الفصل الثاني تزكية النفس وكيف تزكو
وقال شيخ الاسلام احمد بن تيمية رحمه الله تعالى فصل في تزكية النفس وكيف تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات قال تعالى قد أفلح من زكاها و قد أفلح من تزكى معنى التزكية قال قتادة وابن عيينة وغيرهما قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال وقال الفراء والزجاج قد أفلحت نفس زكاها الله وقد خابت نفس دساها الله وكذلك ذكره الوالبي عن ابن عباس وهو منقطع وليس هو مراد من الآية بل المراد بها الأول قطعا لفظا ومعنى أما اللفظ فقوله من زكاها اسم موصول ولا بد فيه من عائد على من فإذا قيل قد أفلح الشخص الذي زكاها كان ضمير الشخص في زكاها يعود على من هذا وجه الكلام الذي لا ريب في صحته كما يقال قد أفلح من اتقى الله وقد أفلح من أطاع ربه وأما اذا كان المعنى قد أفلح من زكاه الله لم يبق في الجملة ضمير
يعود على من فإن الضمير على هذا يعود على الله وليس هو من وضمير المفعول يعود على النفس المتقدمة فلا يعود على من لا ضمير الفاعل ولا المفعول فتخلو الصلة من عائد وهذا لا يجوز نعم لو قيل قد أفلح من زكى الله نفسه أو من زكاها الله له ونحو ذلك صح الكلام وخفاء هذا على من قال به من النحاة عجب وهو لم يقل قد أفلحت نفس زكاها فإنه هنا كانت تكون زكاها صفة لنفس لا صلة بل قال قد أفلح من زكاها فالجملة صلة لمن لا صفة لها ولا قال أيضا قد أفلحت النفس التي زكاها فإنه لو قيل ذلك وجل في زكاها ضمير يعود على اسم الله صح فإذا تكلفوا وقالوا التقدير قد أفلح من زكاها هي النفس التي زكاها وقالوا في زكى ضمير المفعول يعود على من وهي تصلح للمذكر والمؤنث والواحد والعدد فالضمير عائد على معناها المؤنث وتأنيثها غير حقيقي ولهذا قيل قد أفلح ولم يقل قد أفلحت قيل لهم هذا مع أنه خروج من اللغة الفصيحة فإنما يصح اذا دل الكلام على ذلك في مثل ومن على أن المراد لنا وكذا قوله ومنهم من يستمعون اليك ونحو ذلك وأما هنا فلس في لفظ من وما بعدها ما يدل على أن المراد به النفس المؤنثه فلا يجوز أن يراد بالكلام ما ليس فيه دليل على ارادته فإن مثل هذا مما يصان كلام الله تعالى عنه فلو قدر احتمال عود ضمير زكاها الى نفس والى من مع أن لفظ من لا دليل يوجب عوده عليه لكان الى المؤنث أولى من اعادته الى ما يحتمل التذكير والتأنيث
وهو في التذكير أظهر لعدم دلالته على التأنيث فان الكلام اذا احتمل معنيين وجب حمله على أظهرهما ومن تكلف غير ذلك فقد خرج عن كلام العرب المعروف والقرآن منزه عن ذلك والعدول عما يدل عليه ظاهر الكلام الى ما لا يدل عليه بلا دليل لا يجوز البتة فكيف اذا كان نصا من جهة المعنى فقد أخبر الله أنه يلهم التقوى والفجور ولبسط هذا موضع آخر التزكية في الكتاب السنة والمقصود هنا أمر الناس بتزكية أنفسهم والتحذير من تدسيتها كقوله قد أفلح من تزكى فلو قدر أن المعنى قد أفلح من زكى الله نفسه لم يكن فيه أمر لهم ولا ينهي ولا ترغيب ولا ترهيب والقرآن اذا أمر أو نهى لا يذكر مجرد القدر فلا يقول من جعله الله مؤمنا بل يقول قد أفلح المؤمنون قد أفلح من تزكى اذ ذكر مجرد القدر في هذا يناقض المقصود ولا يليق هذا بأضعف الناس عقلا فكيف بكلام الله ألا ترى أنه في مقام الأمر والنهي والترغيب والترهيب يذكر القدر عند بيان نعمه عليهم اما بما ليس من أفعالهم وإما بإنعامه بالايمان والعمل الصالح ويذكره في سياق قدرته ومشيئته وأما في معرض الأمر فلا يذكره الا عند النعم كقوله ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى الآية فهذا مناسب وقوله قد أفلح من تزكى وهذه الأية من جنس الثانية لا الأولى والمقصود ذكر التزكية قال تعالى قل للمؤمنين يغضوا
الآية وقال فارجعوا هو أزكى لكم وقال الذين لا يؤتون الزكاة وقال وما عليك ألا يزكى وأصل الزكاة الزيادة في الخير ومنه يقال زكا الزرع وزكا المال اذا نما ولن ينمو الخير الا بترك الشر والزرع لا يزكو حتى يزال عنه الدغل فكذلك النفس والأعمال لا تزكو حتى يزال عنها ما يناقضها ولا يكون الرجل متزكيا الا مع ترك الشر فإنه يدنس النفس ويدسيها قال الزجاج دساها جعلها ذليلة حقيرة خسيسة وقال الفراء دساها لأن البخيل يخفي نفسه ومنزله وماله قال ابن قتيبة أي أخفاها بالفجور والمعصية فالفاجر دس نفسه أي قمعها وخباها وصانع المعروف شهر نفسه ورفعها وكانت أجواد العرب تنزل الربى لتشهر أنفسها واللئام تنزل الأطارف والوديان فالبر والتقوى يبسط النفس ويشرح الصدر بحيث يجد الانسان في نفسه اتساعا وبساطا عما كان عليه قبل ذلك فإنه لما اتسع بالبر والتقوى والاحسان بسطه الله وشرح صدره والفجور والبخل يقمع النفس ويضعها ويهينها بحيث يجد البخيل في نفسه أنه ضيق وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث الصحيح فقال مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما الى تراقيهما فجعل المتصدق كلما هم بصدقة اتسعت وانبسطت عنه حتى تغشى أنامله
وتعفو أثره وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعه في جيبه فلو رأيتها يوسعها فلا تتسع أخرجاه وإخفاء المنزل واظهاره تبعا لذلك قال تعالى يتوارى من القوم من سوء ما بشر به الآية فهكذا النفس البخيلة الفاجرة قد دسها صاحبها في بدنه بعضها في بعض ولهذا وقت الموت تنزع من بدنه كما ينزع السفود من الصوف المبتل والنفس البرة التقية النقية التي قد زكاها صاحبها فارتفعت واتسعت ومجدت ونبلت فوقت الموت تخرج من البدن تسيل كالقطرة من في السقاء وكالشعرة من العجين قال ابن عباس ان للحسنة لنورا في القلب وضياء في الوجه وقوة في البدن وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وان للسيئة لظلمة في القلب وسوادا في الوجه وهونا في البدن وضيقا في الرزق وبغضة في قلوب الخلق قال تعالى والبلد الطيب الآية وهذا مثل البخيل والمنفق قال فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره الآية وقال الله ولي الذين آمنوا الآية
وقال له في سياق الرمي بالفاحشة وذم من أحب اظهارها في المؤمنين والمتكلم بما لا يعلم ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا الآية فبين أن الزكاة انما تحصل بترك الفاحشة ولهذا قال قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم الآية وذلك أن ترك السيئات هو من أعمال النفس فإنها تعلم أن السيئات مذمومة ومكروه فعلها ويجاهد نفسه اذا دعته اليها ان كان مصدقا لكتاب ربه مؤمنا بما جاء عن نبيه صلى الله عليه وسلم ولهذا التصديق والايمان والكراهة وجهاد النفس أعمال تعملها النفس المزكاة فتزكو بذلك أيضا بخلاف ما اذا عملت السيئات فانها تتدنس وتدنس وتنقمع كالزرع اذا نبت منه الدغل والثواب انما يكون على عمل موجود وكذلك العقاب فأما العدم المحض فلا ثواب فيه ولا عقاب لكن فيه عدم الثواب والعقاب والله سبحانه أمر بالخير ونهى عن الشر واتفق الناس على أن المطلوب بالأمر فعل موجود واختلفوا في النهي هل المطلوب أمر وجودي أم عدمي فقيل وجودي وهو الترك وهذا قول الأكثر وقيل المطلوب عدم الشر وهو أن لا يفعله والتحقيق أن المؤمن اذا نهى عن النكر فلا بد أن لا يقربه ويعزم على تركه ويكره فعله وهذا أمر وجودي بلا ريب فلا يتصور أن المؤمن الذي يعلم أنه وجودي لكن قد لا يكون مريدا له كما يكره أكل الميتة طبعا ومع ذلك فلا بد له من اعتقاد التحريم والعزم على تركه لطاعة الشارع وهذا قدر زائد على كراهة الطبع وهو أمر وجودي يثاب عليه
ولكن ليس كثواب من كف نفسه وجاهدها عن طلب المحرم ومن كانت كراهته للمحرمات كراهة ايمان وقد غمر ايمانه حكم طبعه فهذا أعلى الأقسام الثلاثة وهذا صاحب النفس المطمئنة وهو أرفع من صاحب اللوامة التي تفعل الذنب وتلوم صاحبها عليه وتتلوم وتتردد هل تفعله أم لا وأما من لم يخطر بباله أن الله حرمه ولا هو مريد له بل لم يفعله فهذا لا يعاقب ولا يثاب اذ لم يحصل منه أمر وجودي يثاب عليه أو يعاقب فمن قال المطلوب أن لا يفعل ان أراد أن هذا المطلوب يكفي في عدم العقاب فقد صدق وإن أراد أنه يثاب على هذا العدم فليس كذلك والكافر اذا لم يؤمن بالله ورسوله فلا بد لنفسه من أعمال يشتغل بها عن الايمان وترك الأعمال كفر يعاقب عليها ولهذا لما ذكر الله عقوبة الكفار في النار ذكر أمروا وجودية وتلك تددس تفس النفس ولهذا كان التوحيد والايمان أعظم ما تزكو به النفس وكان الشرك أعظم ما يدسيها وتتزكى بالأعمال الصالحة والصدقة هذا كله مما ذكره السلف قالوا في قد أفلح من تزكى تطهر من الشرك ومن المعصية بالتوبة وعن أبي سعيد وعطاء وقتادة صدقة الفطر ولم يريدوا أن الآية لم تتناول الا هي بل مقصودهم أن من أعطى صدقة الفطر وصلى صلاة العيد فقد تناولته وما بعدها ولهذا كان يزيد بن حبيب كلما خرج الى الصلاة خرج بصدقة ويتصدق بها قبل الصلاة ولو لم يجد الا بصلا قال الحسن قد أفلح من تزكى من كان عمله زاكيا وقال أبو الأحوص زكاة الأمور كلها وقال الزجاج تزكى بطاعة الله تعالى ومعنى الزاكي النامي الكثير
وكذلك قالوا في قوله وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة قال ابن عباس لا يشهدون أن لا اله الا الله وقال مجاهد لا يزكون أعمالهم أي ليست زاكية وقيل لا يطهرونها بالاخلاص كأنه أراد والله أعلم أهل الرياء فإنه شرك وعن الحسن لا يؤمنون بالزكاة ولا يقرون بها وعن الضحاك لا يتصدقون ولا ينفقون في الطاعة وعن ابن السائب لا يعطون زكاة من أموالهم قال كانوا يحجون ويعتمرون ولا يزكون والتحقيق أن الآية تتناول كل ما يتزكى به الإنسان من التوحيد والأعمال الصالحة كقوله هل لك الى أن تزكي وقوله قد أفلح من تزكى والصدقة المفروضة لم تكن فرضت عند نزولها فإن قيل يؤتى فعل متعد قيل هذا كقوله ثم سئلوا الفتنة لأتوها وتقدم قبلها أن الرسول دعاهم وهو طلب منه فكان هذا اللفظ متضمنا قيام الحجة عليهم بالرسل والرسل إنما يدعونهم لما تزكو به أنفسهم ومما يليق أن الزكاة تستلزم الطهارة لأن معناها معنى الطهارة قوله خذ من أموالهم صدقة تطهرهم من الشر وتزكيهم بالخير قال صلى الله عليه وسلم اللهم طهرني بالماء والبرد والثلج
كان يدعو به في الاستفتاح وفي الاعتدال من الركوع والغسل فهذه الأمور توجب تبريد المغسول بها والبرد يعطي قوة وصلابة وما يسر يوصف بالبرد وقرة العين ولهذا كان دمع السرور باردا ودمع الحزن حارا لأن ما يسوء النفس يوجب حزنها وغمها وما يسرها يوجب فرحها وسرورها وذلك مما يبرد الباطن فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسل الذنوب على وجه يبرد القلوب أعظم برد يكون بما فيه من الفرح والسرور الذي أزال عنه ما يسوء النفس من الذنوب وقوله بالثلج والبرد والماء البارد تمثيل بما فيه من هذا الجنس والا فنفس الذنوب لا تغسل بذلك كما يقال أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك ولما قضى أبو قتادة دين المدين قال صلى الله عليه وسلم الآن بردت جلدته ويقال برد اليقين وحرارة الشك ويقال هذا الأمر يثلج له الصدر اذا كان حقا يعرفه القلب ويفرح به حتى يصير في مثل برد الثلج ومرض النفس اما شبهة واما شهوة أو غضب والثلاثة توجب السخونة ويقال لمن نال مطلوبه برد قلبه فان الطالب فيه حرارة الطلب وقوله خذ من أموالهم دليل على أن عمل الحسنات يطهر النفس ويزكيها من الذنوب السالفة فإنه قاله بعد قوله وآخرون اعترفوا الآية فالتوبة والعمل الصالح يحصل بهما التطهير والتزكية ولهذا قال في سياق قوله قل للمؤمنين يغضوا الآيات وتوبوا الى
الله الآية فأمرهم جيمعا بالتوبة في سياق ما ذكره لأنه لا يسلم أحد من هذا الجنس كما في الصحيح ان الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا الحديث وكذلك في الصحيح أن قوله ان الحسنات يذهب السيئات نزلت بسبب رجل نال من امرأة كل شيء الا الجماع ثم ندم فنزلت ويحتاج المسلم في ذلك الى أن يخاف الله وينهى النفس عن الهوى ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه بل على اتباعه والعمل به فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة لله وعملا صالحا وثبت عنه أنه قال المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله فيؤمر بجهادها كما يؤمر بجهاد من يأمر بالمعاصي ويدعو اليها وهو الى جهاد نفسه أحوج فإن هذا فرض عين وذاك فرض كفاية والصبر في هذا من أفضل الأعمال فإن هذا الجهاد حقيقة ذلك الجهاد فمن صبر عليه صبر على ذلك الجهاد كما قال والمهاجر من هجر السيئات
ثم هذا لا يكون محمودا فيه الا اذا غلب بخلاف الأول فإنه من يقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ليس الشديد بالصرعة الخ وذلك لأن الله أمر الانسان أن ينهى النفس عن الهوى وأن يخاف مقام ربه فحصل له من الايمان ما يعينه على الجهاد فإذا غلب كان لضعف ايمانه في كون مفرطا بترك المأمور بخلاف العدو الكفار فإنه قد يكون بدنه أقوى فالذنوب انما تقع اذا كانت النفس غير ممتثلة لما أمرت به ومع امتثال المأمور لا تفعل المحظور فإنهما ضدان قال تعالى كذلك لنصرف عنه السوء الآية وقال ان عبادي ليس لك عليهم سلطان فعباد الله المخلصون لا يغويهم الشيطان والغي خلاف الرشد وهو اتباع الهوى فإن ذلك يصرف عنه السوء والفحشاء خشية ومحبة والعبادة له وحده وهذا يمنع من السيئات فإذا كان تائبا فإن كان ناقصا فوقعت السيئات من صاحبه كان ماحيا لها بعد الوقوع فهو كالترياق الذي يدفع أثر السم ويرفعه بعد حصوله وكالغذاء من الطعام والشراب وكالاستمتاع بالحلال الذي يمنع
النفس على طلب الحرام فإذا حصل له طلب ازالته وكالعلم الذي يمنع من الشك ويرفعه بعد وقوعه وكالطلب الذي يحفظ الصحة ويدع المرض وكذلك ما في القلب من الايمان يحفظ بأشباهه مما يقوم به واذا حصل منه مرض من الشبهات والشهوات أزيل بهذه ولا يحصل المرض الا لنقص أسباب الصحة كذلك القلب لا يمرض الا لنقص ايمانه وكذلك الايمان والكفران متضادان فكل ضدين فأحدهما يمنع الآخر تارة ويرفعه أخرى كالسواد والبياض حصل موضعه ويرفعه اذا كان حاصلا كذلك الحسنات والسيئات والاحباط والمعتزلة أن الكبيرة تحبط الحسنات حتى الايمان وان من مات عليها لم يكن الجبائي وابنه بالموازنة لكن قالوا من رجحت سيئاته خلد في النار والموازنة بلا تخليد قول الاحباط ما أجمع عليه وهو حبوط الحسنات كلها بالكفر كما قال ومن يرتدد منكم عن دينه الآية وقوله ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله الآية وقال ولو أشركوا الحبط عنهم ما كانوا يعملون وقال لئن أشركت ليحبطن عملك الآية وما ادعته المعتزلة مخالف لأقوال السلف فإنه سبحانه ذكر حد الزاني
وغيره ولم يجعلهم كفارا حابطي الأعمال ولا أمر بقتلهم كما أمر بقتل المرتدين والمنافقون لم يكونوا يظهرون كفرهم والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة على الغال وعلى قاتل نفسه ولو كانوا كفارا ومنافقين لم تجز الصلاة عليه فعلم أنهم لم يحبط ايمانهم كله وقال عمن شرب الخمر لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله وذلك الحب من أعظم شعب الايمان فعلم أن ادمانه لا يذهب الشعب كلها وثبت من وجوه كثيرة يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من ايمان ولو حبط لم يكن في قلوبهم شيء منه وقال تعالى ثم أورثنا الكتاب الآية فجعل من المصطفين فإذا كانت السيئات لا تحبط جميع الحسنات فهل تبط بقدرهاوهل يحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر فيه قولان للمنتسبين الى السنة منهم من ينكره ومنهم من يثبته كما دلت عليه النصوص مثل قوله لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى الآية دل على أن هذه السيئة تبطل الصدقة وضرب مثله بالمرائي وقالت عائشة أبلغي زيدا أن جهاده بطل الحديث
وأما قوله أن تحبط أعمالكم وحديث صلاة العصر ففي ذلك نزاع وقال تعالى ولا تبطلوا أعمالكم قال الحسن بالمعاصي والكبائر وعن عطاء بالشرك والنفاق وعن ابن السائب بالرياء والسمعة وعن مقاتل بالمن وذلك أن قوما منوا باسلامهم فما ذكر عن الحسن يدل على أن المعاصي والكبائر تحبط الأعمال فإن قيل لم يرد الا ابطالها بالكفر قيل ذلك منهي عنه في نفسه وموجب للخلود الدائم فالنهي عنه لا يعبر عنه بهذا بل على وجه التغليظ كقوله ومن يرتد منكم عن دينه ونحوها والله سبحانه في هذه وفي آية المن سماها ابطالا ولم يسمه احباطا ولهذا ذكر بعدها الكفر بقوله ان الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار الآية فان قيل المراد اذا دخلتم فيها فأتموها وبها احتج من قال يلزم التطوع بالشروع فيه قيل لو قدر أن الآية تدل على أنه منهي عن ابطال بعبض العمل فابطاله كله أولى بدخوله فيها فكيف وذلك قبل فراغه لا يسمى صلاة ولا صوما ثم يقال الابطال يوجد قبل الفراغ أو بعده وما ذكره وأمر بالاتمام والابطال هو ابطال الثواب ولا نسلم أن من لم يتم العبادة يبطل جميع ثوابه بل يقال انه يثاب على ما فعل من ذلك وفي الصحيح حديث المفلس الذي يأتي بحسنات أمثال الجبال
الفصل الثالث حكم السياحة مع قطيعة الرحم
سئل شيخ الاسلام رحمه الله تعالى عن رجل تفقه وعلم ما أمر الله به وما نهى عنه ثم تزهد وترك الدنيا والمال والأهل والأولاد خائفا من كسب الحرام والشبهات وبعث الآخرة وطلب رضا الله ورسوله وساح في أرض الله والبلدان فهل يجوز له أن يقطع الرحم ويسيح كما ذكر أم لا فأجاب الحمد لله وحده الزهد المشروع الزهد المشروع هو ترك كل شيء لا ينفع في الدار الآخرة وثقة القلب بما عند الله كما في الحديث الذي في الترمذي ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا اضاعة المال ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق بما في يدك وأن تكون في ثواب المصيبة اذا أصبت أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك لأن الله تعالى يقول لكيلا لا تأسوا على ما فتكم ولا تفرحوا بما آتاكم فهذا صفة القلب
وأما في الظاهر فترك الفضول التي لا يستعان بها على طاعة الله من مطعم وملبس ومال وغير ذلك كما قال الامام أحمد انما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس وصبر أيام قلائل زهد الرسول صلى الله عليه وسلم وجماع ذلك خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول خير كلام الله وخير الهدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكان عادته في المطعم أنه لا يرد موجودا ولا يتكلف مفقودا ويلبس من اللباس ما تيسر من قطن وصوف وغير ذلك وكان القطن أحب اليه وكان اذا بلغه أن بعض أصحابه يريد أن يعتدي فيزيد في الزهد أو العبادة على المشروع ويقول أينا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب لذلك ويقول والله اني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدود الله تعالى وبلغه أن بعض أصحابه قال أما أنا فأصوم فلا أفطر وقال الآخر أما أنا فأقوم فلا أنام وقال آخر أما أنا فلا أتزوج النساء وقال الآخر أما أنا فلا آكل اللحم فقال صلى الله عليه وسلم لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني فأما الاعراض عن الأهل والأولاد فليس مما يحبه الله ورسوله ولا هو من دين الأنبياء بل قد قال تعالى ولقد أرسلنا رسلا من قبلك
وجعلنا لهم أزواجا وذرية والانفاق على العيال والكسب لهم يكون واجبا تارة ومستحبا أخرى فكيف يكون ترك الواجب أو المستحب من الدين أنواع السياحة وأحكامها وكذلك السياحة في البلاد لغير مقصود مشروع كما يعانيه بعض النساك أمر منهى عنه قال الامام أحمد ليست السياحة من الاسلام في شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين وأما السياحة المذكورة في القرآن من قوله التائبون العابدون الحامدون السائحون ومن قوله مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدت سائحات ثيبات وأبكارا فليس المراد بها هذه السياحة المبتدعة فان الله قد وصف النساء اللآتي يتزوجهن رسوله بذلك والمرأة المزوجة لا يشرع لها أن تسافر في البراري سائحة بل المراد بالسياحة شيئان أحدهما الصيام كما روى عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي
يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وان في الجسد مضعة اذا صلحت صلح الجسد كله واذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب متفق عليه لكن اذا ترك الانسان الحرام أو الشبهة بترك واجب أو مستحب وكان الاثم أو النقص الذي عليه في الترك أعظم من الاثم الذي عليه في الفعل لم يشرع ذلك كما ذكر أبو طالب المكي وأبو حامد الغزالي عن الامام أحمد بن حنبل أنه سئل عمن ترك ما لا شبهة فيه وعليه دين فسأله ولده أترك هذا المال الذي فيه شبهة فلا أقضيه فقال له اتدع
الفصل الرابع معنى حق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين
سئل شيخ الاسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله عن قوله تعالى حق اليقين وعين اليقين و علم اليقين فما معنى كل مقام منها وأي مقال أعلى فأجاب الحمد لله رب العالمين للناس في هذه الأسماء مقالات معروفة منها أن يقال علم اليقين ما علمه بالسماع والخبر والقياس والنظر وعين اليقين ما شاهده وعاينه بالبصر وحق اليقين ما باشره ووجده وذاقه وعرفه بالاعتبار فالأولى مثل من أخبر أن هناك عسلا وصدق المخبر أو رأى آثار العسل فاستدل على وجوده والثاني مثل من رأى العسل وشاهده وعاينه وهذا أعلى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس المخبر كالمعاين
والثالث مثل من ذاق العسل ووجد طعمه وحلاوته ومعلوم أن هذا أعلى مما قبله ولهذا يشير أهل المعرفة الى ما عندهم من الذوب والوجد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان من كان الله ورسوله أحب اليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه الا لله ومن كان يكره أن يرجع الى الكفر بعد اذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار وقال صلى الله عليه وسلم ذاق طعم الايمان من رضي بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا فالناس فيما يجده أهل الايمان ويذوقونه من حلاوة الايمان وطعمه على ثلاث درجات درجات أهل الايمان الأولى من علم ذلك مثل من يخبره به شيخ له يصدقه أو يبلغه ما أخبر به العارفون عن أنفسهم أو يجد من آثار أحوالهم ما يدل على ذلك والثانية من يشاهد ذلك وعاينه مثل أن يعاين من أحوال أهل المعرفة والصدق واليقين ما يعرف به مواجيدهم وأذواقهم وان كان هذا في الحقيقة لم يشاهد ما ذاقوه ووجدوه ولكن شاهد ما دل عليه لكن هو أبلغ من المخبر والمستدل بآثارهم
والثالثة أن يحصل له من الذوق والوجه في نفسه ما كان سمعه كما قال بعض الشيوخ لقد كنت في حال أقول فيها ان كان أهل الجنة في الجنة في مثل هذا الحال انهم لفي عيش طيب وقال آخر انه ليمر على القلب أوقات يرقص منها طربا وقال الآخر لأهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم درجات الناس في الايمان بالآخرة والناس فيما أخبروا به من أمر الآخرة على ثلاث درجات احداها العلم بذلك لما أخبرتهم الرسل وما قام من الأدلة على وجود ذلك الثانية اذا عاينوا ما وعدوا به من الثواب والعقاب والجنة والنار والثالثة اذا باشروا ذلك فدخل أهل الجنة الجنة وذاقوا ما كانوا يوعدون ودخل أهل النار النار وذاقوا ما كانوا يوعدون فالناس فيما يوجد في القلوب وفيما يوجد خارج القلوب على هذه الدرجات الثلاث درجات الناس فيما يخبروا بن من أمور الدنيا وكذلك في أمور الدنيا فان من أخبر بالعشق أو النكاح ولم يره ولم يذقه كان له علم به فان شاهده ولم يذقه كان له معاينة له فإن ذاقه بنفسه كان له ذوق وخبرة به ومن لم يذق الشيء لم يعرف حقيقته فان العبارة انما تفيد التمثيل والتقريب وأما معرفة الحقيقة فلا تحصل بمجرد العبارة الا لمن يكون قد ذاق ذلك الشيء المعبر عنه وعرفه وخبره ولهذا يسمون أهل المعرفة لأنهم عرفوا بالخبرة والذوق ما يعلمه غيرهم بالخبر والنظر وفي الحديث الصحيح أن هرقل ملك الروم سأل أبا سفيان بن حرب فيما سأله عنه من أمور النبي صلى الله عليه وسلم قال فهل يرجع
أحد منهم دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه قال لا قال وكذلك الايمان اذا خالطت بشاشته القلب لا يسخطه أحد القلب بين زيادة الايمان وزيادة المحبة فالايمان اذا باشر القلب وخالطته بشاشته لا يسخطه القلب بل يحبه ويرضاه فإن له من الحلاوة في القلب واللذة والسرور والبهجة ما لا يمكن التعبير عنه لمن لم يذقه والناس متفاوتون في ذوقه والفرح والسرور الذي في القلب له من البشاشة ما هو بحسبه واذا خالطت القلب لم يسخطه قال تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون وقال تعالى والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل اليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه وقال تعالى وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه ايمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم ايمانا وهم يستبشرون فأخبر سبحانه أنهم يستبشرون بما أنزل من القرآن والاستبشار هو الفرح والسرو وذلك لما يجدونه في قلوبهم من الحلاوة واللذه والبهجة بما أنزل الله واللذة أبدا تتبع المحبة فمن أحب شيئا ونال ما أحبه وجد اللذة به فالذوق هو ادراك المحبوب اللذة الظاهرة كالأكل مثلا حال الانسان فيها أنه يشتهي الطعام ويحبه ثم يذوقه ويتناوله فيجد حينئذ لذته وحلاوته وكذلك النكاح وأمثال ذلك
وليس للخلق محبة أعظم ولا أكمل ولا أتم من محبة المؤمنين لربهم وليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجه الا الله تعالى وكل ما يحب سواه فمحبته تبع لحبه فإن الرسول E انما يحب لأجل الله ويطاع لأجل الله ويتبع لأجل الله كما قال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وفي الحديث أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي وقال تعالى قل ان كان آباؤكم الى قوله أحب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من ولده ووالده والناس أجمعين وفي حديث الترمذي وغيره من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الايمان وقال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله فالذين آمنوا أشد حبا لله من كل محب لمحبوبه وقد بسطنا الكلام على هذا في مواضع متعددة والمقصود هنا أن أهل الايمان يجدون بسبب محبتهم لله ولرسوله
من حلاوة الايمان ما يناسب هذه المحبة ولهذا علق النبي صلى الله عليه وسلم ما يجدونه بالمحبة فقال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان أن يكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه الا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ومن ذلك ما يجدونه من ثمرة التوحيد والاخلاص والتوكل والدعاء لله وحده فإن الناس في هذا الباب على ثلاث درجات درجات الناس فيا يجدونه من ثمرة التوحيد منهم من علم ذلك سماعا واستدلالا ومنهم من شاهد وعاين ما يحصل لهم ومنهم من وجد حقيقة الاخلاص والتوكل على الله والالتجاء اليه والاستعانة به وقطع التعلق بما سواه وجرب من نفسه أنه اذا تعلق بالمخلوقين ورجاهم وطمع فيهم أن يجلبوا له منفعة أو يدفعوا عنه مضرة فإنه يخذل من جهتهم ولا يحصل مقصوده بل قد يبذل لهم من الخدمة والأموال وغير ذلك ما يرجو أن ينفعوه وقت حاجته اليهم فلا ينفعونه اما لعجزهم واما لانصارف قلوبهم عنه واذا توجه الى الله بصدق الافتقار اليه واستغاث به مخلصا له الدين أجاب دعاءه وأزال ضرره وفتح له أبواب الرحمة فمثل هذا قد ذاق من حقيقة التوكل والدعاء لله ما لم يدق غيره وكذلك من ذاق طعم إخلاص لله وارادة وجهه دون ما سواه يجد من الأحوال والنتائج والفوائد ما لا يجده من لم يكن كذلك بل من اتبع هواه في مثل طلب الرئاسة والعلو وتعلقه بالصور الجميلة أو جمعه للمال يجد في أثناء ذلك من الهموم والغموم والأحزان
والآلام وضيف الصدر ما لا يعبر عنه وربما لا يطاوعه قلبه على ترك الهوى ولا يحصل له ما يسره بل هو في خوف وحزن دائما ان كان طالبا لما يهواه فهو قبل ادراكه حزين متألم حيث لم يحصل فإذا أدركه كان خائفا من زواله وفراقه وأولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فإذا ذاق هذا أو غيره حلاوة الاخلاص لله والعبادة وحلاوة ذكره ومناجاته وفهم كتابه وأسلم وجهه لله وهو محسن بحيث يكون عمله صالحا ويكون لوجه الله خالصا فإنه يجد من السرور واللذة والفرح ما هو أعظم مما يجده الداعي المتوكل الذي نال بدعائه وتوكله ما ينفعه من الدنيا أو اندفع عنه ما يضره فإن حلاوة ذلك هي بحسب ما حصل له من المنفعة أو اندفع عنه من المضرة ولا أنفع للقلب من التوحيد واخلاص الدين لله ولا أضر عليه من الاشراك فإذا وجد حقيقة الاخلاص التي هي حقيقةاياك نعبدمع حقيقة التوكل التي هي حقيقة اياك نستعين كان هذا فوق ما يجده كل أحد لم يجد مثل هذا والله أعلم
الفصل الخامس الوصية الصغرى سؤال أبي القاسم المغربي
يتفضل الشيخ الامام بقية السلف وقدوة الخلف أعلم من لقيت ببلاد المشرق والمغرب تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية بأن يوصيني بما يكون فيه صلاح ديني ودنياي ويرشدني الى كتاب يكون عليه اعتمادي في علم الحديث وكذلك في غيره من العلوم الشرعية وينبهني على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات ويبين لي أرجح المكاسب كل ذلك على قصد الايماء والاختصار والله تعالى يحفظه والسلام الكريم عليه ورحمة الله وبركاته فأجاب الحمد لله رب العالمين وصية الله في كتابنه أما الوصية فما أعلم وصية أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها واتبعها قال تعالى ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ ووصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذا لما بعثه الى اليمن فقال
يا معاذ اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن وكان معاذ رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة عليه فإنه قال له يا معاذ والله اني لأحبك وكان يردفه وراءه وروى فيه أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام وأنه يحشر أمام العلماء برتوة أي بخطوة ومن فضله أنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مبلغا عنه داعيا ومفقها ومفتيا وحاكما الى أهل اليمن وكان يشبهه بإبراهيم الخليل عليه السلام وإبراهيم امام الناس وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول ان معاذا كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين تشبيها له بإبراهيم
شرح وصية الرسول ثم انه صلى الله عليه وسلم وصاه هذه الوصية فعلم أنها جامعة وهي كذلك لمن عقلها مع أنها تفسير الوصية القرآنية أما بيان جمعها فلأن العبد عليه حقان حق لله تعالى وحق لعباده ثم الحق الذي عليه لا بد أن يخل ببعضه أحيانا اما بترك مأمور به أو فعل منهي عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم اتق الله حيثما كنت وهذه كلمة جامعة وفي قوله حيثما كنت تحقيق لحاجته الى التقوى في السر والعلانية ثم قال واتبع السيئة الحسنة تمحها فإن الطبيب متى تناول المريض شيئا هو الذي مضرا أمره بما يصلحه والذنب للعبد كأنه أمر حتم فالكيس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات وإنما قدم في لفظ الحديث السيئة وإن كانت مفعولة لأن المقصود هنا محوها لا فعل الحسنة فصار كقوله في بول الأعربي صبوا عليه ذنوبا من ماء الأشياء التي تزول بموجبها الذنوب وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات فإنه أبلغ في المحو والذنوب يزول موجبها بأشياء أحدها التوبة
والثاني الاستغفار من غير توبة فإن الله تعالى قد يغفر له اجابة لدعائة وان لم يتب فاذا اجتمعت التوبة والاستغفار فهو الكمال الثالث الأعمال الصالحة المكفرة اما الكفارات المقدرة كما يكفر المجامع في رمضان والمظاهر والمرتكب لبعض محظورات الحج أو تارك بعض واجباته أو قاتل الصيد بالكفارات المقدرة وهي أربعة أجناس هدي وعتق وصدقة وصيام وإما الكفارات المطلقة كما قال حذيفة لعمر فتنة الرجل في أهله وماله وولده يكقرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد دل على ذلك القرآن والأحاديث الصحاح في التكفير بالصلوات الخمس والجمعة والصيام والحج وسائر الأعمال التي يقال فيها من قال كذا وعمل كذا غفر له أو غفر له ما تقدم من ذنبه وهي كثيرة لمن تلقاها من السنن خصوصا ما صنف من السنن خصوصا ما صنف في فضائل الأعمال العناية بمزيلات الذنوب واعلم أن العناية بهذا من أشد ما بالانسان الحاجة اليه فإن الانسان من حين يبلغ خصوصا في هذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه فان الانسان الذي ينشأ بين أهل علم ودين قد يتطلخ من أمور الجاهلية بعدة أشياء فكيف بغير هذا وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن هذا خبر تصديقه في قوله تعالى فاستمتعتم
بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا ولهذا شواهد في الصحاح والحسان وهذا أمر قد يسري في المنتسبين الى الدين من الخاصة كما قال غير واحد من السلف منهم ابن عيينة فإن كثيرا من أحوال اليهود قد ابتلى به بعض المنتسبين الى العلم وكثيرا من أحوال النصارى قد ابتلي به بعض المنتسبين الى الدين كما يبصر ذلك من فهم دين الاسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم ثم نزله على أحوال الناس واذا كان الأمر كذلك فمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه وكان ميتا فأحياه الله وجعل له نورا يمشي به في الناس لا بد أن يلاحظ أحوال الجاهلية وطريق الأمتين المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى فيرى أن قد ابتلي ببعض ذلك فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يخلص النفوس من هذه الورطات وهو اتباع السيئات الحسنات والحسنات ما ندب الله اليه على لسان خاتم النبيين من الأعمال والأخلاق والصفات المصائب المكفرة للذنوب ومما يزيل موجب الذنوب المصائب المكفرة وهي كل ما يؤلم من هم أو حزن أو أذى في مال أو عرض أو جسد أو غير ذلك لكن ليس هذا من فعل العبد فلما قضى بهاتين الكلمتين حق الله من عمل الصالح واصلاح الفاسد قال وخالق الناس بخلق حسن هو حق الناس
جماع الخلق الحسن مع الناس وجماع الخلق الحسن مع الناس أن تصل من قطعك بالسلام والاكرام والدعاء له والاستغفار والثناء عليه والزيارة له وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض وبعض هذا واجب وبعضه مستحق معنى الخلق العظيم وأما الخلق العظيم الذي وصف الله به محمدا صلى الله عليه وسلم فهو الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقا هكذا قال مجاهد وغيره وهو تأويل القرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها كان خلقه القرآن وحقيقته المبادرة الى امتثال ما يحبه الله تعالى بطيب نفس وانشراح صدر اسم التقوى وما يجمعه وأما بيان أن هذا كله في وصية الله فهو أن اسم تقوى الله يجمع فعل كل ما أمر الله به ايجابا واستحبابا وما نهى عنه تحريما وتنزيها وهذا يجمع حقوق الله وحقوق العباد لكن لما كان تارة يعني بالتقوى خشية العذاب المقتضية للانكفاف عن المحارم جاء مفسرا في حديث معاذ وكذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنهما الذي رواه الترمذي وصححه قيل يا رسول الله ما أكثر ما يدخل الناس الجنة قال تقوى
الله وحسن الخلق قيل وما أكثر ما يدخل الناس النار قال الأجوفان الفم والفرج وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل المؤمنين اسيمانا أحسنهم خلقا فجعل كمال الايمان في كمال حسن الخلق ومعلوم أن الايمان كله تقوى الله شمول التقوى وتفصيل أصول التقوى وفروعها لا يحتمله هذا الموضع فإنها الدين كله لكن ينبوع الخير وأصله اخلاص العبد لربه عبادة واستعانة كما في قوله اياك نعبد واياك نستعين وفي قوله فاعبده وتوكل عليه وفي قوله عليه توكلت واليه أنيب وفي قوله فابتغو عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له بحيث يقطع العبد تعلق قلبه من المخلوقين انتفاعا بهم عملا لأجلهم ويجعل همته ربه تعالى وذلك
بملازمة الدعاء له في كل مطلوب من فاقة وحاجة ومخافة وغير ذلك والعمل لله بكل محبوب ومن أحكم هذا فلا يمكن أن يوصف ما يعقبه ذلك أفضل الأعمال بعد الفرائض وأما ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض فإنه يختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عليه وما يناسب أوقاتهم فلا يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد لكن مما هو كالاجماع بين العلماء بالله وأمره أن ملازمة ذكر الله دائما هو أفضل ما شغل العبد به نفس في الجملة وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم سبق المفردون قالوا يا رسول الله ومن المفردون قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات وفيما رواه أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من اعطاء الذهب الورق ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى يا رسول الله قال ذكر الله والدلائل القرآنية والايمانية بصرا وخبرا ونظرا على ذلك كثيرة وأقل ذلك أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وامام
المتقين صلى الله عليه وسلم كالأذكار المؤقتة في أول النهار وآخره وعند أخذ المضجع وعند الاستيقاظ من المنام وأدبار الصلوات والأذكار المقيدة مثل ما يقال عند الأكل والشرب واللباس والجماع ودخول المنزل والمسجد والخلاء والخروج من ذلك وعند المطر والرعد الى غير ذلك وقد صنفت له الكتب المسماة بعمل اليوم والليلة أفضل الذكر ثم ملازمة الذكر مطلقا وأفضله لا اله الا الله وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة الا بالله أفضل منه ثم يعلم أن كل ما تكلم به اللسان وتصوره القلب مما يقرب الى الله من تعلم علم وتعليمه وأمر بمعروف ونهي عن منكر فهو من ذكر الله ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض أو جلس مجلسا يتفقه أو يفقه فيه الفقه الذي سماه الله ورسوله فقها فهذا أيضا من أفضل ذكر الله وعلى ذلك اذا تدبرت لم تجد بين الأولين في كلماتهم في أفضل الأعمال كبير اختلاف وما اشتبه أمره على العبد فعليه بالاستخارة المشروعة فما ندم من
استخار الله تعالى وليكثر من ذلك ومن الدعاء فإنه مفتاح كل خير ولا يعجل فيقول قد دعوت لم يستجب لي وليتحر الأوقات الفاضلة كآخر الليل وأدبار الصلوات وعند الأذان ووقت نزول المطر ونحو ذلك أرجح المكاسب وأما أرجح المكاسب فالتوكل على الله والثقة بكفايته وحسن الظن به وذلك أنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق أن يلجأ فيه الى الله ويدعوه كما قال سبحانه فيما يأثر عنه نبيه كلكم جائع الا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار الا من كسوته فاستكسوني أكسكم وفيما رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعلمه اذا انقطع فإنه ان لم ييسره لم يتيسر وقد قال الله تعالى في كتابه وأسألوا الله من فضله وقال سبحانه فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله وهذا وإن كان في الجمعه فمعناه قائم في جميع الصلوات ولهذا والله أعلم أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يدخل المسجد أن يقول اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج أن يقول اللهم اني أسألك من
فضلك وقد قال الخليل صلى الله عليه وسلم فابتغوا عند الله الزرق واعبدوه واشكروا له وهذا أمر والأمر يقتضي الايجاب فالاستعانة بالله واللجوء اليه في أمر الرزق وغيره أصل عظيم ثم ينبغي له أن يأخذ المال بسخاوة نفس ليبارك له فيه ولا يأخذه بإشراف وهلع بل يكون المال عنده بمنزلة الخلاء الذي يحتاج اليه من غير أن يكون له في القلب مكانة والسعي فيه اذا سعى كاصلاح الخلاء وفي الحديث المرفوع الذي رواه الترمذي وغيره من أصبح والدنيا أكبر همه شتت الله عليه شمله وفرق عليه ضيعته ولم يأته من الدنيا الا ماكتب له ومن أصبح والأخرة أكبر همه جمع الله عليه شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة وقال بعض السلف أنت محتاج الى الدنيا وأنت الى نصيبك من الآخرة أحوج فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر على نصيبك من الدنيا فانتظمه انتظاما قال الله تعالى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ان الله وهو الرزاق ذو القوة المتين
فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة أو بناية أو حراثة أو غير ذلك فهذا يختلف باختلاف الناس ولا أعلم في ذلك شيئا عاما لكن اذا عن للانسان جهة فليستخر الله تعالى فيها الاستخارة المتلقاة عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم فإن فيها من البركة ما لا يحاط به ثم ما تيسر له فلا يتكلف غيره الا أن يكون منه كراهة شرعية الكتب التي يعتمد عليها في العلوم وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم فهذا باب واسع وهو أيضا يختلف باختلاف نشء الانسان في البلاد فقد يتيسر له في بعض البلاد من العلم أو من طريقة ومذهبه فيه ما لا يتيسر له في بلد آخر لكن جماع الخير أن يستعين بالله سبحانه في تلقي العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علما وما سواه اما أن يكون علما فلا يكون نافعا وإما أن لا يكون علما وان سمي به ولئن كان علما نافعا فلا بد أن يكون في ميراث محمد صلى الله عليه وسلم ما يغني عنه مما هو مثله وخير منه ولتكن همته فهم مقاصد الرسول في أمره ونهيه وسائر كلامه فاذا اطمأن قلبه أن هذا هو مراد الرسول فلا يعدل عنه فيما بينه وبين الله تعالى ولا مع الناس اذا أمكنه ذلك وليجتهد أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم واذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه الناس فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول اذا قام يصلي من الليل اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بي عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من
الحق باذنك انك نهدي من تشاء الى صراط مستقيم فإن الله تعالى قد قال فيما رواه عنه رسوله يا عبادي كلكم ضال الا من هديته فاستهدوني أهدكم وأما وصف الكتب والمصنفين فقد سمع منا في أثناء المذاكرة ما يسره الله سبحانه وما في الكتب المصنفة المبوبة كتاب أنفع من صحيح محمد بن اسماعيل البخاري لكن هو وحده لا يقوم بأصول العلم ولا يقول بتمام المقصود للمتبحر في أبواب العلم اذ لا بد من معرفة أحاديث أخر وكلام أهل الفقه وأهل العلم في الأمور التي يختص بعلمها بعض العلماء وقد أوعبت الأمة في كل فن من فنون العلم ايعابا فمن نور الله قلبه هداه بما يبلغه من ذلك ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب الا حيرة وضلالا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي لبيد الأنصاري أو ليست التوراة والأنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم
فنسأل الله العظيم أن يرزقنا الهدى والسداد ويلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا وأن لا يزيغ قلوبنا بعد اذ هدانا ويهب لنا من لدنه رحمة انه هو الوهاب والحمد لله رب العالمين وصلواته على أشرف المرسلين
الفصل السادس الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل
وأقسام التقوى والصبر وسئل الشيخ الامام العالم العامل الحبر الكامل شيخ الاسلام ومفتي الأنام تقي الدين ابن تيمية أيده الله وزاده من فضله العظيم عن الصبر الجميل و الصفح الجميل والهجر الجميل وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه الناس فأجاب رحمه الله الحمد لله أما بعد فإن الله أمر نبيه بالهجر الجميل والصفر الجميل والصبر الجميل فالهجر الجميل هجر بلا أذى والصفح الجميل صفح بلا عتاب والصبر الجميل صبر بلا شكوى قال يعقوب E انما أشكو بثي وحزني الى الله مع قوله فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون فالشكوى الى الله لا تنافي الصبر الجميل ويروى عن موسى E أنه كان يقول اللهم لك الحمد واليك المستكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم اليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت
رب المستضعفين وأنت ربي الله الى من تكلني الى بعيد يتجهمني أم الى عدو ملكته أمري ان لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك لك العتبى حتى ترضى وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في صلاة الفجر انما أشكو بثي وحزني الى الله ويبكي حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف بخلاف الشكوى الى المخلوق قرىء على الامام أحمد في مرض موته أن طاووسا كره أنين المريض وقال انه شكوى فما أن حتى مات وذلك أن المشتكي طالب بلسان الحال اما ازالة ما يضره أو حصول ما ينفعه والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه كما قال تعالى فإذا فرغت فانصب والى ربك فارغب وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس اذا سألت فاسأل الله واذا استغنت فاستعن بالله ولا بد للانسان من شيئين طاعته بفعل المأمور وترك المحظور وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور فالأول هو التقوى والثاني هو الصبر قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا الى قوله وان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ان الله بما يعملون محيظ وقال تعالى بلى ان تصبروا وتتقوا
ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وقال تعالى لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وان تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وقد قال يوسف أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا انه من يتق ويصبر فإن الله لايضيع أجر المحسنين وصية الشيخ عبد القادر ولهذا كان الشيخ عبد القادر ونحوه من المشائح المستقيمين يوصون في عامة كلامهم بهذين الأصلين المسارعة الى فعل المأمور والتقاعد عن فعل المحظور والصبر والرضا بالأمر المقدور وذلك أن هذا الموضوع غلط فيه كثير من العامة بل ومن السالكين فمنهم من يشهد القدر فقط ويشهد الحقيقة الكونية دون الدينية فيرى أن الله خالق كل شيء وربه ولا يفرق بين ما يحبه الله ويرضاه وبين ما يسخطه ويبغضه وان قدره وقضاه ولا يميز بين توحيد الألوهية وبين توحيد الربوبية فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات سعيدها وشقيها مشهد الجمع الذي يشترك فيه المؤمن والكافر والبر والفاجر والنبي الصادق والمتنبيء
الكاذب وأهل الجنة وأهل النار وأولياء الله وأعداؤه والملائكة المقربون والمردة الشياطين أفهام خاطئة في القضاء والقدر فإن هؤلاء كلهم يشتركون في هذا الجمع وهذه الحقيقة الكونية وهو أن الله ربهم وخالقهم ومليكهم لا رب لهم غيره ولا يشهد الفرق الذي فرق الله به بين أوليائه وأعدائه وبين المؤمنينوالكافرين والأبرار والفجار وأهل الجنة والنار وهو توحيد الألوهية وهو عبادته وحده لا شريك له وطاعته وطاعة رسوله وفعل ما يحبه ويرضاه وهو ما أمر الله به ورسوله أمر ايجاب أو أمر استحباب وترك ما نهىالله عنه ورسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين بالقلب واليد واللسان فمن لم يشهد هذه الحقيقة الدينية الفارقة بين هؤلاء وهؤلاء ويكون مع أهل الحقيقة الدينية والا فهو من جنس المشركين وهو شر من اليهود والنصارى اقرار المشركين بالحقيقة الكونية فإن المشركين يقرون بالحقيقة الكونية اذ هم يقرون بأن الله رب كل شيء كما قال تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وقال تعالى قل لمن الأرض ومن فيها ان كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ان كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون ولهذا قال سبحانه وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم
مشركون قال بعض السلف تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره فمن أقر بالقضاء والقدر دون الأمر والنهي الشرعيين فهو أكفر من اليهود والنصارى فإن أولئك يقرون بالملائكة والرسل الذي جاءوا بالأمر والنهي الشرعيين لكن آمنوا ببعض وكفروا ببعض كما قال تعالى ان الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأما الذي يشهد الحقيقة الكونية وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر ويسلك هذه الحقيقة فلا يفرق بين المؤمنين والمتقين الذين أطاعوا أمر الله الذي بعث به رسله وبين من عصى الله ورسوله من الكفار والفجار فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض بحيث يفرق بين المؤمن والكافر ولا يفرق بين البر والفاجر أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار ولا يفرق بين آخرين اتباعا لظنه وما يهواه فيكون ناقص الايمان بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار ويكون معه من الايمان بدين الله تعالى الفرق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر كان من القدرية كالمعتزلة وغيرهم الذين هم مجوس هذه الأمة فهؤلاء يشبهون المجوس وولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس
ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضا فهو من أتباع ابليس الذي اعترض على الرب سبحانه وخاصمه كما نقل ذلك عنه فهذا التقسيم في القول والاعتقاد أقسام الناس في العبادة وكذلك هم في الأحوال والأفعال فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي الله فيفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على ما يصيبه من المقدور فهو عند الأمر والنهي والدين والشريعة ويستعين بالله على ذلك كما قال تعالى اياك نعبد واياك نستعين واذا أذنب استغفر وتاب لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات ولا يرى للمخلوق حجة على رب الكائنات بل يؤمن بالقدر ولا يحتج به كما في الحديث الصيحيح الذي فيه سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا اله الا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب الا أنت فيقر بنعمة الله عليه في الحسنات ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها كما قال بعضهم أطعتك بفضلك والمنة لك وعصيتك بعلمك والحجة لك فأسألك بوجوب حجتك علي
وانقطاع حجتي الا غفرت لي وفي الحديث الصحيح الالهي يا عبادي انما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم اياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن الا نفسه وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع وآخرون قد يشهدون الأمر فقط فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر وآخرون يشهدون القدر فقط فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك لكنهم لا يلتزمون أمر الله ورسوله واتباع شريعته وملازمة ما جاء به الكتاب والسنة من الدين فهؤلاء يستعينون الله ولا يعبدونه والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه والمؤمن يعبده ويستعينة والقسم الرابع شر الأقسام وهو من لا يعبده ولا يستعينة فلا هو مع الشريعة الأمرية ولا مع القدر الكوني وانقسامهم الى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل وقوع المقدور من توكل واستعانة ونحو ذلك وما يكون بعده من صبر ورضا ونحو ذلك فهم في التقوى وهي طاعة الأمر الديني والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام أقسام الناس في التقوى والصبر أحدها أهل التقوى والصبر وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة والثاني الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر مثل الذين يمتثلون
ما عليهم من الصلاة ونحوها ويتركون المحرمات لكن اذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرضه أو ابتلي بعدو يخيفه عظم جزعه وظهر هلعه والثالث قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصبيهم في مثل أهوائهم كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها وكذلك طلاب الرئاسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها أكثر الناس وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام وهؤلاء هم الذين يريدون علوا في الأرض أو فسادا من طلاب الرئاسة والعلو على الخلق ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظرا أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور وفعلوه من المحظور وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب كالمرض والفقر وغير ذلك ولا يكون فيه تقوى اذا قدر وأما القسم الرابع فهو شر الأقسام لا يتقون اذا قدروا ولا يصبرون اذا ابتلوا بل هم كما قال الله تعالى ان الانسان خلق هلوعا واذا مسه الشر جزوعا واذا مسه الخير منوعا فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم اذا قدروا ومن أذل الناس وأجزعهم اذا قهروا ان قهرتهم ذلوا لك ونافقوك وحابوك واسترحموك ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسؤول وان
فهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبا وأقلهم رحمة واحسانا وعفوا كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الايمان أبعد مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم وان كان متظاهرا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم قالاعتبار بالحقائق فإن الله لا ينظر الى صوركم ولا الى أموالكم وإنما ينظر الى ينظر الى قلوبكم وأعمالكم فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيها لهم من هذا الوجه وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولي بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل مبدعة صلالة وإذا كان خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد فكل من كان الى ذلك أقرب وهو به أشبه كان الى الكمال أقرب وهو به أحق ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه به أضعف كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق والكامل هو من كان لله أطوع وعلى ما يصيبه أصبر فكلما كان أتبع لما يأمر الله به ورسوله وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه وصبرا على ما قدره وقضاه كان أكمل وأفضل وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك
الصبر والتقوى في الكتاب والسنة وقد ذكر الله الصبر والتقوى جميعا في غير موضع من كتابه وبين أنه ينصر العبد على عدوه من الكفار المحاربين المعاندين والمنافقين وعلى من ظلمه من المسلمين ولصاحبه تكون العاقبة قال الله تعالى بلى ان تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وقال الله تعالى لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وان تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات ان كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله واذا لقوكم قالوا آمنا واذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم ان الله عليم بذات الصدور ان تمسسكم حسنة تسؤهم وان تصبكم سيئة يفرحوا بها وان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ان الله بما يعملون محيط وقال اخوة يوسف له أانك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا انه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عموما وخصوصا فقال تعالى واتبع ما يوحى اليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين
وفي اتباع ما أوحي اليه التقوى كلها تصديقا لخبر الله وطاعة لأمره وقال تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وقال تعالى فاصبر ان وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والأبكار وقال تعالى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل وقال تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيرة الا على الخاشيعن وقال تعالى استعينوا بالصبر والصلاة ان الله مع الصابرين فهذه مواضع قرن فيها الصلاة والصبر وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة وفي الرحمة الاحسان الى الخلق بالزكاة وغيرها فإن القسمة أيضا رباعية اذ من الناس من يصبر ولا يرحم كأهل القوة والقسوة ومنهم من يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين مثل كثير من النساء ومن يشبههن ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع والمحمود هو الذي يصبر ويرحم كما قال الفقهاء في المتولي ينبغي أن يكون قويا من غير عنف لينا من غير ضعف فبصبره يقوى وبلينه يرحم وبالصبر ينصر العبد فإن النصر مع الصبر وبالرحمة يC تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم انما يرحم الله من عباده
الرحماء وقال من لا يرحم لا يرحم وقال لا تنزع الرحمة الا من شقي وقال الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء والله أعلم انتهى
الفصل السابع تفسير كلام القشيري في الرضا
معنى الرضا وسئل شيخ الاسلام رحمه الله تعالى عما ذكر الأستاذ القشيري في باب الرضا عن الشيخ أبي سليمان أنه قال الرضا أن لا يسأل الله الجنة ولا يستعيذ من النار فهل هذا الكلام صحيح فأجاب الحمد لله رب العالمين الكلام على هذا القول من وجهين أحدهما من جهة ثبوته عن الشيخ والثاني من جهة صحته في نفسه وفساده أما المقام الأول فينبغي أن يعلم أن الأستاذ أبا القاسم لم يذكر هذا
عن الشيخ أبي سليمان باسناد وانما ذكره مرسلا عنه وما يذكره أبو القاسم في رسالته عن النبي صلىالله عليه والصحابة والتابعين والمشائخ وغيرهم تارة يذكره باسناد وتاره يذكره مرسلا وكثيرا ما يقول وقيل كذا ثم الذي يذكره باسناد تارة يكون اسناده صحيحا وتارة يكون ضعيفا بل موضوعا وما يذكره مرسلا ومحذوف القائل أولى وهذا كما يوجد ذلك في مصنفات الفقهاء فإن فيها من الأحاديث والآثار ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف ومنها ما هو موضوع حال أحاديث كتب الرقائق فالموجود في كتب الرقائق والتصوف من الآثار المنقولة فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها الموضوع وهذا الأمر متفق عليه بين جميع المسلمين لا يتنازعون أن هذه الكتب فيها هذا وفيها هذا بل نفس الكتب المصنفة في التفسير فيها هذا وهذا مع أن أهل الحديث أقرب الى معرفة المنقولات وفي كتبهم هذا وهذا فكيف غيرهم والمصنفون قد يكونون أئمة في الفقه أو التصوف أو الحديث ويروون هذا تارة لأنهم لم يعلموا أنه كذب وهو الغالب على أهل الدين فإنهم لا يحتجون بما يعلمون أنه كذب وتارة يذكرونه وان علموا أنه كذب اذ قصدهم رواية ما روي في ذلك الباب ورواية الأحاديث المذكوبة مع بيان كونها كذبا جائزا وأما روايتها مع الامساك عن ذلك رواية عمل فإنه حرام عند العلماء كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من حدث عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين وقد فعل كثير من العلماء متأولين أنهم لم يكذبوا وانما نقلوا ما رواه غيرهم وهذا يسهل اذا رووه لتعريف أنه روي لا لأجل العمل به ولا الاعتماد عليه
رأي ابن تيمية في رسالة القشيري والمقصود هنا أن ما يوجد في الرسالة وأمثالها من كتب الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من المنقولات عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من السلف فيه الصحيح والضعيف والموضوع فالصحيح الذي قامت الدلالة على صدقة والموضوع الذي قامت الدلالة على كذبة والضعيف الذي رواه من لم يعلم صدقة اما لسوء حفظه واما لاتهامه ولكن يمكن أن يكون صادقا فيه فإن الفاسق قد يصدق والغالط قد يحفظ وغالب أبواب الرسالة فيها الأقسام الثلاثة ومن ذلك باب الرضا فإنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذاق طعم الايمان من رضي بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه وان كان الأستاذ لم يذكر أن مسلما رواه لكنه رواه باسناد صحيح وذكر في أول هذا الباب حديثا ضعيفا بل موضوعا وهو حديث جابر الطويل الذي رواه من حديث الفضل بن عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر فهو وان كان أول حديث ذكره في الباب
فإن أحاديث الفضل بن عيسى من أوهى الأحاديث وأسقطها ولا نزاع بين الأئمة أنه لا يعتمد عليها ولا يحتج بها فإن الضعف ظاهر عليها وان كان هو لا يتعمد الكذب فإن كثيرا من الفقهاء لا يحتج بحديثهم لسوء الحفظ لا لاعتماد الكذب وهذا الرقاشي اتفقوا على ضعفه كما يعرف ذلك أئمة هذا الشأن حتى قال أيوب السختياني لو ولد أخرس لكان خيرا له وقال سفيان بن عيينة لا شيء وقال الامام أحمد والنسائي هو ضعيف وقال يحيى بن معين رجل سوء وقال أبوحاتم وأبو زرعة منكر الحديث وكذلك ما ذكره من الآثار فإنه قد ذكر آثارا حسنة بأسانيد حسنة مثل ما رواه عن الشيخ أبي سليمان الداراني أنه قال اذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض فإن هذا رواه عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي باسناده والشيخ أبو عبد الرحمن كانت له عناية بجمع كلام هؤلاء المشائخ وحكاياتهم وصنف في الأسماء كتاب طبقات الصوفية وكتاب زهاد السلف وغير ذلك وصنف في الأبواب كتاب مقامات الأولياء و غير ذلك ومصنفاته تشتمل على الأقسام الثلاثة وذكر عن الشيخ أبي عبد الرحمن أنه قال سمعت النصر آبادي يقول من أراد أن يبلغ محل الرضا فيلزم ما جعل الله رضاه فيه فإن هذا
الكلام في غاية الحسن فإنه من لزم ما يرضي الله من امتثال أوامره واجتناب نواهيه لا سيما اذا قام بواجبها ومستحبها فإن الله يرضى عنه كما أن من لزم محبوبات الحق أحبه الله كما قال في الحديث الصيحيح الذي في البخاري من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب الي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى أحبه فاذا أحببته الحديث وذلك أن الرضا نوعان نوعا الرضا أحدهما الرضا بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ويتناول ما أباحه الله من غير تعهد الى المحظور كما قال والله ورسوله أحق أن يرضوه وقال تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله انا الى الله راغبون وهذا الرضا واجب ولهذا ذم من تركه بقوله ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها اذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله والنوع الثاني الرضا بالمصائب كالفقر والمرض والذل فهذا الرضا مستحب في أحد قولي العلماء وليس بواجب وقد قيل أنه واجب والصحيح أن الواجب هو الصبر كما قال الحسن الرضا غريزة ولكن الصبر معول المؤمن وقد روي في حديث ابن عباس أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال ان استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فالفعل فإن لم تستطع فان في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وأما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان فالذي عليه أئمة الدين أنه لا يرضى بذلك فإن الله لا يرضاه كما قال ولا يرضى لعباده الكفروقال والله لا يحب الفساد وقال تعالى فإن ترضوا عنهم فان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين وقال تعالى فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاما عظيما وقال ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم وقال تعالى وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم وقال تعالى لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون وقال تعالى فلما آسفونا انتقمنا منهمفاذا كان الله سبحانه لا يرضى لهم ما عملوه بل يسخطه ذلك وهو يسخط عليهم ويغضب عليهم فكيف يشرع للمؤمن أن يرضى ذلك وأن يسخط ويغضب لما يسخط الله ويغضبه
أفهام في الرضا والارادة وانما ضل هنا فريقان من الناس قوم من أهل الكلام المنتسبين الى السنة في مناظرة القدرية ظنوا أن محبة الحق ورضاه وغضبه وسخطه يرجع الى ارادته وقد علموا أنه مريد لجميع الكائنات خلافا للقدرية وقالوا هو أيضا محب لها مريد لها ثم أخذوا يحرفون الكلم عن مواضعه فقالوا لا يحب الفساد بمعنى لا يريد الفساد أي لا يريده للمؤمنين ولا يرضى لعباده الكفر أي لا يريده لعباده المؤمنين وهذا غلط عظيم فإن هذا عندهم بمنزلة أن يقال لا يحب الايمان ولا يرضى لعباده الايمان أي لا يريده للكافرين ولا يرضاه للكافرين وقد اتفق أهل الاسلام على أن ما أمر الله به فإنه بكون مستحبا يحبه ثم قد يكون مع ذلك واجبا وقد يكون مستحبا ليس بواجب سواء فعل أو لم يفعل والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع والفريق الثاني من غالطي المتصوفة شربوا من هذه العين فشهدوا أن الله رب الكائنات جميعها وعلموا أنه قدر على كل شيء وشاءه وظنوا أنهم لا يكونون راضين حتى يرضوا بكل ما يقدره ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان حتى قال بعضهم المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوى مراد المحبوب قالوا والكون كله مراد المحبوب وضل هؤلاء ضلالا عظيما حيث لم يفرقوا بين الارادة الدينية والكونية والاذن الكوني والديني والأمر الكوني والديني والبعث الكوني والديني والارسال الكوني والديني كما بسطناه في غير هذا الموضع وهؤلاء يؤول الأمر بهم الى أن لا يفرقوا بين المأمور والمحظور وأولياء الله وأعداءه والأنبياء والمتقين ويجعلون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ويجعلون المتقين كالفجار ويجعلون المسلمين
كالمجرمين ويعطلون الأمر والنهي والوعد والوعيد والشرائع وربما سموا هذا حقيقة ولعمري انه حقيقة كونية لكن هذه الحقية الكونية قد عرفها عباد الأصنام كما قال ولئن سألتهمم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وقال تعالى قل لمن الأرض ومن فيها ان كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون الآيات فالمشركون الذين يعبدون الأصنام كانوا مقرين بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه فمن كان هذا منتهى تحقيقه كان أقرب أن يكون كعباد الأصنام والمؤمن انما فارق الكفر بالايمان بالله وبرسله وبتصديقهم فيما أخبروا وطاعتهم فيما أمروا واتباع ما يرضاه الله ويحبه دون ما يقدره ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان ولكن يرضى بما أصابه من المصائب لا بما فعله من المعائب فهو من الذنوب يستغفر وعلى المصائب يصبر فهو كما قال تعالى فاصبر ان وعد الله حق واستغفر لذنبك فيجمع بين طاعة الأمر والصبر على المصائب كما قال تعالى وان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا وقال تعالى وان تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وقال يوسف انه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين
مما روي في الرضا عن الفضيل والجنيد والمقصود هنا أن ما ذكره القشيري عن النصر آبادي من أحسن الكلام حيث قال من أراد أن يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل الله رضاه فيه وكذلك قول الشيخ أبي سليمان اذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض وذلك أن العبد انما يمنعه من الرضا والقناعة طلب نفسه لفضلول شهواتها فاذا لم يحصل سخط فاذا سلا عن شهوات نفسه رضي بما قسم الله له من الرزق وكذلك ما ذكره عن الفضيل بن عياض أنه قال لبشر الحافي الرضا أفضل من الزهد في الدنيا لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته كلام حسن لكن أشك في سماع بشر الحافي من الفضيل وكذلك ما ذكره معلقا قال قال الشبلي بين يدي الجنيد لا حول ولا قوة الا بالله فقال الجنيد قولك ذا ضيق صدر وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء فإن هذا من أحسن الكلام وكان الجنيد رضي الله عنه سيد الطائفة ومن أحسنهم تعليما وتأديبا وتقويما وذلك أن هذه الكلمة كلمة استعانة لا كلمة استرجاع وكثير من الناس يقولها عند المصائب بمنزلة الاسترجاع ويقولها جزعا لا صبرا فالجنيد أنكر على الشبلي حاله في سبب قوله له اذ كانت حالا ينافي الرضا ولو قالها على الوجه المشروع لم ينكر عليه
مما روي في الرضا عن موسى عليه السلام وفيما ذكره آثار ضعيفة مثل ما ذكره معلقا قال وقيل قال موسى الهي دلني على عمل اذا عملته رضيت عني فقال انك لا تطيق ذلك فخر موسى ساجدا متضرعا فأوحى الله اليه يا ابن عمران رضائي في رضاك عني فهذه الحكاية الاسرائيلية فيها نظر فإنه قد يقال لا يصلح أن يحكى مثلها عن موسى بن عمران ومعلوم أن هذه الاسرائيليات ليس لها اسناد ولا يقوم بها حجة في شيء من الدين الا اذا كانت منقولة لنا نقلا صحيحا مثل ما ثبت عن نبينا أنه حدثنا به عن بني اسرائيل ولكن منه ما يعلم كذبه مثل هذه فإن موسى من أعظم أولي العزم وأكابر المسلمين فكيف يقال أنه لا يطيق أن يعمل ما يرضى الله به عنه والله تعالى راض عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان أفلايرضى عن موسى بن عمران كليم الرحمن وقال تعالى ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ومعلوم أن موسى بن عمران عليه السلام من أفضل الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم ان الله خص موسى بمزية فوق الرضا حيث قال وألقيت عليك محبة مني ولتصنع علي عيني ثم ان قوله له في الخطاب يا ابن عمران مخالف لما ذكره الله من خطابه في القرآن حيث قال يا موسى وذلك الخطاب فيه نوع غض منه كما يظهر ومثل ما ذكر أنه قيل كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الى أبي موسى الأشعري
أما بعد فان الخير كله في الرضا فإن استطعت أن ترضى والا فاصبر فهذا الكلام كلام حسن وان لم يعلم اسناده واذا تبين أن فيما ذكره مستندا ومرسلا ومعلقا ما هو صحيح وغيره فهذه الكلمة لم يذكرها عن أبي سليمان الا مرسلة وبمثل ذلك لا تثبت عن أبي سليمان باتفاق الناس فإنه وان قال بعض الناس ان المرسل حجة فهذا لم يعلم أن المرسل هو مثل الضعيف وغير الضعيف فأما اذا عرف ذلك فلا يبقى حجة باتفاق العلماء كمن علم أنه تارة يحفظ الاسناد وتارة يغلط فيه مما قال أبو سليمان في الرضا والكتب المسندة في أخبار هؤلاء المشائخ وكلامهم مثل كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم وطبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن صفوة الصفوة لابن الجوزي وأمثال ذلك لم يذكروا فيها هذه الكلمة عن الشيخ أبي سليمان ألا ترى الذي رواه عنه مسندا حيث قال قال لأحمد بن أبي الحواري يا أحمد لقد أوتيت من الرضا نصيبا لو ألقاني في النار لكنه بذلك راضيا فهذا الكلام مأثور عن أبي سليمان بالاسناد ولهذا أسنده عنه القشيري من طريق شيخه أبي عبد الرحمن بخلاف تلك الكلمة فإنها لم تسند عنه فلا أصل لها عن الشيخ أبي سليمان ثم ان القشيري قرن هذه الكلمة الثانية عن أبي سليمان بكلمة أحسن منها فإنه قبل أن يرويها قال وسئل أبو عثمان الحيري النيسابوري
عن قول النبي صلى الله عليه وسلم أسألك الرضا بعد القضاء فقال لأن الرضا بعد القضاء هو الرضا فهذا الذي قاله الشيخ أبو عثمان كلام حسن سديد ثم أسند بعد هذا عن الشيخ أبي سليمان أنه قال أرجو أن أكون قد عرفت طرفا من الرضا لو أنه أدخلني النار لكنت بذلك راضيا ما قاله أبو سليمان عزم على الرضا فتبين بذلك أن ما قاله أبو سليمان ليس هو رضا وانما هو عزم على الرضا وانما الرضا ما يكون بعد القضاء وان كان هذا عزما فالعزم قد يدوم وقد ينفسخ وما أكثر انفساخ العزائم خصوصا عزائم الصوفية ولهذا قيل لبعضهم بماذا عرفت ربك قال بفسخ العزائم ونقض الهمم وقد قال تعالى لمن هو أفضل من هؤلاء المشائخ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وفي الترمذي أن بعض الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لو علمنا أي العمل أحب الى الله لعملناه فأنزل الله تعالى هذه الآية وقد قال تعالى ألم تر الى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال اذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا
أخرتنا الى أجل قريب الآية فهؤلاء الذين كانوا قد عزموا على الجهاد وأحبوه لما ابتلوا به كرهوه وفروا منه وأين ألم الجهاد من ألم النار وعذاب الله الذي لا طاقة لأحد به ومثل هذا ما يذكرونه عن سمنون المحب أنه كان يقول وليس لي في سواك حظ فكيفما شئت فاختبرني فأخذه العسر من ساعته أي حسر بوله فكان يدور على المكاتب ويفرق المحب أنه كان يقول وليس لي في سواك حظفكيفما شئت فاختبرني فأخذة العسر من ساعته أي حصر بوله فكان يدور على المكاتب ويفرق الجوز على الصبيان ويقول ادعوا لعمكم الكذاب امتحان سمنون وحكى أبو نعيم الأصبهاني عن أبي بكر الواسطي أنه قال سمنون يا رب قد رضيت بكل ما تقضيه علي فاحتبس بوله أربعة عشر يوما فكان يتلوى كما تتلوى الحية يتلوى يمينا وشمالا فلما أطلق بوله قال رب قد تبت اليك قال أبو نعيم فهذا الرضا الذي ادعى سمنون ظهر غلطه فيه بأدنى بلوى مع أن سمنونا هذا كان يضرب به المثل وله في المحبة مقام مشهور حتى روي عن ابراهيم بن فاتك أنه قال رأيت سمنونا يتكلم على الناس في المسجد الحرام فجاء طائر صغير فلم يزل يدنو منه حتى جلس على يده ثم لم يزل يضرب بمنقاره الأرض حتى سقط منه دم ومات الطائر وقال رأيته يوما يتكلم في المحبة فاصطفقت قناديل المسجد وكسر بعضها بعضا
قول رويم والفضيل والأعرابي وقد ذكر القشيري في باب الرضا عن رويم المقري رفيق سمنون حكاية تناسب هذا حيث قال قال رويم ان الراضي لو جعل جهنم عن يمينه ما سأل الله أن يحولها عن يساره فهذا يشبه قول سمنون فكيف ماشئت فامتحني واذا لم يطق الصبر على عسر البول أفيطيق أن تكون النار عن يمينة والفضيل بن عياض كان أعلى طبقة من هؤلاء وابتلي بعسر البول فغلبه الألم حتى قال بحبي لك الا فرجب عني ففرج عنه ورويم وان كان من رفقاء الجنيد فليس هو عندهم من هذه الطبقة بل الصوفية يقولون انه رجع الى الدنيا وترك التصوف حتى روي عن جعفر الخلدي صاحب الجنيد أنه قال من أراد أن يستكتم سرا فليفعل كما فعل رويم كتم حب الدنيا أربعين سنة فقيل وكيف يتصور ذلك قال ولي اسماعيل بن اسحق القاضي قضاء بغداد وكان بينهما مودة أكيدة فجذبه اليه وجعله وكيلا على بابه فترك لبس التصوف ولبس الخز والقصب والديبقي وأكل الطيبات وبنى الدور واذا هو كان يكتم حب الدنيا ما لم يجدها فلما وجدها أظهر ما كان يكتم من حبها هذا مع أنه رحمه الله كان له من العبادات ماهو معروف وكان على مذهب داود وهذه الكلمات التي تصدر عن صاحب حال لم يفكر في لوازم أقواله
وعواقبها لا تجعل طريقة ولا تتخذ سبيلا ولكن قد يستدل بها على ما لصالحبها من الرضا والمحبة ونحو ذلك وما معه من التقصير في معرفة حقوق الطريق وما يقدر عليه من التقوى والصبر وما لا يقدر عليه من التقوى والصبر والرسل صلوات الله عليهم أعلم بطريق سبيل الله وأهدى وأنصح فمن خرج عن سنتهم وسبيلهم كان منقوصا مخطئا محروما وان لم يكن عاصيا أو فاسقا أو كافرا ويشبه هذا الأعرابي الذي دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض كالفرخ فقال هل كنت تدعو الله بشيء قال كنت أقول اللهم ماكنت معذبني به في الآخرة فاجعله في الدنيا فقال سبحان الله لا تستطيعه ولا تطيقه هلا قلت ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار فهذا أيضا حمله خوفه من عذاب النار ومحبته لسلامة عاقبته على أن يطلب تعجيل ذلك في الدنيا وكان مخطئا في ذلك غالطا والخطأ والغلط مع حسن القصد وسلامته وصلاح الرجل وفضله ودينه وزهده وورعه وكراماته كثير جدا فليس من شرط ولي الله أن يكون معصوما من الخطأ والغلط بل ولا من الذنوب وأفضل أولياء الله بعد الرسل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له لما عبر الرؤيا أصبت بعضا وأخطأت بعضا
أبا سليمان لما قال هذه الكلمة لو ألقاني في النار لكنت بذلك رضيا أن يكون بعض الناس حكاه بما فهمه من المعني أنه قال الرضا أن لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار وتلك الكلمة التي قالها أبو سليمان مع أنها لا تدل على رضاه لذلك ولكن تدل على عزمه بالرضا بذلك فنحن نعلم أن هذا العزم لا يستمر بل ينفسخ وأن هذه الكلمة كان تركها أحسن من قولها وأنها مستدركة كما استدركت دعوى سمنون ورويم وغير ذلك فإن بين هذه الكلمة وتلك فرقا عظيما فإن تلك الكلمة مضمونها إن من سأل الله الجنة واستعاذ من النار لا يكون راضيا وفرق بين من يقول أنا اذا فعل كذا كنت راضيا وبين من يقول لا يكون راضيا الا من يطلب خيرا ولا يهرب من شر وبهذا وغيره يعلم أن الشيخ أبا سليمان كان أجل من أن يقول مثل هذا الكلام فإن الشيخ أبا سليمان من أجلاء المشائخ وساداتهم ومن اتبعهم للشريعة حتى أنه قال انه ليمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها الا بشاهدين الكتاب والسنة فمن لا يقبل نكت قلبه الا بشاهدين يقول مثل هذا الكلام وقال الشيخ أبو سليمان أيضا ليس لمن ألهم شيئا من الخير أن يفعله حتى يسمع فيه بأثر فأذا سمع فيه بأثر كان نورا على نور بل صاحبه أحمد بن أبي الحواري كان من اتبع المشائخ للسنة فكيف أبو سليمان وتمام تزكية أبي سليمان من هذا الكلام تظهر بالكلام في المقام الثاني وهو قول القائل كائنا من كان الرضا أن لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار
ظن بعض الناس أن الجنة التنعم بالمخلوق ونقدم قبل ذلك مقدمة يتبين بها أصل ما وقع في مثل هذه الكلمات من الاشتباه والاضطراب وذلك أن قوما كثيرا من الناس من المتفقهة والمتصوفة والمتكلمة وغيرهم ظنوا أن الجنة التنعم بالمخلوق من أكل وشرب ونكاح ولباس وسماع أصوات طيبة وشم روائح طيبة ولم يدخلوا في مسمى الجنة نعيما غير ذلك ثم صاروا ضربين بعض المذاهب في رؤية الرب ضرب أنكروا أن يكون المؤمنون يرون ربهم كما ذهب الى ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم ومنهم من أقر بالرؤية اما الرؤية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم كما هو مذهب أهل السنة والجماعة واما برؤية فسروها بزيادة كشف أو علم أو جعلها بحاسة سادسة ونحو ذلك من الأقوال التي ذهب اليها ضرار بن عمرو وطوائف من أهل الكلام المنتسبين الى نصر أهل السنة في مسألة الرؤية وان كان ما يثبتونه من جنس ما تنفيه المعتزلة والضرارية والنزاع بينهم لفظي ونزاعهم مع أهل السنة معنوي ولهذا كان بشر وأمثاله يفسرون الرؤية بنحو من تفسير هؤلاء والمقصور هنا أن مثبتة الرؤية منهم من أنكر أن يكون المؤمن ينعم بنفس رؤيته ربه قالوا لأنه لا مناسبة بين المحدث والقديم كما ذكر
ذلك الأستاذ أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية وكما ذكره أبو الوفاء بن عقيل في بعض كتبه ونقلوا عن ابن عقيل أنه سمع رجلا يقول أسالك لذة النظر الى وجهك فقال يا هذا هب أن له وجها أله وجه يتلذذ بالنظر الية وذكر أبو المعالي أن الله يخلق لهم نعيما ببعض المخلوقات مقارنا للرؤية فأما النعيم بنفس الرؤية فانكره وجعل هذا من أسرار التوحيد مذهب سلف الأمة في رؤية الرب وأكثر مثبتي الرؤية يثبتون تنعم المؤمنين برؤية ربهم وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها ومشائخ الطريق كما في الحديث الذي في النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني اذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني اذا كانت الوفاة خيرا لي اللهم اني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر الى وجهك وأسألك الشوق الى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الايمان واجعلنا هداة
مهتدين وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنةان لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون اليه فما أعطاهم شيئا أحب اليهم من النظر اليه وكلما كان الشيء أحب كانت اللذة بنيله أعظم وهذا متفق عليه بين السلف والأئمة ومشائخ الطريق كما روي عن الحسن البصري أنه قال لو علم العابدون بأنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت نفوسهم في الدنيا شوقا اليه وكلامهم في ذلك كثير ثم هؤلاء الذين وافقوا السلف والأئمة والمشائخ على التنعم بالنظر الى الله تعالى تنازعوا في مسألة المحبة التي هي أصل ذلك فذهب طوائف من والفقهاء الى أن الله لا يحب نفسه وانما المحبة طاعته وعبادته وقالوا هو أيضا لا يحب عباده المؤمنين وانما محبته ارادته للاحسان اليهم وولايتهم ودخل في هذا القول من انتسب الى نصر السنة من أهل الكلام حتى وقع في طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وأمثال هؤلاء
من أنكر صفة المحبة ولذة النظر الى الله وهذا في الحقيقة شعبة من التجهم والاعتزال فإن أول من أنكر المحبة في الاسلام الجعد بن درهم أستاذ الجهم بن صفوان فضحى به خالد بن عبد الله القسري وقال أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم فانه زعم أن الله لم يتخذ ابراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ثم نزل فذبحه ما دل عليه الكتاب والسنة في ذلك والذي دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ومشائخ الطريق أن الله يحب ويحب ولهذا وافقهم على ذلك من تصوف من أهل الكلام كأبي القاسم القشيري وأبي حامد الغزالي وأمثالهما ونصر ذلك أبو حامد في الاحياء وغيره وكذلك أبو القاسم ذكر ذلك في الرسالة على طريق الصوفية كما في كتاب أبي طالب المسمى ب قوت القلوب وأبو حامد مع كونه تابع في ذلك الصوفية استند في ذلك لما وجده من كتب الفلاسفة من اثبات نحو ذلك حيث قالوا يعشق ويعشق وقد بسط الكلام على هذه المسألة العظيمة في القواعد الكبار بما ليس هذا موضعه وقد قال تعالى يحبهم ويحبونه وقال تعالى والذين
آمنوا أشد حبا لله وقال أحب اليكم من الله ورسوله وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان من كان لله ورسوله أحب اليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه الا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد اذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار والمقصود هنا أن هؤلاء المتجهمة من المعتزلة ومن وافقهم الذين ينكرون حقيقة المحبة يلزمهم أن ينكروا التلذذ بنظر اليه ولهذا ليس في الحقيقة عندهم الا التنعم بالأكل والشرب ونحو ذلك وهذا القول باطل بالكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة ومشائخها فهذا أحد الحزبين الغالطين أفهام بعض المتصوفة والمتفقرة والمتبتلة والضرب الثاني طوائف من المتصوفة والمتفقرة والمتبتلة وافقوا هؤلاء على أن الجنة ليست ا لا هذه الأمور التي يتنعم بها المخلوق ولكن وافقوا السلف والأئمة على اثبات رؤية الله والتنعم بالنظر اليه وأصابوا في ذلك وجعلوا يطلبون هذا النعيم وتسمو اليه همتهم ويخافون فوته وصار أحدهم يقول ما عبدتك شوقا الى جنتك أوخوفا من نارك ولكن لأنظر اليك واجلالا لك وأمثال هذه الكلمات مقصودهم بذلك هو أعلى من الأكل والشرب والتمتع بالمخلوق لكن غلطوا في اخراج ذلك من الجنة وقد يغلطون أيضا في ظنهم أنهم يعبدون الله بلا حظ ولا ارادة وأن كل ما يطلب منه فهو حظ النفس وتوهموا أن البشر يعمل بلا ارادة ولا مطلوب ولا محبوب وهو سوء معرفة بحقيقة الايمان والدين والآخرة
وسبب ذلك أن همة أحدهم المتعلقة بمطلوبه ومحبوبة ومعبوده تفنية عن نفسه حتى لا يشعر بنفسه وإرادتها فيظن أنه يفعل لغير مراده والذي طلب وعلق به همته غاية مراده ومطلوبه ومحبوبه وهذا كحال كثير من الصالحين والصادقين وأرباب الأحوال والمقامات يكون لأحدهم وجد صحيح وذوق سليم لكن ليس له عبارة تبين كلامه فيقع في كلامه غلط وسوء أدب مع صحة مقصوده وان كان من الناس من يقع منه في مراده واعتقاده فهؤلاء الذين قالوا مثل هذا الكلام اذا عنوا به طلب رؤية الله تعالى أصابوا في ذلك لكن أخطأوا من جهة أنهم جعلوا ذلك خارجا عن الجنة فأسقطوا حرمة اسم الجنة ولزم من ذلك أمور منكرة نظير ما ذكر عن الشبلي رحمه الله أنه سمع قارئا يقرأ منكم من يريد الدنيا ومنكم من ير يد الآخرة فصرخ وقال أين مريد الله فيحمد منه كونه أراد الله ولكن غلط في ظنه أن الذين أرادوا الأخرة ما أرادوا الله وهذه الآية في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين ما أرادوا الله وهذه الآية فيأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه بأحد وهم أفضل الخلق فإن لم يريدوا الله أفيريد الله من هو دونهم كالشبلي وأمثاله ومثل ذلك ما أعرفه عن بعض المشائخ أنه سأل مرة عن قوله تعالى ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقلتون ويقتلون قال فاذا كانت الأنفس والأموال في ثمن الجنة فالرؤية بم تنال فأجابه مجيب بما يشبه هذا السؤال والواجب أن يعلم أن كل ما أعده الله للأولياء من نعيم بالنظر اليه وما سوى ذلك هو في الجنة كما أن كل ما وعد به أعداءه هو في النار وقد
قال تعالى فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتهم عليه واذا علم أن جميع ذلك داخل في الجنة فالناس في الجنة على درجات متفاوتة كما قال انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاوكل مطلوب للعبد بعبادة أو دعاء أو غير ذلك من مطالب الآخرة هو في الجنة طلب الجنة والاستعاذة من النار طريق أنبياء الله ورسله وطلب الجنة والاستعاذة من النار طريق أنبياء الله ورسله وجميع أولياءه السابقين المقربين وأصحاب اليمين كما في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل بعض أصحابه كيف تقول في دعائك قال أقول اللهم اني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار أما اني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال حولهما ندندن فقد أخبر أنه هو صلى
الله عليه وسلم ومعاذ وهو أفضل الأئمة الراتبين بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم انما يدندنان حول الجنة أفيكون قول أحد فوق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ ومن يصلي خلفهما من المهاجرين والأنصار ولو طلب هذا العبد ما طلب كان في الجنة أهل الجنة نوعان وأهل الجنة نوعان سابقون مقربون وأبرار أصحاب يمين قال تعالى كلا ان كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون ان الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون قال ابن عباس تمزج لأصحاب اليمين مزجا ويشربها المقربون صرفا وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي الا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسلية حلت عليه شفاعتي يوم القيامة فقد أخبر أن الوسيلة التي لا تصلح الا لعبد واحد من عباد الله ورجا أن يكون هو ذ لك العبد هي درجة في الجنة فهل بقي بعد الوسيلة شيء أعلىمنها يكون خارجا عن الجنة يصلح للمخلوقين
وثبت في الصحيح أيضا في حديث الملائكة الذين يلتمسون الناس في مجالس الذكر قال فيقولون للرب تبارك وتعالى وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك قال فيقول وما يطلبون قالوا يطلبون الجنة قال فيقول وهل رأوها قال فيقولون لا قال فيقول فكيف لو رأوها قالوا يستعيذون من النار قال فيقول وهل رأوها قال فيقولون لا قال فيقول فكيف لو رأوها قالوا لو رأوها لكانوا أشد منها استعاذة قال فيقول أشهدكم اني أعطيتهم ما يطلبون وأعذتهم مما يستعيذون أو كما قال قال فيقولون فيهم فلان الخطاء جاء لحاجة فجلس معهم قال فيقول هم القوم لا يشقى بهم جليسهم فهؤلاء الذين هم من أفضل أولياء الله كان مطلوبهم الجنة ومهربهم من النار والنبي صلى الله عليه وسلم لما بايع الأنصار ليلة العقبة وكان الذين بايعوه من أفضل السابقين الأولين الذين هم أفضل من هؤلاء المشائخ كلهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اشترط لربك ولنفسك ولأصحابك قال أشترط لنفسي أن تنصروني مما تنصرون منه أنفسكم وأهليكم وأشترط لأصحابي أن تواسوهم قالوا فاذا فعلنا ذلك فما لنا قال لكم الجنة قالوا مد يدك فوالله لا نقيلك ولا نستقيلك وقد قالوا له في أثناء البيعة ان بيننا وبين القوم حبالا وعهودا وانا ناقضوها
فهؤلاء الذين بايعوه من أعظم خلق الله محبة لله ورسوله وبذلا لنفوسهم وأموالهم في رضا الله ورسوله على وجه لا يلحقهم فيه أحد من هؤلاء المتأخرين قد كان غاية ما طلبوه بذلك الجنة فلو كان هناك مطلوب أعلى من ذلك لطلبوه ولكن علموا أن في الجنة كل محبوب ومطلوب بل وفي الجنة ما لا تشعر به النفوس لتطلبه فإن الطلب والحب والارادة فرع عن الشعور والاحساس والتصور فما لا يتصوره الانسان ولا يسحه ولا يشعر به يمتنع أن يطلبه ويحبه ويريده فالجنة فيها هذا وهذا كما قال تعالى لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد وقال وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ففيها ما يشتهون وفيها مزيد على ذلك وهو ما لم يبلغه علمهم ليشتهوه كما قال صلى الله عليه وسلم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهذا باب واسع غلط من قال الرضا أن لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار فاذا عرفت هذه المقدمة فقول القائل الرضا أن لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار ان أراد بذلك أن لا تسأل الله ما هو داخل في مسمى الجنة الشرعية فلا تسأله النطر اليه ولا غير ذلك مما هو مطلوب جميع الأنبياء والأولياء وأنك لا تستعيذ به من احتجابه عنك ولا من تعذيبك في النار فهذا الكلام مع كونه مخالفا لجميع الأنبياء والمرسلين وسائر المؤمنين فهو متناقض في نفسه فاسد في صريح العقول وذلك أن الرضا الذي لا يسأل انما لا يسأله لرضاه عن الله
ورضاه عنه انما هو بعد معرفته به ومحبته له واذا لم يبق معه رضا عن الله ولا محبة لله فكأنه قال يرضى أن لا يرضى وهذا جمع بين النقيضين ولا ريب أنه كلام من لم يتصور ما يقول ولا عقله يوضح ذلك أن الراضي انما يحمله على احتمال المكاره والآلام ما يجده من لذة الرضا وحلاوته فاذا فقد تلك الحلاوة واللذة امتنع أن يتحمل ألما ومرارة فكيف يتصور أن يكون راضيا وليس معه من حلاوة الرضا ما يحمل به مرارة المكاره وإنما هذا من جنس كلام السكران والفاني الذي وجد في نفسه حلاوة الرضا فظن أن هذا يبقى معه على أي حال كان وهذا غلط عظيم منه كغلط سمنون كما تقدم وان أراد بذلك أن لا يسأل التمتع بالمخلوق بل يسأل ما هو أعلى من ذلك فقد غلط من وجهين من جهة أنه لم يجعل ذلك المطلوب من الجنة وهو أعلى نعيم الجنة ومن جهة أنه أيضا أثبت أنه طالب مع كونه راضيا فاذا كان الرضا لا ينافي هذا الطلب فلا ينافي طلبا آخر اذا كان محتاجا الى مطلوبه ومعلوم أن تمتعه بالنظر لا يتم الا بسلامته من النار وبتنعمه من الجنة بما هو دون النظر وما لا يتم المطلوب الا به فهو مطلوب فيكون طلبه للنظر طلبا للوازمه التي منها النجاة من النار فيكون رضاه لا ينافي طلب حصول المنفعة ودفع المضرة عنه ولا طلب حصول الجنة ودفع النار ولا غيرهما مما هو من لوازم النظر فتبين تناقض قوله وأيضا فاذا لم يسأل الله الجنة ولم يستعذ به من النار فاما أن يطلب من الله ما هو دون ذلك مما يحتاج اليه من طلب منفعة ودفع مضرة واما أن لا يطلبه فان طلب ما هو دون ذلك واستعاذ مما هو دون ذلك فطلبه للجنة أولى واستعاذته من النار أولى وان كان الرضا أن لا يطلب شيئا قط ولو كان مضطرا اليه ولا يستعيذ من شيء قط وان كان مضرا
فلا يخلوا اما أن يكون ملتفتا بقلبه الى الله في أن يفعل به ذلك واما أن يكون معرضا عن ذلك فإن التفت بقلبه الى الله فهو طالب مستعيذ بحاله ولا فرق بين الطلب بالحال والقال وهو بهما أكمل وأتم فلا يعدل عنه وان كان معرضا عن جميع ذلك فمن المعلوم أنه لا يحيى ويبقى الا بما يقيم حياته ويدفع مضاره بذلك والذي به يحيى من المنافع ودفع المضار اما أن يحبه ويطلبه ويريده من أحد أو لا يحبه ولا يطلبه ولا يريده فإن أحبه وطلبه وأراده من غير الله كان مشركا مذموما فضلا عن أن يكون محمودا وان قال لا أحبه وأطلبه وأريده لا من الله ولا من خلقه قيل هذا ممتنع في الحي فإن الحي ممتنع عليه أن لا يحب ما به يبقى وهذا أمر معلوم بالحس ومن كان بهذه المثابة امتنع أن يوصف بالرضا فإن الراضي موصوف بحب وارادة خاصة اذ الرضا مستلزم لذلك فكيف يسلب عنه ذلك كله فهذا وأمثاله مما يبين فساد هذا الكلام وأما في سبيل الله وطريقه ودينه فمن وجوه أحدهما أن يقال الراضي لا بد أن يفعل ما يرضاه الله والا فكيف يكون راضيا عن الله من لا يفعل ما يرضاه الله وكيف يسوغ رضا ما يكرهه الله ويسخطه ويذمه وينهي عنه وبيان هذا أن الرضا المحمود اما أن يكون الله يحبه ويرضاه واما أن لا يحبه ويرضاه فإن لم يكن يحبه ويرضاه لم يكن هذا الرضا مأمورا به لا أمر ايجاب ولا أمر استحباب فإن من الرضا ما هو كفر كرضا الكفار بالشرك وقتل الأنبياء وتكذيبهم ورضاهم بما يسخطه الله ويكرهه قال تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط
أعمالهم فمن اتبع ما أسخط الله برضاه وعمله فقط أسخط الله وقال النبي صلى الله عليه وسلم ان الخطيئة اذا عملت في الأرض كان من غاب عنها ورضيها كمن حضرها ومن شهدها وسخطها كان كمن غاب عنها وأنكرها وقال صلى الله عليه وسلم سيكون بعدي أمراء تعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد برىء ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع هلك وقال تعالى يحلفون لكم لترضوا عنهم فن ترضوا عنهم فان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين فرضنا عن القوم الفاسقين ليس مما يحبه الله ويرضاه وهو لا يرضى عنهم وقال تعالى أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدينا في الآخرة الا قليل فهذا رضا قد ذمة الله وقال تعال ان الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها فهذا أيضا رضا مذموم وسوى هذا وهذا كثير فمن رضي بكفره وكفر غيره وفسقه وفسق غيره ومعاصيه ومعاصي غيره فليس هو متبعا لرضا الله ولا هو مؤمن بالله بل هو مسخط لربه وربه غضبان عليه لا عن له ذام له متوعد له بالعقاب وطريق الله التي يأمر بها المشائخ المهتدون انما هي الأمر بطاعة الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق