كتاب الروح
المسألة الأولى وهي هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا قال
ابن عبد البر ثبت عن النبي أنه قال : ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام فهذا نص في أنه بعينه ويرد عليه السلام
وفي الصحيحين عنه من وجوه متعددة أنه أمر بقتلى بدر فألقوا في قليب ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربى حقا فقال له عمر يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيفوا فقال والذي بعثنى بالحق ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جوابا
وثبت عنه صلى الله وآله وسلم أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه
وقد شرع النبي لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد
والسلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به
قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبى الدنيا في كتاب القبور باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء
حدثنا محمد بن عون حدثنا يحيى بن يمان عن عبد الله بن سمعان عن زيد بن أسلم عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت قال رسول الله ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم
حدثنا محمد بن قدامة الجوهرى حدثنا معن بن عيسى القزاز أخبرنا هشام بن سعد حدثنا زيد بن أسلم عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال إذا مر الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وعرفه وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام
حدثنا محمد بن الحسين حدثنى يحيى بن بسطام الأصغر حدثنى مسمع حدثنى رجل من آل عاصم الجحدرى قال رأيت عاصما الجحدرى في منامى بعد موته بسنتين فقلت أليس
قدمت قال بلى قلت فأين أنت قال أنا والله في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزنى فنتلقى أخباركم قال قلت أجسادكم أم أرواحكم قال هيهات بليت الاجسام وإنما تتلاقى الارواح قال قلت فهل تعلمون بزيارتنا إياكم قال نعم نعلم بها عشية الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس قال قلت فكيف ذلك دون الأيام كلها قال لفضل يوم الجمعة وعظمته
وحدثنا محمد بن الحسين حدثنى بكر بن محمد حدثنا حسن القصاب قال كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت حتى نأتى الجبان فنقف على القبور فنسلم عليهم وندعو لهم ثم ننصرف فقلت ذات يوم لو صيرت هذا اليوم يوم الاثنين قال بلغنى أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوما قبلها ويوما بعدها
حدثني محمد حدثنا عبد العزيز بن ابان قال حدثنا سفيان الثورى قال بلغنى عن الضحاك أنه قال من زار قبرا يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته فقيل له وكيف ذلك قال لمكان يوم الجمعة
حدثنا خالد بن خداش حدثنا جعفر بن سليمان عن أبى التياح قال كان مطرف يغدو فإذا كان يوم الجمعة أدلج قال وسمعت أبا التياح يقول بلغنا انه كان ينور له في سوطه فأقبل ليلة حتى إذا كان عند مقابر القوم وهو على فرسه فرأى أهل القبور كل صاحب قبر جالسا على قبره فقالوا هذا مطرف يأتى الجمعة قلت وتعلمون عندكم يوم الجمعة قالوا نعم ونعلم ما يقول فيه الطير قلت وما يقولون قالوا يقولون سلام سلام
حدثني محمد بن الحسين حدثنى يحيى بن أبى بكير حدثنى الفضل بن موفق ابن خال سفيان بن عيينة قال لما مات أبى جزعت عليه جزعا شديدا فكنت آتى قبره في كل يوم ثم قصرت عن ذلك ما شاء الله ثم انى اتيته يوما فبينا أنا جالس عند القبر غلبتنى عيناى فنمت فرأيت كأن قبر ابى قد انفرج وكأنه قاعد في قبره متوحشا أكفانه عليه سحنة الموتى قال فكأني بكيت لما رأيته قال يا بنى ما أبطأ بك عني قلت وإنك لتعلم بمجيئي قال ما جئت مرة إلا علمتها وقد كنت تأتينى فآنس بك وأسر بك ويسر من حولى بدعائك قال فكنت آتية بعد ذلك كثيرا
حدثني محمد حدثني يحيى بن بسطام حدثنى عثمان بن سودة الطفاوى قال وكانت أمه من العابدات وكان يقال لها راهبة قال لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء فقالت يا ذخرى
وذخيرتى ومن عليه اعتمادى في حياتى وبعد موتى لا تخذلنى عند الموت ولا توحشنى في قبرى قال فماتت فكنت آتيها في كل جمعة فأدعو لها وأستغفر لها ولأهل القبور فرأيتها ذات يوم في منامى فقلت لها يا أمه كيف أنت قالت أى بنى ان للموت لكربة شديدة وإنى بحمد الله لفي برزخ محمود نفترش فيه الريحان ونتوسد فيه السندس والاستبرق إلى يوم النشور فقلت لها ألك حاجة قالت نعم قلت وما هى قالت لا تدع ما كنت تصنع من زيارتنا والدعاء لنا فإنى لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك يقال لي يا راهبة هذا ابنك قد أقبل فأسر ويسر بذلك من حولى من الأموات
حدثنى محمد بن عبد العزيز بن سليمان حدثنا بشر بن منصور قال لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبان فيشهد الصلاة على الجنائز فإذا أمسى وقف على باب المقابر فقال آنس الله وحشتكم ورحم غربتكم وتجاوز عن مسيئكم وقبل حسناتكم لا يزيد على هؤلاء الكلمات قال فأمسيت ذات ليلة وانصرفت إلى أهلى ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو قال فبينا أنا نائم إذا بخلق كثير قد جاءونى فقلت ما أنتم وما حاجتكم قالوا نحن أهل المقابر قلت ما حاجتكم قالوا إنك عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك فقلت وما هى قالوا الدعوات التي كنت تدعو بها قال قلت فإنى أعود لذلك قال فما تركتها بعد
حدثنى محمد حدثنى أحمد بن سهل حدثنى رشد بن سعد عن رجل عن يزيد بن أبى حبيب ان سليم بن عمير مر على مقبرة وهو حاقن قد غلبه البول فقال له بعض أصحابه لو نزلت إلى هذه المقابر فبلت في بعض حفرها فبكى ثم قال سبحان الله والله إنى لأستحي من الأموات كما استحي من الأحياء ولولا أن الميت يشعر بذلك لما استحيا منه
وأبلغ من ذلك أن الميت يعلم بعمل الحى من أقاربه وإخوانه قال عبد الله بن المبارك حدثنى ثور بن يزيد عن ابراهيم عن أبى أيوب قال تعرض أعمال الأحياء على الموتى فإذا رأوا حسنا فرحوا واستبشروا وإن رأوا سوءا قالوا اللهم راجع به وذكر ابن أبى الدنيا عن أحمد بن أبى الحوارى قال حدثنى محمد أخى قال دخل عباد بن عباد على ابراهيم بن صالح وهو على فلسطين فقال عظنى قال بم أعظك أصلحك الله بلغنى أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم الموتى فانظر ما يعرض على رسول الله من عملك فبكى ابراهيم حتى اخضلت لحيته
قال ابن أبى الدنيا وحدثنى محمد بن الحسين حدثنى خالد بن عمرو الأموى حدثنا صدقة بن سليمان الجعفرى قال كانت لى شرة سمجة فمات أبى فأنبت وندمت على ما فرطت قال ثم زللت أيمازلة فرأيت أبى في المنام فقال أى بنى ما كان أشد فرحى بك أعمالك تعرض علينا فنشبهها
بأعمال الصالحين فلما كانت هذه المرأة استحييت لذلك حياء شديدا فلا تخزنى فيمن حولى من الاموات قال فكنت أسمعه بعد ذلك يقول في دعائه في السحر وكان جارا لي بالكوفة أسألك إنابة لا رجعة فيها ولا حور يا مصلح الصالحين ويا هادى المضلين ويا أرحم الراحمين
وهذا باب في آثار كثيرة عن الصحابة وكان بعض الأنصار من أقارب عبد الله بن رواحة يقول اللهم إنى أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة كان يقول ذلك بعد أن استشهد عبد الله
ويكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائرا ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائرا فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال زاره هذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم وكذلك السلام عليهم أيضا فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال وقد علم النبي أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية
وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويردو إن لم يسمع المسلم الرد وإذا صلى الرجل قريبا منهم شاهدوه وعلموا صلاته وغبطوه على ذلك
قال يزيد بن هارون أخبرنا سليمان التيمى عن أبى عثمان النهدى أن ابن ساس خرج في جنازة في يوم وعليه ثياب خفاف فانتهى إلى قبر قال فصليت ركعتين ثم اتكأت عليه فوالله إن قلبى ليقظان إذ سمعت صوتا من القبر إليك عنى لا تؤذنى فإنكم قوم تعملون ولا تعلمون ونحن قوم نعلم ولا نعمل ولأن يكون لى مثل ركعتيك أحب إلى من كذا وكذا فهذا قد علم باتكاء الرجل على القبر وبصلاته
وقال ابن أبى الدنيا حدثنى الحسين بن على العجلى حدثنا محمد بن الصلت حدثنا اسماعيل ابن عياش عن ثابت بن سليم حدثنا أبو قلابة قال أقبلت من الشام إلى البصرة فنزلت منزلا فتطهرت وصليت ركعتين بليل ثم وضعت رأسى على قبر فنمت ثم انتبهت فإذا صاحب القبر يشتكينى يقول قد آذيتني منذ الليلة ثم قال إنكم تعملون ولا تعلمون ونحن نعلم ولا نقدر على العمل ثم قال الركعتان اللتان ركعتهما خير من الدنيا وما فيها ثم قال جزى الله أهل الدنيا خيرا أقرئهم منا السلام فإنه يدخل علينا من دعائهم نور أمثال الجبال
وحدثنى الحسين العجلى حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا مالك بن مغول عن منصور عن زيد بن وهب قال خرجت إلى الجبانة فجلست فيها فإذا رجل قد جاء إلى قبر فسواه ثم تحول إلى فجلس قال فقلت لمن هذا القبر قال أخ لى فقلت أخ لك فقال أخ لى في الله رأيته فيما يرى النائم فقلت فلان عشت الحمد لله رب العالمين قال قد قلتها لأن أقدر على أن أقولها أحب إلى من الدنيا وما فيها ثم قال ألم تر حيث كانوا يدفنوننى فإن فلانا قام فصلى ركعتين لأن اكون أقدر على أن أصليهما أحب إلى من الدنيا وما فيها
حدثنى أبو بكر التيمى حدثنا عبد الله بن صالح حدثنى الليث بن سعد حدثنى حميد الطويل عن مطرف بن عبد الله الحرشى قال خرجنا إلى الربيع في زمانه فقلنا ندخل يوم الجمعة لشهودها وطريقنا على المقبرة قال فدخلنا فرأيت جنازة في المقبرة فقلت لو اغتنمت شهود هذه الجنازة فشهدتها قال فاعتزلت ناحية قريبا من قبر فركعت ركعتين خففتهما لم أرض اتقانهما ونعست فرأيت صاحب القبر يكلمنى وقال ركعت ركعتين لم ترض اتقانهما قلت قد كان ذلك قال تعملون ولا تعلمون ولا نستطيع أن نعمل لأن أكون ركعت مثل ركعتيك أحب إلى من الدنيا بحذافيرها فقلت من ها هنا فقال كلهم مسلم وكلهم قد أصاب خيرا فقلت من ها هنا أفضل فأشار إلى قبر فقلت في نفسى اللهم ربنا اخرجه إلى فأكلمه قال فخرج من قبره فتى شاب فقلت أنت أفضل من ها هنا قال قد قالوا ذلك قلت فبأى شيء نلت ذلك فوالله ما أرى لك ذلك السن فأقول نلت ذلك بطول الحج والعمرة والجهاد في سبيل الله والعمل قال قد ابتليت بالمصائب فرزقت الصبر عليها فبذلك فضلتهم
وهذه المرائى وإن لم تصح بمجردها لاثبات مثل ذلك فهى على كثرتها وأنها لا يحصيها إلا الله قد تواطأت على هذا المعنى وقد قال النبي أرى رؤيا رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر يعني ليلة القدر فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شيء كان كتواطؤ روايتهم له وكتواطؤ رأيهم على استحسانه واستقباحه وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح على أنا لم نثبت هذا بمجرد الرؤيا بل بما ذكرناه من الحجج وغيرها
وقد ثبت في الصحيح أن الميت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد دفنه فروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهرى قال حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياق الموت فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار فجعل ابنه يقول ما يبكيك يا أبتاه أما يشرك رسول الله بكذا فأقبل بوجهه فقال إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإنى كنت على أطباق ثلاث لقد رأيتنى وما احد أشد بغضا لرسول
الله منى ولا أحب إلى أن أكون قد استمكنت منه فقتلته فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار فلما جعل الله الاسلام في قلبى لقيت رسول الله فقلت ابسط يدك فلأبايعك فبسط يمينه قال فقبضت يدى قال فقال مالك يا عمرو قال قلت أردت أن اشترط قال تشترط ماذا قلت أن يغفر لى قال أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله وما كان أحد أحب إلى من رسول الله ولا أجل في عينى منه وما كنت اطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأنى لم أكن أملأ عينى منه ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة ثم ولينا أشياء ما أدرى ما حالى فيها فإذا أنامت فلا تصحبنى نائحة ولا نار فإذا دفنتموني فسنوا على التراب سنا ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ما أراجع به رسل ربي فدل على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسر بهم
وقد ذكر عن جماعة من السلف أنهم أوصوا أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن قال عبد الحق يروى أن عبد الله بن عمر أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة وممن رأى ذلك المعلى بن عبد الرحمن وكان الامام أحمد ينكر ذلك أولا حيث لم يبلغه فيه أثر ثم رجع عن ذلك
وقال الخلال في الجامع كتاب القراءة عند القبور اخبرنا العباس بن محمد الدورى حدثنا يحيى بن معين حدثنا مبشر الحلبى حدثني عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه قال قال أبى إذا أنامت فضعنى في اللحد وقل بسم الله وعلى سنة رسول الله وسن على التراب سنا واقرأ عند رأسى بفاتحة البقرة فإنى سمعت عبد الله بن عمر يقول ذلك قال عباس الدورى سألت أحمد بن حنبل قلت تحفظ في القراءة على القبر شيئا فقال لا وسألت يحيى ابن معين فحدثنى بهذا الحديث
قال الخلال وأخبرني الحسن بن أحمد الوراق حدثنى على بن موسى الحداد وكان صدوقا قال كنت مع أحمد بن حنبل ومحمد بن قدامة الجوهرى في جنازة فلما دفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر فقال له أحمد يا هذا إن القراءة عند القبر بدعة فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي قال ثقة قال كتبت عنه شيئا قال نعم فأخبرني مبشر عن عبد الرحمن بن العلاء اللجلاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها وقال سمعت ابن عمر يوصي بذلك فقال له أحمد فارجع وقل للرجل يقرأ
وقال الحسن بن الصباح الزعفراني سألت الشافعي عن القراءة عند القبر فقال لا بأس بها
وذكر الخلال عن الشعبي قال كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرءون عنده القرآن قال وأخبرني أبو يحيى الناقد قال سمعت الحسن بن الجروى يقول مررت على قبر أخت لي فقرأت عندها تبارك لما يذكر فيها فجاءني رجل فقال إنى رأيت أختك في المنام تقول جزى الله أبا على خيرا فقد انتفعت بما قرأ أخبرني الحسن بن الهيثم قال سمعت أبا بكر بن الأطروش ابن بنت أبي نصر بن التمار يقول كان رجل يجيء إلى قبر أمه يوم الجمعة فيقرأ سورة يس فجاء في بعض أيامه فقرأ سورة يس ثم قال اللهم إن كنت قسمت لهذه السورة ثوابا فاجعله في أهل هذه المقابر فلما كان يوم الجمعة التي تليها جاءت امرأة فقالت أنت فلان ابن فلانة قال نعم قالت إن بنتا لي ماتت فرأيتها في النوم جالسة على شفير قبرها فقلت ما أجلسك ها هنا فقالت إن فلان ابن فلانة جاء إلى قبر أمه فقرأ سورة يس وجعل ثوابها لأهل المقابر فأصابنا من روح ذلك أو غفر لنا أو نحو ذلك
وفي النسائي وغيره من حديث معقل بن يسار المزني عن النبي أنه قال اقرأوا يس عند موتاكم وهذا يحتمل أن يراد به قراءتها على المحتضر عند موته مثل قوله لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ويحتمل أن يراد به القراءة عند القبر والأول أظهر لوجوه
الأول أنه نظير قوله لقنوا موتاكم لا إله إلا الله
الثاني انتفاع المحتضر بهذه السورة لما فيها من التوحيد والمعاد والبشرى بالجنة لأهل التوحيد وغبطة من مات عليه بقوله ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين فتستبشر الروح بذلك فتحب لقاء الله فيحب الله لقاءها فإن هذه السورة قلب القرآن ولها خاصية عجيبة في قراءتها عند المحتضر
وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي قال كنا عند شيخنا أبي الوقت عبد الأول وهو في السياق وكان آخر عهدنا به أنه نظر إلى السماء وضحك وقال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين وقضى
الثالث إن هذا عمل الناس وعادتهم قديما وحديثا يقرأون يس عند المحتضر
الرابع إن الصحابة لو فهموا من قوله اقرأوا يس عند موتاكم قراءتها عند القبر لما أخلوا به وكان ذلك أمرا معتادا مشهورا بينهم
الخامس ان انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود وأما قراءتها عند قبره فإنه لا يثاب على ذلك لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع وهو عمل وقد انقطع من الميت
وقد ترجم الحافظ أبو محمد عبد الحق الأشبيلى على هذا فقال ذكر ما جاء أن الموتى يسألون عن الأحياء ويعرفون أقوالهم وأعمالهم ثم قال ذكر أبو عمر بن عبد البر من حديث ابن عباس عن النبي ما من رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ويروى هذا الحديث أبي هريرة مرفوعا قال فإن لم يعرفه وسلم عليه رد عليه السلام
قال ويروى من حديث عائشة رضى الله عنها أنها قالت قال رسول ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده إلا استأنس به حتى يقوم
واحتج الحافظ أبو محمد في هذا الباب بما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله ما من أحد يسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام قال وقال سليمان بن نعيم رأيت النبي في النوم فقلت يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك ويسلمون عليك أتفقه منهم قال نعم وأرد عليهم قال وكان يعلمهم أن يقولوا إذا دخلوا المقابر السلام عليكم أهل الديار الحديث قال وهذا يدل على أن الميت يعرف سلام من يسلم عليه ودعاء من يدعو له
قال أبو محمد ويذكر عن الفضل بن الموفق قال كنت آتى قبر أبي المرة بعد المرة فأكثر من ذلك فشهدت يوما جنازة في المقبرة التي دفن فيها فتعجلت لحاجتي ولم آته فلما كان من الليل رأيته في المنام فقال لي يا بني لم لا تأتيني قلت له يا أبت وإنك لتعلم بي إذا أتيتك قال أى والله يا بنى لا أزال أطلع عليك حين تطلع من القنطرة حتى تصل إلى وتقعد عندي ثم تقوم فلا أزال أنظر إليك حتى تجوز القنطرة
قال ابن أبى الدنيا حدثنى إبراهيم بن بشار الكوفي قال حدثني الفضل بن الموفق فذكر القصة
وصح عن عمرو بن دينار أنه قال ما من ميت يموت إلا وهو يعلم ما يكون في أهله بعده وأنهم ليغسلونه ويكفنونه وانه لينظر إليهم
وصح عن مجاهد أنه قال إن الرجل ليبشر في قبره بصلاح ولده من بعده
فصل ويدل على هذا أيضا ما جرى عليه عمل الناس قديما وإلى الآن
من تلقين الميت في قبره ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة وكان عبثا وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله فاستحسنه واحتج عليه بالعمل
ويروى فيه حديث ضعيف ذكره الطبرانى في معجمه من حديث أبى أمامة قال قال رسول الله إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره ثم يقول يا فلان ابن فلانة فإنه يسمع ولايجيب ثم ليقل يا فلان ابن فلانة الثانية فإنه يستوي قاعدا ثم ليقل يا فلان ابن فلانة يقول أرشدنا رحمك الله ولكنكم لاتسمعون فيقول أذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وان محمد رسول الله وأنك رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما فان منكرا ونكيرا يتأخر كل واحد منهما ويقول انطلق بنا ما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته ويكون الله ورسوله حجيجه دونهما فقال رجل يا رسول الله فإن لم يعرف أمه قال ينسبه إلى امه حواء
فهذا الحديث وإن لم يثبت فإتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير انكار كاف في العمل به وما أجرى الله سبحانه العادة قط بأن أمه طبقت مشارق الأرض ومغاربها وهي أكمل الأمم عقولا وأوفرها معارف تطيق على مخاطبة من لا يسمع ولا يعقل وتستحسن ذلك لاينكره منها منكر بل سنه الأول للآخر ويقتدي فيه الآخر بالأول فلولا ان المخاطب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب والخشب والحجر والمعدوم وهذا وان استحسنه واحد فا لعلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه
وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضر جنازة رجل فلما دفن قال سلوا لأخيكم التثيب فإنه الآن يسأل فأخبر أنه يسأل حينئذ وإذا كان يسأل فإنه يسمع التلقين
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولوا منصرفين وذكر عبد الحق عن بعض الصالحين قال مات أخ لى فرأيته في النوم فقلت يا أخي ما كان حالك حين وضعت في قبرك قال أتاني آت بشهاب من نار فلولا أن داعيا دعا لي لهلكت
وقال شبيب بن شيبة أوصتني أمى عند موتها فقالت يا بنى إذا دفنتني فقم عند قبرى وقل يا أم شبيب قولى لا إله إلا الله فلما دفنتها قمت عند قبرها فقلت يا أم شبيب قولى لا إله إلا
الله ثم انصرفت فلما كان من الليل رأيتها في النوم فقالت يا بنى كدت أهلك لولا أن تداركني لا إله إلا الله فقد حفظت وصيتى يا بنى
وذكر ابن أبى الدنيا عن تماضر بنت سهل امرأة أيوب بن عيينة قالت رأيت سفيان بن عيينة في النوم فقال جزى الله أخى أيوب عنى خيرا فإنه يزورني كثيرا وقد كان عندى اليوم فقال أيوب نعم حضرت الجبان اليوم فذهبت إلى قبره
وصح عن حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب أن الصعب بن جثامة وعوف ابن مالك كانا متآخيين قال صعب لعوف أى أخى أينا مات قبل صاحبه فليتراءا له قال أو يكون ذلك قال نعم فمات صعب فرآه عوف فيما يرى النائم كأنه قد اتاه قال قلت أى أخى قال نعم قلت ما فعل بكم قال غفر لنا بعد المصائب قال ورأيت لمعة سوداء في عنقه قلت أى أخى ما هذا قال عشرة دنانير استسلفتها من فلان اليهودي فهن في قرني فأعطوه إياها وأعلم أن أى أخي انه لم يحدث في أهلى حدث بعد موتى إلا قد لحق بى خبره حتى هرة لنا ماتت منذ أيام واعلم أن بنتى تموت إلى ستة أيام فأستوصوا بها معروفا فلما أصبحت قلت إن في هذا لمعلما فأتيت أهله فقالوا مرحبا بعوف أهكذا تصنعون بتركة إخوانكم لم تقربنا منذ مات صعب قال فأتيت فأعتللت بما يعتل به الناس فنظرت إلى القرن فأنزلته فأنتثلت ما فيه فوجدت الصرة التي فيها الدنانير فبعثت بها إلى اليهودي فقلت هل كان لك على صعب شيء قال رحم الله صعبا كان من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هى له قلت لتخبرني قال نعم اسلفته عشرة دنانير فنبذتها إليه قال هى والله بأعيانها قال قلت هذه واحدة
قال فقلت هل حدث فيكم حدث بعد موت صعب قالوا نعم حدث فينا كذا حدث قال قلت اذكروا قالوا نعم هرة ماتت منذ ايام فقلت هاتان اثنتان
قلت أين أبنة أخى قالوا تلعب فأتيت بها فمسستها فإذا هى محمومه فقلت استوصوا بها معروفا فماتت في ستة أيام
وهذا من فقه عوف رحمه الله وكان من الصحابة حيث نفذ وصية الصعب بن جثامة بعد موته وعلم صحة قوله بالقرائن التي أخبره بها من أن الدنانير عشرة وهى في القرن ثم سأل اليهودى فطابق قوله لما في الرؤيا فجزم عوف بصحة الأمر فأعطى اليهودي الدنانير وهذا فقه إنما يليق بأفقه الناس وأعلمهم وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولعل أكثر المتأخرين ينكر ذلك ويقول كيف جاز لعوف أن ينقل الدنانير من تركة صعب وهى لأيتامه وورثته إلى يهودى بمنام
ونظير هذا من الفقه الذي خصهم به دون الناس قصة ثابت بن قيس بن شماس وقد ذكرها أبو عمر بن عبد البر وغيره قال أبو عمر أخبرنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج حدثنا سعيد بن عفير وعبد العزيز بن يحيى المدني حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن إسماعيل بن محمد بن ثابت الأنصارى عن ثابت ابن قيس بن شماس أن رسول قال له يا ثابت أما ترضي أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة قال مالك فقتل ثابت بن قيس يوم اليمامة شهيدا
قال أبو عمرو روى هشام بن عمار عن صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال حدثني عطاء الخراساني قال حدثتني ابنة ثابت بن قيس بن شماس قالت لما نزلت يا أيها الذين آمنو لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي دخل أبو هابية وأغلق عليه بابه ففقده رسول الله وأرسل إليه يسأله ما خبره قال أنا رجل شديد الصوت أخاف أن يكون قد حبط عملى قال لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير قال ثم أنزل الله إن الله لا يحب كل مختال فخور فأغلق عليه بابه وطفق يبكي ففقده رسول الله فأرسل إليه فأخبره فقال يا رسول الله إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومى فقال لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة قالت فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة فلما التقوا وأنكشفوا قال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله ثم حفر كل واحد له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قتلا وعلى ثابت يومئذ ذرع له نفيسة فمر به رجل من المسلمين فأخذها فبينما رجل من المسلمين نائم إذ أتاه ثابت في منامه فقال له أوصيك بوصية فاياك أن تقول هذا حلم فتضعيه إني لما قتلت أمس مربى رجل من المسلمين فأخذ ذرعى ومنزلة في أقصي الناس وعند خبائه فرس يستين في طوله وقد كفا على الدرع برمة وفوق البرمة رجل فأت خالدا فمره أن يبعث إلى درعى فيأخذها وإذا قدمت المدينة على الخليفة رسول الله يعني أبا بكر الصديق فقل له أن على من الدين كذا وكذا وفلان من رقيقى عتيق وفلان فأتي الرجل خالدا فأخبره فبعث إلى الدرع فأتي بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته قال ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت بن قيس رحمه الله انتهى ما ذكره أبو عمرو
فقد اتفق خالد أبو بكر الصديق والصحابة معه على العمل بهذه الرؤيا وتنفيذ الوصية بها وانتزاع الدرع ممن هى في يده وهذا محض الفقه
وإذا كان أبو حنيفة وأحمد ومالك يقبلون قول المدعي من الزوجين ما يصلح له دون الآخر يقرينه صدقة فهذا أولى
وكذلك أبو حنيفة يقبل قول الدعى للحائط بوجود الآجر إلى جانبه وبمعاقد القمط وقد شرع الله حد المرأة بأيمان الزوج وقرينة تكون لها فإن ذلك من أظهر الأدلة على صدق الزوج
وأبلغ من ذلك قتل المقسم عليه في القسامة بأيمان المدعين مع القرينة الظاهرة من اللوث وقد شرع الله سبحانه قبول قولى المدعين لتركه ميتهم إذا مات في السفر وأوصي إلى رجلين من غير المسلمين فاطلع الورثة على خيانة الوصيين بأنهما يحلفان بالله ويستحقانه وتكون أيمانهما أولى من أيمان الوصيين وهذا أنزله الله سبحانه في آخر الأمر في سورة المائدة وهى من آخر القرآن ولم ينسخها شيء وعمل بها الصحابة بعده
وهذا دليل على أنه يقضي في الأموال باللوث وإذا كان الدم يباح باللوث في القسامة فلأن يقضي باللوث وهو القرائن الظاهرة في الأمول أولى وأحرى
وعلى هذا عمل ولاة العدل في استخراج السرقات من السراق حتى أن كثيرا ممن ينكر ذلك عليهم يستعين بهم إذا سرق ماله
وقد حكى الله سبحانه عن الشاهد الذي شهد بين يوسف الصديق وامرأة العزيز أنه حكم بالقرينة على صدق يوسف وكذب المرأة ولم ينكر الله سبحانه عليه ذلك بل حكاه عنه تقريرا له
وأخبر النبي عن نبي الله سليمان بن داود أنه حكم بين المرأتين اللتين ادعتا الولد للصغرى بالقرينة التى ظهرت له لما قال ائتوني بالسكين أشق الولد بينكما فقالت الكبرى نعم رضيت بذلك للتسلى بفقد ابن صاحبتها وقالت الأخرى لا تفعل هو ابنها فقضي به لها للشفقة والرحمة التى قامت بقلبها حتى سمحت به للأخرى ويبقي حيا وتنظر إليه
وهذا من أحسن الأحكام وأعدلها وشريعة الإسلام تقرر مثل هذا وتشهد بصحته وهل الحكم بالقيافة والحاق النسب بها اللاعتماد على قرائن الشبة مع اشتباهها وخفائها غالبا
المقصود أن القرائن التى قامت في الرؤيا عوف بن مالك وقصة ثابت بن قيس لا تقصر عن كثير من هذه القرائن بل هى أقوى من مجرد وجود الآجر ومعاقد القمط وصلاحية المتاع للمدعى دون الآخر في مسألة الزوجين والصانعين وهذا ظاهر لاخفاء به وفطر الناس وعقولهم تشهد بصحته وبالله التوفيق
والمقصود جواب السائل وأن الميت إذا عرف مثل هذه الجزيئات وتفاصليها فمعرفته بزيارة الحى له وسلامة عليه ودعائه له أولى وأحرى
المسألة الثانية وهى أن ارواح الموتى هل تتلاقي وتتزاور وتتذاكر أم لا
وهي أيضا مسألة شريفة كبيرة القدر وجوابها أن الأرواح قسمان أرواح معذبة وأرواح منعمة فالمعذبة في شغل بما هى فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقي وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها وروح نبينا محمد في الرفيق الأعلى قال الله تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وهذه المعية ثابتة في الدنيا وفي الدار البرزخ وفي دار الجزاء والمرء مع من أحب في هذه الدور الثلاثة
وروى جرير عن منصور عن أبي الضحي عن مسروق قال قال أصحاب محمد ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإذا مت رفعت فوقنا فلم نرك فأنزل الله تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
وقال الشعبي جاء رجل من الأنصار وهو يبكي إلى النبي فقال ما يبكيك يا فلان فقال يا نبي الله والله الذي لا إله إلا هو لأنت أحب إلى من أهلى ومالى والله الذي لا إله إلا هو لأنت أحب إلى من نفسى وأنا أذكرك أنا وأهلى فيأخذني كذا حتى أراك فذكرت موتك وموتى فعرفت أني ان أجامعك إلا في الدنيا وإنك ترفع بين النبيين وعرفت اني إن دخلت الجنة كنت في منزل أدني من منزلك فلم يرد النبي شيئا فأنزل الله تعالى ومن يطع الله ورسول فألئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقيين والشهداء والصالحين إلى قوله وكفى بالله عليما وقال تعالى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلى في عبادى وادخلى جنتى اى أدخلى جملتهم وكونى معهم وهذا يقال للروح عند الموت
وفي قصة الاسراء من حديث عبد الله بن مسعود قال لما اسرى النبي لقي إبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فتذكروا الساعة فبدأوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم ثم بموسى فلم يكن عنده منها علم حتى أجمعوا الحديث الى عيسى فقال عيسى عهد الله الى فيمادون وجبتها فذكر خروج الدجال قال فأهبط
فأقتله ويرجع الناس إلى بلادهم فتستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فلا يمرون بماء إلا شربوه ولا يمرون بشيء الا أفسدوه فيجأرون إلى فأدعو الله فيميتهم فتجأر الأرض الى الله من ريحهم ويجأرون الى فادعو ويرسل الله السماء بالماء فيحمل أجسامهم فيقذفها في البحر ثم ينسف الجبال ويمد الأرض مد الأديم فعهد الله الى اذا كان كذلك فإن الساعة من الناس كالحامل المتم لا يدرى أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلا أو نهارا ذكره الحاكم والبيهقي وغيرهما
وهذا نص في تذاكر الأرواح العلم
وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون وأنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وإنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل وهذا يدل على تلاقيهم من ثلاثة أوجه أحدها أنهم عند ربهم يرزقون وإذا كانوا أحياء فهم يتلاقون الثاني أنهم إنما استبشروا باخوانهم لقدومهم ولقائهم لهم الثالث ان لفظ يستبشرون يفيد في اللغة أنهم يبشر بعضهم بعضا مثل يتباشرون
وقد تواترت المرائى بذلك فمنها ما ذكره صالح بن بشير قال رأيت عطاء السلمى في النوم بعد موته فقلت له يرحمك الله لقد كنت طويل الحزن في الدنيا فقال أما والله لقد أعقبني ذلك فرحا طويلا وسرورا دائما فقلت في أى الدرجات أنت قال مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
وقال عبد الله بن المبارك رأيت سفيان الثورى في النوم فقلت له ما فعل الله بك قال لقيت محمدا وحزبة
وقال صخر بن راشد رأيت عبد الله بن المبارك في النوم بعد موته فقلت أليس قد مت قال بلى قلت فما صنع الله بك قال غفر لى مغفرة أحاطت بكل ذنب فسفيان الثورى قال بخ بخ ذاك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
وذكر ابن أبي الدنيا من حديث حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن يقظة بنت
راشد قالت كان مروان المحلمى لى جارا وكان قاضيا مجتهدا قالت فمات فوجدت عليه وجدا شديدا قالت فرأيته فيما يرى النائم قلت أبا عبد الله ما صنع بك ربك قال أدخلنى الجنة قلت ثم ماذا قال ثم رفعت إلى أصحاب اليمين قلت ثم ماذا قال ثم رفعت إلى المقربين المقربين قلت فمن رأيت من إخوانك قال رأيت الحسن وابن سيرين وميمون بن سياه قال حماد قال هشام بن حسان فحدثتني أم عبد الله وكانت من خيار نساء أهل البصرة قالت رأيت فيما يرى النائم كأني دخلت دارا حسنة ثم دخلت بستانا فذكرت من حسنه ما شاء الله فإذا أنا فيه برجل متكىء على سرير من ذهب وحوله الوصفاء بأيديهم الأكاويب قالت فإني لمتعجبه من حسن ما أرى إذ قيل هذا مروان المحلمى أقبل فوثب فاستوى جالسا على سريره قالت واستيقظت من منامى فإذا جنازة مروان قد مر بها على بابى تلك الساعة
وقد جاءت سنة صريحة بتلاقي الأرواح وتعارفها قال ابن أبي الدنيا حدثني محمد بن عبد الله بن بزيغ أخبرني فضيل بن سليمان النميري حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن جده قال لما مات بشر بن البراء بن معرور وجدت عليه أم بشر وجدا شديدا فقالت يا رسول الله إنه لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة فهل تتعارف الموتى فأرسل إلى بشر بالسلام فقال رسول الله نعم والذي نفسى بيده يا أم بشر انهم ليتعافون كما تتعارف الطير في رءوس ! الشجر وكان لا يهلك من بنى سلمة إلا جاءته أم بشر فقالت يا فلان عليك السلام فيقول وعليك فتقول اقرأ على بشر السلام !
وذكر ابن أبي الدنيا من حديث سفيان عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير قال أهل القبور يتوكفون الأخبار فإذا أتاهم الميت قالوا ما فعل فلان فيقول صالح ما فعل فلان يقول صالح ما فعل فلان فيقول ألم يأتكم أو ما قدم عليكم فيقولون لا فيقول أنا لله وإنا إليه راجعون سلك به غير سبيلنا
وقال صالح المرى بلغنى أن الأرواح تتلاقي عند الموت فنقول لأرواح الموتى للروح التى تخرج إليهم كيف كان مأواك وفي أى الجسدين كنت في طيب أم خبيث ثم بكى حتى غلبه البكاء
وقال عبيد بن عمير إذا مات الميت تلقته الأرواح يستخبرونه كما يستخبر الركب ما فعل فلان ما فعل فلان فإذا قال توفي ولم يأتهم قالوا ذهب به إلى أمه الهاوية وقال سعيد بن المسيب إذا مات الرجل استقبله والده كما يستقبل الغائب
وقال عبيد بن عمير أيضا لو أنى آيس من القاء من مات من أهلى لألفانى قد مت كمدا
وذكر معاوية بن يحيى عن عبد الله بن سلمة أن أبارهم المسمعى حدثه أن أبا أيوب الأنصارى حدثه أن رسول الله قال إن نفس المؤمن إذا قبضت تلقاها أهل الرحمة من عند الله كما يتلقى البشير في الدنيا فيقولون انظروا أخاكم حتى يستريح فإنه كان في كرب شديد فيسألونه ماذا فعل فلان وماذا فعلت فلانة وهل تزوجت فلانة فإذا سألوه عن رجل مات قبله قال إنه قد مات فبلى قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب به إلى أمه الهاوية فبئست المربية
وقدم تقدم حديث يحيى بن بسطام حدثني مسمع بن عاصم قال رأيت عاصما الجحدرى في منامى بعد موته بسنتين فقلت أليس قد مت قال بلى قلت وأين أنت قال أنا والله في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابى نجتمع كل ليلة جمعه وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني فتتلقي أخباركم قلت أجسامكم أم أرواحكم قال هيهات بليت الأجسام وإنما تتلاقي الأرواح
المسألة الثالثة وهى هل تتلاقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات أم لا
شواهد هذه المسألة وأدلتها كثر من أن يحصيها إلا الله تعالى والحس والواقع من أعدل الشهود بها فتلقي أرواح الأحياء و الأموات كما تلاقي أرواح الأحياء وقد قال تعالى الله يتوفي الأنفس حين موتها والتى لم تمت في منامها فيمسك التى قضي عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون
قال أبو عبد الله بن منده حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن حسين الحراني حدثنا جدى أحمد بن شعيب حدثنا موسى بن عين عن مطرف عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتسألون بينهم فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا عبد الله بن سليمان حدثنا الحسين حدثنا عامر حدثنا اسباط عن السدى وفي قوله تعالى والتى لم تمت في منامها قال يتوفاها في منامها فيلتقي روح الحى وروح الميت فيتذاكران ويتعارفان قال فترجع روح الحى إلى جسده في الدنيا إلى بقية أجلها وتريد روح الميت أن ترجع إلى جسده فتحبس
وهذا أحمد القولين في الآية وهو أن الممسكة من توفيت وفاة الموت أولا والمرسلة من
توفيت وفاة النوم والمعنى على هذا القول أنه يتوفي نفس الميت فيمسكها ولا يرسلها إلى جسدها قبل يوم القيامة ويتوفي نفس النائم ثم يرسلها إلى جسده إلى بقية أجلها فيتوفاها الوفاة الأخرى
والقول الثاني في الآية أن الممسكة والمرسلة في الآية كلاهما توفي وفاة النوم فمن استكملت أجلها أمسكها عنده فلا يردها إلى جسدها ومن لم تستكمل أجلها ردها إلى جسدها لتستكمله واختار شيخ الإسلام هذا القول وقال عليه يدل القرآن والسنة قال فإنه سبحانه ذكر إمساك التى قضي عليها الموت من هذه الأنفس التى توفاها وفاة النوم وأما التى توفاها حين موتها فتلك لم يصفها بامساك ولا بإسال بل هى قسم ثالث
والذي يترجح هو القول الأول لأنه سبحانه أخبر بوفاتين وفاة كبرى وهى وفاة الموت ووفاة صغرى وهى وفاة النوم وقسم الأرواح قسمين قضي عليها بالموت فأمسكها عنده وهى التى توفاها وفاة الموت وقسما لها بقية أجل فردها إلى جسدها إلى استكمال أجلها وجعل سبحانه الامساك والارسال حكمين للوفاتين المذكورتين أولا فهذه ممسكة وهذه مرسلة وأخبر أن التى لم تمت هى التى توفاها في منامها فلو كان قد قسم وفاة النوم إلى قسمين وفاة موت ووفاة نوم لم يقل والتى لم تمت في منامها فإنها من حين قبضت ماتت وهو سبحانه قد أخبر أنها لم تمت فكيف يقول بعد ذلك فيمسك التى قضي عليها الموت
ولمن نصر هذا القول أن يقول قوله تعالى فيمسك التى قضى عليها الموت بعد أن توفاها وفاة النوم فهو سبحانه توفاها أولا وفاة نوم ثم قضي عليها الموت بعد ذلك والتحقيق أن الآية تتناول النوعين فإنه سبحانه ذكر وفاتين وفاة نوم ووفاة موت وذكر إمساك المتوفاة وإرسال الأخرى ومعلوم أنه سبحانه يمسك كل نفس ميت سواء مات في النوم أو في اليقظة ويرسل نفس من لم يمت فقوله يتوفي الأنفس حين موتها يتناول من مات في اليقظة ومن مات في المنام
وقد دل التقاء أرواح الأحياء والأموات أن الحى يرى الميت في منامه فيستخبره ويخبره الميت بما لا يعلم الحى فيصادف خبره كما أخبر في الماضي والمستقبل وربما أخبره بمال دفنه الميت في مكان لم يعلم به سواه وربما أخبره بدين عليه وذكر له شواهده وأدلته
وأبلغ من هذا أنه يخبر بما عمله من عمل لم يطلع عليه أحد من العالمين وأبلغ من هذا أنه يخبره أنك تأتينا إلى وقت كذا وكذا فيكون كما أخبر وربما أخبره عن أمور يقطع الحى أنه لم يكن يعرفها غيره وقد ذكرنا قصة الصعب بن جثامة وقوله لعوف بن مالك ما قال له وذكرنا قصة ثابت بن قيس بن شماس وأخباره لمن رآه يدرعه وما عليه من الدين
وقصة صدقة بن سليمان الجعفرى وأخبار ابنه له بما عمل من بعده وقصة شبيب بن شيبة وقول أمه له بعد الموت جزاك الله خيرا حيث لقنها لا إله إلا الله وقصة الفضل بن الموفق مع ابنه وإخباره إياه بعلمه بزيارته
وقال سعيد بن المسيب التقي عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي فقال أحدهما للآخر أن مت قبلى فالقني فاخبرني ما لقيت من ربك وإن أنا مت قبلك لقيتك فأخبرتك فقال الآخر وهل تلتقي الأموات والأحياء قال نعم أرواحهم في الجنة تذهب حيث تشاء قال فمات فلان فلقيه في المنام فقال توكل وأبشر فلم أر مثل التوكل قط وقال العباس بن عبد المطلب كنت أشتهى أن ارى عمر في المنام فما رأيته إلا عند قرب الحول فرأيته يمسح العرق عن جبينه وهو يقول هذا أوان فراغي إن كاد عرشي ليهد لولا أن لقيت رءوفا رحميا
ولما حضرت شريح بن عابد الثمالى الوفاة دخل عليه غضيف بن الحارث وهو يجود بنفسه فقال يا أبا الحجاج إن قدرت على أن تأتينا بعد الموت فتخبرنا بما ترى فافعل قال وكانت كلمة مقبولة في أهل الفقه قال فمكث زمانا لا يراه ثم رآه في منامه فقال له أليس قدمت قال بلى قال فكيف حالك قال تجاوز ربنا عنا الذنوب فلم يهلك منا إلا الاحراض قلت وما الأحراض قال الذين يشار إليهم بالأصابع في الشيء
وقال عبد الله بن عمر بن عبد العزيز رأيت أبي في النوم بعد موته كأنه في حديقة فدفع إلى تفاحات فأولتهن ! الولد فقلت أى الأعمال وجدت أفضل فقال الاستغفار أى بنى
ورأى مسلمة بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز بعد موته فقال يا أمير المؤمنين ليت شعرى إلى أى الحالات صرت بعد الموت قال يا مسلمة هذا أوان فراغي والله ما استرحت إلا الآن قال قلت فأين أنت يا أمير المؤمنين قال مع أئمة الهدى في جنة عدن
قال صالح البراد رأيت زرارة بن أوفي بعد موته فقلت رحمك الله ماذا قيل لك وماذا قلت فأعرض عنى قلت فما صنع الله بك قال تفضل على بجوده وكرمه قلت فأبو العلاء بن يزيد أخو مطرف قال ذاك في الدرجات العلى قلت فأى الأعمال أبلغ فيما عندكم قال التوكل وقصر الأمل
وقال مالك بن دينار رأيت مسلم بن يسار بعد موته فسلمت عليه فلم يرد على السلام فقلت ما يمنعك أن ترد السلام قال أنا ميت فكيف أرد عليك السلام فقلت له ماذا لقيت بعد الموت قال لقيت والله أهوالا وزلازل عظاما شدادا قال قلت له فما كان بعد ذلك قال وما تراه يكون من الكريم قبل منا الحسنات وعفا لنا عن السيئات وضمن عنا النبعات ! قال ثم شهق مالك شهقة خر مغشيا عليه قال فلبث بعد ذلك أياما مريضا ثم انصدع قلبه فمات
وقال سهيل أخو حزم رأيت مالك بن دينار بعد موته فقلت يا أبا يحيى ليث شعرى ماذا قدمت به على الله قال قدمت بذنوب كثيرة محاها عنى حسن الظن بالله تعالى
ولما مات رجاء بن حيوة رأته امرأة عابدة فقالت يا أبا المقدام إلام صرتم قال إلى خير ولكن فزعنا بعدكم فزعة ظننا أن القيامة قد قامت قالت قلت ومم ذلك قال دخل الجراح وأصحابه الجنة بأثقالهم حتى ازدحموا على بابها
وقال جميل بن مرة كان مورق العجلى لى أخا وصديقا فقلت له ذات يوم أينا مات قبل صاحبه فليأت صاحبه فليخبره بالذي صار الأيه قال فمات مورق فرأت أهلى في منامها كأنه أتانا كما كان يأتي فقرع الباب كما كان يقرع قالت فقمت ففتحت له كما كنت أفتح وقلت أدخل يا أبا المعتمر إلى باب أخيك فقال كيف أدخل وقد ذقت الموت إنما جئت لأعلم جميلا بما صنع الله بى أعلميه أنه قد جعلني في المقربين
ولما مات محمد بن سيرين حزن عليه بعض أصحابه حزنا شديدا فرآه في المنام في حال حسنة فقال يا أخي قد أراك في حال يسرني فما صنع الحسن قال رفع فوقي بسبعين درجة قلت ولم ذاك وقد كنا نرى أنك أفضل منه قال ذاك بطول حزنه
وقال ابن عيينة رأيت سفيان الثورى في النوم فقلت أوصنى قال أقل من معرفة الناس
وقال عمار بن سيف رأيت الحسن بن صالح في منامى فقلت قد كنت متمنيا للقائك فماذا عندك فتخبرنا به فقال أبشر فإني لم أر مثل حسن الظن بالله شيئا
ولما مات ضيغم العابد رآه بعض أصحابه في المنام فقال أما صليت علي قال فذكرت علة كانت فقال أما لو كنت على نجت رأسك
ولما ماتت رابعة رأتها امرأة من أصحابها وعليها حلة استبرق وخمار من سندس وكانت كفنت في جبة ! وخمار من صوف فقالت لها ما فعلت الجبة التى كفنتك فيها وخمار الصوف قالت والله أنه نزع عنى وأبدلت به هذا الذي ترين على وطويت أكفاني وختم عليها ورفعت في عليين ليكمل لى ثوابها يوم القيامة قالت فقلت لها هذا كنت تعلمين أيام الدنيا فقالت وما هذا عند ما رأيت من كرامة الله لأوليائه فقلت لها فما فعلت عبدة بنت أبي كلاب فقلت هيهات هيهات سبقتنا والله إلى الدرجات العلى قالت قلت وبم وقد كنت عند الناس أعبد منها فقالت أنها لم تكن تبالى على أى حال أصبحت من الدنيا أو أمست فقلت فما فعل أبو مالك تعنى ضيغما فقالت يزور الله تبارك وتعالى متى شاء قالت
قلت فما فعل بشر بن منصور قالت بخ بخ أعطى والله فوق ما كان يأمل قالت قلت مرينى بأمر أتقرب به إلى الله تعالى قالت عليك بكثرة ذكر الله فيوشك أن تغتبطى بذلك في قبرك
ولما مات عبد العزيز بن سليمان العابد رآه بعض أصحابه وعليه ثياب خضر وعلى رأسه أكليل من لؤلؤ فقال كيف كنت بعدنا وكيف وجدت طعم الموت وكيف رأيت الأمر هناك قال أما الموت فلا تسأل عن شدة كربه وغمه إلا أن رحمة الله وارت عنا كل عيب وما تلقانا إلا بفضله
وقال صالح بن بشر لما مات عطاء السلمى رأيته في منامى فقلت يا أبا محمد ألست في زمرة الموتى قال بلى قلت فماذا صرت بعد الموت قال صرت والله إلى خير كثير ورب غفور شكور قال قلت أما والله لقد كنت طويل الحزن في دار الدنيا فتبسم وقال والله لقد أعقبني ذلك راحة طويلة وفرحا دائما قلت ففي أى الدرجات أنت قال مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين وحسن أولئك رفيقا
ولما مات عاصم الجحدرى رآه بعض أهله في المنام فقال أليس قدمت قال بلى قال فأين أنت قال أنا والله في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزنى فنتلقى أخباركم قال قلت أجسادكم أم أرواحكم قال هيهات بليت الأجساد وإنما تتلاقى الأرواح
ورئى الفضيل بن عياض بعد موته فقال لم أر للعبد خيرا من ربه
وكان مرة الهمدانى قد سجد حتى أكل التراب جبهته فلما مات رآه رجل من أهله في منامه وكأن موضع سجوده كهيئة الكوكب الدرى فقال ما هذا الأثر الذي أرى بوجهك قال كسى موضع السجود بأكل التراب له نورا قال قلت فما منزلتك في الآخرة قال خير منزل دار لا ينتقل عنها أهلها ولا يموتون
وقال أبو يعقوب القارى رأيت في منامى رجلا آدما طوالا والناس يتبعونه قلت من هذا قالوا أو يس القرنى فاتبعته فقلت أوصنى يرحمك الله فكلح في وجهى فقلت مسترشد فأرشدنى رحمك الله فأقبل على فقال ابتغ رحمة الله عند محبته واحذر نقمته عند ! معصيته ولا تقطع رجاءك منه في خلال ذلك ثم ولى وتركنى
وقال ابن السماك رأيت مسعرا في النوم فقلت أى الأعمال وجدت أفضل قال مجالس الذكر وقال الأجلح رأيت سلمة بن كهيل في النوم فقلت أى الأعمال وجدت أفضل قال قيام الليل وقال أبو بكر بن أبى مريم رأيت وفاء بن بشر بعد موته فقلت ما فعلت
يا وفاء قال نجوت بعد كل جهد قلت فأى الأعمال وجدتموها أفضل قال البكاء من خشية ! الله تعالى
وقال الليث بن سعد عن موسى بن وردان أنه رأى عبد الله بن أبى حبيبة بعد موته فقال عرضت على حسناتى وسيئاتى فرأيت في حسناتى حبات رمان التقطتهن فأكلهن ! ورأيت في سيئاتى خيطى حرير كانا في قلنسوتى
وقال سنيد بن داود حدثنى ابن أخى جويرية بن أسماء قال كنا بعبادان فقدم علينا شاب من أهل الكوفة متعبد فمات بها في يوم شديد الحر فقلت نبرد ثم نأخذ في جهازه فنمت فرأيت كأنى في المقابر فإذا بقبة جوهر تتلألأ حسنا وأنا أنظر إليها إذ انفلقت فأشرفت منها جارية ما رأيت مثل حسنها فأقبلت على فقالت بالله لا تحبسه عنا إلى الظهر قال فانتبهت فزعا وأخذت في جهازه وحفرت له قبرا في الموضع الذي رأيت فيه القبة فدفنته فيه
وقال عبد الملك بن عتاب الليثى رأيت عامر بن عبد قيس في النوم فقلت أى الأعمال وجدت أفضل قال ما أريد به وجه الله تعالى
وقال يزيد بن هارون رأيت أبا العلاء أيوب بن مسكين في المنام فقلت ما فعل بك ربك قال غفر لي قلت بماذا قال بالصوم والصلاة قلت أرأيت منصور بن زادان قال هيهات ذاك نرى قصره من بعيد
وقال يزيد بن نعامة هلكت جارية في طاعون الجارف فلقيها أبوها بعد موتها فقال لها يا بنية أخبرينى عن الآخرة قالت يا أبت قدمنا على أمر عظيم نعلم ولا نعمل وتعملون ولا تعلمون والله لتسبيحة أو تسبيحتان أو ركعة أو ركعتان في صحيفة عملي أحب إلى من الدنيا وما فيها وقال كثير بن مرة رأيت في منامى كأنى دخلت درجة علياء في الجنة فجعلت أطوف بها وأتعجب منها فإذا أنا بنساء من نساء المسجد في ناحية منها فذهبت حتى سلمت عليهن ثم قلت بما بلغتن هذه الدرجة قلن بسجدات وتكبيرات وقال مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز عن فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر بن عبد العزيز قالت انتبه عمر بن عبد العزيز ليلة فقال لقد رأيت رؤيا معجبة قالت فقلت جعلت فداءك فأخبرنى بها فقال ما كنت لأخبرك بها حتى أصبح فلما طلع الفجر خرج فصلى ثم عاد إلى مجلسه قالت فاغتنمت خلوته فقلت أخبرنى بالرؤيا التي رأيت قال رأيت كأنى رفعت إلى أرض خضراء واسعة كأنها بساط أخضر وإذا فيها قصر أبيض كأنه الفضة وإذا خارج قد خرج من ذلك القصر فهتف بأعلى صوته يقول أين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أين رسول الله إذ أقبل رسول الله حتى دخل ذلك القصر قال ثم إن آخر خرج من ذلك القصر فنادى
أين أبو بكر الصديق أين ابن أبى قحافة إذ أقبل أبو بكر حتى دخل ذلك القصر ثم خرج آخر فنادى أين عمر بن الخطاب فأقبل عمر حتى دخل ذلك القصر ثم خرج آخر فنادى أين عثمان ابن عفان فأقبل حتى دخل ذلك القصر ثم خرج آخر فنادى أين علي بن أبى طالب فأقبل حتى دخل ذلك القصر ثم ان آخر خرج فنادى أين عمر بن عبد العزيز قال عمر فقمت حتى دخلت ذلك القصر قال فدفعت إلى رسول الله والقوم حوله فقلت بينى وبين نفسى أين أجلس فجلست إلى جنب أبى عمر بن الخطاب فنظرت فإذا أبو بكر عن يمين النبي وإذا عمر عن يساره فتأملت فإذا بين رسول الله وبين أبى بكر رجل فقلت من هذا الرجل الذى بين رسول وبين أبى بكر فقال هذا عيسى بن مريم فسمعت هاتفا يهتف وبينى وبينه ستر نور يا عمر بن عبد العزيز تمسك بما أنت عليه وانبت على ما أنت عليه ثم كأنه أذن لى في الخروج فخرجت من ذلك القصر فالتفت خلفي فإذا أنا بعثمان بن عفان وهو خارج من ذلك القصر يقول الحمد لله الذي نصرنى وإذا علي بن أبى طالب في أثره خارج من ذلك القصر وهو يقول الحمد لله الذي غفر لى
وقال سعيد بن أبى عروبة عن عمر بن عبد العزيز رأيت رسول الله وأبو بكر وعمر جالسان عنده فسلمت فبينا أنا جالس إذ أتى بعلي ومعاوية فأدخلا بيتا وأجيف عليها الباب وأنا أنظر فما كان بأسرع من أن خرج على وهو يقول قضى لى ورب الكعبة وما كان بأسرع من أن خرج معاوية على أثره وهو يقول غفر لي ورب الكعبة
وقال حماد بن أبى هاشم جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز فقال رأيت رسول الله في المنام وأبو بكر عن يمينه وعمر عن شماله وأقبل رجلان يختصمان وانت بين يديه جالس فقال لك يا عمر إذا عملت فاعمل بعمل هذين لأبى بكر وعمر فاستحلفه عمر بالله أرأيت هذه الرؤيا فحلف ! فبكى عمر
وقال عبد الرحمن بن غنم رأيت معاذ بن جبل بعد وفاته بثلاث على فرس أبلق وخلفه رجال بيض عليهم ثياب خضر على خيل بلق وهو قدامهم وهو يقول يا ليت قومى يعلمون بما غفر لي ربى وجعلني من المكرمين ثم التفت عن يمينه وشماله يقول يا ابن رواحة يا ابن مظعون الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ثم صافحنى وسلم على
وقال قبيصة بن عقبة رأيت سفيان الثورى في المنام بعد موته فقلت ما فعل الله بك فقال
نظرت إلى ربي عيانا فقال لي ... هنيئا رضايا عنك يا ابن سعيد
فقد كنت قواما إذا الليل قد دجا ... بعبرة محزون وقلب عميد
فدونك فاخترأى قصر تريده ... وزرنى فإنى منك غير بعيد
وقال سفيان بن عيينة رأيت سفيان الثورى بعد موته يطير في الجنة من نخلة إلى شجرة ومن شجرة إلى نخلة وهو يقول لمثل هذا فليعمل العاملون فقيل له بما أدخلت الجنة قال بالورع بالورع قيل له فما فعل على بن عاصم قال ما نراه إلا مثل الكوكب
وكان شعبة بن الحجاج ومسعر بن كدام حافظين وكانا جليلين قال أبو أحمد البريدى فرأيتهما بعد موتهما فقلت أبا بسطام ما فعل الله بك فقال وفقك الله لحفظ ما أقول
حبانى إلهى في الجنان بقية ... لها ألف باب من لجين وجوهرا
وقال لى الرحمن يا شعبة الذي ... تبحر في جمع العلوم فأكثرا
تنعم بقربى إننى عنك ذو رضا ... وعن عبدى القوام في الليل مسعرا
كفا مسعرا عزا بأن سيزورني ... واكشف عن وجهى الكريم لينظرا
وهذا فعالى بالذين تنسكوا ... ولم يألفوا في سالف الدهر منكرا
قال أحمد بن محمد اللبدى رأيت أحمد بن حنبل في النوم فقلت يا أبا عبد الله ما فعل الله بك قال غفر لى ثم قال يا أحمد ضربت في ستين سوطا قلت نعم يارب قال هذا وجهى قدأبحتك فأنظر إليه
وقال أبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج حدثنى رجل من أهل طوسوس قال دعوت الله تعالى أن يرينى أهل القبور حتى أسألهم عن أحمد بن حنبل ما فعل الله به فرأيت بعد عشر سنين في المنام كأن أهل القبور قد قاموا على قبورهم فبادرونى بالكلام فقالوا يا هذا كم تدعو الله تعالى أن يريك ايانا تسألنا عن رجل لم يزل منذ فارقكم تحليه الملائكة تحت شجرة طوبى قال أبو محمد عبد الحق وهذا الكلام من أهل القبور إنما هو اخبار عن علو درجة أحمد بن حنبل وارتفاع مكانه وعظم منزلته فلم يقدروا أن يعبروا عن صفة حاله وعن ما هو فيه إلا بهذا وما هو في معناه
وقال أو جعفر السقاء صاحب بشر بن الحارث رأيت بشرا الحافي ومعروف الكرخى وهما جائيان فقلت من أين فقالا من جنة الفردوس زرنا كليم الله موسى
وقال عاصم الجزرى رأيت في النوم كأنى لقيت بشر بن الحارث فقلت من أين يا أبا نصر قال من عليين قلت فما فعل أحمد بن حنبل قال تركته الساعة مع عبد الوهاب الوراق بين يدى الله تعالى يأكلان ويشربان فقلت له فأنت قال علم قلة رغبتى في الطعام فأباحنى النظر إليه
وقال أبو جعفر السقاء رأيت بشر بن الحارث في النوم بعد موته فقلت أبا نصر ما فعل الله بك قال الطفنى ورحمنى وقال لى يا بشر لو سجدت لى في الدنيا على الجمر ما أديت شكر ما حشوت قلوب عبادى منك وأباح لى نصف الجنة فأسرح فيها حيث شئت ووعدنى أن يغفر لمن تبع جنازتى فقلت ما فعل أبو نصر التمار فقال ذاك فوق الناس بصبره على بلائه وفقره
قال عبد الحق لعله أراد بقوله نصف الجنة نصف نعيمها لأن نعيمها نصفان نصف روحانى ونصف جسمانى فيتنعمون أولا بالروحانى فإذا ردت الأرواح إلى الأجساد أضيف لهم النعيم الجسمانى إلى الروحانى وقال غيره نعيم الجنة مرتب على العلم والعمل وحظ بشر من العمل كان أوفي من حظه في العلم والله أعلم
وقال بعض الصالحين رأيت أبا بكر الشلبى في المنام وكأنه قاعد في مجلس الرصافة بالموضع الذي كان يقعد فيه وإذا به قد أقبل وعليه ثياب حسان فقمت إليه وسلمت عليه وجلست بين يديه فقلت له من أقرب أصحابك إليك قال ألهجهم بذكر الله وأقومهم بحق الله وأسرعهم مبادرة في مرضاة الله
وقال أبو عبد الرحمن الساحلى رأيت ميسرة بن سليم في المنام بعد موته فقلت له طالت غيبتك فقال السفر طويل فقلت له فما الذي قدمت عليه فقال رخص لى لأنا كنا نفتى بالرخص فقلت فما تأمرنى به قال اتباع الآثار وصحبة الأخيار ينجيان من النار ويقربان من الجبار
وقال أبو جعفر الضرير رأيت عيسى بن زاذان بعد موته فقلت ما فعل الله بك فأنشأ يقول
لو رأيت الحسان في الخلد حولى ... وأكاويب معها للشراب
يترنمن بالكتاب جميعا ... يتمشين مسبلات الثياب
وقال بعض أصحاب ابن جريج رأيت كأنى جئت إلى هذه المقبرة التي بمكة فرأيت على عامتها سرادقا ورأيت منها قبرا عليه سرادق وقسطاط وسدرة فجئت حتى دخلت فسلمت عليه فإذا مسلم بن خالد الزنجى فسلمت عليه وقلت يا أبا خالد ما بال هذه القبور عليها سرادق وقبرك عليه سرادق وفسطاط وفيه سدرة فقال أنى كنت كثير الصيام فقلت فأين قبر ابن جريج وأين محله فقد كنت أجالسه وأنا أحب أن أسلم عليه فقال هكذا بيده هيهات وأدار أصبعه السبابة وأين ابن جريج رفعت صحيفته في عليين
ورأى حماد بن سلمة في النوم بعض الأصحاب فقال له ما فعل الله بك فقال قال لى طال ما كددت نفسك في الدنيا فاليوم أطبل ! راحتك وراحة المتعبين
وهذا باب طويل جدا فإن لم تسمح نفسك بتصديقه وقلت هذه منامات وهي غير معصومة فتأمل من رأى صاحبا له أو قريبا أو غيره فأخبره بأمر لا يعلمه إلا صاحب الرؤيا أو أخبره بمال دفنه أو حذره من أمر يقع أو بشره بأمر يوجد فوقع كما قال أو أخبره بأنه يموت هو أو بعض أهله إلى كذا وكذا فيقع كما أخبر أو أخبره بخصب أو جدب أو عدو أو نازلة أو مرض أو بغرض له فوقع كما أخبره والواقع من ذلك لا يحصيه إلا الله والناس مشتركون فيه وقد رأينا نحن وغيرنا من ذاك عجائب
وأبطل من قال أن هذه كلها علوم وعقائد في النفس تظهر لصاحبها عند انقطاع نفسه عن الشواغل البدنية بالنوم وهذا عين الباطل والمحال فإن النفس لم يكن فيها قط معرفة هذه الأمور التي يخبر بها الميت ولا خطرت ببالها ولا عندها علامة عليها ولا أمارة بوجه ما ونحن لا ننكر أن الأمر قد يقع كذلك
وإن من الرؤيا ما يكون من حديث النفس وصورة الاعتقاد بل كثير من مرائى الناس إنما هي من مجرد صور اعتقادهم المطابق وغير المطابق
فإن الرؤيا على ثلاثة أنواع رؤيا من الله ورؤيا من الشيطان ورؤيا من حديث النفس
والرؤيا الصحيحة أقسام منها إلهام يلقيه الله سبحانه في قلب العبد وهو كلام يكلم به الرب عبده في المنام كما قال عبادة بن الصامت وغيره
ومنها مثل يضربه له ملك الرؤيا الموكل بها
ومنها التقاء روح النائم بأرواح الموتى من أهله وأقاربه وأصحابه وغيرهم كما ذكرنا
ومنها عروج روحه إلى الله سبحانه وخطا بها له
ومنها دخول روحه إلى الجنة ومشاهدتها وغير ذلك فالتقاء ! أرواح الأحياء والموتى نوع من أنواع الرؤيا الصحيحة التي هي عند الناس من جنس المحسوسات
وهذا موضع اضطرب فيه الناس فمن قائل إن العلوم كلها كامنة في النفس وإنما اشتغالها بعالم الحس يحجب عنها مطالعتها فإذا تجردت بالنوم رأت منها بحسب استعدادها ولما كان تجردها بالموت أكمل كانت علومها ومعارفها هناك أكمل وهذا فيه حق وباطل فلا يرد كله ولا يقبل كله فإن تجرد النفس يطلعها على علوم ومعارف لا تحصل بدون التجرد لكن لو تجردت كل التجرد لم تطلع على علم الله الذي بعث به رسوله وعلى تفاصيل ما أخبر به عن الرسل الماضية والأمم الخالية وتفاصيل المعاد وأشراط الساعة وتفاصيل الأمر والنهى والأسماء والصفات والأفعال وغير ذلك مما لا يعلم إلا بالوحى ولكن تجرد النفس عون لها على معرفة ذلك وتلقيه من معدنه أسهل وأقرب وأكثر مما يحصل للنفس المنغمسة في الشواغل البدنية
ومن قائل إن هذه المرائى علوم علقها الله في النفس ابتداء بلا سبب وهذا قول منكرى الأسباب والحكم القوى وهو قول مخالف للشرع والعقل والفطرة
ومن قائل أن الرؤيا أمثال مضروبة يضربها الله للعبد بحسب استعداده الفه على يد ملك الرؤيا فمرة يكون مثلا مضروبا ومرة يكون نفس ما رآه الرائى فيطابق الواقع مطابقة العلم لمعلومه
وهذا أقرب من القولين قبله ولكن الرؤيا ليست مقصورة عليه بل لها أسباب أخر كما تقدم من ملاقاة ! الأرواح وأخبار بعضها بعضا ومن إلقاء الملك الذي في القلب والروع ومن رؤية الروح للأشياء مكافحة بلا واسطة
وقد ذكر أبو عبد الله بن منده الحافظ في كتاب النفس والروح من حديث محمد بن حميد حدثنا عبد الرحمن بن مغراء الدروسى حدثنا الأزهر بن عبد الله الأزدى عن محمد بن عجلان عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال لقى عمر بن الخطاب على بن أبى طالب فقال له يا أبا الحسن ربما شهدت وغبنا وشهدنا وغبت ثلاث أسألك عنهن عندك منهن علم فقال على ابن أبى طالب وما هن فقال الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيرا والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شرا فقال على نعم سمعت رسول الله يقول إن الأرواح جنود مجندة تلتقى في الهواء فتشأم فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف فقال عمر واحدة قال عمر والرجل يحدث الحديث إذ نسيه فبينا هو وما نسيه إذ ذكره فقال نعم سمعت رسول الله يقول ما في القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر بينا القمر مضيء إذا تجللته سحابة الظلم إذا تجلت فأضاء وبينا القلب يتحدث إذ تجللته سحابة فنسى إذ تجلت عنه فيذكر قال عمر اثنتان قال والرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب
فقال نعم سمعت رسول الله يقول ما من عبد ينام يتملىء نوما إلا عرج بروحه إلى العرش فالذى لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تصدق والذي يستيقظ دون العرش فهي التي تكذب فقال عمر ثلاث كنت في طلبهن فالحمد لله الذي أصبتهن قبل الموت
وقال بغية بن الوليد حدثنا صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر الحضرمى قال قال عمر بن الخطاب عجبت لرؤيا الرجل يرى الشيء لم يخطر له على بال فيكون كآخذ بيد ويرى الشيء فلا يكون شيئا فقال على بن أبى طالب يا أمير المؤمنين يقول الله تعالى الله يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى قال والأرواح يعرج بها في منامها فما رأت وهي في السماء فهو الحق فإذا ردت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها فما رأت من ذلك فهو الباطل قال فجعل عمر يتعجب من قول علي قال ابن منده هذا خبر مشهور عن صفوان بن عمرو وغيره وروى عن أبى الدرداء
وذكر الطبرانى من حديث على بن أبى طلحة أن عبد الله بن عباس قال لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين أشياء أسألك عنها قال سل عما شئت قال يا أمير المؤمنين مم يذكر الرجل ومم ينسى ومم تصدق الرؤيا ومم تكذب فقال له عمر إن على القلب طخاوة كطخاوة القمر فإذا تغشت القلب نسى ابن آدم فإذا انجلت ذكر ما كان نسى وأما مم تصدق الرؤيا ومم تكذب فإن الله تعالى يقول الله يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فمن دخل منها في ملكوت السماء فهى التي تصدق وما كان منها دون ملكوت السماء فهي التي تكذب
وروى ابن لهيعة عن عثمان بن نعيم الرعينى عن أبى عثمان الاصبحى عن أبى الدرداء قال إذا نام الإنسان عرج بروحه حتى يؤتى بها العرش فإن كان طاهرا أذن لها بالسجود وإن كان جنبا لم يؤذن لها بالسجود
وروى جعفر بن عون عن إبراهيم الهجرى عن أبى الأحوص عن عبد الله بن مسعود أنه قال إن الأرواح جنود مجندة تتلاقى فتشأم كما تشأم الخيل فما تعارف منا ائتلف ! وما تناكر منها اختلف
ولم يزل الناس قديما وحديثا تعرف هذا وتشاهده قال جميل بن معمر العذرى
أظل نهاري مستهاما وتلتقى ... مع الليل روحى في المنام وروحها فإن قيل فالنائم يرى غيره من الأحياء يحدثه ويخاطبه وربما كان بينهما مسافة بعيدة ويكون
المرئى ! يقظان روحه لم تفارق جسده فكيف التقت روحاهما قيل هذا إما أن يكون مثلا مضروبا ضربه ملك الرؤيا للنائم أو يكون حديث نفس من الرائى تجرد له في منامه كما قال حبيب بن أوس
سقيا لطيفك من زور أتاك به ... حديث نفسك عنه وهو مشغول
وقد تتناسب الروحان وتشتد علاقة احداهما بالأخرى فيشعر كل منهما ببعض ما يحدث لصاحبه وإن لم يشعر بما يحدث لغيره لشدة العلاقة بينهما وقد شاهد الناس من ذلك عجائب
والمقصود أن أرواح الأحياء تتلاقى في النوم كما تتلاقى أرواح الأحياء والأموات قال بعض السلف أن الأرواح تتلاقى في الهواء فتتعارف أو تتذاكر فيأتيها ملك الرؤيا بما هو لاقيها من خير أو شر قال وقد وكل الله بالرؤيا الصادقة ملكا علمه وألهمه معرفة كل نفس بعينها واسمها ومتقلبها في دينها ودنياها وطبعها ومعارفها لا يشتبه عليه منها شيء ولا يغلط فيها فتأتيه نسخة من علم غيب الله من أم الكتاب بما هو مصيب لهذا الإنسان من خير وشر في دينه ودنياه ويضرب له فيها الأمثال والأشكال على قدر عادته فتارة يبشره بخير قدمه أو يقدمه وينذره من معصية ارتكبها أو هم بها ويحذره من مكروه انعقدت أسبابه ليعارض تلك الأسباب بأسباب تدفعها ولغير ذلك من الحكم والمصالح التي جعلها الله في الرؤيا نعمة منه ورحمة وإحسانا وتذكيرا وتعريفا وجعل أحد طرق ذلك تلاقى الأرواح وتذاكرها وتعارفها وكم ممن كانت توبته وصلاحه وزهده واقباله على الآخرة عن منام رآه أو رئى له وكم ممن استغنى وأصاب كنزا دفينا عن منام
وفي كتاب المجالسة لأبى بكر أحمد بن مروان المالكى عن ابن قتيبة عن أبى حاتم عن الأصمعي عن المعتمر بن سليمان عمن حدثه قال خرجنا مرة في سفر وكنا ثلاثة نفر فنام أحدنا فرأينا مثل المصباح خرج من أنفة فدخل غارا قريبا منه ثم رجع فدخل أنفه فأستيقظ يمسح وجهه وقال رأيت عجبا رأيت في هذا الغار كذا وكذا فدخلناه فوجدنا فيه بقية من كنز كان
وهذا عبد المطلب دل في النوم على زمزم وأصاب الكنز الذى كان هناك
وهذا عمير بن وهب أتى في منامه فقيل له قم إلى موضع كذا وكذا من البيت فأحفره تجد مال أبيك وكان أبوه قد دفن مالا ومات ولم يوص به فقام عمير من نومه فأحتفر حيث أمره فأصاب عشرة آلاف درهم وتبرا كثيرا فقضى دينه وحسن حاله وحال أهل بيته وكان ذلك عقب إسلامه فقالت له الصغرى من بناته يا أبت ربنا هذا الذي حيانا بدينه خير من هبل والعزى ولولا أنه كذلك ما ورثك هذا المال وإنما عبدته أياما قلائل
قال علي بن أبي طالب القيروانى العابر وما حديث عمير هذا واستخراجه المال بالمنام بأعجب مما كان عندنا وشاهدناه في عصرنا بمدينتنا من أبى محمد عبد الله البغانشى وكان رجلا صالحا مشهورا برؤية الأموات وسؤالهم عن الغائبات ونقله ذلك إلى أهلهم وقراباتهم حتى اشتهر بذلك وكثر منه فكان المرء يأتيه فيشكو إليه أن حميمه قد مات من غير وصية وله مال لا يهتدى إلى مكانه فيعده خيرا ويدعو الله تعالى في ليلته فيترا آلة الميت الموصوف فيسأله عن الأمر فيخبره به
فمن نوادره ان امرأة عجوزا من الصالحات توفيت ولا مرأة عندها سبعة دنانير وديعة فجاءت إليه صاحبة الوديعة وشكت إليه ما نزل بها وأخبرته بأسمها واسم الميتة صاحبتها ثم عادت إليه من الغد فقال لها تقول لك فلانة عدى من سقف بيتى سبع خشبات تجدى الدنانير في السابعة في خرقة صوف ففعلت ذلك فوجدتها كما وصف لها
وقال وأخبرنى رجل لا أظن به كدبا ! استأجرتني امرأة من أهل الدنيا على هدم دار لها وبنائها بمال معلوم فلما أخذت في الهدم لزمت الفعلة هى ومن معها فقلت مالك قالت والله مالى إلى هدم هذه الدار من حاجة لكن أبى مات وكان ذا يسار كثير فلم نجد له كثير شيء فخلت أن ماله مدفون فعمدت إلى هدم الدار لعلى أجد شيئا فقال لها بعض من حضر لقد فاتك ما هو أهون عليك من هذا قالت وما هو قال فلان تمضين إليه وتسألينه أن يبيت قصتك الليلة فلعله يرى أباك فيدلك على مكان ماله بلا تعب ولا كلفة فذهبت إليه ثم عادت إلينا فزعمت أنه كتب اسمها واسم أبيها عنده فلما كان من الغد بكرت إلى العمل وجاءت المرأة من عند الرجل فقالت ان الرجل قال لى رأيت أباك وهو يقول المال في الحنية قال فجعلنا نحفر تحت الحنية وفي جوانبها حتى لاح لي شق وإذا المال فيه قال فأخذنا في التعجب والمرأة تستخف بما وجدت وتقول مال أبى كان أكثر من هذا ولكنى أعود إليه فمضت فأعلمته ثم سألته المعاودة فلما كان من الغد أتت وقالت انه قال لها أن أباك يقول لك احفرى تحت الجابية المربعة التي في مخزن الزيت قال ففتحت المخزن فإذا بجابية مربعة في الركن فأزلناها وحفرنا تحتها فوجدنا كوزا كبيرا فأخذته ثم دام بها الطمع في المعاودة ففعلت فرجعت من عنده وعليها الكآبة فقالت زعم انه رآه وهو يقول له قد أخذت ما قدر لها وأما ما بقى فقد جلس عليه عفريت من الجن يحرسه إلى من قدر له والحكايات في هذا الباب كثيرة جدا
وأما من حصل له الشفاء بإستعمال دواء رأى من وصفه له في منامه فكثير جدا وقد حدثنى غير واحد ممن كان غير مائل إلي شيخ الإسلام ابن تيمية أنه رآه بعد موته وسأله عن شيء كان يشكل عليه من مسائل الفرائض وغيرها فأجابه بالصواب
وبالجملة فهذا أمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وأحكامها وشأنها وبالله التوفيق
المسألة الرابعة وهي أن الروح هل تموت أم الموت للبدن وحده اختلف
الناس في هذا فقالت طائفة تموت الروح وتذوق الموت لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت
قالوا وقد دلت الأدلة على أنه لا يبقى إلا الله وحده قال تعالى كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وقال تعالى كل شيء هالك إلا وجهه قالوا وإذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت قالوا وقد قال تعالى عن أهل النار أنهم قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فالموتة الأولى هذه المشهودة وهي للبدن والأخرى للروح
وقال آخرون لا تموت الأرواح فإنها خلقت للبقاء وإنما تموت الأبدان قالوا وقد دلت على هذا الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها ولو ماتت الأرواح لانقطع عنها النعيم والعذاب وقد قال تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم هذا مع القطع بأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم وقد ذاقت الموت
والصواب أن يقال موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدما محضا فهى لا تموت بهذا الاعتبار بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب كما سيأتى ان شاء الله تعالى بعد هذا وكما صرح به النص انها كذلك حتى يردها الله في جسدها وقد نظم أحمد بن الحسين الكندى هذا الاختلاف في قوله
تنازع الناس حتى لااتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب
فإن قيل فعند النفخ في الصور هل تبقى الأرواح حية كما هي أو تموت ثم تحيا قيل قد قال تعالى ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله فقد استثنى الله سبحانه بعض من في السموات ومن في الأرض من هذا الصعق
فقيل هم الشهداء هذا قول أبى هريرة وابن عباس وسعيد بن جبير
وقيل هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وهذا قول مقاتل وغيره
وقيل هم الذين في الجنة من الحور العين وغيرهم ومن في النار من أهل العذاب وخزنتها قاله أبو إسحق بن شاقلا من أصحابنا
وقد نص الإمام أحمد على أن الحور العين والولدان لا يمتن عند النفخ في الصور وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى وهذا نص على أنهم لا يموتون غير تلك الموتة الأولى فلو ماتوا مرة ثانية لكانت موتتان وأما قول أهل النار ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فتفسير هذه الآية التي في البقرة وهي قوله تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم فكانوا أمواتا وهم نطف في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم ثم أحياهم بعد ذلك ثم أماتهم ثم يحييهم يوم النشور وليس في ذلك اماتة أزواجهم قبل يوم القيامة وإلا كانت ثلاث موتات وصعق الأرواح عند النفخ في الصور ولا يلزم منه موتها ففي الحديث لصحيح ان الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى آخذ بقائمة العرش فلا أدرى افاق قبلى أم جوزى بصعقة يوم الطور
فهذا صعق في موقف القيامة إذا جاء الله تعالى لفصل القضاء وأشرقت الأرض بنوره فحينئذ تصعق الخلائق كلهم قال تعالى فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ولو كان هذا الصعق موتا لكانت موتة أخرى وقد تنبه لهذا جماعة من الفضلاء فقال أبو عبد الله القرطبى ظاهر هذا الحديث ان هذه صعقة غشى تكون يوم القيامة لاصعقة الموت الحادثة عن نفخ الصور قال وقد قال شيخنا أحمد بن عمرو وظاهر حديث النبي يدل على أن هذه الصعقة إنما هي بعد النفخة الثانية نفخة البعث ونص القرآن يقتضى أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق ولما كان هذا قال بعض العلماء يحتمل أن يكون موسى ممن لم يمت من الأنبياء وهذا باطل وقال القاضي عياض يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشور حين تنشق السموات والأرض قال فتستقل الأحاديث والآثار ورد عليه أبو العباس القرطبى فقال يرد هذا قوله في الحديث الصحيح أنه حين يخرج من قبره يلقى موسى آخذا بقائمة العرش قال وهذا إنما عند نفخة الفزع
قال أبو عبد الله وقال شيخنا أحمد بن عمرو الذي يزيح هذا الاشكال إن شاء الله تعالى ان الموت ليس بعدم محض وإنما هو انتقال من حال إلى حال ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين وهذه صفة الأحياء في الدنيا وإذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى مع أنه قد صح عن النبي أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء وأنه اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء وخصوصا بموسى وقد أخبر بأنه ما من مسلم يسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن أموت لأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم وإن كانوا موجودين جاءوا ذلك كالحال في الملائكة فإنهم أحياء موجودون ولا تراهم وإذا تقرر أنهم أحياء فإذا نفخ ! في الصور نفخة الصعق صعق كل من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله فأما صعق غير الأنبياء فموت وأما صعق الأنبياء فالأظهر أنه غشية فإذا نفخ في الصور نفخة البعث فمن مات حى ومن غشى عليه أفاق ولذلك قال في الحديث المتفق على صحته فأكون أول من يفيق فنبينا أول من يخرج من قبره قبل جميع الناس إلا موسى فإنه حصل فيه تردد هل بعث قبله من غشيته أو بقى على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق مفيقا لأنه حوسب بصعقة يوم الطور وهذه فضيلة عظيمة لموسى ولا يلزم من فضيلة واحدة أفضليته على نبينا مطلقا لأن الشيء الجزئي لا يوجب أمرا كليا انتهى
قال أبو عبد الله القرطبي ان حمل الحديث على صعقة الخلق يوم القيامة فلا إشكال وإن حمل على صعقة الموت عند النفخ في الصور فيكون ذكر يوم القيامة يراد به أوائله فالمعنى إذا نفخ في الصور نفخة البعث كنت أول من يرفع رأسه فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدرى أفاق قبلى أم جوزى بصعقة الطور
قلت وحمل الحديث ع لى هذا لا يصح لأنه ترد هل أفاق موسى قبله أم لم يصعق بل جوزى بصعقة الطور فالمعنى لا أدرى أصعق أم لم يصعق وقد قال في الحديث فأكون أول من يفيق وهذا يدل على أنه يصعق فيمن يصعق وان التردد حصل في موسى هل صعق وأفاق قبله من صعقته أم لم يصعق ولو كان المراد به الصعقة الأولى وهي صعقة الموت لكان قد جزم بموته وتردد هل مات موسى أم لم يمت وهذا باطل لوجوه كثيرة فعلم أنها صعقة فزع لاصعقة موت وحينئذ فلا تدل الآية على أن الأرواح كلها تموت عند النفخة الأولى نعم تدل على أن موت الخلائق عند النفخة الأولى وكل من لم يذق الموت قبلها فإنه يذوقه حينئذ وأما من ذاق الموت أو من لم يكتب عليه الموت فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية والله أعلم
فإن قيل فكيف تصنعون بقوله في الحديث إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عليه الأرض فأجد موسى باطشا بقائمة العرش قيل لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا ومنه نشأ الاشكال ولكنه دخل فيه على الرواى حديث في حديث فركب بين اللفظين فجاء هذا والحديثان هكذا
أحدهما ان الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق
والثاني هكذا أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ففي الترمذي وغيره من حديث ابى سعيد الخدرى قال قال رسول الله أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدى لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
فدخل على الراوى هذا الحديث في الحديث الآخر وكان شيخنا أبو الحجاج الحافظ يقول ذلك
فإن قيل فما تصنعون بقوله فلا أدرى أفاق قبلى أم كان ممن استثنى الله تعالى والذين استثناهم الله إنما هم مستثنون من صعقة النفخة لا من صعقة يوم القيامة كما قال الله تعالى ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ولم يقع الاستثناء من صعقة الخلائق يوم القيامة قيل هذا والله أعلم غير محفوظ وهو وهم من بعض الرواة والمحفوظ ما تواطأت الروايات الصحيحة من قوله فلا أدرى أفاق قبلى أم جوزى بصعقة الطور فظن بعض الرواة ان هذه الصعقة هي صعقة النفخة وأن موسى داخل فيمن استثنى منها وهذا لا يلتئم على مساق الحديث قطعا فإن الإفاقة حينئذ هي إفاقة البحث فكيف يقول لا أدرى أبعث قبلى أم جوزى بصعقة الطور فتأمله وهذا بخلاف الصعقة التي يصعقها الخلائق يوم القيامة إذا جاء الله سبحانه لفصل القضاء بين العباد وتجلى لهم فإنهم يصعقون جميعا وأما موسى فإن كان لم يصعق معهم فيكون قد حوسب بصعقته يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكا فجعلت صعقة هذا التجلى عوضا من صعقة الخلائق لتجلى الرب يوم القيامة فتأمل هذا المعنى العظيم ولو لم يكن في الجواب إلا كشف هذا الحديث وشأنه لكان حقيقا ان يعض عليه بالنواجذ ولله الحمد والمنة وبه التوفيق
المسألة الخامسة وهي أن الأرواح بعد مفارقة الأبدان إذا تجردت بأى شيء
يتميز بعضها من بعض حتى تتعارف وتتلاقى وهل تشكل إذا تجردت بشكل بدنها الذي كانت فيه وتلبس صورته أم كيف يكون حالها
هذه مسألة لا تكاد تجد من تكلم فيها ولا يظفر فيها من كتب الناس بطائل ولا غير طائل ولا سيما على أصول من يقول بأنها مجردة عن المادة وعلائقها وليست بداخل العالم ولا خارجه ولا لها شكل ولا قدر ولا شخص فهذا السؤال على أصولهم مما لا جواب لهم عنه وكذلك من يقول هي عرض من أعراض البدن فتميزها عن غيرها مشروط بقيامها ببدنها فلا تميز لها بعد الموت بل لا وجود لها على أصولهم بل تعدم وتبطل بإضمحلال البدن كما تبطل سائر صفات الحى ولا يمكن جواب هذه المسألة إلا على أصول أهل السنة التي تظاهرت عليها أدلة القرآن والسنة والآثار والاعتبار والعقل والقول أنها ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وتخرج وتذهب وتجيء وتتحرك وتسكن وعلى هذا أكثر من مائة دليل قد ذكرناها في كتابنا الكبير في معرفة الروح والنفس وبينا بطلان ما خالف هذا القول من وجوه كثيرة وإن من قال غيره لم يعرف نفسه
وقد وصفها الله سبحانه وتعالى بالدخول والخروج والقبض والتوفي والرجوع وصعودها إلى السماء وفتح أبوابها لها وغلقها عنها فقال تعالى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة بأسطوا أيديهم اخرجوا أنفسكم وقال تعالى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية فأدخلى في عبادى وادخلى جنتى وهذا يقال لها عند المفارقة للجسد وقال تعالى ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها فأخبر أنه سوى النفس كما أخبر أنه سوى البدن في قوله الذي خلقك فسواك فعدلك فهو سبحانه سوى نفس الإنسان كما سوى بدنه بل سوى بدنه كالقالب لنفسه فتسوية البدن تابع لتسوية النفس والبدن موضوع لها كالقالب لما هو موضوع له
ومن ها هنا يعلم أنها تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها فإنها تتأثر وتنتقل عن البدن كما يتأثر البدن وينتقل عنها فيكتسب البدن الطيب والخبث من طيب النفس وخبثها وتكتسب النفس الطيب والخبث من طيب البدن وخبثه فأشد الأشياء ارتباطا وتناسبا وتفاعلا وتأثرا من أحدهما بالآخر الروح والبدن ولهذا يقال لها عند المفارقة اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب النفس واخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث
وقال الله تعالى الله يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى فوصفها بالتوفي والامساك والارسال كما وصفها بالدخول والخروج والرجوع والتسوية وقد أخبر النبي أن بصر الميت يتبع نفسه إذا قبضت وأخبر أن الملك يقبضها فتأخذها الملائكة من يده فيوجد لها كأطيب نفخة مسك وجدت على وجه الارض أو كأنتن ! ريح جيفة وجدت على وجه الأرض
والأعراض لا ريح لها ولا تمسك ولا تؤخذ من يد إلى يد
وأخبر أنها تصعد إلى السماء ويصلى عليها كل ملك لله بين السماء والأرض وأنها تفتح لها أبواب السماء فتصعد من سماء إلى سماء حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله تعالى فتوقف بين يديه ويأمر بكتابة اسمه في ديوان أهل عليين أو ديوان أهل سجين ثم ترد إلى الأرض وإن روح الكافر تطرح طرحا وأنها تدخل مع البدن في قبرها للسؤال
وقد أخبر النبي بأن نسمة المؤمن وهي روحه طائر يعلق في شجر الجنة حتى يردها الله إلى جسدها
وأخبر أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وأخبر أن الروح تنعم وتعذب في البزخ إلى يوم القيامة
وقد أخبر سبحانه عن أرواح قوم فرعون أنها تعرض على النار غدوا وعشيا قبل يوم القيامة وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون وهذه حياة أرواحم ورزقها دار وإلا فالأبدان قد تمزقت وقد فسر رسول الله هذه الحياة بأن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوى إلى تلك القناديل فأطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال هل تشتهون شيئا قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا فعل بهم ذلك ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا ! من أن يسألوا قالوا نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى
وصح عنه أن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة وتعلق بضم اللام أى تأكل العلقة
وقال ابن عباس قال رسول الله لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا
يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله تعالى على رسوله ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون الآيات رواه الإمام أحمد وهذا صريح في أكلها وشربها وحركتها وانتقالها وكلامها وسيأتي مزيد تقرير لذلك عن قريب إن شاء الله تعالى
وإذا كان هذا شأن الأرواح فتميزها بعد المفارقة يكون أظهر من تميز الأبدان والاشتباه بينها أبعد من اشتباه الأبدان فإن الأبدان تشتبه كثيرا وأما الأرواح فقل ما تشتبه
يوضح هذا أنا لم نشاهد أبدان الأنبياء والصحابة والأئمة وهم متميزون في علمنا أظهر تميز وليس ذلك التميز راجعا إلى مجرد أبدانهم وإن ذكر لنا من صفات أبدانهم ما يختص به أحدهم من الآخر بل التميز الذي عندنا بما علمناه وعرفناه من صفات أرواحهم وما قام بها وتميز الروح عن الروح بصفاتها أعظم من تميز البدن عن البدن بصفاته ألا ترى أن بدن المؤمن والكافر قد يشتبهان كثيرا وبين روحيهما أعظم التباين والتميز وأنت ترى أخوين شقيقين مشتبهين في الخلقة غاية الاشتباه وبين روحيهما غاية التباين فإذا تجردت هاتان الروحان كان تميزهما في غاية الظهور
وأخبرك بأمر إذا تأملت أحوال الأنفس والأبدان شاهدته عيانا قل أن ترى بدنا قبيحا وشكلا شنيعا إلا وجدته مركبا على نفس تشاكله وتناسبه وقل أن ترى آفة في بدن إلا وفي روح صاحبه آفة تناسبها ولهذا تأخذ أصحاب الفراسة أحوال النفوس من أشكال الأبدان وأحوالها فقل أن تخطئ ذلك
ويحكى عن الشافعي رحمه الله في ذلك عجائب
وقل أن ترى شكلا حسنا وصورة جميلة وتركيبا لطيفا إلا وجدت الروح المتعلقة به مناسبة له هذا ما لم يعارض ذلك ما يوجب خلافه من تعلم وتدرب واعتياد
وإذا كانت الأرواح العلوية وهم الملائكة متميزا بعضهم عن بعض من غير أجسام تحملهم وكذلك الجن فتميز الأرواح البشرية أولى
المسألة السادسة وهي أن الروح هل تعاد إلى الميت في قبره وقت السؤال أم
لا
فقد كفانا رسول الله أمر هذه المسالة وأغنانا عن أقوال الناس حيث صرح باعادة الروح إليه فقال البراء بن عازب كنا في جنازه في بقيع الغرقد فأتانا النبي وسلم فقعد وقعدنا حوله كأن على رءوسنا الطير وهو يلحد له فقال أعوذ بالله من عذاب القبر ثلاث مرات ثم قال ان العبد إذا كان في اقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه ملائكة كأن وجوههم الشمس فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة أخرجى إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض قال فيصعدون بها فلا يمرون بها يعنى على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب فيقولون فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله تعالى فيقول الله تعالى اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإنى منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنا أخرجهم تارة أخرى قال فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول ربي الله فيقولون له ما دينك فيقول دينى الإسلام فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هو رسول الله فيقولان له وما علمك بهذا فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت فينادى مناد من السماء أن صدق عبدى فأفرشوه من الجنة وافتحوا له بابا من الجنة قال فيأتيه من ريحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره قال ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير فيقول أنا عملك الصالح فيقول رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي قال وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا واقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب قال فتتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة
وجدت على وجه الارض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الريح الخبيث فيقولون فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح ثم قرأ رسول الله لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط فيقول الله تعالى اكتبوا كتابة في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحا ثم قرأ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيقولان له من ربك فيقول هاه هاه لا أدرى فيقولان له ما هذا الرجل الذى بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدرى فينادى مناد من السماء ان كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر فيقول أنا عملك الخبيث فيقول رب لا تقم الساعة رواه الإمام أحمد وأبو داود وروى النسائي وابن ماجه أوله ورواه أبو عوانة الأسفرائينى في صحيحه
وذهب إلى القول بموجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث من سائر الطوائف
وقال أبو محمد بن حزم في كتاب الملل والنحل له وأما من ظن أن الميت يحيا في قبره قبل يوم القيامة فخطأ ان الآيات التي ذكرناها تمنع من ذلك يعني قوله تعالى قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين وقوله تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم قال ولو كان الميت يحيا في قبره لكان تعالى قد أماتنا ثلاثا وأحيانا ثلاثا وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه الله تعالى آية لنبي من الأنبياء كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ومن خصه نص وكذلك قوله تعالى الله يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى فصح بنص القرآن أن أرواح سائر من ذكرنا لا ترجع إلى جسده إلا الأجل المسمى وهو يوم القيامة وكذلك أخبر رسول الله أنه رأى الأرواح ليلة أسرى به عند سماء الدنيا من عن يمين آدم أرواح أهل السعادة وعن شماله أرواح أهل الشقاوة وأخبر يوم بدر إذ خاطب الموتى أنهم قد سمعوا قوله قبل أن تكون لهم قبور ولم ينكر على الصحابة قولهم قد جيفوا واعلم أنهم سامعون قوله مع ذلك فصح أن الخطاب والسماع لأرواحهم فقط بلا شك وأما الجسد فلا حس له وقد قال تعالى وما أنت بمسمع من في القبور
فنفي السمع عمن في القبور وهي الاجساد بلا شك ولا يشك مسلم أن الذي نفي الله تعالى عنه السمع هو غير الذي أثبت له رسول الله قال ولم يأت قط عن رسول الله في خبر صحيح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المساءلة ولو صح ذلك عنه لقلنا به قال وإنما تفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح في القبور إلى الأجساد المنهال بن عمرو وحده وليس بالقوى تركه شعبة وغيره وقال فيه المغيرة بن مقسم الضبى وهو أحد الأئمة ما جازت للمنهال بن عمرو قط شهادة في الإسلام على ما قد نقل وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك
قال وهذا الذي قلنا هو الذي صح أيضا عن الصحابة
ثم ذكر من طريق بن عيينة عن منصور بن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قالت دخل ابن عمر المسجد فأبصر ابن الزبير مطروحا قبل أن يقبر فقيل له هذه أسماء بنت أبى بكر الصديق فمال ابن عمر إليها فعزاها وقال ان هذه الجثث ليست بشيء وان الأرواح عند الله فقالت أمه وما يمنعنى وقد أهدى رأس يحيى بن زكريا إلى بغى من بغايا بنى اسرائيل
قلت ما ذكره أبو محمد فيه حق وباطل أما قوله من ظن أن الميت يحيا في قبره فخطأ فهذا فيه إجمال أن أراد به الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه وتحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا خطأ كما قال والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص
وإن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة بل تعاد إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ وقد دل عليه النص الصحيح الصريح وهو قوله فتعاد روحه في جسده وسنذكر الجواب عن تضعيفه للحديث إن شاء الله تعالى
وأما استدلاله بقوله تعالى قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فلا ينفي ثبوت هذه الإعادة العارضة للروح في الجسد كما أن قتيل بني إسرائيل الذي أحياه الله بعد قتله ثم أماته لم تكن تلك الحياة العارضة له للمساءلة معتدا بها فإنه يحيى لحظة بحيث قال فلان قتلنى ثم خر ميتا على أن قوله ثم تعاد روحه في جسده لا يدل على حياة مستقرة وإنما يدل على إعادة لها إلى البدن وتعلق به والروح لم تزل متعلقة ببدنها وإن بلى وتمزق
وسر ذلك أن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام
أحدها تعلقها به في بطن الأم جنينا
الثاني تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض
الثالث تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه
الرابع تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها التفات إليه البتة وقد ذكرنا في أول الجواب من الأحاديث والآثار ما يدل على ردها إليه وقت سلام المسلم وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة
الخامس تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه إذ تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا
وأما قوله تعالى الله يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى فإمساكه سبحانه التي قضى عليها الموت لا ينافي ردها إلى جسدها الميت في وقت ما ردا عارضا لا يوجب له الحياة المعهودة في الدنيا
وإذا كان النائم روحه في جسده وهو حي وحياته غير حياة المستيقظ فإن النوم شقيق الموت فهكذا الميت إذا أعيدت روحه إلى جسده كانت له حال متوسطة بين الحي وبين الميت الذي لم ترد روحه إلى بدنه كحال النائم المتوسطة بين الحي والميت فتأمل هذا يزيح عنك إشكالات كثيرة
وأما أخبار النبي عن رؤية الأنبياء ليلة أسرى به فقد زعم بعض أهل الحديث أن الذي رآه أشباحهم وأرواحهم قال فإنهم أحياء عند ربهم وقد رأى إبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور موسى قائما في قبره يصلى وقد نعت الأنبياء لما رآهم نعت الأشباح فرأى موسى آدما ضربا طوالا كأنه من رجال شنوءة ورأى عيسى يقطر رأسه كأنما أخرج من ديماس ورأى إبراهيم فشبهه بنفسه
ونازعهم في ذلك آخرون وقالوا هذه الرؤية إنما هي لأرواحهم دون أجسادهم والأجساد في الأرض قطعا إنما تبعث يوم بعث الأجساد ولم تبعث قبل ذلك إذ لو بعثت قبل ذلك لكانت قد انشقت عنها الأرض قبل يوم القيامة كانت تذوق الموت عند نفخة الصور وهذه موتة ثالثة وهذا باطل قطعا ولو كانت قد بعثت الأجساد من القبور لم يعدهم الله إليها بل كانت في الجنة وقد صح عن النبي أن الله حرم الجنة على الأنبياء حتى يدخلها هو وهو أول من يستفتح باب الجنة وهو أول من تنشق عنه الأرض على الإطلاق لم تنشق عن أحد قبله
ومعلوم بالضرورة أن جسده في الأرض طرى مطرا وقد سأله الصحابة كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء
ولو لم يكن جسده في ضريحه لما أجاب بهذا الجواب
وقد صح عنه أن الله وكل بقبره ملائكة يبلغونه عن أمته السلام
وصح عنه أنه خرج بين أبي بكر وعمر وقال هكذا نبعث
هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء
وقد صح عنه أنه رأى موسى قائما يصلى في قبره ليلة الاسراء ورآه في السماء السادسة أو السابعة فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه وتعلق به بحيث يصلى في قبره ويرد سلام من سلم عليه وهي في الرفيق الأعلى
ولا تنافي بين الأمرين فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان وأنت تجد الروحين المتماثلتين المتناسبتين في غاية التجاور والقرب وان كان بينهما بعد المشرقين وتجد الروحين المتنافرتين المتاغضتين بينهما غاية البعد وإن كان جسداهما متجاورين متلاصقين
وليس نزول الروح وصعودها وقربها وبعدها من جنس ما للبدن فإنها تصعد إلى ما فوق السموات ثم تهبط إلى الأرض ما بين قبضها ووضع الميت في قبره وهو زمن يسير لا يصعد البدن وينزل في مثله وكذلك صعودها وعودها إلى البدن في النوم واليقظة وقد مثلها بعضهم بالشمس وشعاعها فإنها في السماء وشعاعها في الأرض قال شيخنا وليس هذا مثلا مطابقا فإن نفس الشمس لا تنزل من السماء والشعاع الذي على الأرض ليس هو الشمس ولا صفتها بل هو عرض حصل بسبب الشمس والجرم المقابل لها والروح نفسها تصعد وتنزل وأما قول الصحابة للنبي في قتلى بدر كيف تخاطب أقواما قد جيفوا مع أخباره بسماعهم كلامه فلا ينفي ذلك رد أرواحهم إلى أجسادهم ذلك الوقت ردا يسمعون به خطابه والأجساد قد جيفت فالخطاب للأرواح المتعلقة بتلك الأجساد التي قد فسدت
وأما قوله تعالى وما أنت بمسمع من في القبور فسياق الآية يدل على أن المراد منها أن الكافر الميت القلب لا تقدر على اسماعه اسماعا ينتفع به كما أن من في القبور لا تقدر على إسماعهم إسماعا ينتفعون به ولم يرد سبحانه أن أصحاب القبور لا يسمعون شيئا البتة كيف وقد أخبر النبي أنهم يسمعون خفق نعال المشيعين وأخبر أن قتلى بدر سمعوا كلامه وخطابه وشرع السلام عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع وأخبر أن من سلم على أخيه المؤمن رد عليه السلام
هذه الآية نظير قوله إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وقد يقال نفي إسماع الصم مع نفي إسماع الموتى يدل على أن المراد عدم أهلية كل منهما للسماع
وأن قلوب هؤلاء لما كانت ميتة صماء كان اسماعها ممتنعا خطاب الميت والأصم وهذا حق ولكن لا ينفي إسماع الأرواح بعد الموت إسماع توبيخ وتقريع بواسطة تعلقها بالأبدان في وقت ما فهذا غير الاسماع المنفي والله أعلم
وحقيقة المعنى أنك لا تستطيع أن تسمع من لم يشأ الله أن يسمعه ان أنت إلا نذير أى إنما جعل الله لك الاستطاعة على الانذار الذي كلفك إياه لا على إسماع من لم يشأ الله إسماعه
وأما قوله إن الحديث لا يصح لتفرد المنهال بن عمرو وحده به وليس بالقوى فهذا من مجازفته رحمة الله فالحديث صحيح لا شك فيه وقد رواه عن البراء بن عازب جماعة غير زاذان منهم عدى بن ثابت ومحمد بن عقبة ومجاهد
قال الحافظ أبو عبد الله بن منده في كتاب الروح والنفس أخبرنا محمد بن يعقوب ابن يوسف حدثنا محمد بن اسحق الصفار أنبأنا أبو النضر هاشم بن القاسم حدثنا عيسى بن المسيب عن عدى بن ثابت عن البراء بن عازب قال خرجنا مع رسول الله في جنازة رجل من الأنصار فانتهنا إلى القبر ولما يلحد فجلسنا وجلس كأن على أكتاقنا ! فلق الصخر وعلى رءوسنا الطير فأرم قليلا والارمام السكوت فلما رفع رأسه قال إن المؤمن إذا كان في قبل من الآخرة ودبر من الدنيا وحضره ملك الموت نزلت عليه ملائكة معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة فجلسوا منه مد البصر وجاء ملك الموت فجلس عند رأسه ثم قال اخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى رحمة الله ورضوانه فتنسل نفسه كما تقطر القطرة من السقاء فإذا خرجت نفسه صلى عليه كل من بين السماء والأرض إلا الثقلين ثم يصعد به إلى السماء فتفتح له السماء ويشيعه مقربوها إلى السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة إلى العرش مقربو كل سماء فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين ويقول الرب تعالى ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أنى منها ما خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فيرد إلى مضجعه فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما ويفحصان الأرض بأشعارهما فيجلسانه ثم يقال له يا هذا من ربك فيقول ربي الله فيقولان صدقت ثم يقال له ما دينك فيقول ديني الإسلام فيقولان صدقت ثم يقال له من نبيك فيقول محمد رسول الله فيقولان صدقت ثم يفسح له في قبره مد بصره ويأتيه رجل حسن الوجه طيب الريح حسن الثياب فيقول جزاك الله خيرا فوالله ما علمت إن كنت لسريعا في طاعة الله بطيئا عن معصية الله فيقول وأنت جزاك الله خيرا فمن أنت فيقول أنا علمك الصالح ثم يفتح له باب إلى الجنة فينظر
إلى مقعده ومنزله منها حتى تقوم الساعة وان الكافر إذا كان في دبر من الدنيا وقبل من الآخرة وحضره الموت نزلت عليه من السماء ملائكة معهم كفن من النار وحنوط من نار قال فيجلسون منه مد بصره وجاء ملك الموت فيجلس عند رأسه ثم قال اخرجي أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى غضب الله وسخطه فتفرق روحه في جسده كراهية ان تخرج لما ترى وتعاين فيستخرجها كما يستخرج السفود من الصوف المبلول فإذا خرجت نفسه لعنه كل شيء بين ا لسماء والأرض إلا الثقلين ثم يصعد به إلى السماء فتغلق دونه فيقول الرب تعالى ردوا عبدي إلى مضجعه فإنى وعدتهم أنى منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فترد روحه إلى مضجعه فيأتيه منكر ونكير يثيران في الأرض بأنيابهما ويفحصان الأرض بأشعارهما أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف فيجلسانه ثم يقولان يا هذا من ربك فيقول لا أدري فينادي من جانب القبر لا دريت فيضربانه بمرزبة من حديد لو اجتمع عليها من بين الخافقين لم تقل ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول جزاك الله شرا فوالله ما علمت إن كنت لبطيئا عن طاعة الله سريعا في معصية الله فيقول ومن أنت فيقول أنا عملك الخبيث ثم يفتح له باب إلى النار فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة رواه الإمام أحمد ومحمود بن غيلان وغيرهما عن أبي النضر
ففيه أن الأرواح تعاد إلى القبر وأن الملكين يجلسان الميت ويستنطقانه
ثم ساقه ابن منده من طريق محمد بن سلمة عن خصيف الجزرى عن مجاهد عن البراء بن عازب قال كنا في جنازة رجل من الأنصار ومعنا رسول الله فأنتهينا إلى القبر ولم يلحد ووضعت الجنازة وجلس رسول الله فقال إن المؤمن إذا احتضر أتاه ملك الموت في أحسن صورة وأطيبه ريحا فجلس عنده لقبض روحه وأتاه ملكان بحنوط من الجنة وكفن من الجنة وكانا منه على بعد فاستخرج ملك الموت روحه من جسده رشحا فإذا صارت إلى ملك الموت ابتدرها الملكان فأخذاها منه فحنطاها بحنوط من الجنة وكفناها بكفن من الجنة ثم عرجا به إلى الجنة فتفتح له أبواب السماء وتستبشر الملائكة بها ويقولون لمن هذه الروح الطبية التي فتحت لها أبواب السماء ويمسى بأحسن الأسماء التي كان يسمى بها في الدنيا فيقال هذه روح فلان فإذا صعد بها إلى السماء شيعها مقربو كل سماء حتى توضع بين يدي الله عند العرش فيخرج عملها من عليين فيقول الله تعالى للمقربين اشهدوا أنى قد غفرت لصاحب هذا العمل ويختم كتابه فيرد في عليين فيقول الله تعالى
ردوا روح عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أنى أردهم فيها ثم قرأ رسول الله منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى فإذا وضع المؤمن في قبره فتح له باب عند رجليه إلى الجنة فيقال له أنظر إلى ما أعد الله لك من الثواب ويفتح له باب عند رأسه إلى النار فيقال له أنظر ما صرف الله عنك من العذاب ثم يقال له نم قرير العين فليس شيء أحب إليه من قيام الساعة وقال رسول الله إذا وضع المؤمن في لحده تقول له الأرض إن كنت لحبيبا إلى وأنت على ظهرى فكيف إذا صرت اليوم في بطني سأريك ما أصنع بك فيفسح له في قبره مد بصره وقال رسول الله إذا وضع الكافر في قبره أتاه منكر ونكير فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول لا أدري فيقولان له لادريت فيضربانه ضربة فيصير رمادا ثم يعاد فيجلس فيقال له ما قولك في هذا الرجل فيقول أي رجل فيقولان محمد فيقول قال الناس أنه رسول الله فيضربانه ضربة فيصير رمادا
هذا حديث ثابت مشهور مستفيض صححه جماعة من الحفاظ ولا نعلم أحدا من أئمة الحديث طعن فيه بل رووه في كتبهم وتلقوه بالقبول وجعلوه أصلا من أصول الدين في عذاب القبر ونعيمه ومساءلة منكر ونكير وقبض الأرواح وصعودها إلى بين يدي الله ثم رجوعها إلى القبر وقول أبى محمد لم يروه غير زاذان فوهم منه بل رواه عن البراء غير زاذان ورواه عنه عدي بن ثابت ومجاهد بن جبير ومحمد بن عقبة وغيرهم وقد جمع الدار قطني طرقه في مصنف مفرد وزاذان من الثقاة روى عن أكابر الصحابة كعمر وغيره وروى له مسلم في صحيحه قال يحيى بن معين ثقة وقال حميد بن هلال وقد سئل عنه هو ثقة لا تسأل عن مثل هؤلاء وقال ابن عدي أحاديثه لا بأس بها إذا روى عن ثقة
وقوله ان المنهال بن عمرو تفرد بهذه الزيادة وهي قوله فتعاد روحه في جسده وضعفه فالمنهال أحد الثقاة العدول قال ابن معين المنهال ثقة وقال العجلي كوفي ثقة وأعظم ما قيل فيه أنه سمع من بيته صوت غناء وهذا لا يوجب القدح في روايته واطراح حديثه وتضعيف ابن حزم له لا شيء فإنه لم يذكر موجبا لتضعيفه غير تفرده بقوله فتعاد روحه في جسده وقد بينا أنه لم يتفرد بها بل قد رواها غيره وقد روى ما هو أبلغ منها أو نظيرها كقوله فترد إليه روحه وقوله فتصير إلى قبره فيستوي جالسا وقوله فيجلسانه وقوله فيجلس في قبره وكلها أحاديث صحاح لا مغمز فيها وقد أعل غيره بأن زاذان لم يسمعه من البراء وهذه العلة باطلة فإن أبا عوانة الاسفرائيني رواه في صحيحه بإسناده وقال عن أبى عمرو زاذان الكندى قال سمعت البراء بن عازب وقال الحافظ أبو عبد الله بن منده هذا إسناد متصل مشهور رواه جماعة عن البراء
ولو نزلنا عن حديث البراء فسائر الأحاديث الصحيحة صريحة في ذلك مثل حديث ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله قال إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قال اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب أخرجي حميدة وابشرى بروح وريحان ورب غير غضبان قال فيقول ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا فيقولون فلان فيقولون مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد ادخلى حميدة وابشرى بروح وريحان ورب غير غضبان فيقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله تعالى وإذا كان الرجل السوء قال اخرجى أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشرى بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فيقولون ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا فيقولون فلان فيقولون لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فإنها لن تفتح لك أبواب السماء فترسل بين السماء والأرض فتصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا معوق ثم يقال فما كنت تقول في الإسلام ما هذا الرجل فيقول محمد رسول الله جاءنا بالبينات من قبل الله فآمنا وصدقنا وذكر تمام الحديث
قال الحافظ أبو نعيم هذا حديث متفق على عدالة ناقليه اتفق الإمامان محمد بن اسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج عن ابن أبى ذئب ومحمد بن عمرو بن عطاء وسعيد بن يسار وهم من شرطهما ورواه المتقدمون الكبار عن ابن أبى ذئب مثل ابن أبى فديك وعبد الرحيم بن ابراهيم انتهى ورواه عن ابن أبى ذئب غير واحد
وقد احتج أبو عبد الله بن منده على إعادة الروح إلى البدن بأن قال حدثنا محمد بن الحسين ابن الحسن حدثنا محمد بن زيد النيسابورى حدثنا حماد بن قيراط حدثنا محمد بن الفضل عن يزيد بن عبد الرحمن الصائغ البلخى عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس أنه قال بينما رسول الله ذات يوم قاعد تلا هذه الآية ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم الآية قال والذي نفس محمد بيده ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار ثم قال فإذا كان عند ذلك صف له سماطان من الملائكة ينتظمان ما بين الخافقين كأن وجوههم الشمس فينظر إليهم ما ترى غيرهم وإن كنتم ترون أنهم ينظرون إليكم مع كل منهم أكفان وحنوط فإن كان مؤمنا بشروه بالجنة وقالوا
أخرجى أيتها النفس الطيبة إلى رضوان الله وجنته فقد أعد الله لك من الكرامة ما هو خير من الدنيا وما فيها فلا يزالون يبشرونه ويحفون به فهم ألطف وأرأف من الوالدة بولدها ثم يسلون روحه من تحت كل ظفر ومفصل ويموت الأول فالأول ويهون عليه وكنتم ترونه عديدا حتى تبلغ ذقنه قال فلهى أشد كراهية للخروج من الجسد من الولد حين يخرج من الرحم فيبتدرها كل ملك منهم أيهم يقبضها فيتولى قبضها ملك الموت ثم تلا رسول قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون فيتلقاها بأكفان بيض ثم يحتضنها إليه فهو أشد لزوما لها من المرأة إذا ولدتها ثم يفوح منها ريح أطيب من المسك فيستنشقون ريحها ويتباشرون بها ويقولون مرحبا بالروح الطيبة والروح الطيب اللهم صل عليه روحا وعلى جسد خرجت منه قال فيصعدون بها ولله تعالى خلق في الهواء لا يعلم عددتهم إلا هو فيفوح لهم منها ريح أطيب من المسك فيصلون عليها ويتباشرون ويفتح لهم أبواب السماء فيصلى عليها كل ملك في كل سماء تمر بهم حتى ينتهى بها بين يدى الملك الجبار فيقول الجبار جل جلاله مرحبا بالنفس الطيبة ويجسد خرجت منه وإذا قال الرب تعالى للشيء مرحبا وحب له كل شيء ويذهب عنه كل ضيق ثم يقول لهذه النفس الطيبة أدخلوها الجنة وأروها مقعدها من الجنة وأعرضوا عليها ما أعددت لها من الكرامة والنعيم ثم اذهبوا بها إلى الأرض فإنى قضيت أنى منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فوالذي نفس محمد بيده لهى أشد كراهية للخروج منها حين كانت تخرج من الجسد وتقول أين تذهبون بى إلى ذلك الجسد الذي كنت فيه قال فيقولون إنا مأمورون بهذا فلا بد لك منه فيهبطون به على قدر فراغهم من غسله وأكفانه فيدخلون ذلك الروح بين جسده وأكفانه
فدل هذا الحديث أن الروح تعاد بين الجسد والأكفان وهذا عود غير التعلق الذي كان لها في الدنيا بالبدن وهو نوع آخر وغير تعلقها به حال النوم وغير تعلقها به وهى في مقرها بل هو عود خاص للمساءلة
قال شيخ الإسلام الأحاديث الصحيحة المتواترة تدل على عود الروح إلى البدن وقت السؤال وسؤال البدن بلا روح قول قاله طائفة من الناس وأنكره الجمهور وقابلهم آخرون فقالوا السؤال للروح بلا بدن وهذا قاله ابن مرة وابن حزم وكلاهما غلط والأحاديث الصحيحة ترده ولو كان ذلك على الروح فقط لم يكن للقبر بالروح اختصاص
وهذا يتضح بجواب المسألة
وهي قول السائل هل عذاب القبر على النفس والبدن أو على النفس دون البدن أو على البدن دون النفس وهل يشارك البدن النفس في النعيم والعذاب أم لا
وقد سئل شيخ الإسلام عن هذه المسألة ونحن نذكر لفظ جوابه فقال بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن وتنعم وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها فيكون النعيم والعذاب عليها في هذه الحال مجتمعين كما تكون على الروح منفردة عن البدن وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة وأهل الكلام وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث قول من يقول إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح وان البدن لا ينعم ولا يعذب وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم الذين يقرون بمعاد الأبدان لكن يقولون لا يكون ذلك في البرزخ وإنما يكون عند القيام من القبور لكن هؤلاء ينكرون عذاب البدن في البرزخ فقط ويقولون إن الأرواح هي المنعمة أو المعذبة في البرزخ فإذا كان يوم القيامة عذبت الروح والبدن معا وهذا القول قاله طوائف من المسلمين من أهل الكلام والحديث وغيرهم وهو اختيار ابن حزم وابن مرة فهذا القول ليس من الأقوال الثلاثة الشاذة بل هو مضاف إلى قول من يقول بعذاب القبر ويقر بالقيامة ويثبت معاد الأبدان والأرواح ولكن هؤلاء لهم في عذاب القبر ثلاثة أقوال
أحدها أنه على الروح فقط
الثاني أنه عليها وعلى البدن بواسطتها
الثالث أنه على البدن فقط وقد يضم إلى ذلك القول الثاني وهو قول من يثبت عذاب القبر ويجعل الروح هي الحياة ويجعل الشاذ قول منكر عذاب الأبدان مطلقا وقول من ينكر عذاب الروح مطلقا فإذا جعلت الأقوال الشاذة ثلاثة فالقول الثاني الشاذ قول من يقول إن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب وإنما الروح هي الحياة وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية كالقاضي أبى بكر وغيره وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن وهذا قول باطل وقد خالف أصحابه أبو المعالي الجريني وغيره بل قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق الأمة أن الروح تبقى بعد فراق البدن وأنها منعمة أو معذبة والفلاسفة الإلهيون يقرون بذلك لكن ينكرون معاد الأبدان وهؤلاء يقرون بمعاد الأبدان لكن ينكرون
معاد الأرواح ونعيمها وعذابها بدون الأبدان وكلا القولين خطأ وضلال لكن قول الفلاسفة أبعد عن أقوال أهل الإسلام وإن كان قد يوافقهم عليه من يعتقد أنه متمسك بدين الإسلام بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف والتحقيق والكلام
والقول الثالث الشاذ قول من يقول إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب بل لا يكون ذلك حتى تقول الساعة الكبرى كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ونحوهم ممن ينكر عذاب القبر ونعيمه بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن وأن البدن لا ينعم ولا يعذب فجميع هؤلاء الطوائف ضلال في أمر البرزخ لكنهم خير من الفلاسفة فإنهم مقرون بالقيامة الكبرى
فصل فإذا عرفت هذه الأقوال الباطلة فلتعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها
أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة وأنها تتصل بالبدن أحيانا ويحصل له معها النعيم أو العذاب ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد وقاموا من قبورهم لرب العالمين ومعاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى
فصل ونحن نثبت ما ذكرناه فأما أحاديث عذاب القبر ومساءلة منكر ونكير
فكثيرة متواترة عن النبي كما في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي مر بقبرين فقال انهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين فقال لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا
وفي صحيح مسلم عن زيد بن ثابت قال رسول الله في حائط لبنى النجار على بغلته ونحن معه إذ حادت به فكادت تلقيه فإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة فقال من يعرف أصحاب هذه القبور فقال رجل أنا قال فمتى مات هؤلاء قال ماتوا في الإشراك فقال إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه ثم أقبل علينا بوجهه فقال تعوذوا بالله من عذاب النار قالوا نعوذ بالله من عذاب النار قال تعوذوا بالله من عذاب القبر قالوا نعوذ بالله من عذاب القبر قال تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن قالوا نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن قال تعوذوا بالله من فتنة الدجال قالوا نعوذ بالله من فتنة الدجال
وفي صحيح مسلم وجميع السنن عن أبى هريرة أن النبي قال إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال
وفي صحيح مسلم أيضا وغيره عن ابن عباس أن النبي كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن اللهم إنى أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال
وفي الصحيحن عن أبى أيوب قال خرج النبي وقد وجبت الشمس فسمع صوتا فقال يهود تعذب في قبورها
وفي الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها قالت دخلت على عجوز من عجائز يهود المدينة فقالت ان أهل القبور يعذبون في قبورهم قالت فكذبتها ولم أنعم أن أصدقها قالت فخرجت ودخل على رسول الله فقالت يا رسول الله ان عجوزا من عجائز يهود أهل المدينة دخلت فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم قال صدقت انهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم كلها قالت فما رأيته بعد في صلاة الا يتعوذ من عذاب القبر
وفي صحيح ابن حبان عن أم مبشر قالت دخل على رسول الله وهو يقول تعوذوا بالله من عذاب القبر فقلت يا رسول الله وللقبر عذاب قال إنهم ليعذبون في قبورهم عذابا تسمعه البهائم
قال بعص أهل العلم ولهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مغلت إلى قبور اليهود والنصارى والمنافقين كالاسماعيلية والنصيرية والقرامطة من بني عبيد وغيرهم الذين بأرض مصر والشام فإن أصحاب الخيل يقصدون قبورهم لذلك كما يقصدون قبور اليهود والنصارى قال فإذا سمعت الخيل عذاب القبر أحدث لها ذلك فزعا وحرارة تذهب بالمغل
وقد قال عبد الحق الأشبيلى حدثنى الفقيه أبو الحكم برخان وكان من أهل العلم والعمل أنهم دفنوا ميتا بقريتهم في شرف أشبيلية فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحية يتحدثون ودابة ترعى قريبا منهم فإذا بالدابة قد أقبلت مسرعة إلى القبر فجعلت اذنها عليه كأنها تسمع ثم ولت فارة ثم عادت إلى القبر فجعلت أذنها عليه كأنها تسمع ثم ولت فارة فعلت ذلك مرة بعد أخرى
قال أبو الحكم فذكرت عذاب القبر وقول النبي أنهم ليعذبون عذابا تسمعه البهائم
ذكر لنا هذه الحكاية ونحن نسمع عليه كتاب مسلم لما انتهى القارىء إلى قول النبي أنهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم
وهذا السماع واقع على أصوات المعذبين قال هناد بن السرى في كتاب الزهد حدثنا وكيع عن الأعمش عن شقيق عن عائشة رضى الله عنها قالت دخلت على يهودية فذكرت عذاب القبر فكذبتها فدخل النبي على فذكرت ذلك له فقال والذي نفسي بيده إنهم ليعذبون في قبورهم حتى تسمع البهائم أصواتهم
قلت وأحاديث المسألة في القبر كثيرة كما في الصحيحين والسنن عن البراء بن عازب ان رسول الله قال المسلم إذا سئل في قبره فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قول الله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة وفي لفظ نزلت في عذاب القبر يقال له من ربك فيقول الله ربي ومحمد نبي فذلك قول الله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة
وهذا الحديث قد رواه أهل السنن والمسانيد مطولا كما تقدم
وقد صرح في هذا الحديث بإعادة الروح إلى البدن وباختلاف أضلاعه وهذا بين في أن العذاب على الروح والبدن مجتمعين
وقد روى مثل حديث البراء قبض الروح والمسألة والنعيم والعذاب أبو هريرة وحديثه في المسند وصحيح أبى حاتم أن النبي قال إن الميت إذا وضع في قبره أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والصيام عن يمينه والزكاة عن شماله وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة ما قبلى مدخل ثم يؤتى من يمينه فيقول الصيام ما قبلى مدخل ثم يؤتى من يساره فتقول الزكاة ما قبلى مدخل ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان ما قبلى مدخل فيقال له اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس وقد أخذت الغروب فيقال له هذا الرجل الذى كان فيكم ما تقول فيه وماذا تشهد به عليه فيقول دعونى حتى أصلى فيقولون انك ستصلى أخبرنا عما نسألك عنه أرأيت هذا الرجل الذى كان فيكم ما تقول فيه وما تشهد عليه فيقول محمد أشهد أنه رسول الله جاء بالحق من عند الله فيقال له على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له هذا مقعدك وما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه ويعاد الجسد لما بدىء
منه وتجعل نسمته في النسم الطيب وهي طير معلق في شجر الجنة قال فذلك قول الله تعالى يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة وذكر في الكافر ضد ذلك إلى أن قال ثم يضيق عليه في قبره إلى أن تختلف فيه أضلاعه فتلك المعيشة الضنك التي قال الله تعالى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى
وفي الصحيحين من حديث قتادة عن أنس أن النبي قال إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه انه ليسمع خفق نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله قال فيقول أنظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة قال رسول الله فيراهما جميعا قال قتادة وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا يملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون ثم رجع إلى حديث أنس قال فأما الكافر والمنافق فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول لا ادرى كنت أقول ما يقول الناس فيقولان لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة فيسمعها من عليها غير الثقلين
وفي صحيح أبى حاتم عن أبى هريرة قال قال رسول الله قبر أحدكم أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد فهو قائل ما كان يقول فان كان مؤمنا قال هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقولان له إن كنا لنعلم أنك تقول ذلك ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ذراع وينور له فيه ويقال له نم فيقول ارجع إلى أهلى ومالى فأخبرهم فيقولان نم كنومة العروس الذى لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك وإن كان منافقا قال لا أدرى كنت أسمع الناس يقولون شيئا فكنت أقوله فيقولان له كنا نعلم أنك تقول ذلك ثم يقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف فيها أضلاعه فلا يزال معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك وهذا صريح في أن البدن يعذب
وعن أبى هريرة أن النبي قال إذا احتضر المؤمن أتته الملائكة بحريرة بيضاء فيقولون اخرجى أيتها الروح الطيبة راضية مرضيا عنك إلى روح وريحان ورب غير غضبان فتخرج كأطيب من ريح المسك حتى أنه ليناوله بعضهم بعضا حتى يأتوا به باب السماء فيقولون ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض فيأتون به أرواح المؤمنين فهم أشد فرحا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه فيسألونه ماذا فعل فلان قال فيقولون
دعوة يستريح فانه كان في غم الدنيا فاذا قال أتاكم فيقولون انه ذهب به إلى أمه الهاوية وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون اخرجى مسخوطا عليك إلى عذاب الله فتخرج كأنتن ريح جيفة حتى يأتوا به باب الأرض فيقولون فما أنتن هذه الروح حتى يأتوا به أرواح الكفار رواه النسائى والبزار ومسلم مختصرا
وأخرجه أبو حاتم في صحيحه وقال إن المؤمن إذا حضره الموت حضرته ملائكة الرحمة فاذا قبض جعلت روحه في حريرة بيضاء فينطلق بها إلى باب السماء فيقولون ما وجدنا ريحا أطيب من هذه فيقال ما فعل فلان ما فعلت فلانة فيقال دعوه يستريح فإنه كان في غم الدنيا وأما الكافر إذا قبضت نفسه ذهب بها إلى الأرض فتقول خزنة الأرض ما وجدنا ريحا أنتن من هذه فيبلغ بها إلى الأرض السفلى
وروى النسائى في سننه من حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما عن النبي قال هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهد له سبعون ألفا من الملائكة لقد ضم ضمة ثم فرج عنه قال النسائى يعنى سعد بن معاذ
وروى من حديث عائشة رضى الله عنها قالت قال رسول الله للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ رواه من حديث شعبة
وقال هناد بن السرى حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن ابن أبى مليكة قال ما أجير من ضغطة القبر أحد ولا سعد بن معاذ الذي منديل من مناديله خير من الدنيا وما فيها
قال وحدثنا عبدة عن عبيد الله بن عمر عن نافع قال لقد بلغنى أنه شهد جنازة سعد ابن معاذ سبعون ألف ملك لم ينزلوا إلى الأرض قط ولقد بلغنى أن رسول الله قال لقد ضم صاحبكم في القبر ضمة
وقال علي بن معبد حدثنا عبيد الله عن زيد بن أبي أنيسة عن جابر عن نافع قال أتينا صفية بنت ابي عبيد امراة عبد الله عمر وهي فزعه فقلنا ما شأنك فقالت جئت من عند بعض نساء النبي قالت فحدثتني أن رسول الله قال إن كنت لأرى لو أن أحد اعفي من عذاب القبر لأعفي منه سعد بن معاذ لقد ضم فيه ضمه
وحدثنا مروان بن معاوية عن العلاء بن المسيب عن معاوية العبسى عن زاذان ابن عمرو قال لما دفن رسول الله ابنته فجلس عند القبر فتربد وجهه ثم سرى عنه فقال له أصحابه رأينا وجهك آنفا ثم سرى فقال النبي ذكرت ابنتي وضعفها وعذاب القبر فدعوت الله ففرج عنها وايم الله لقد ضمت ضمه سمعها من بين الخافقين
وحدثنا شعيب عن ابن دينار عن ابن إبراهيم الغنوى عن رجل قال كنت عند عائشة رضي الله عنها فمرت جنازة صبي صغير فبكت فقلت لها ما يبكيك يا أم المؤمنين فقالت هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر ومعلوم أن هذا كله للجسد بواسطة الروح
فصل وهذا كما انه مقتضى السنة الصحيحة فهو متفق عليه بين أهل السنة
قال المروزى قال أبو عبد الله عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال أو مضل وقال حنبل قلت لأبى عبد الله في عذاب القبر فقال هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها كلما جاء عن النبي إسناد جيد أقررنا به إذا لم نقر بما جاء به رسول الله ودفعناه ورددناه على الله أمره قال الله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه قلت له وعذاب القبر حق قال حق يعذبون في القبور قال وسمعت أبا عبد الله يقول نؤمن بعذاب القبر وبمنكر ونكير وأن العبد يسأل في قبره يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة في القبر
وقال أحمد بن القاسم قلت يا أبا عبد الله تقر بمنكر ونكير وما يروى في عذاب القبر ! فقال سبحان الله نعم نقر بذلك ونقوله قلت هذه اللفظة تقول منكر ونكير هكذا أو تقول ملكين قال منكر ونكير قلت يقولون ليس في حديث منكر ونكير قال هو هكذا يعنى أنهما منكر ونكير
وأما أقوال أهل البدع والضلال فقال أبو الهذيل والمريسى من خرج عن سمة الإيمان فإنه يعذب بين النفختين والمسألة في القبر إنما تقع في ذلك الوقت
وأثبت الجبائى وابنه البلخى عذاب القبر ولكنهم نفوه عن المؤمنين وأثبتوه لأصحاب التخليد من الكفار والفساق على أصولهم
وقال كثير من المعتزلة لا يجوز تسمية ملائكة الله بمنكر ونكير وإنما المنكر ما يبدو من تلجلجه إذا سئل والنكير تقريع الملكين له
وقال الصالحى وصالح فيه عذاب القبر يجرى على المؤمن من غير رد الأرواح إلى الأجساد والميت يجوز أن يألم ويحس ويعلم بلا روح وهذ قول جماعة من الكرامية
وقال بعض المعتزلة ان الله سبحانه يعذب الموتى في قبورهم ويحدث فيهم الآلام وهم لا يشعرون فإذا حشروا وجدوا تلك الآلام وأحسوا بها قالوا وسبيل المعذبين من الموتى كسبيل السكران والمغشى عليه لو ضربوا لم يجدوا الآلام فاذا عاد عليهم العقل أحسوا بألم الضرب
وأنكر جماعة منهم عذاب القبر رأسا مثل ضرار بن عمرو ويحيى بن كامل وهو قول المريسى فهذه أقوال أهل الخزية والضلال
فصل ومما ينبغى أن يعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزح فكل من
مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه قبر أو لم يقبر فلو أكلته السباع أو أحرق حتى صار رمادا ونسف في الهواء أو صلب أو غرق في البحر وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى القبور
وفي صحيح البخارى عن سمرة بن جندب قال كان النبي إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال من رأى منكم الليلة رؤيا قال فان رأى أحد رؤيا قصها فيقول ما شاء الله فسألنا يوما فقال هل رأى أحد منكم رؤيا قلنا لا قال لكنى رأيت الليلة رجلين اتيانى فأخذا بيدى وأخرجانى إلى الأرض المقدسة فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلوب من حديد يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله قلت ما هذا قالا انطلق فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ورجل قائم على رأسه بصخرة أو فهر فيشدخ بها رأسه فاذا ضربه تدهده الحجر فأنطلق اليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه وعاد رأسه كما هو فعاد إليه فضربه قلت ما هذا قالا انطلق فانطلقنا إلى نقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يوقد تحته نار فإذا فيه رجال ونساء عراة فيأتيهم اللهب من تحتهم فإذا اقترب ارتفعوا حتى
كادوا يخرجوا فإذا خمدت رجعوا فقلت ما هذا قالا انطلق فأنطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فرجع كما كان فقلت ما هذا قالا انطلق فانطلقنا حتى اتينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة وفي اصلها شيخ وصبيان واذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها فصعدا بى الشجرة وأدخلانى دارا لم أرقط أحسن منها فيها شيوخ وشبان ثم صعدا بى فأدخلانى دارا هي أحسن وأفضل قلت طوفتمانى الليلة فأخبرانى عما رأيت قالا نعم الذي رأيته يشق شدقه كذاب يحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة والذى رأيته يشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به بالنهار يفعل به إلى يوم القيامة وأما الذي رأيت في النقب فهم الزناة والذي رأيته في النهر فآكل الربا وأما الشيخ الذي في اصل الشجرة فإبراهيم والصبيان حوله فأولاد الناس والذي يوقد النار فمالك خازن النار والدار الأولى دار عامة المؤمنين وأما هذه الدار فدار الشهداء وأنا جبرائيل وهذا ميكائيل فارجع رأسك فرفعت رأسى فإذا قصر مثل السحابة قالا ذلك منزلك قلت دعانى أدخل منزلى قالا انه بقى لك عمر لم تستكمله فلو اسكملته ! أتيت منزلك
وهذا نص في عذاب البرزخ فإن رؤيا الأنبياء وحى مطابق لما في نفس الأمر
وقد ذكر الطحاوى عن ابن مسعود عن النبي قال امر بعبد من عباد الله ان يضرب في قبره مائة جلدة فلم يزل يسأل ويدعوه حتى صارت واحدة فامتلأ قبره عليه نارا فلما ارتفع عنه أفاق فقال علام جلدتمونى قالوا إنك صليت صلاة بغير طهور ومررت على مظلوم فلم تنصره
وذكر البيهقى حديث الربيع بن أنس عن أبى العالية عن أبى هريرة عن النبي في هذه الآية سبحان الذي أسرى بعبده ليلا إلا أنه أتى بفرس فحمل عليه قال كل خطوة منتهى أقصى بصره فسار وسار معه جبريل فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم كلما حصدوا عاد كما كان فقال يا جبرائيل من هؤلاء قال هؤلاء المجاهدون في سبيل الله يضاعف لهم الحسنة بسبعمائة وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ثم أتى على قوم ترضخ رءوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم شيء من ذلك قال يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة قال ثم أتى على قوم على اقبالهم رقاع وعلى أدبارهم يسرحون كما تسرح الأنعام على الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها قال ما هؤلاء يا جبرائيل قال هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم
وما ظلمهم الله وما الله بظلام للعبيد ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم من قدر نضيج ولحم آخر خبيث فجعلوا يأكلون من الخبيث ويدعون النضيج الطيب فقال يا جبريل من هؤلاء قال هذا الرجل يقوم وعنده امرأة حلالا طيبا فيأتى المرأة الخبيثة فتبيت معه حتى تصبح ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر بها شيء إلا قصفته يقول الله تعالى ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ثم مر على رجل قد جمع حزمه عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها قال يا جبريل ما هذا قال هذا رجل من أمتك عليه أمانه لا يستطيع أداءها وهو يزيد عليها ثم أتى على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم شيء قال يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء خطباء الفتنه ثم أتى على حجر ! صغير يخرج منه نور عظيم فجعل النور يريد ان يدخل من حيث خرج ولا يستطيع قال ما هذا يا جبريل قال هذا الرجل يتكلم با لكلمه فيندم عليها فيريد ان يردها فلا يستطيع وذكر الحديث
وذكر البيهقي أيضا في حديث الاسراء من رواية أبى سعيد الخدرى عن النبي فصعدت أنا وجبريل فاستفتح جبريل فإذا بآدم كهيئته يوم خلقه الله على صورته تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول روح طيبه ونفس طيبه اجعلوها في عليين ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها في سجين ثم مضيت هنية ! فإذا أنا بأخونة عليها لحم مشرح ليس بقربها أحد وإذا بأخونة أخرى عليها لحم قد أروح ونتن وعندها ناس يأكلون منها قلت يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء يتركون الحلال ويأتون الحرام قال ثم مضيت هنيهة فاذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر يقول اللهم لا تقم الساعة قال وهم على سابلة آل فرعون قال فتجىء السابلة فتطأهم فيصيحون قلت يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس قال ثم مضيت هنيهة فاذا أنا بقوم مشافرهم كمشافر الإبل فتفتح أفواههم فيلقمون الجمر ثم يخرج من أسافلهم فسمعتهم يصيحون قلت من هؤلاء قال الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ثم مضيت هنيهة فاذا أنا بنساء معلقات بثديهن فسمعتهن يصحن قلت من هؤلاء قال هؤلاء الزوانى ثم مضيت هنيهة فاذا أنا بقوم يقطع من جنوبهم اللحم فيلقمون فيقال كل كما كنت تأكل لحم أخيك قلت من هؤلاء قال الهمازون من أمتك وذكر الحديث بطوله
وفي سنن أبى داوود من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله لما عرج بى مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت يا جبريل من هؤلاء قال الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم
وقال أبو داود الطيالسى في مسنده حدثنا شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس أن رسول الله على قبرين فقال إنهما ليعذبان في غير كبير أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس وأما الآخر فكان صاحب نميمة ثم دعا بجريدة فشقها نصفين فوضع نصفها على هذا القبر ونصفها على هذا القبر وقال عسى أن يخفف عنهما ما دامتا رطبتين
وقد اختلف الناس في هذين هل كانا كافرين أو مؤمنين كانا كافرين وقوله وما يعذبان في كبير يعنى بالاضافة إلى الكفر والشرك قالوا ويدل عليه أن العذاب لم يرتفع عنهما وإنما خفف وأيضا فإنه خفف مدة رطوبة الجريدة فقط وأيضا فانهما لو كانا مؤمنين لشفع فيهما ودعا لهما النبي فرفع عنهما بشفاعته وأيضا ففي بعض طرق الحديث أنهما كانا كافرين وهذا التعذيب زيادة على تعذيبهما بكفرهما وخطاياهما وهو دليل على أن الكافر يعذب بكفره وذنوبه جميعا وهذا اختيار أبى الحكم بن برخان
وقيل كانا مسلمين لنفيه بسبب غير السببين المذكورين ولقوله وما يعذبان في كبير والكفر والشرك أكبر الكبائر على الإطلاق ولا يلزم أن يشفع النبي لكل مسلم يعذب في قبره على جريمة من الجرائم فقد أخبر عن صاحب الشملة الذى قتل في الجهاد أن الشملة تشتعل عليه نارا في قبره وكان مسلما مجاهدا ولا يعلم ثبوت هذه اللفظة وهى قوله كانا كافرين ولعلها لو صحت وكلا فهى من قول بعض الرواة والله أعلم وهذا اختيار أبى عبد الله القرطبى
المسألة السابعة وهى قول للسائل ما جوابنا للملاحدة والزنادقة المنكرين
لعذاب القبر وسعته وضيقه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة وكون الميت لا يجلس ولا يقعد فيه
قالوا فانا نكشف القبر فلا نجد فيه ملائكة عميا صما يضربون الموتى بمطارق من حديد ولا نجد هناك حيات ولا ثعابين ولا نيرانا تأجج ولو كشفنا حالة من الأحوال لوجدناه لم يتغير ولو وضعنا على عينيه الزئبق وعلى صدره الخردل لوجدناه على حاله وكيف يفسح
مد بصره أو يضيق عليه ونحن ونجده بحاله ونجد مساحته على حد ما حفرناها لم يزد ولم ينقص وكيف يسع ذلك اللحد الضيق له وللملائكة وللصورة التي تؤنسه أو توحشه قال إخوانهم من أهل البدع والضلال وكل حديث يخالف مقتضى العقول والحس يقطع بتخطئة قائله قالوا ونحن نرى المصلوب على خشبة مدة طويلة لا يسأل ولا يجيب ولا يتحرك ولا يتوقد جسمه نارا ومن افترسته السباع ونهشته الطيور وتفرقت أجزاؤه وفي أجواف السباع وحواصل الطيور وبطون الحيتان ومدارج الرياح كيف تسأل أجزاؤه مع تفرقها وكيف يتصور مسألة الملكين لمن هذا وصفه وكيف يصير القبر على هذا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار وكيف يضيق عليه حتى تلتئمه أضلاعه ونحن نذكر أمورا يعلم بها الجواب
فصل الأمر الأول أن يعلم أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا
بما تحيله العقول وتقطع باستحالته بل اخبارهم قسمان
أحدهما ما تشهد به العقول والفطر
الثاني مالا تدركه العقول بمجردها كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر وتفاصيل الثواب والعقاب ولا يكون خبرهم محالا في العقول أصلا وكل خبر يظن أن العقل يحيله فلا يخلو من أحد أمرين أما يكون الخبر كذبا عليهم أو يكون ذلك العقل فاسدا وهو شبهة خيالية يظن صاحبها أنها معقول صريح قال تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق ويهدى إلى صراط العزيز الحميد وقال تعالى أفمن يعلم أنما أنزل اليك من ربك الحق كمن هو أعمى وقال تعالى الذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل اليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه والنفوس لا تفرح بالمحال وقال تعالى يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا والمحال لا يشفي ولا يحصل به هدى ولا رحمة ولا يفرح به فهذا أمر من لم يستقر في قلبه خير ولم يثبت له على الإسلام قدم وكان أحسن أحواله الحيرة والشك
فصل الأمر الثانى أن يفهم عن الرسول مراد من غير غلو ولا
تقصير فلا يحمل كلامه مالا يحتمله ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان
وقد حصل باهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب وما لا يعلمه إلا الله بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد فيتفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده وسوء القصد من التابع فيا محنة الدين وأهله والله المستعان
وهل أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة وسائر الطوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن الله ورسوله حتى صار الدين بأيدى أكثر الناس هو موجب هذه الإفهام والذى فهمه الصحابة ومن تبعهم عن الله ورسوله فمهجور لا يلتفت اليه ولا يرفع هؤلاء به رأسا ولكثرة أمثلة هذه القاعدة تركناها فانا لو ذكرناها لزادت على عشرة الوف حتى أنك لتمر على الكتاب من أوله إلى آخره فلا تجد صاحبه فهم عن الله ورسوله ومراده كما ينبغى في موضع واحد
وهذا إنما يعرفه من عرف ما عند الناس وعرضه على ما جاء به الرسول وأما من عكس الأمر بعرض ما جاء به الرسول على ما اعتقده وانتحله وقلد فيه من أحسن به الظن فليس يجدى الكلام معه شيئا فدعه وما اختاره لنفسه ووله ما تولى واحمد الذى عافاك مما ابتلاه به فصل
الأمر الثالث أن الله سبحانه جعل الدور ثلاثا دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار وجعل لكم دار أحكاما تختص بها وركب هذا الانسان من بدن ونفس وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان والأرواح تبعا لها ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح وان أضمرت النفوس خلافه وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعا لها فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا فتألمت بألمها والتذت براحتها وكانت هى التي باشرت أسباب النعيم والعذاب تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها والأرواح حينئذ هى التي تباشر العذاب والنعيم فالأبدان هنا ظاهرة والأرواح خفية والأبدان كالقبور لها والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها تجرى أحكام البرزخ على الأرواح فتسرى إلى أبدانها نعيما أو عذابا كما تجرى أحكام الدنيا على الأبدان فتسرى إلى أرواحها نعيما أو عذابا فأخط بهذا الموضع علما واعرفه كما ينبغى يزيل عنك كل اشكال يورد عليك من داخل وخارج
وقد أرانا الله سبحانه بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك أنموذجا في الدنيا من حال النائم فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجرى عل ى روحه أصلا والبدن تبع له وقد يقوى حتى يؤثر
في البدن تاثيرا مشاهدا فيرى النائم في نومه أنه ضرب فيصبح وأثر الضرب في جسمه ويرى أنه قد أكل أو شرب فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه ويذهب عنه الجوع والظمأ
وأعجب من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه ويضرب ويبطش ويدافع كأنه يقظان وهو نائم لا شعور له بشىء من ذلك وذلك أن الحكم لما جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس فإذا كانت الروح تتألم وتتنعم ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع فهكذا في البرزخ بل أعظم فإن تجرد الروح هنالك أكمل وأقوى وهى متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الانقطاع فإذا كان يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهرا باديا أصلا
ومتى أعطيت هذا الموضع حقه تبين لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه وضيقه وسعته وضمه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة مطابق للعقل وأنه حق لا مرية فيه وإن من أشكل عليه ذلك فمن سوء فهمه وقلة علمه أتى كما قيل
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
وأعجب من ذلك أنك تجد النائمين في فراش واحد وهذا روحه في النعيم ويستيقظ وأثر النعيم على بدنه وهذا روحه في العذاب ويستيقظ وأثر العذاب على بدنه وليس عند أحدهما خبر عند الآخر فأمر البرزخ أعجب من ذلك
الفصل الأمر الرابع أن الله سبحانه جعل أمر الآخرة وما كان متصلا بها
غيبا وحجها عن إدراك المكلفين في هذه الدار وذلك من كمال حكمته وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم فأول ذلك أن الملائكة تنزل على المحتضر وتجلس قريبا منه ويشاهدهم عيانا ويتحدثون عنده ومعهم الأكفان والحنوط إما من الجنة وإما من النار ويؤمنون على دعاء الحاضرين بالخير والشر وقد يسلمون على المحتضر ويرد عليهم تاره بلفظه تارة باشارته وتاره بقلبه حيث لا يتمكن من نطق ولا إشارة
وقد سمع بعض المحتضرين يقول أهلا وسهلا ومرحبا بهذه الوجوه
وأخبرني شيخنا عن بعض المحتضرين فلا ادرى أشاهده وأخبر عنه انه سمع وهو يقول عليك السلام ها هنا فاجلس وعليك السلام ها هنا فاجلس
وقصة خير النساج رحمه الله مشهورة حيث قلا عند الموت اصبر عافاك الله فإن ما أمرت به لا يفوت وما أمرت به يفوت ثم استدعى بماء فتوضأ وصلى ثم قال امض لما أمرت به ومات
وذكر ابن أبى الدنيا أن عمر بن عبد العزيز لما كان في يومه الذي مات فيه قال أجلسونى فأجلسوه فقال أنا الذى أمرتنى فقصرت ونهيتنى فعصيت ثلاث مرات ولكن لا إله إلا الله ثم رفع رأسه فأحد النظر فقالوا انك لتنظر نظرا شديدا يا أمير المؤمنين فقال إنى لأرى حضرة ما هم بانس ولا جن ثم قبض
وقال مسلمة بن عبد الملك لما احتضر عمر بن عبد العزيز كنا عنده في قبة فأومى إلينا أن اخرجوا فخرجنا فقعدنا حول القبة وبقى عنده وصيف فسمعناه يقرأ هذه الآية تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ما أنتم بانس ولا جان ثم خرج الوصيف فأومى إلينا أن ادخلوا فدخلنا فإذا هو قد قبض
وقال فضالة بن دينار حضرت محمد بن واسع وقد سجى للموت فجعل يقول مرحبا بملائكة ربى ولا حول ولا قوة إلا بالله وشممت رائحة طيب لم أشم قط أطيب منها ثم شخص ببصره فمات
والآثار في ذلك أكثر من أن تحصر
وأبلغ وأكفى من ذلك كله قول الله تعالى فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون أى أقرب إليه بملائكتنا ورسلنا ولكنكم لا ترونهم فهذا أول الأمر وهو غير مرئى لنا ولا مشاهد وهو في هذه الدار
ثم يمد الملك يده إلى الروح فيقبضها ويخاطبها والحاضرون لا يرونه ولا يسمعونه ثم تخرج فيخرج لها نور مثل شعاع الشمس ورائحة أطيب من رائحة المسك والحاضرون لا يرون ذلك ولا يشمونه
ثم تصعد بين سماطين من الملائكة والحاضرون لا يرونهم
ثم تأتى الروح فتشاهد غسل البدن وتكفينه وحمله وتقول قدمونى قدمونى أو إلى أين تذهبون بى ولا يسمع الناس ذلك فإذا وضع في لحده وسوى عليه التراب لم يحجب التراب الملائكة عن الوصول إليه بل لو نقر له حجر فأودع فيه وختم عليه بالرصاص لم يمنع وصول الملائكة إليه فإن هذه الاجسام الكثيفة لا تمنع خرق الأرواح لها بل الجن لا يمنعها ذلك بل قد جعل الله سبحانه الحجارة والتراب للملائكة بمنزلة الهواء للطير واتساع القبر وانفساحه للروح
بالذات والبدن تبعا فيكون البدن في لحد أضيق من ذراع وقد فسح له مد بصره تبعا لروحه وأما عصرة القبر حتى تختلف بعض أجزاء الموتى فلا يرده حس ولا عقل ولا فطرة ولو قدر أن أحدا نبش عن ميت فوجد أضلاعه كما هى لم تختلف لم يمنع أن تكون قد عادت إلى حالها بعد العصرة فليس مع الزنادقة والملاحدة إلا مجرد تكذيب الرسول
ولقد أخبر بعض الصادقين أنه حفر ثلاثة أقبر فلما فرغ منها اضطجع ليستريح فرأى فيما يرى النائم ملكين نزلا فوقفا على أحد الأقبر فقال أحدهما لصاحبه اكتب فرسخا في فرسخ ثم وقف على الثانى فقال اكتب ميلا في ميل ثم وقف على الثالث فقال اكتب فترا في فتر ثم انتبه فجىء برجل غريب لا يؤبه له فدفن في القبر الأول ثم جىء برجل آخر فدفن في القبر الثانى ثم جىء بامرأة مترفة من وجوه البلد حولها ناس كثير فدفنت في القبر الضيق الذى سمعه يقول فترا في فتر والفتر ما بين الإبهام والسبابة
فصل الأمر الخامس أن النار التي في القبر والخضرة ليست من نار الدنيا
ولا من زروع الدنيا فيشاهده من شاهد نار الدنيا وخضرها وإنما هى من نار الآخرة وخضرها وهى أشد من نار الدنيا فلا يحس به أهل الدنيا فان الله سبحانه يحمى عليه ذلك التراب والحجارة التي عليه وتحته حتى يكون أعظم حرا من جمر الدنيا ولو مسها أهل الدنيا لم يحسوا بذلك بل أعجب من هذا أن الرجلين يدفنان أحدهما إلى جنت الآخر وهذا في حفرة من حفر النار لا يصل حرها إلى جاره وذلك في روضة من رياض الجنة لا يصل روحها ونعيمها إلى جاره
وقدرة الرب تعالى اوسع وأعجب من ذلك وقد أرانا الله من آيات قدرته في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك بكثير ولكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علما إلا من وفقه الله وعصمه
فيفرش للكافر لوحان من نار فيشتعل عليه قبره بهما كما يشتعل التنور فاذا شاء الله سبحانه أن يطلع على ذلك بعض عبيده اطلعه وغيبه عن غيره إذ لو طلع العباد كلهم لزالت كلمة التكليف والإيمان بالغيب ولما تدافن الناس كما في الصحيحين عنه لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع
ولما كانت هذه الحكمة منفية في حق البهائم سمعت ذلك وادركته كما حادت برسول الله بغلته وكادت تلقيه لما مر بمن يعذب في قبره
وحدثنى صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الرزيز الحرانى أنه خرج من داره بعد العصر بآمد إلى بستان قال فلما كان قبل غروب الشمس توسطت القبور فاذا بقبر منها وهو جمرة
نار مثل كوز الزجاج والميت في وسطه فجعلت أمسح عينى واقول انائم أنا ام يقظان ثم التفت إلى سور المدينة وقلت والله ما انا بنائم ثم ذهبت إلى أهلى وأنا مدهوش فأتونى بطعام فلم استطع أن آكل ثم دخلت البلد فسألت عن صاحب القبر فإذا به مكاس قد توفي ذلك اليوم
فرؤية هذه النار في القبر كرؤية الملائكة والجن تقع احيانا لمن شاء الله ان يريه ذلك
وقد ذكر ابن أبى الدنيا في كتاب القبور عن الشعبى أنه ذكر رجلا قال للنبي مررت بدر فرأيت رجلا يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة حتى نعيب في الأرض ثم يخرج فيفعل به ذلك فقال رسول الله ذلك أبو جهل بن هشام يعذب إلى يوم القيامة
وذكر من حديث حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال بينا أنا اسير بين مكة والمدينة على راحلة وأنا محقب اداوة اذ مررت بمقبرة فإذا رجل خارج من قبره يلتهب نارا وفي عنقه سلسلة يجرها فقال يا عبد الله انضح يا عبد الله انضح فوالله ما أدرى اعرفنى باسمى أم كما تدعو الناس قال فخرج آخر فقال يا عبد الله لا تنضج يا عبد الله لا تنضج ثم اجتذب السلسلة فاعاده في قبره
وقال ابن أبى الدنيا حدثنى أبى حدثنا موسى بن داود حدثنا حماد بن سلمة عن هشام ابن عروة عن أبيه قال بينما راكب يسير بين مكة والمدينة غذ مر بمقبرة فإذا برجل قد خرج من قبر يلتهب نارا مصفدا في الحديد فقال يا عبد الله انضج يا عبد الله انضج قال وخرج آخر يتلوه فقال يا عبد الله لا تنضج يا عبد الله لا تنضج قال وغشى على الراكب وعدلت به راحلته إلى العرج قال وأصبح قد ابيض شعره فأخبر عثمان بذلك فنهى أن يسافر الرجل وحده
وذكر من حديث سفيان حدثنا داود بن شابور عن ابى قزعة قال مررنا في بعض المياه التي بيننا وبين البصرة فسمعنا نهيق حمار فقلنا لهم ما هذا النهيق قالوا هذا رجل كان عندنا كانت أمه تكلمه بالشيء فيقول لها إنهقى نهيقك فلما مات سمع هذا النهيق من قبره كل ليلة
وذكر أيضا عن عمرو بن دينار قال كان رجل من أهل المدينة وكانت له أخت في ناحية المدينة فاشتكت وكان يأتيها يعودها ثم ماتت فدفنها فلما رجع ذكر أنه نسى شيئا في
القبر كان معه فاستعان برجل من أصحابه قال فنبشنا القبر ووجدت ذلك المتاع فقال للرجل تنح حتى انظر على أى حال أختى فرفع بعض ما على اللحد فإذا القبر مشتعل نارا فرده وسوى القبر فرجع إلى أمه فقال ما كان حال أختى فقالت ما تسأل عنها وقد هلكت فقال لتخبرينى قالت كانت تؤخر الصلاة ولا تصلى فيما أظن بوضوء وتأتى أبواب الجيران فتلقم أذنها أبوابهم وتخرج حديثهم
وذكر عن حصين الأسدى قال سمعت مرثد بن حوشب قال كنت جالسا عند يوسف ابن عمر وإلى جنبه رجل كأن شقة وجهه صفحة من حديد فقال له يوسف حدث مرثدا بما رأيت فقال كنت شابا قد أتيت هذه الفواحش فلما وقع الطاعون قلت أخرج إلى ثغر من هذه الثغور ثم رأيت ان احفر القبور فاذا بى ليلة بين المغرب والعشاء قد حفرت وأنا متكىء على تراب قبر آخر إذ جىء بجنازة رجل حتى دفن في ذلك وسووا عليه فأقبل طائران أبيضان من المغرب مثل البعيرين حتى سقط أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ثم اثاراه ثم تدلى أحدهما في القبر والآخر على شفيره فجئت حتى جلست على شفير القبر وكنت رجلا لا يملأ جوفي شيء قال فسمعته يقول ألست الزائر اصهارك في ثوبين ممصرين تسحبهما كبرا تمشى الخيلاء فقال أنا أضعف من ذلك قال فضربه ضربة امتلأ القبر حتى فاض ماء ودهنا ثم عاد فأعاد إليه القول حتى ضربه ثلاث ضربات كل ذلك يقول ذلك ويذكر أن القبر يفيض ماء ودهنا قال ثم رفع رأسه فنظر إلى فقال انظر أين هو جالس بلسه الله قال ثم ضرب جانب وجهى فسقطت فمكثت لبلتى حتى أصبحت قال ثم أخذت انظر إلى القبر فإذا هو على حاله
فهذا الماء والدهن في رأى العين لهذا الرائى هو نار تأجج للميت كما أخبر النبي عن الدجال أنه يأتى معه بماء ونار فالنار ماء بارد والماء نار تأجج
وذكر ابن أبى الدنيا ان رجلا سأل أبا اسحاق الفزارى عن النباش هل له توبة فقال نعم إن صحت نيته وعلم الله منه الصدق فقال له الرجل كنت أنبش القبور وكنت أجد قوما وجوههم لغير القبلة فلم يكن عند الفزارى في ذلك شيء فكتب إليه الأوزاعى يخبره بذلك فكتب إليه الأوزاعى تقبل توبته إذا صحت نيته وعلم الله الصدق من قلبه وأما قوله انه كان يجد قوما وجوههم لغير القبلة فأولئك قوم ماتوا على غير السنة
وقال ابن أبى الدنيا حدثنى عبد المؤمن بن عبد الله بن عيسى القيسى أنه قيل لنباش قد تاب ما أعجب ما رأيت قال نبشت رجلا فإذا هو مسمر بالمسامير في سائر جسده ومسمار كبير في رأسه وآخر في رجليه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق