يجدر بنا ونحن نعرف بهذا العلم الإفريقي ان نبدأ بذكر بعض شهادات كبار العلماء فيه واعترافهم له بسعة العلم وسديد الفهم وصادق التقوى، إذ تجمع آراؤهم على الاعتراف له بالسبق والفضل.
* فهذا سليمان بن سلام يقول عن مجالس سحنون: دخلت مصر فرأيت فيها العلماء متوافرين: بني عبد الحكم بن مسكين وأبا طاهر وأبا إسحاق البرقي وغيرهم ودخلت المدينة وبها أبو مصعب والفروري ودخلت مكة وبها ثلاثة عشر محدثا ودخلت غيرها من البلدان ولقيت علماءها ومحدثيها فما رأيت بعيني مثل سحنون وابنه بعده.
* ويرى عيسى بن مسكين ان سحنون هو راهب هذه الأمة ولم يكن بين مالك وسحنون افقه من سحنون.
* أما سعيد بن الحداد فيقول بعد مجالسة العلماء ومناظرتهم: جالست المتكلمين وكل من لقيت من أهل العلم فما رأيت منهم اصح غريزة من سحنون وكان وقورا مهيبا.
* ان سحنون فقيه أهل زمانه وشيخ عصره وعالم وقته على حد تعبير أبو علي البصيري.
* ويذهب الشيرازي إلى الجزم والتأكيد بان الرئاسة في العلم بالمغرب انتهت إلى سحنون وعلى قوله المعول صنف المدونة وعليها يعتمد أهل القيروان وحصل له من الأصحاب ما لم يحصل لأحد من أصحاب مالك وعنه انتشر علم مالك في المغرب.
تلك بعض الشهادات اتخذناها فاتحة للتعريف بهذا العلم الإفريقي البارز الذي ترك بصمات لا تمحى في الثقافة الإسلامية خصوصا في هذه الربوع الإفريقية فدعم بعلمه الغزير وعمله الجليل ومواقفه الرائعة أصول الإسلام الصحيحة وثبتها في هذه التربة المباركة حتى رسخت وأصبحت لا تؤثر فيها العواصف الهوجاء من دعوات أصحاب النحل والأهواء انه أبو سعيد سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي لقب بسحنون واسمه عبد السلام.
قدم أبوه سعيد في جند حمص، كان مولده بالقيروان سنة واحد وستين بعد المائة الأولى للهجرة تتلمذ بالقيروان عاصمة افريقية والغرب الإسلامي على كبار شيوخها مثل: أبو خارجة وبهلول وعلي بن زياد وابن أبي حسان وغير هؤلاء ثم رحل إلى مصر والتقى بابن القاسم. سمع سحنون في مصر والحجاز من ابن القاسم وابن وهب وأشهب وطيب بن كامل وعبد الله بن عبد الحكم وشعيب ابن الليث ويوسف بن عمر وسفيان بن عيينة ووكيع وعبد الرحمن بن مهدي وحفص بن غياث وأبي داود الطيالسي ويزيد بن هارون والوليد بن مسلم وابن نافع الصائغ ومهن بن عيسى وأبي ظمرة وابن الماجشون ومطرف.
يقول سحنون “لما حججت كنت أزامل ابن وهب وكان أشهب يزامله وابن القاسم يزامله ابنه موسى وكنت إذا نزلت وسالت ابن القاسم وكنا نمشي بالنهار ونلتقي المسائل فإذا كان الليل قام كل واحد إلى حزبه من الصلاة فيقول ابن وهب: الا ترون هذا المغربي يلقي بالنهار ولا يدرس بالليل فيقول ابن القاسم: هو نور يجعله الله في القلوب”.
لقد كان سحنون يجمع بين العلم الذي حرص على الاستزادة منه بالرحلة من اجل تلقيه على العلماء الأعلام في مصر والحجاز ممن شهدت لهم الأمة برسوخ القدم وعلو الدرجة ثم يضيف إلى ذلك الاجتهاد في العبادة والتقوى والاستقامة.
يقول سليم بن عمران: إذا سالت سحنون أجابني من بحر عميق ومعنى جوابه: زد في سؤالك وكان العلم في صدر سحنون كسورة من القرآن لمن حفظه وكان سحنون رجلا صالحا.
ويقول سحنون محدثا بنعمة الله عليه وفضله: إني حفظت هذه الكتب.
لقد جمع سحنون بين العلم الغزير والعمل الصالح المخلص والخلق الرضي واجتمعت على حبه القلوب وقصده طلاب العلم من كل صوب وكان يأخذ نفسه بمذهب أهل المدينة في كل شيء حتى في العيش وكان يعتبر ان أكل أموال الناس بالمسكنة والصدقة خير من أكلها بالعلم والقرآن، اكتفى بالقليل ورضي باليسير ويعمل ويكد ويتعب ولا يسال الناس ولا يقبل هداياهم ويفضل على ذلك أكل خبز الشعير والزيت دخل بعض أصحابه في مرض وفاته فلم يجدوا في بيته إلا الحصير.
ولايته للقضاء:
تولى سحنون القضاء سنة مائتين وأربع وثلاثين وكانت ولايته استجابة من الله لدعوة دعاها على سلفه القاضي ابن أبي الجواد وكان هذا القاضي معروفا بالجور والظلم والانحراف عن المنهج القويم والتسلط على الضعاف من خلق الله وقد تبرم بسلوكه الخاص والعام فقد مر سحنون ذات يوم بابن أبي الجواد فرأى منه ظلما فقال سحنون “اللهم لا تمتني حتى أراه بين يدي قاض عدل... يحكم فيه بالحق” وما درى سحنون ان هذه الدعوة قد وافقت ساعة إجابة وان هذا القاضي العدل إنما هو سحنون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق