع صدور الحوادث عن قديم هو على حال واحد كما كان
الوجه الثالث
أن يقال هم يقولون بأن الواجب فياض دائم الفيض وإنما يتخصص بعض الأوقات بالحدوث لما يتجدد من حدوث الاستعداد والقبول وحدوث الاستعداد والقبول هو سبب حدوث الحركات
وهذا كلام باطل فإن هذا إنما يتصور إذا كان الفاعل الدائم الفيض ليس هو المحدث لاستعداد القبول كما يدعونه في العقل
الفعال فيقولون إنه دائم الفيض ولكن يحدث استعداد القوابل بسبب حدوث الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية وتلك ليست صادرة عن العقل الفعال وإنما في المبدع الأول فهو المبدع لكل ما سواه فعنه يصدر الاستعداد والقبول والقابل والمقبول
وحينئذ فيقال إذا كان علة تامة موجبا بذاته وهو دائم الفيض لا يتوقف فيضه على شيء غيره أصلا لزم أن يكون كل ما يصدر عنه بواسطة أو بغير واسطة لازما له قديما بقدمه فلا يحدث عنه شيء لا بوسط ولا بغير وسط لأن فعله وإبداعه لا يتوقف على استعداد أو قبول يحدث عن غيره ولكن هو المبدع للشرط والمشروط والقابل والمقبول والاستعداد وما يفيض على المستعد وإذا كان وحده هو الفاعل لذلك كله امتنع أن يكون علة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها لأن ذلك يوجب أن يكون معلوله كله أزليا قديما بقدمه وكل ما سواه معلول له فيلزم أن يكون كل ما سواه قديما أزليا وهذا مكابرة للحس
ومن تدبر هذا وفهمه تبين له أن فساد قول هؤلاء معلوم بالضرورة بعد التصور التام
وإنما عظمت حجتهم وقويت شوكتهم على أهل الكلام المحدث المبتدع الذي ذمه السلف والأئمة من الجهمية والمعتزلة ومن
وافقهم من الأشعرية والكرامية والشيعة ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم فإن هؤلاء لما اعتقدوا أن الرب في الأزل كان يمتنع منه الفعل والكلام بمشيئته وقدرته وكان حقيقة قولهم أنه لم يكن قادرا في الأزل على الكلام والفعل بمشيئته وقدرته لكون ذلك ممتنعا لنفسه والممتنع لا يدخل تحت المقدور صاروا حزبين
حزبا قالوا إنه صار قادرا على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادرا عليه لكونه صار الفعل والكلام ممكنا بعد أن كان ممتنعا وإنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي وهذا قول المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة وهو قول الكرامية وأئمة الشيعة كالهاشمية وغيرهم
وحزبا قالوا صار الفعل ممكنا بعد أن كان ممتنعا منه وأما الكلام فلا يدخل تحت المشيئة والقدرة بل هو شيء واحد لازم لذاته وهو قول ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما
أو قالوا إنه حروف أو حروف وأصوات قديمة الأعيان لا تتعلق بمشيئته وقدرته وهو قول طوائف من أهل الكلام والحديث والفقه ويعزى ذلك إلى السالمية وحكاه الشهرستاني عن السلف والحنابلة وليس هو قول جمهور أئمة الحنابلة ولكنه قول طائفة منهم من أصحاب مالك والشافعي وغيرهم
وأصل هذا الكلام كان من الجهمية أصحاب جهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف ونحوهما قالوا لأن الدليل قد دل على أن دوام
الحوادث ممتنع وأنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ لامتناع حوادث لا أول لها كما قد بسط في غير هذا الموضع
قالوا فإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون كل ما تقارنه الحوادث محدثا فيمتنع أن يكون البارىء لم يزل فاعلا متكلما بمشيئته وقدرته
بل يمتنع أن يكون لم يزل قادرا على ذلك لأن القدرة على الممتنع ممتنعة فيمتنع أن يكون قادرا على دوام الفعل والكلام بمشيئته وقدرته
قالوا وبهذا يعلم حدوث الجسم لأن الجسم لا يخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث
ولم يفرق هؤلاء بين مالا يخلو عن نوع الحوادث وبين مالا يخلو عن عين الحوادث ولا فرقوا فيما لا يخلو عن الحوادث بين أن يكون مفعولا معلولا أو أن يكون فاعلا واجبا بنفسه
فقال لهؤلاء أئمة الفلاسفة وأئمة أهل الملل وغيرهم فهذا الدليل الذي أثبتم به حدوث العالم هو يدل على امتناع حدوث العالم وكان ما ذكرتموه إنما يدل على نقيض ما قصدتموه
وذلك لأن الحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثا فلا بد أن
يكون ممكنا والإمكان ليس له وقت محدود فما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله فليس لإمكان الفعل وجواز ذلك وصحته مبدأ ينتهى إليه فيجب أنه لم يزل الفعل ممكنا جائزا صحيحا فيلزم أنه لم يزل الرب قادرا عليه فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها
قال المناظر عن أولئك المتكلمين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم نحن لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له لكن نقول إمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له وذلك لأن الحوادث عندنا يمتنع أن تكون قديمة النوع بل يجب حدوث نوعها ويمتنع قدم نوعها لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه فإمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة العدم لا أول له بخلاف جنس الحوادث
فيقال لهم هب أنكم تقولون ذلك لكن يقال إمكان جنس الحوادث عندكم له بداية فإنه صار جنس الحدوث عندكم ممكنا بعد أن لم يكن ممكنا وليس لهذا الإمكان وقت معين بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله فيلزم دوام الإمكان وإلا لزم انقلاب الجنس من الإمكان إلى الامتناع من غير حدوث شيء ولا تجدد شيء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق