وقبل أن نمضي في الحديث عن هذا الاسم الجليل ، أودُّ أن أقف وقفة يسيرة عند مقدمة ضرورية :
كلكم يعلم أن الجماد كائن يشغل حيزاً ، له طول وعرض ، وارتفاع ووزن .. تعلمون ما الحجم ؟ .. هناك نقطة ، النقطة ليس لها حجم ، فإذا تحركت شكلت خطاً ، فإذا تحرك الخط شكَّل سطحاً ، فإذا تحرك السطح شكل حجماً .. نقطة ، خط ، سطح ، حجم ..
الجماد يشكل حجماً ، يعني له طول ، وعرض ، وارتفاع ، ووزن أما النبات ، فيشكل حجماً ، وينمو ، أما الحيوان فيشغل حيزاً ، وينمو ويتحرك ، أما الإنسان فيشغل حيزاً ، وينمو ويتحرك ، ويفكر ، ففي اللحظة التي يعطل فيها الإنسان فكره ، وعقله ، يكون قد انتهت إنسانيته ، وعاد إلى طور البهيمية .. يعني مَن كانت حياته طعاماً وشراباً ، ومتعاً مباحة وغير مباحة ، وعملاً ومالاً ، دون أن يفكر في الذي خلقه ، في الذي أوجده ، أين كان ، أين سيكون ، ما المصير ؟ فما قيمة الإنسان الذي يعطل فكره أو يستخدمه في غير ما خُلق له ؟ ..
يعني : من الممكن أن تشتري حاسوباً بعشرات الملايين ، وتضع على هذا الحاسوب حاجاتك ، ثم تجعله كالطاولة ، أليس هذا غباءً شديداً؟ !.. أن تستخدم جهازاً بالغ التعقيد ، يقدم لك خبرات كثيرة لو أعملته ، تستخدمه كطاولة ؟ ..
فأما الذي يعطل عقله ، أو يستخدمه في غير ما خُلق له ، فهذا الإنسان ألغى إنسانيته ، وتحركت فيه حيوانيته ..
قلت هذه المقدمة ، من أجل أن تعلموا أن الله سبحانه وتعالى أودع في الإنسان قوةً إدراكية ..فما الذي يجب أن يدركه بها ، ما الموضوع؟.. هنا السؤال .
قرأت قبل فترة ، أن ما يُطبع في العالم في اليوم الواحد ، لا يستطيع الإنسان أن يقرأه في أقل من خمسين عاماً ، إذاً هناك موضوعات لا تُعد ولا تُحصى .. ما الذي آخذُ ، وما الذي أدعُ ؟ .. ما الذي أقرأُ ، وما الذي لا أقرأ ؟ .. ما الذي أطلع عليه ، وما الذي أهمله ؟ هذا سؤال خطير .
إذاً لابد من الاصطفاء ، لابد من أن تصطفي الموضوع الخطير والمعنى الخطير ، الذي له علاقة بمصيرك .
يعني إنسان في مكتبة ، أربعة جدران فيها كتب من الأرض وحتى السقف ، وبعد أيام عنده فحص مصيري ، إن نجح في هذا الامتحان سوف يترتب على نجاحه مكتسبات كثيرة ، في هذه المكتبة كلها كتاب واحد مقرر ، له علاقة بهذا الامتحان ، إذاً من البديهي أن يدع كل هذه الكتب ، وأن يقرأ هذا الكتاب .
إذاً فالإنسان أُودع فيه قوة الإدراك ، أُودع فيه العقل :
" لمَّا خلق الله العقل ، قال أقبل فأقبل ، ثم قال أدبر فأدبر ، قال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحب إلي منك ، بك أعطي وبك آخذ " .
إن سألتموني عن أعظم شيء خلقه الله في الكون ، أقول لكم العقل لأنه مناط التكليف ، لولا هذا العقل الذي أودعه فيك ما كلفك ، والعقل وسيلة معرفة الله عز وجل .
قلنا في درس سابق ، إن المشكلة : بما أن النفوس من طبيعة واحدة فلو أن أَيَّ إنسان بعيد عن الله عز وجل عرف ما عرف المؤمن لأقبل على الله كما يقبل المؤمن ، لو أن أي إنسان عرف ما عرفه رسول الله لأحب الله كما أحبه رسول الله ، النفوس واحدة ، والدليل ، قال تعالى :
[سورة النساء]
من طبيعة واحدة ، من جبلة واحدة ، من خصائص واحدة ، مادامت طبيعة النفس واحدة التفاوت إذاً في ماذا ؟ .. في العلم ..
لذلك قالوا : يفعل الجاهل في نفسه ما لا يفعله عدوه به ..
مزارع عنده حقل ، مزروع نبات له ريع كبير ، قُدِّرت هذه المساحة المزروعة بهذا النباتَ وَريعُها في الموسم الواحد يزيد عن مائتي ألف ليرة من البيوت المحمية ، فاشترى دواءً كيمائياً ، وحله من دون تعليمات الصانع ، ورشَّه .. كل هذا النبات مات من فوره ، وخسر الموسم كله فهذا الإنسان الجاهل ، إذ لم يقرأ التعليمات ، فعل في نفسه ما لا يفعله عدوه به.
إذاً الأزمة أزمة معرفة ، أزمة علم .. المشكلة الأخطر ؛ أن الإنسان حينما يأتيه الموت سيعرف كل شيء ، وسينكشف له كل شيء ، وسيرى الحقيقة ، وسوف ينكشف له الغطاء .. لقد رأى فرعون ما رآه سيدنا موسى ، ولكن بعد فوات الأوان ..
المشكلة أن المعرفة ينبغي أن تكون في الوقت المناسب ، يعني ينبغي أن تعرف ما يناسب في الوقت المناسب ، ينبغي أن تصطفي من كل المعارف والمعلومات الشّيء المناسب ، وأن تعرفه في الوقت المناسب.
والسؤال الجديد الآن : لماذا يجب أن نعرف الله ؟ .. أليس هو غني عن المعرفة ؟ قال تعالى :
[سورة إبراهيم ]
" .. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ و َإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا .. " .
[أخرجه مسلم الترمذي ]
لماذا نعرف الله ؟ .. نعرفه من أجل أن نعبده ، ولن تعبده إلا إذا عرفته ، ولماذا نعبده ؟ .. من أجل أن نسعد به ، من أجل أن يتحقق الهدف من خلقنا ، قال تعالى :
[سورة هود]
إذاً نعرفه ، فنعبده ، فنسعد به .. ولهذا قال ربنا عز وجل :
[سورة الذاريات]
وإياك أن تغفل عن هذه الآية أبد دهرك !
العبادة كما تعرفون : طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية ..
من بين ملايين ملايين ملايين ملايين ملايين إلى أن ينقطع نفسي .. من بين ملايين ملايين الموضوعات ، ما الموضوع الأكثر أهميةً ؟ أن تعرف الله عز وجل ، لأنه كما يقول الله سبحانه ، لمن يوضع في القبر أول ليلة :
" عبدي رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ولم يبق لك إلا أنا ، وأنا الحي الذي لا يموت " .
يجب أن تعرفه لأن المصير إليه ، لأنك راجع إليه ، لأنك ستأتيه فرداً تتخلى عن كل شيء، كل المكتسبات التي حصَّلتها في العمر ، تفقدها في ثانية واحدة ، ليس لك إلا الله !
" يا قيس ، إن لك قريناً يدفن معك وهو حي ، وتدفن معه وأنت ميت فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، ألا وهو عملك".
إذاً من بين ملايين ملايين الموضوعات ، ليس منها موضوع أكثر أهمية ، من أن تعرف الله عز وجل ، عرفت أنه خالق ، وعرفت أنه رب ، وعرفت أنه الإله الحق ، وعرفت طرفاً من أسمائه الحسنى ، وهذا الدرس بفضل الله ، وتوفيقه ، فيه جولة متواضعة ، حول اسم جليل من أسماء الله الحسنى ، ألا وهو اسم القُدّوس .
تعلَّمنا في الجامعة ؛ أن المدرس الناجح هو الذي يستطيع أن يتكلم حديثاً ، بأسلوب طلي جذاب ممتع ، غني ، لفترة طويلة من دون تحضير يعني معلومات عَقَلَها ، تَمَثَّلها ، تفاعل معها ، عاشها ، أصبحت في قلبه أصبحت تجري مع دمه ، فإذا أراد أن يتكلم ، فاللسان طليق والموضوع جذاب ، إذاً ألا ينبغي إن سُئلت ، ماذا تعرف عن الله؟ عن الذي خلقك عن الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد ؟ قال تعالى :
[سورة الإنسان]
الذي أنعم عليك بنعمة الإمداد ، أعطاك الهواء ، أعطاك الماء أعطاك الغذاء ، أعطاك الأهل ، أعطاك الأولاد ، أعطاك العقل ، تجني به المال وأنعم عليك مرةً ثالثة بنعمة الإرشاد ، هداك إليه ، لو أنك سُئلت ماذا تعرف عن الله ؟ .. ألا ينبغي أن يكون الحديث عن الله سلساً جذَّاباً ممتعاً طلياً ؟ هنا السؤال ..
فحينما عزمت وبالله التوفيق على أن أجعل كل درسين ، درساً في أسماء الله الحسنى ، هذا هو القصد ، أن نعرف الله عز وجل ، لأن المعرفة لابد من أن تنعكس انضباطاً في السلوك والتزاماً عند حدود الشرع ، أنا لا أصدق أبداً أن يتعلم الإنسان شيئاً لا ينفذه ، لأن الإنسان حينما يقرأ يتفاعل ، وحينما يتعلم يتمنى أن يقطف ثمار هذا العلم ..
الاسم الجليل من أسماء الله الحسنى هو اسم القدوس ، ورد هذا الاسم في آيتين قرآنيتين ورد في قوله تعالى في سورة الحشر ، الآية الثالثة والثلاثين :
[سورة الحشر]
وورد في قوله تعالى :
[سورة الجمعة]
في سورة الجمعة الآية الأولى .
القُدُّوس : على وزن فُعُّول ، وهو من القدس ، والقُدُس : الطهارة والتقديس هو التطهير، والأرض المقدسة : الأرض المطهرة ، وسُميت الجنة حظيرة القُدُس ، لأنها مطهرة من آفات الدنيا ، وسُمي سيدنا جبريل روح القدس ، لأنه طاهر من العيوب في تبليغ الوحي ، وفي قوله تعالى حكايةً عن الملائكة :
[سورة البقرة]
ما معنى ونقدس لك ؟: يعني يا رب نحن نطهر أنفسنا ، ونقدسها كي نكون أهلاً للإقبال عليك ، وهذه مهمة الإنسان في الدنيا ، يجب أن يقدس نفسه كي ينال مقعد صدق عند مليك مقتدر .
كلكم يعلم إذا دُعي إلى حفل كريم ، أو إلى لقاء خطير ، أو إلى مقابلة كريمة ، كيف يعتني الإنسان بمظهره بثيابه ، بألوان ثيابه ، بكل حركاته وسكناته ، فلذلك الملائكة يقولون :
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ
هل تصدقون أن مهمة الإنسان في الدنيا ؛ أن يطهر نفسه كي تغدو مؤهلة لتكون في جوار الله في الجنة ، لأن الله طيب ، ولا يقبل إلاّ طيباً .
" عبدي طهَّرت منظر الخلق سنين ..(الإنسان يدهن بيته ، يقول مدخل يحتاج إلى تعديل يرتب غرفة الاستقبال ، يزين مركبته ، يزين لباسه لماذا ؟ .. هذا منظر الخلق .. يقول الله عز وجل في الحديث القدسي :
" عبدي طهَّرت منظر الخلق سنين ، أفلا طهرت منظري ساعة " والقلب منظر الرب . ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ..
إذاً يجب أن يكون شغلك الشاغل أن تطهِّر نفسك ؛ كي يُسمح لك أن تكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يوم القيامة ، وحَسُنَ أولئك رفيقاً .
النقطة الدقيقة في هذا الدرس ربما تحتاج إلى شرح ، جاء في تعريف هذا الاسم الجليل أن القدُّوس هو المنزَّه عن كل وصف ، من أوصاف الكمال ، هنا المشكلة .. ؟ ما هذا الكلام يا أستاذ ؟ !. جواب هذا الكلام أن الإنسان حينما أدرك ذاته ، رأى في نفسه كمالات ونواقص العلم كمال ، الحلم كمال ، الصبر كمال ، السمع ، البصر ، الإرادة ، الحياة هذه كمالات .. الجهل نقص ، العمى نقص ، الصمم نقص ، الخرس نقص اللؤم نقص ، الحقد نقص ، الضجر نقص .. الإنسان رأى أن هناك كمالات ، وهناك نواقص ، فلما أراد أن يثني على الله عز وجل نسب إلى الله عز وجل الكمالات التي يعرفها هو إنّ الله سبحانه وتعالى القدُّوسٌ منزه عن الكمالات التي يتصورها الإنسان من عنده ، كل ما خطر ببالك عن الله بخلاف ذلك ، قال تعالى :
[سورة الشورى]
الله عز وجل ليس كالأب ، ولا كالمعلم ، أعظم من ذلك ، الله رحيم كما يرحم الأب ابنه لا .. فالأب أحياناً يرحم ابنه رحمة من دون علم فيورده المهالك ، الله رحيم عليم .
لذلك لما أراد الإنسانُ أن يثني على الله عز وجل فقد أثنى عليه بصفات الكمالات البشرية ، قال : الله سبحانه وتعالى قدوس منزه عن كل وصف من صفات الكمال البشري ، هو أعظم من ذلك ، هو منزه عن صفات كمال الناس ، ومن باب أولى منزه عن صفات النقائص ، بل إنه منزه عن كل صفة تُتصور للخلق ، كل شيء تصوره الإنسان عن الله عز وجل فهو منزه عن هذه الصفات .
ومن معاني الله أكبر ، أنه كل ما عَرفتَ عن الله عز وجل ، فالله أكبر من ذلك ، أكبر مما عرفت ، هذا معنى ، منزه ومقدس عن كل صفة يمكن لإنسان أن يتصورها ، منزه ومقدس عن كل صفة تشبه صفات الإنسان وتماثلها ، ولولا أن الله سبحانه وتعالى سمح للإنسان أن يصفه بصفات كمال البشر ، لكان وصفه بصفات كمال البشر ذنباً من الذنوب ، تقول : الله رحيم ، تقول : الله عادل ، الله لطيف ، الله حليم ، إذا قلت : الله حليم يعني يأتي في بالك أن الإنسان قد يحلم ، قد يُستفز فلا يغضب ، هكذا .. هو قدوس عن هذه الأوهام ، وعن هذه الصفات .. فهل صارت واضحة هذه ؟ أَقبلتموها؟
رجل من العارفين بالله ، قال لعارف آخر : يا فلان ألا تشتاق إلى الله عز وجل ؟ ومِنْ أمتع ما في الحياة مذاكرة العلم . عارف بالله سأل عارفاً بالله آخر : ألا تشتاق إلى الله ؟ .. قال لا والله لا أشتاق إليه .. أعوذ بالله ما هذا الكلام ؟ قال لا والله لا أشتاق إليه ، قال: ما هذا الكلام؟ أجابه ، متى غاب عني حتى أشتاق إليه ؟ .. متى غاب عني ؟
وآخر يسأل يا إمام متى كان الله ؟ قال ومتى لم يكن ؟ .. متى لم يكن حتى تقول لي متى كان الله ؟ .
الآن مرحلة أخرى القدُّوس هو المنزه عن كل وصف يدركه الحس عن كل تصور يتصوره الخيال ، أو يسبق إليه الوهم ، أو يختلج به الضّمير ، أو يقضي به التّفكير .. أمّا أن تقول منزّه عن العيوب والنّقائص ، فإنّ هذا يقترب من باب قلّة الأدب مع الله عزّ وجل أو من باب ترك الأدب .
بربك لو كنت في حضرة إنسان عظيم ، وقلت أنت : يا سيدي حدْثتُ الناس عنك ، قال ماذا قلت لهم ، قال : قلت لهم إن جنابك لست بكاذب! ما هذا ؟ أيقبل هذا ؟ هل تمدح ملكاً بأنه ليس كاذباً ، قال : هذا من ترك الأدب ، ألم تر في الملك شيئاً إيجابياً ، نفيت عنه الكذب ، وهناك قاعدة : إنّ نفي الشيء أحد فروع تصوره ، إذا نفيت عن جهة نقيصةً، إذاً بالإمكان أن تقع منه هذه النقيصة ، نفي الشيء أحد فروع تصوّره ، إذن من ترك الأدب أن تقول : الله سبحانه وتعالى منزّه عن النقائص ، منزّه عن العيوب ، هذا من ترك الأدب .
من تعريفات اسم القدُّوس أن القدوس من تقدست عن الحاجات ذاته. أمّا أنت فمحتاج ، أنت فقير ، كل شخصيتك ، وعلمك وذكائك وقوة هيمنتك على الناس ، وجلدك ، وعلمك ، كل هذه الصفات تتلاشى أمام شربة ماء .
قال له : يا أمير المؤمنين بكم تشتري هذا الكأس إذا مُنع عنك ، قال بنصف ملكي ، قال فإذا مُنع إخراجه قال : بنصف ملكي الآخر .
أنت مُحتاج إلى الهواء ، فلو مُنع منك الهواء ..
هذا الذي كان يقطع الصحارى ، يجتاز الصحراء على ناقة عليها زاده وطعامه وشرابه تعب من السفر ، جلس ليستريح ، أفاق فلم يجد الناقة وعليها طعامه وشرابه ، وهو في عُرض الصحراء ، فأيقن بالهلاك ، من شدة البكاء أخذته سنة من النوم ، أفاق فرأى عن بعد شجرةً ، فأشرق في نفسه نور من الأمر ، هُرِعَ نحو الشجرة ، فإذا إلى جانبها بركة ماء شرب منها حتى ارتوى ، ثم تولى إلى الظل ، فإذا كيس مملوء ، ففرح به فرحاً عظيماً، وهو يحسب أن فيه خبزاً ، ولكنْ يا للأسف ، لقد فتح الكيس فلم يجد فيه إلا لآلئ ، فصاح وا أسفاه هذه لآلئ ، اللآلئ لها قيمة في المدينة ؟ لو كان في الكيس خبز ! أما وقد منع منك الخبز يقول وا أسفاه هذه ليرات ذهبية . ماذا أفعل بها في الصحراء ؟
في الحرب العالمية الثانية كما سمعت ، الرغيف بيع بليرة ذهبية .
إذاً فالإنسان ضعيف ، مفتقر إلى الهواء ، مفتقر للماء ، مفتقر للخبز مفتقر إلى الأهل ، مفتقر لمن يؤنسه ، مفتقر لمن يحبه ، أنت فقير في الأصل ، قال تعالى :
[سورة فاطر]
القُدُّوس : من تقدست عن الحاجات ذاته ، صمد ، وتنزهت عن الآفات صفاته .
والقدُّوس من تقدس عن مكان يحويه ، لا يحويه مكان ، وعن زمان يبليه .
قال لي أخ كريم ، كان أستاذي قال لي سبحان الله ، أنا من خمسين عاماً أنشط من الآن طبعاً ، الإنسان في الستين غيُرُه بالثلاثين غيُرُه بالعشرين ، بالسبعين ، يعني الزمن يبليه ، يحتاج إلى قطع غيار كثيرة يحتاج إلى نظارات ، وأسنان ، وشعر أحياناً ، يحتاج إلى قطع غيار .
والقدُّوس من تقدس عن مكان يحويه ، وعن زمان يبليه ، وهو عزيز لا يرتقي إلى تصويره وَهْمّ ، ولا يطمع في جواز تقديره فَهْم ، ولا تنبسط في ملكه يد من دون تقدير .
هو قدُّوس في ذاته ، لكنَّهُ يقدّس عباده الطائعين .
أقول لك هذه الكلمة ، فلان مقدس ، المقدس هو الطاهر ، تقديس بلا طهارة كلام فارغ ، فلان مقدس يعني مستقيم ، يعني عفيف ، يعني طاهر يعني سليم الصدر ، نواياه طيبة ، ليس في قلبه غلٌّ ، ولا حقد ، ولا غشٌّ ولا تخونه عينه ، ولا يسبقه لسانه ، ولا يعطي أذنه للكلام غير المقبول لا يُقدس الإنسان إلاّ إذا تنزه عن النقائص .
قال : القدُّوس من قدس نفوس الأبرار عن المعاصي ، وأخذ الأشرار بالنواصي .
القدُّوس من قدس قلوب أوليائه ؛ يعني كل إنسان له قلب صنوبري لا أعتقد أن إنساناً على وجه الأرض ما له قلب ، لكنْ هناك قلب كالجوهر وقلب كالحجر .
[سورة الأعراف]
لكنِ الإنسانَ كلما اقترب من الله عز وجل ، صار ذا قلبٍ كبير ، ذا قلب صافٍ ، قلبٍ ممتلئ حباً لله عز وجل .
يعني فرق كبير جداً بين قلب وقلب ، قلب يلامس السماء رفعة ، وقلب يلامس الحضيض ضَعَةً ، قلب كالجوهر صفا ماؤه ورقّ ، وقلب كالكدر القلوب أنواع ، والقلب بيت الرب ، ومحصلة إيمانك كله هذا القلب :
[سورة الشعراء]
وهذا الدرس بفضل الله عز وجل ، هدفه أن يسير الإنسان إلى قلب سليم ، وأن يتعاهد قلبه.
قال : القدُّوس من قدس قلوب أوليائه عن السكون إلى المألوفات الإنسان مستهلَك ، طعامه، وشرابه ، وبيته ، وأولاده ، ورزقه ، ودكانه ومتجره ، ومعمله ، ووظيفته ، ومكانته وصحته ، وقلبه ، وشرايينه ومعمله .. مستهلَك ، هموم الدنيا تستهلكه ، لكن قلب العابد مُستَهلِك وليس مستَهلَكاً ، يستهلك الدنيا بمعرفة الله ، ولا يسمح لها أن تستهلكه المؤمن يقود هواه ولا ينقاد له ، المؤمن يسيطر على نفسه ، ولا يسمح لها بالسيطرة عليه ، المؤمن يحتكم إلى القيم ، ويحكمها ، ولا يسخرها ولا يسخر منها ، المؤمن له مرتبة أخلاقية لا يهبط عنها ، وله مرتبة علمية لا يزيغ عنها ، وله مرتبة جمالية ، هكذا ، المؤمن شخصية فذة .
قال : القدُّوس من طهَّر نفوس العابدين بإبعادهم عن دنس المخالفات واتباع الشهوات ، والقدُّوس من طهّر قلوب الزاهدين من حب الدنيا والقدُّوس من طهّر قلوب العارفين مما سواه .. طهر قلوب العابدين وطهّر قلوب الزاهدين ، وطهر قلوب العارفين .
فالعابدون متصفون بطاعة الله ، مقبلون على عبادته ، متحرِّقون إلى الإقبال عليه .
والزاهدون مقيمون على الاكتفاء بوعد الله ، معرضون عما يوجب التهمة من ضمان الله.
إذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك مِمّا في يديك .
إذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتق الله ، إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله ربنا عز وجل قال :
[سورة النمل]
[سورة آل عمران]
مشاعر القهر ، مشاعر الخنوع ، الذل لا يعرفها المؤمن الذي يعرف أَنَّ أمره كله بيد الله ، وأن الله صاحب الأسماء الحسنى والصفات العلى .
لذلك النبي الكريم كان إذا ألم به خطب فماذا كان يقول :
لا إله إلا الله الرحمن الرحيم ، لا إله إلا الله العليم الحكيم "
لا إله إلا اللهُ كلَّ شيء بيدك يا رب وأنت رحمن رحيم ..
لذلك لا يحزن قارئ القرآن ، قارئ القرآن لا يمكن أن يحزن ، لأن الأمر كله بيد الله ، كن فيكون ، ليس عند الإنسان محلات أقفرت ، وشواغر خَلِيَتْ ، والمِلاك وظائفه تعبأت ، هذه المرتبة انحجزت . المهمة أَخذها ثلاثة ، وبقي مائة موظف قاعدين ، عند الإنسان كل أمر محدود ، وكله مقنن ، أما ربنا عز وجل ففضله واسع عظيم .
العارفون إذا قاموا قاموا بالله ، وإن نطقوا نطقوا بالله ، وإن سكتوا سكتوا بالله ، فكيفما دارت أوقاتهم ، وتغيرت أحوالهم ، فالغالب على قلوبهم ذكر الله .
مؤمن أنت عاهدت الله عز وجل ، في السراء والضراء ، في الغنى والفقر ، في الصحة والمرض ، في عمل وبلا عمل ، في زواج وبلا زواج لك بيت أو بلا بيت :
[سورة الأحزاب]
قال بعض العارفين : أذاقنا الله مما أذاقهم شمة ، إنه ولي كل نعمة .
طعم القرب ، من ذاق عرف ، الحديث شيء والذوق شيء ، قل ألف مليون قطعة نقد ممكن ، أَملكها ، شيء ثانٍ ، كلمتها سهلة ، الحديث عنها سهل أما أن تملكها شيء آخر .
وبعد ، فكيف نقيم علاقتنا بهذا الاسم ؟ قالوا : من عرف هذا الاسم طهَّر نفسه عن متابعة الشهوات ، الله قدوس ، هو مُنزه ؟ .. يَستحيل إلا أن يكون مقدساً فإذا كنت تَطمع أن تكون مع الله دائماً ، فعليك أن يكون إقبالك على الله ، حقيقة واتصالك بالله حباً وذكراً ، وبذا يحبك الله ، الله قدوس ، القدوس يحب المقدس .
إذاً من عرف هذا الاسم فلابد من أن يطهِّر نفسه عن متابعة الشهوات يعني مرتبة الإحسان: اعبد الله كأنك تراه ، خوفاً ، حباً ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .. حال المراقبة .
قال مَن عرف هذا الاسم طهر نفسه عن متابعة الشهوات ، وطهر ماله عن الحرام والشبهات ، ومن عرف هذا الاسم طهر وقته عن دنس المخالفات .. احرص على أن يراك حيث أمرك ، وأن يفقدك حيث نهاك في وقت مجلس العلم أين أنت ؟ في بيت الله .. في وقت صلاة الجمعة أين أنت ؟ .. فيما بين الفجر والشمس أين أنت ؟ على السرير أم على مصلاك ، يجب أن يراك حيث أمرك ، وأن يفقدك حيث نهاك، في هذه الطرقات المزدحمة بالنساء الكاسيات العاريات ، هل أنت في هذا الطريق؟ لا والله ، هو في بيت من بيوت الله.
احرص على أن يراك حيث أمرك ، وأن يفقدك حيث نهاك .
قال : من عرف هذا الاسم طهر وقته عن دنس المخالفات ، وطهر قلبه عن مسلك الغفلات، طهر روحه عن فتور المساكنات .
وأن تعتريه المساكنات يعني أن يركن إلى الزوجة ، يركن إلى أولاده، أنه يأثرهم على مرضاة الله عز وجل .. يقولون : خليك قاعد معنا الآن ، حاجتك دروس ، أما شبعت دروساً ، يركن إلى الأهل والأولاد ، يركن إلى نزهة أعاقته عن مجلس علم ، لكن من عرف هذا الاسم طهَّر نفسه عن متابعة الشهوات ، طهر ماله عن الحرام والشبهات ، طهر وقته عن دنس المخالفات ، طهر قلبه عن مسالك المخالفات ، طهر روحه عن فتور المساكنات ، طهر سرَّه عن الملاحظات والالتفاتات .. فلان يراني ؟ .. دخل المسجد ليصلي لقي إخواناً في المسجد ، قام بكسل ليصلي ، لله يقول أنا خاشع .. لا .. لا تلاحظ الخلق أبداً ، لاحظ الخالق ، هؤلاء لا ينفعونك إطلاقاً ، أنت لك عند الله مكانة ، لا يرفعها مدح المادحين ، ولا يخفضها ذم الذامين .
أقول لك هذا المثل وأردده كثيراً : معك كيلو معدن ، هو ذهب ، ظنه الناس تنكاً ، خير إن شاء الله ، ثمنه موجود ، لو كان معك كيلو تنك ، بذكاء بارع ، وطلاقة لسان ، وقدرة إقناع أقنعت الناس أنه ذهب، خير إن شاء الله ، لا إن قنعوا بأن التنك ذهب تربح ، ولا إن اتهموك بأن ذهبك تنك تخسر ، خيرك منك وشرك فيك .
قال : هذا الذي عرف اسم القدُّوس لا يتذلل لمخلوق ولا يذل نفسه التي بها ربه بل يسمو بها يعني اضرب مثلاً ، وإن كان لا علاقة وشيجة له بالدرس ، أحد أصحاب رسول الله صافح النبي عليه الصلاة والسلام بيده اليمنى ، بعد أن صافحه وأشرقت روحه ، قال والله لا أمس بها شيئاً غير شريف ، يعني عاش ثمانين عاماً وما مسَّ بيمينه ذكره ، لماذا ، لأنه صافح بهذه اليمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصارت يده عند نفسه مقدسة .
طيّبْ هذه النفس التي عبدت ربها ، هذه النفس التي أَقبلت عليه سبحانه ، أيليق بها أن تتذلل لمخلوق ؟ .. وقد عرفت اسم القدوس ، هذه النفس التي تقدست بمعرفة الله لا يمكن أن تتذلل لمخلوق ، لذلك من جلس إلى غني فتضعضع له (أي تمسكن له) ذهب ثلثا دينه .
اجعل لربك كل عزك يستقر ويثبت
فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
ويُعاب أن تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم .. لذلك سيدنا إبراهيم ماذا قال حينما جاءه سيدنا جبريل ؟ قال له ألك عند الله حاجة ، وقد أوقدوا ناراً عظيمة ، وألقَوه بها ، يا إبراهيم ألك عند الله حاجة ، قال : علمه بحالي يغني عن سؤالي .. قلنا يا نار كوني برداً لو لم يقل الله: سلاماً لماتَ من البرد ، قال سلاماً لو لم يقل على إبراهيم لصارت النار منذ أن وضع هذا النبي العظيم بهذه النار حتى الآن لصارت لا تحرق وفقدت خصيصتها . ولما عدنا نستفيد منها ، بضع كلمات ، يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم لو لم يقل على إبراهيم لكانت النار لا تحرق أحداً إلى يوم القيامة ، ولما وجدت في طبخٍ وسيلة ، ولما تمكنت من صهر حديد ، ولما نعمت في تدفئة مركزية ، أو حلمت بمدفأَة تدفأ بها انتهى .
[سورة الأنبياء]
نعم برداً وسلاماً على إبراهيم فقط ! يعني إذا كان الله معك فمن عليك ، المؤمن له معاملة خاصة عند الله عز وجل ، والدليل :
[سورة الأنبياء]
ولديك قانون :
وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ
والله هذه الآية وحدها ، تملأ النفس إشراقاً ، تملأ النفس طمأنينةً تملأ النفس عزة ، تملأ النفس كرامةً ، " وكذلك ننجي المؤمنين ".
قال : هذا الذي عرف اسم القدُّوس كيف يتذلل لمخلوق بهذه النفس التي تقدست بمعرفة الله عز وجل ؟ مستحيل أن يُذلّ نفسه إلاّ لله سبحانه
وهذا الذي عرف اسم القدوس لا يعظم مخلوقاً بالقلب الذي به شهده .. هذا القلب عظم الله عز وجل أن يعظم مع الله أحداً ؟ .. مستحيل إلا أن يعظم أولياءه ، لأن المؤدى واحد .
[سورة التوبة]
يعني إرضاء رسول الله هو عين إرضاء الله .
قال : هذا الذي عرف اسم القدُّوس يجب أن لا يبالي بما فقده بعدما وجده .. هل فهمتموها .. إنها واضحة .
أحد الصالحين عرف الله عز و جل ، تقدست روحه بمعرفة الله ، وذاق طعم قربه ، ولكنَّ بيته صغير ، بيته قبو أجرة ، وظيفته متواضعة ، معاشه قليل ، زوجته وسط ، له جيران متعبين ، يا رب ماذا فقد من وجدك ؟ ثم يقول والله ما نقصَنا شيء ، هنا البطولة ، إذا عرفته فعلاً لا ترى أنك خسرت شيئاً أبداً .
مرض مزعج ألمَّ به ، وهذه مشيئة الله ، رضيت بقضاء الله ، لذلك طعم القرب ينسي كل شيء .
فليتك تحلو والحياة مريـــــــــرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامـــــــر وبيني وبين العالمين خــراب
إذا صح منك الوصل فالكـــل هيــن وكل الذي فوق التراب تـراب
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي
رأوه لما وليت عنا لغيرنـــــــــا
ولو سمعت إذناك حسن خطابنـــــا
خلعْتَ عنك ثياب العجب وجئتنا
لذلك هذا الذي عرف اسم القدُّوس لا يبالي بما فقده بعدما وجده .
قرأت مرةً عن سيدنا الصديق رضي الله عنه ، كلمةً لا أنساها ، ترى ذات يوم أحد الناس يندب حظه ، يقول : زوجتي كبيرة ، يقول لك : من سني أخذتها كيف هذه الغلطة غلطتها؟ ما الذي صار ؟ . سيدنا رسول الله أخدها أكبر منه بخمس عشرة سنة ، في سن أمّهِ بالضبط .
سيدنا الصديق ما ندم على شيء فاته من الدنيا قط ، أحدهم لقي جوهرة ثمنها ثلاثمائة مليون ، ونسي أن يأخذ الصدفات من على شاطئ البحر ، جمع قليلاً من الأصداف وشيئاً من أحجار ذات لمعان ، ألوانُها غريبة ، لقي جوهرة ثمنها ثلاثمائة مليون ونسي الصدفات. هل يندم ؟ لنْ يندم أبداً ..
الآن : ولا يرجع قبل الوصول إليه بعدما قصده ..
على الطريق مشى ، ثم انتكس ، لِمَ مَلّ ، ولماذا ؟ إنه لا يملك بيتاً ، يريد بيتاً يملكُهُ ، ماشى على الطريق إلى الله عز وجل. غير متزوج ، لم يلبث أن تزوج انقطع عن مجالس العلم ، وجد ركونه إلى بيت وزوجة أكثر راحة وأدنى سعادة .
انظر لهذه الكلمة ما أدقها : ولا يرجع قبل الوصول إليه بعدما قصده.
أنت قصدت الله عز وجل ، يجب أن لا يثنيك شيء ، لا مشكلة ولا خطر ، ولا وهم ، ولا تهديد ، ولا فقر ، أبداً ، هذا هو الصدق ..
قال : من آداب من عرف هذا الاسم أن تسمو همته ، إلى أن يطهره الله من عيوبه .
عنده عيوب في نفسه ، المشكلة ـ يا إخوان ـ أن عيوب الجسد تنتهي مشكلتها عند الموت ، مهما كانت من آفات ، وأمراض ، مثلاً أحدهم يده مصابة ، والآخر بصره ضعيف وثالث آلام في ظهره ، إذا جاء ملك الموت يُنهي كل المشكلات ، ولم يعد لأحد من هؤلاء مشكلة أبداً .
كل أمراض الجسد تنتهي عند الموت ، وكل أمراض القلب تبدأ عند الموت الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا ..
اللؤم الذي فعله إنسان في الدنيا مُخَدّر ، أما إذا استيقظ عند الموت فحاله ساعتئذٍ يكشفها معنى الحديث الشريف التالي ، والآيات بعده :
إن العار كما ورد في الأحاديث الشريفة في الجامع الصغير :
" إن العار ليلزم المرء يوم القيامة ، حتى يقول يا رب لإرسالك بي إلى النار أهون علي مما ألقى ، وإنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب ".
آلام النفس ، آلام الندم ، الشعور بالخيبة ، الشعور بالخسارة الكبرى
[سورة الكهف]
قال : من آداب من عرف هذا الاسم ، أن تسمو همته إلى أن يطهره الله من كل عيوبه ، وأن يطهره عن دنس كل عاهاته ، في جميع حالاته ويطهر قلبه من كل كدراته ، وأن يرجع إلى الله تعالى بحسن الاستجابة في جميع أوقاته .
قال : فإن من طهَّر لسانه عن الغِيبة ، طهَّر الله قلبه عن الغيبْة عنه ويصبح قريباً منه ، ومن طهَّر لله طرفه عن النظر بالريبة ، طهَّر الله سرَّه عن الحجاب .
إذا الإنسان حجب بصره عن المحرمات ، يكشف الله عن بصيرته فإذا أطلق بصره حجب عن بصيرته .
وإذا طهر لسانه عن اغتياب الناس ، يقربه الله إليه ..
يعني ملخص هذا الدرس :
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ
يعني نطهِّر أنفسنا كي نستحق أن نكون معك يا رب ، في جنتك مع أوليائك ، مع المؤمنين، مع الأنبياء مع الصديقين ، مع الشهداء ، مع الصالحين .
قال : حكي عن إبراهيم ابن الأدهم ، أنه مرَّ بسكران ، مطروح على قارعة الطريق ، وقد تقيأ ، فقال في نفسه بأي شيء أصابته هذه الآفة وقد ذكر الله بهذا الفم ، هذا اللسان ذكر الله، هذا الفم ذكر الله ،هو ممتلئ زَبَداً قيئاً ، ملقىً على قارعة الطريق ، وكان إبراهيم شيخاً جليلاً عظيماً ، فجاء بنفسه وغسل فمه ، فلما أفاق السكران أُخبر بما فعله معه إبراهيم ابن الأدهم ، فخجل الرجل السكران من الله تعالى ، وتاب، وحسنت توبته فرأى إبراهيم في المنام كأن قائلاً يقول له ، يا إبراهيم طهَّرت فمه من أجلنا ، فطهرنا قلبه من أجلك ..
تأثرت من هذه القصة ، يعني مثلاً لك ابن يأسان منه ، حاولت أنْ يصلي ولو صلاة شكلية، جهدت حتى جعلته يصلي هذه الصلاة الشكلية ، لعل الله عز وجل يتفضل عليك فيطهر قلبه.
أنت كن عند الأمر والنهي وعلى الله الباقي ، قف في الصلاة متخشعاً لعل الله يتجلى عليك، حاول أن تصلي مع أولادك لعل الله سبيل الرشاد ، طهر ظاهرهم لعل الله يطهر باطنهم لك الظاهر وعلى الله السرائر .
قال يا إبراهيم لقد طهرتَ فمه من أجلنا فطهرنا قلبه من أجلك .. القصة لها تتمة ، دخل مسجداً مرة ، ورأى رجلاً يبكي بكاءً مراً ، ويتهجد وينادي ربه ، ويدعوه ، أعجبته هذه الصلاة وهذا التهجد وهذا الخشوع قال : من أنت يا فلان ؟ من الرجل ؟ قال إن الذي هداني أخبرك بحالي ما قال لك يا إبراهيم طهرت فمه من أجلنا فطهرنا قلبه من أجلك ، إن الذي هداني أخبرك بحالي ..
لا تيأس ، لو رأيت الإنسان في أقل درجات المعصية أو في أشدها، الصلحة مع الله ممكنة بلمحة ..
" إذا رجع العبد إلى الله ، نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنِّئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله " .
يا أيها الإخوة الأكارم :
أختم درسي بهذه الكلمات فاحفظوها :
إن للحسنة ضياءً في الوجه ، ونوراً في القلب ، وسعةً في الرزق وقوةً في البدن ، ومحبة في قلوب الخلق ..
ألا يتمنى أحدنا أن يكون كذلك ، وجه كالشمس منير ، قلب مستنير سعة في الرزق ، قوة في البدن ، محبة في قلوب الخلق .
أحد العلماء بمصر عاش مائة وثلاثين سنة .. رجل من علماء دمشق رحمهم الله تعالى ، عاش ستاً وتسعين سنة ، ويروي عنه تلامذته أنه كان مستقيم القامة ، حاد البصر ، مرهف السمع ، أسنانه في فمه ، خدوده متوردة ، قوي البنية ، كلما سُئل ، ما هذه الصحة ؟ يقول يا بني حفظناها في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر .
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا .
قال : وإن للسيئة سواداً في الوجه ، وظلمة في القلب والقبر ، ووهناً في البدن ، ونقصاً في الرزق ، قال عليه الصلاة والسلام :
" قد يُحرم المرء الرزق بالذنب يصيبه " .
ونقصاً في الرزق ، وبغضاً في قلوب الخلق ، والذنب ـ أيها الإخوة ـ والسيئة سببُ هوانِ العبد على ربه ، وسقوطه من أعين خلقه .. هان الله على الناس فهانوا عليه .
آخر نصيحة ، اتق الله باجتناب المحرَّمات تكن من التوابين ، وتورَّع عن اقتحام الشبهات تكنْ من المتطهرين ، وازهد فيما زاد عن قدر الضرورة تنجو من الحساب الطويل ، وأقبل على خدمة مولاك تنل الثواب الجزيل .
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً .
كلمة قصيرة ـ أيها الإخوة الأكارم ـ لا يجوز أن تقف على قوله تعالى فويل للمصلين أليس كذلك ؟ المعنى فاسد ، كما أنه لا يجوز أن تقف على قوله تعالى عند قوله " مالا يفعلون" بل لا بد من تمام الآية الأخيرة :
[سورة الشعراء]
إذاً الشعر مضمونه يُقَيّمه ، فإذا كان في مدح رسول الله ، مثلاً :
انظر لتلك الشجرة ذات الغصون النضرة
كيف نمت من حبة وكيف صارت شجرة
فابحث وقل مــــــن أخرج منها الثمــــــرة
ذلك هو الله الذي أنعمه منهمــــــــــــرة
ذو حكمة بالغـــــة وقدرة مقتــــــــــــدرة
هذا الشعر ، فالشعر كما قال العلماء كلام حسنه حسن ، وقبيحه قبيح ربنا عز وجل حينما وصف الشعراء وصف شعراء الجاهلية وغيرهم الذين تغزلوا فأفحشوا وآذَوْا واستثنى من بينهم الشعراء الذين آمنوا وأحسنوا المقالة كحسان بن ثابت الذي وقف شعره دفاعاً عن الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم . واقرأ أواخر سورة الشعراء .
والحمد لله رب العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق