ولم يكن سحنون راغبا في تولي هذه الخطة الخطيرة وما كان يرى نفسه أهلا لها ولكن الامير محمد ابن الأغلب بعد ان استشار الفقهاء وجدهم يكادون يجمعون على أهليته وأهلية سليمان بن عمران ولكن هذا الامير قال بكل تجرد: “ما ظننت انه يشاور في سحنون فرأيت أهل مصر يتمنون كونه بين اظهرهم وما يستحق احد القضاء وسحنون حي”.
ولما اعلم سحنون بالقرار والاختيار عليه تمنع وتملص وقال انه لا يقوى على تولي القضاء فأغلظ عليه محمد بن الأغلب اشد الغلظة وحلف عليه بأشد الإيمان.
أذعن سحنون للأمر لما علم ان لا مفر منه واشترط على الامير شروطا أراد بها ان يعفي نفسه يقول سحنون: "لم أكن أرى قبول ذلك الأمر حتى كان من الامير معنيان احدهما إعطاء كل ذي حق حقه وأطلق يدي في كل ما رغبت حتى إني قلت: أبدأ بأهل بيتك وقرابتك وأعوانك فان قبلهم ظلامات للناس وأموالا لهم منذ زمان طويل إذ لم يجترئ عليهم من كان قبلي.
فقال لي : نعم لا تبدأ إلا بهم واجر الحق على مفرق رأسي.
فقلت له : الله !
قال لي : الله ثلاثا.
وجاءني من عزمه مع هذا ما يخاف المرء على نفسه وفكرت فلم أجد أحدا يستحق هذا الأمر ولم أجد نفسي سعة في رده".
وبلغ به الغم والحزن لعظم الأمر عليه إن أحدا من الناس لم يتجرأ ان يهنيه واكتفى بان قال لابنته خديجة وهي امرأة فاضلة تقية لما دخل عليها بعد توليته ( اليوم ذبح أبوك بغير سكين ) والتزم سحنون بان يقوم بهذا الهمل لوجه الله ورفض ان يأخذ لنفسه رزقا أو عطية من السلطان.
التزم سحنون بإقامة العدل بين الناس وإيصال الحقوق إلى أصحابها فكان لا يتردد عن ضرب الخصوم إذا أذى بعضهم بعضا بكلام وكان يمكن من أصابه رعب من مجلس القضاء من فرصة الاستئناس بالإعراض عنه وهون عليه ثم قال له “ليس معي سوط ولا عصا ولا عليك باس إذا ما علمت ودع ما لا تعلم”.
وكان سحنون يقاوم كل المنكرات فيؤدب على الأيمان التي لا تجوز كالطلاق وحتى لا يحلف الناس بغير الله ويراقب مظاهر الناس في ملابسهم وينهاهم عما يخالف حسن الحال وجمع سحنون إلى القضاء الحسبة فلاحق المنكرات في الشوارع والأسواق وأماكن اجتماع الناس فنظر في الغش في السلع والبضائع ونصب أمناء للأسواق وتولى تأديب من يستحق ذلك.
وكانت لسحنون مواقف حازمة مع أصحاب البدع والأهواء من الطوائف والفرق الخارجة على مذهب أهل السنة. ففرق أهل البدع وأخرجهم من الجامع وشرد الفرق الضالة وكانوا قبل ولاية سحنون للقضاء ينشرون بين الناس ضلالاتهم وزيفهم ويفسدون على العامة دينهم ويحرفون لهم عقيدتهم الصافية النقية وكان ذلك يقع منهم في المساجد بدون تخف ولا تستر. وكان هذا الموقف من سحنون شجاعا ذلك ان أمراء الدولة الأغلبية في ذلك الوقت كانوا متجاوبين مع بعض هذه الدعوات مقربين لرؤسائها ودعاتها ولم يكن مع سحنون في هذا المنهج الذي ارتضاه لنفسه إلا التجاوب الشعبي والتعلق المخلص والصادق بمذهب أهل السنة والجماعة.
منع سحنون دعاة الفرق والطوائف والمذاهب والنحل من تولي المهام الدينية والعلمية كأن يكونوا أئمة أو مؤذنين أو مؤدبين حتى لا تتعدى شرورهم إلى غيرهم من عموم الناس وكان يؤدب من خالف أوامره ويطوف بهم الشوارع تأديبا لهم وترهيبا لسواهم ممن قد تحدثهم أنفسهم بإتباع منهاجهم وكثيرا ما دفع مثل هذا التعزير من بقيت في نفسه بقية من إيمان إلى التوبة النصوح.
وكان سحنون يضرب بدرته من استحق التأديب ويقيم الحدود على من استوجبت إقامتها عليه.
ولم يكن سحنون ليغفل عن بسائط الأمور ومستصغرها فينقل من يسوء سلوكهم إلى جوار قوم صالحين وكان يأمر بمنع كل ما يمكن ان يلحق ضررا بالمجموعة وبلغ به الأمر إلى حد الأمر بقتل الكلاب. ولم يكن سحنون يخشى في الله لومة لائم وما كان يعظم في عينه أي عظيم.
قال أبو العرب : كان لا يهاب سلطانا في حق يقيمه عليه ولما أكثر من رد الظلامات من رجال ابن الأغلب وأبى ان يقبل منهم الوكلاء على الخصومة الا بأنفسهم وجه إليه الامير وقد شكوه إليه بأنه يغلظ عليهم فأرسل إليه ابن الأغلب وقال : أنهم فيهم غلظة وقد شكوك ورأيت معافاتك من شرهم فلا تنظر في أمرهم.
فقال سحنون للرسول : ليس هذا الذي بيني وبينه قل له خذلتني خذلك الله.
فلما أنهى الرسول الرسالة إلى الامير قال له ما نعمل ؟ إنما أراد الله وقال ابن الحارث: قيل لسحنون: هذا منصور دخل تونس بالحرائر فركب وانتزع منه ما بيده فدخل منصور على ابن الأغلب وقد شق ثوبه وشكا إليه ما نزل فأرسل ابن الأغلب إلى سحنون ان تصرفهم على منصور، مرة وثانية وثالثة. فقال : لا افعل.
واقبل ابن الأغلب حتى دنا من موضع سحنون وضربت له قبة نزل فيها وقد استشاط غيظا لمصادمته إياه على منصور ودعا فتى فقال له اذهب إلى سحنون فقل له اردد السبي على منصور وإلا فائتني برأسه.
فجاء الفتى إلى سحنون يبكي ويتضرع ويقول : أمرت فيك بعظيم. فاخذ سحنون رقا فكتب بعد الاسم “ويا قوم مالي ادعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار” الآية ودفع الكتاب للفتى ثم قال: ادفعه لابن الأغلب فلما قرأه أمر برفع مضربه واحتجب ثلاثا ثم قال لمنصور: سلني عما شئت من جوابك واعرض عن خبر سحنون.
وكان ابن الأغلب يقول في قضيته مع سحنون. ان سحنون لم يركب لنا دابة ولا أثقل كمه بصرة فهو لا يخافنا.
وكان لهذه المواقف الجسورة في الحق أثارها على حساده الذين سعوا بكل جهودهم من اجل الوقيعة بينه وبين الأمراء وكان على رأس هؤلاء ابن أبي الجواد المعتزلي القائل بخلق القرآن وبلغ المكر والكيد بابن أبي الجواد إلى درجة أوغر بها صدر الامير زيادة الله الا غلبي الذي دعا عامله على القيروان إلى ضرب سحنون بخمسمائة سوط وحلق رأسه ولحيته لولا ان وزيره علي بن حميد حذره من مغبة الإهلاك نظير مع وقع للعكي عندما ضرب البهلول بن راشد.
وكان سحنون يرى في ذلك المنة والفضل لله وحده الذي سخر من يشاء من عباده لصرف الشر والضرر عن أوليائه.
وامتحن سحنون عند تولي احمد بن الأغلب الإمارة وإلزام الناس بالقول بخلق القرآن وأرسل من يلاحق سحنون عند عبد الرحيم الزاهد واختار لذلك رجلا يبغض سحنون ويكرهه وهو ابن سلطان الذي تغير موقفه من سحنون بمجرد أن وصله وعبر عن استعداده لبذل دمه فداء لسحنون فأبى سحنون وشكره ثم رافقه إلى الأمير وسط دعوات أصحاب سحنون وتلاميذه بالهلاك على هذا الأمير الظالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق