الباب الثاني في ركعتي الفجر
- واتفقوا على أن ركعتي الفجر سنة لمعاهدته E على فعلها أكثر منه على سائر النوافل والترغيبة فيها ولأنه قضاها بعد طلوع الشمس حين نام عن الصلاة . واختلفوا من ذلك في مسائل إحداها في المستحب من القراءة فيهما فعند مالك المستحب أن يقرأ فيهما بأم القرآن فقط وقال الشافعي : لا بأس أن يقرأ فيهما بأم القرآن مع سورة قصيرة وقال أبو حنيفة : لا توقيف فيهما في القراءة يستحب وأنه يجوز أن يقرأ فيهما المرء حزبه من الليل . والسبب في اختلافهم اختلاف قراءته E في هذه الصلاة واختلافهم في تعيين القراءة في الصلاة وذلك أنه روي عنه E " أنه كان يخفف ركعتي الفجر " على ما روته عائشة قالت " حتى أني أقول أقرأ فيهما بأم القرآن أم لا ؟ " فظاهر هذا أنه كان يقرأ فيهما بأم القرآن فقط . وروي عنه من طريق أبي هريرة خرجه أبو داود " أنه كان يقرأ فيهما بقل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون " فمن ذهب مذهب حديث عائشة اختار قراءة أم القرآن فقط ومن ذهب مذهب الحديث الثاني اختار أم القرآن وسورة قصيرة ومن كان على أصله في أنه لا تتعين للقراءة في الصلاة لقوله تعالى { فاقرءوا ما تيسر منه } قال يقرأ فيهما ما أحب
والثانية في صفة القراءة المستحبة فيهما فذهب مالك والشافعي وأكثر العلماء إلى أن المستحب فيهما هو الإسرار وذهب قوم إلى أن المستحب فيهما هو الجهر وخير قوم في ذلك بين الإسرار والجهر . والسبب في ذلك تعارض مفهوم الآثار وذلك أن حديث عائشة المتقدم المفهوم من ظاهره " أنه E كان يقرأ فيهما سرا " ولولا ذلك لم تشك عائشة هل قرأ فيهما بأم القرآن أم لا ؟ وظاهر ما روى أبو هريرة أنه كان يقرأ فيهما ب { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } أن قراءته E فيهما جهرا " ولولا ذلك ما علم أبو هريرة ما كان يقرأ فيهما فمن ذهب مذهب الترجيح بين هذين الأثرين قال : إما باختيار الجهر إن رحج حديث أبي هريرة وإما باختيار الإسرار إن رجح حديث عائشة ومن ذهب مذهب الجمع قال بالتخيير والثالثة في الذي لم يصل ركعتي الفجر وأدرك الإمام في الصلاة أو دخل المسجد ليصلهما فأقيمت الصلاة فقال مالك : إذا كان قد دخل المسجد فأقيمت الصلاة فليدخل مع الإمام في الصلاة ولا يركعهما في المسجد والإمام يصلي الفرض وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركعها خارج المسجد وإن خاف فوات الركعة فليدخل مع الإمام ثم يصليهما إذا طلعت الشمس
ووافق أبو حنيفة مالكا في الفرق بين أن يدخل المسجد أو لا يدخله وخالفه في الحد في ذلك فقال : يركعهما خارج المسجد ما ظن أنه يدرك ركعة من الصبح مع الإمام . وقال الشافعي إذا أقيمت الصلاة المكتوبة فلا يركعهما أصلا لا داخل المسجد ولا خارجه وحكى ابن المنذر أن قوما جوزوا ركوعهما في المسجد والإمام يصلي وهو شاذ . والسبب في اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله E " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " فمن حمل هذا على عمومه لم يجز صلاة ركعتي الفجر إذا أقيمت الصلاة المكتوبة لا خارج المسجد ولا داخله ومن قصره على المسجد فقد أجاز ذلك خارج المسجد ما لم تفته الفريضة أو لم يفته منها جزء . ومن ذهب مذهب العموم فالعلة عنده في النهي إنما هو الاشتغال بالنفل عن الفريضة ومن قصر ذلك على المسجد فالعلة عنده إنما هو أن تكون صلاتان معا في موضع واحد لمكان الاختلاف على الإمام كما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال " سمع قوم الإقامة فقاموا يصلون فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أصلاتان معا ؟ أصلاتان معا ؟ " قال : وذلك في صلاة الصبح والركعتين اللتين قبل الصبح
وإنما اختلف مالك وأبو حنيفة في القدر الذي يراعى من فوات صلاة الفريضة من قبل اختلافهم في القدر الذي به يفوت فضل صلاة الجماعة للمشتغل بركعتي الفجر إذا كان فضل صلاة الجماعة عندهم أفضل من ركعتي الفجر فمن رأى أنه بفوات ركعة منها يفوته فضل صلاة الجماعة قال : يتشاغل بها ما لم تفته ركعة من الصلاة المفروضة ومن رأى أنه يدرك الفضل إذا أدرك ركعة من الصلاة لقوله E " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " أي قد أدرك فضلها وحمل ذلك على عمومه في تارك ذلك قصدا أو بغير اختيار قال : يتشاغل بها ما ظن أنه يدرك ركعة منها . ومالك إنما يحمل هذا الحديث والله أعلم على من فاتته الصلاة دون قصد منه لفواتها ولذلك رأى أنه إذا فاتته منها ركعة فقد فاته فضلها . وأما من أجاز ركعتي الفجر في المسجد والصلاة تقام فالسبب في ذلك أحد أمرين : إما أنه لم يصح عنده هذا الأثر أو لم يبلغه . قال أبو بكر بن المنذر : هو أثر ثابت : أعني قوله E " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة "
وكذلك صححه أبو عمر بن عبد البر وإجازة ذلك تروى عن ابن مسعود والرابعة في وقت قضائها إذا فاتت حتى صلى الصبح فإن طائفة قالت يقضيها بعد صلاة الصبح وبه قال عطاء وابن جريج وقال قوم يقضيها بعد طلوع الشمس ومن هؤلاء من جعل لها غير هذا الوقت غير المتسع ومنهم من جعله لها متسعا فقال : يقضيها من لدن طلوع الشمس إلى وقت الزوال ولا يقضيها بعد الزوال ومن هؤلاء الذين قالوا بالقضاء ومنهم من استحب ذلك ومنهم من خير فيه . والأصل في قضائها صلاته لها E بعد طلوع الشمس حين نام عن الصلاة
الباب الثالث في النوافل
- واختلفوا في النوافل هل تثنى أو تربع أو تثلث ؟ فقال مالك والشافعي : صلاة التطوع بالليل والنهار مثنى مثنى يسلم في كل ركعتين . وقال أبو حنيفة : إن شاء ثنى أو ثلث أو ربع أو سدس أو ثمن دون أن يفصل بينهما بسلام وفرق قوم بين صلاة الليل وصلاة النهار فقالوا : صلاة الليل مثنى مثنى وصلاة النهار أربع . والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار الواردة في هذا الباب وذلك أنه ورد في هذا الباب من حديث ابن عمر أن رجلا سأل النبي E عن صلاة الليل فقال " صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى " وثبت عنه E " أنه كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين وبعد الجمعة ركعتين وقبل العصر ركعتين " فمن أخذ بهذين الحديثين قال : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى . وثبت أيضا من حديث عائشة أنها قالت وقد وصفت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا قالت : فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر ؟ قال : يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي " وثبت عنه أيضا من طريق أبي هريرة أنه قال E " من كان يصلي بعد الجمعة فليصلي أربعا " وروى الأسود عن عائشة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل تسع ركعات فلما أسن صلى سبع ركعات " فمن أخذ أيضا بظاهر هذه الأحاديث جوز التنفل بالأربع والثلاث دون أن يفصل بينهما بسلام والجمهور على أنه لا يتنفل بواحدة وأحسب أن فيه خلافا شاذا
الباب الرابع في ركعتي دخول المسجد
- والجمهور على أن ركعتي دخول المسجد مندوب إليها من غير إيجاب وذهب أهل الظاهر إلى وجوبها . وسبب الخلاف في ذلك هل الأمر في قوله E " إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين " محمول على الندب أو على الوجوب فإن الحديث متفق على صحته فمن تمسك في ذلك بما اتفق عليه الجمهور من أن الأصل هو حمل الأوامر المطلقة على الوجوب حتى يدل الدليل على الندب ولم ينقدح عنده دليل ينقل الحكم من الوجوب إلى الندب قال : الركعتان واجبتان ومن انقدح عنده دليل على حمل الأوامر ههنا على الندب أو كان الأصل عنده في الأوامر أن تحمل على الندب حتى يدل الدليل على الوجوب فإن هذا قد قال به قوم قال الركعتان غير واجبتين لكن الجمهور إنما ذهبوا إلى حمل الأمر ههنا على الندب لمكان التعارض الذي بينه وبين الأحاديث التي تقتضي بظاهرها أو بنصها أن لا صلاة مفروضة إلا الصلوات الخمس التي ذكرناها في صدر هذا الكتاب مثل حديث الأعرابي وغيره وذلك أنه إن حمل الأمر ههنا على الوجوب لزم أن تكون المفروضات أكثر من خمس ولمن أوجبها أن الوجوب ههنا إنما هو متعلق بدخول المسجد لا مطلقا كالأمر بالصلوات المفروضة وللفقهاء أن تقييد وجوبها بالمكان شبيه وجوبها بالزمان ولأهل الظاهر أن المكان المخصوص ليس من شرط صحة الصلاة والزمان من شرط صحة الصلاة المفروضة . واختلف العلماء من هذا الباب فيمن جاء بالمسجد وقد ركع ركعتي الفجر في بيته هل يركع عند دخوله المسجد أم لا ؟ فقال الشافعي : يركع وهي رواية أشهب عن مالك وقال أبو حنيفة : لا يركع وهي رواية ابن القاسم عن مالك . وسبب اختلافهم معارضة عموم قوله E " إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين " وقوله E " لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الصبح " فههنا عمومان وخصوصان : أحدهما في الزمان والآخر في الصلاة وذلك أن حديث الأمر بالصلاة عند دخول المسجد عام في الزمان خاص في الصلاة والنهي عن الصلاة بعد الفجر إلا ركعتا الصبح خاص في الزمان عام في الصلاة فمن استثنى خاص الصلاة من عامها رأى الركوع بعد ركعتي الفجر ومن استثنى خاص الزمان من عامه لم يوجب ذلك وقد قلنا : إن مثل هذا التعارض إذا وقع فليس يجب أن يصار إلى أحد التخصيصين إلا بدليل وحديث النهي لا يعارض به حديث الأمر الثابت والله أعلم فإن ثبت الحديث وجب طلب الدليل من موضع آخر
الباب الخامس في قيام رمضان
- وأجمعوا على أن قيام شهر رمضان مرغب فيه أكثر من سائر الأشهر لقوله E " من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " وأن التراويح التي جمع عليها عمر بن الخطاب الناس مرغب فيها وإن كانوا اختلفوا أي أفضل أهي أو الصلاة آخر الليل ؟ أعني التي كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن الجمهور على أن الصلاة آخر الليل أفضل لقوله E " أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة " ولقول عمر فيها : " والتي تنامون عنها أفضل " واختلفوا في المختار من عدد الركعات التي يقوم بها الناس في رمضان فاختار مالك في أحد قوليه وأبو حنيفة والشافعي وأحمد ودواد القيام بعشرين ركعة سوى الوتر وذكر ابن القاسم عن مالك أنه كان يستحسن ستا وثلاثين ركعة والوتر ثلاث . وسبب اختلافهم اختلاف النقل في ذلك وذلك أن مالكا روى عن يزيد بن رومان قال : كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب بثلاث وعشرين ركعة . وخرج ابن أبي شيبة عن داود بن قيس قال : أدركت الناس بالمدينة في زمان عمر بن عبد العزيز وأبان بن عثمان يصلون ستا وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث وذكر ابن القاسم عن مالك أنه الأمر القديم : يعني القيام بست وثلاثين ركعة
الباب السادس في صلاة الكسوف
- اتفقوا على أن صلاة كسوف الشمس سنة وأنها في جماعة واختلفوا في صفتها وفي صفة القراءة فيها وفي الأوقات التي تجوز فيها وهل من شروطها الخطبة أم لا ؟ وهل كسوف القمر في ذلك ككسوف الشمس ؟ ففي ذلك خمس مسائل أصول في هذا الباب
- ( المسألة الأولى ) ذهب مالك والشافعي وجمهور أهل الحجاز وأحمد أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان وذهب أبو حنيفة والكوفيون إلى أن صلاة الكسوف ركعتان على هيئة صلاة العيد والجمعة . والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار الواردة في هذا الباب ومخالفة القياس لبعضها وذلك أنه ثبت من حديث عائشة أنها قالت : " خسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس فقام فأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول ثم رفع فسجد ثم رفع فسجد ثم فعل في الركعة الآخرة مثل ذلك ثم انصرف وقد تجلت الشمس " ولما ثبت أيضا من هذه الصفة في حديث ابن عباس : أعني من ركوعين في ركعة . قال أبو عمر : هذان الحديثان من أصح ما روي في هذا الباب فمن أخذ بهذين الحديثين ورجحهما على غيرهما من قبل النقل قال : صلاة الكسوف ركعتان في ركعة . وورد أيضا من حديث أبي بكرة وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر والنعمان بن بشير أنه صلى في الكسوف ركعتين كصلاة العيد . قال أبو عمر بن عبد البر : وهي كلها آثار مشهورة صحاح ومن أحسنها حديث أبي قلابة عن النعمان بن بشير قال : " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكسوف نحو صلاتكم يركع ويسجد ركعتين ركعتين ويسأل الله حتى تجلت الشمس " فمن رجح هذه الآثار لكثرتها وموافقتها للقياس : أعني موافقتها لسائر الصلوات قال : صلاة الكسوف ركعتان . قال القاضي : خرج مسلم حديث سمرة . قال أبو عمر : وبالجملة فإنما صار كل فريق منهم إلى ما ورد عن سلفه ولذلك رأى بعض أهل العلم أن هذا كله على التخيير وممن قال بذلك الطبري قال القاضي : وهو الأولى فإن الجمع أولى من الترجيح . قال أبو عمر : وقد روي في صلاة الكسوف عشر ركعات في ركعتين وثمان ركعات في ركعتين وست ركعات في ركعتين وأربع ركعات في ركعتين لكن من طرق ضعيفة . قال أبو بكر ابن المنذر وقال إسحاق بن راهويه : كل ما ورد من ذلك فمؤتلف غير مختلف لأن الاعتبار في ذلك لتجلي الكسوف فالزيادة في الركوع إنما تقع بحسب اختلاف التجلي في الكسوفات التي صلى فيها وروي عن العلاء بن زياد أنه كان يرى أن المصلي ينظر إلى الشمس إذا رفع رأسه من الركوع فإذا كانت قد تجلت سجد وأضاف إليها ركعة ثانية وإن كانت لم تنجل ركع في الركعة الواحدة ركعة ثانية ثم نظر إلى الشمس فإن كانت قد تجلت سجد وأضاف إليها ثانية وإن كانت لم تنجل ركع ثالثة في الركعة الأولى وهكذا حتى تنجلي . وكان إسحاق بن راهويه يقول : لا يتعدى بذلك أربع ركعات في كل ركعة لأنه لم يثبت عن النبي E أكثر من ذلك . وقال أبو بكر بن المنذر وكان بعض أصحابنا يقول : الاختيار في صلاة الكسوف ثابت والخيار في ذلك للمصلي إن شاء في كل ركعة ركوعين وإن شاء ثلاثة وإن شاء أربعة ولم يصح عنده ذلك . قال : وهذا يدل على أن النبي E صلى في كسوفات كثيرة . قال القاضي : هذا الذي ذكره هو الذي خرجه مسلم ولا أدري كيف قال أبو عمر فيها إنها وردت من طرق ضعيفة . وأما عشر ركعات في ركعتين فإنما أخرجه أبو داود فقط
- ( المسألة الثانية ) واختلفوا في القراءة فيها فذهب مالك والشافعي إلى أن القراءة فيها سر . وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن وإسحاق بن راهويه : يجهر بالقراءة فيها . والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك بمفهومها وبصيغها وذلك أن مفهوم حديث ابن عباس الثابت أنه قرأ سرا لقوله فيه عنه E " فقام قياما نحوا من سورة البقرة " وقد روي هذا المعنى نصا عنه أنه قال " قمت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما سمعت منه حرفا " وقد روي أيضا من طريق ابن إسحاق عن عائشة في صلاة الكسوف أنها قالت " تحريت قراءته فحزرت أنه قرأ سورة البقرة فمن رجح هذه الأحاديث قال : القراءة فيها سر ولمكان ما جاء في هذه الآثار استحب مالك والشافعي أن يقرأ في الأولى البقرة وفي الثانية آل عمران وفي الثالثة بقدر مائة وخمسين آية من البقرة وفي الرابعة بقدر خمسين آية من البقرة وفي كل واحدة أم القرآن ورجحوا أيضا مذهبهم هذا بما روي عنه E أنه قال " صلاة النهار عجماء " ووردت ههنا أيضا أحاديث مخالفة لهذه فمنها أنه روى " أنه E قرأ في إحدى الركعتين في صلاة الكسوف بالنجم " ومفهوم هذا أنه جهر وكان أحمد وإسحاق يحتجان لهذا المذهب بحديث سفيان بن الحسن عن الزهري عن عروة عن عائشة " أن النبي E جهر بالقراءة في كسوف الشمس " قال أبو عمر : سفيان بن الحسن ليس بالقوي . وقال : وقد تابعه على ذلك عن الزهري عن عبد الرحمن بن سليمان بن كثير وكلهم ليس في حديث الزهري مع أن حديث ابن إسحاق المتقدم عن عائشة يعارضه واحتج هؤلاء أيضا لمذهبهم بالقياس الشبهي فقالوا : صلاة سنة تفعل في جماعة نهارا فوجب أن يجهر فيها أصله العيدان والاستسقاء وخير في ذلك كله الطبري وهي طريقة الجمع وقد قلنا إنها أولى من طريقة الترجيح إذا أمكنت ولا خلاف في هذا أعلمه بين الأصوليين
- ( المسألة الثالثة ) واختلفوا في الوقت الذي تصلى فيه فقال الشافعي : تصلى في جميع الأوقات المنهى عن الصلاة فيها وغير المنهى . وقال أبو حنيفة : لا تصلى في الأوقات المنهى عن الصلاة فيها . وأما مالك فروى عنه ابن وهب أنه قال : لا يصلى لكسوف الشمس إلا في الوقت الذي تجوز فيه النافلة . وروى ابن القاسم أن سنتها أن تصلى ضحى إلى الزوال . وسبب اختلافهم في هذه المسألة اختلافهم في جنس الصلاة التي لا تصلى في الأوقات المنهى عنها فمن رأى أن تلك الأوقات تختص بجميع أجناس الصلاة لم يجز فيها صلاة كسوف ولا غيرها ومن رأى أن تلك الأحاديث تختص بالنوافل وكانت الصلاة عنده في الكسوف سنة أجاز ذلك ومن رأى أيضا أنها من النفل لم يجزها في أوقات النهي . وأما رواية ابن القاسم عن مالك فليس لها وجه إلا تشبيهها بصلاة العيد
- ( المسألة الرابعة ) واختلفوا أيضا هل من شرطها الخطبة بعد الصلاة ؟ فذهب الشافعي إلى أن ذلك من شرطها . وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا خطبة في صلاة الكسوف . والسبب في اختلافهم اختلافهم في العلة التي من أجلها خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس لما انصرف من صلاة الكسوف على ما في حديث عائشة وذلك أنها روت " أنه لما انصرف من الصلاة وقد تجلت الشمس حمد الله وأثنى عليه ثم قال : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته " الحديث فزعم الشافعي أنه إنما خطب لأن من سنة هذه الصلاة الخطبة كالحال في صلاة العيدين والاستسقاء . وزعم بعض من قال بقول أؤلئك أن خطبة النبي E إنما كانت يومئذ لأن الناس زعموا أن الشمس إنما كسفت لموت إبراهيم ابنه عليه السلام
- ( المسألة الخامسة ) واختلفوا في كسوف القمر فذهب الشافعي إلى أنه يصلى له في جماعة وعلى نحو ما يصلى في كسوف الشمس وبه قال أحمد وداود وجماعة وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يصلى له في جماعة واستحب أن يصلي الناس له أفذاذا ركعتين كسائر الصلوات النافلة . وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله E " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى يكشف ما بكم وتصدقوا " خرجه البخاري ومسلم . فمن فهم ههنا من الأمر بالصلاة فيهما معنى واحدا وهي الصفة التي فعلها في كسوف الشمس رأى الصلاة فيها في جماعة . ومن فهم من ذلك معنى مختلفا لأنه لم يرو عنه E أنه صلى في كسوف القمر مع كثرة دورانه . قال : المفهوم من ذلك أقل ما لا ينطلق عليه اسم صلاة في الشرع وهي النافلة فذا وكأن قائل هذا يقول يرى أن الأصل هو أن يحمل اسم الصلاة في الشرع إذا ورد الأمر بها على أقل ما ينطلق عليه هذا الاسم في الشرع إلا أن يدل الدليل على غير ذلك فلما دل فعله E في كسوف الشمس على غير ذلك بقي المفهوم في كسوف القمر على أصله والشافعي يحمل فعله في كسوف الشمس بيانا لمجمل ما أمر به من الصلاة فيهما فوجب الوقوف عند ذلك . وزعم أبو عمر ابن عبد البر أنه روي عن ابن عباس وعثمان أنهما صليا في القمر في جماعة ركعتين في كل ركعة ركوعان مثل قول الشافعي . وقد استحب قوم الصلاة للزلزلة والريح والظلمة وغير ذلك من الآيات قياسا على كسوف القمر والشمس لنصه E على العلة في ذلك وهو كونها آية وهو من أقوى أجناس القياس عندهم لأنه قياس العلة التي نص عليها لكن لم ير هذا مالك ولا الشافعي ولا جماعة من أهل العلم . وقال أبو حنيفة : إن صلى للزلزلة فقد أحسن وإلا فلا حرج وروي عن ابن عباس أنه صلى لها مثل صلاة الكسوف
الباب السابع في صلاة الاستسقاء
- أجمع العلماء على أن الخروج إلى الاستسقاء والبروز عن المصر والدعاء إلى الله تعالى والتضرع إليه في نزول المطر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا في الصلاة في الاستسقاء فالجمهور على أن ذلك من سنة الخروج إلى الاستسقاء إلا أبا حنيفة فإنه قال : ليس من سنته الصلاة . وسبب الخلاف أنه ورد في بعض الآثار أنه استسقى وصلى وفي بعضها لم يذكر فيها صلاة ومن أشهر ما ورد في أنه صلى وبه أخذ الجمهور حديث عباد بن تميم عن عمه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر فيها بالقراءة ورفع يديه حذو منكبيه وحول رداءه واستقبل القبلة واستسقى " خرجه البخاري ومسلم . وأما الأحاديث التي ذكر فيها الاستسقاء وليس فيها ذكر للصلاة فمنها حديث أنس بن مالك خرجه مسلم أنه قال " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هلكت المواشي وتقطعت السبل فادع الله فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة " ومنها حديث عبد الله بن زيد المازني وفيه أنه قال " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة " ولم يذكر فيه صلاة وزعم القائلون بظاهر هذا الأثر أن ذلك مروي عن عمر بن الخطاب أعني أنه خرج إلى المصلى فاستسقى ولم يصل والحجة للجمهور أنه لم يذكر شيئا فليس هو بحجة على من ذكره والذي يدل عليه اختلاف الآثار في ذلك ليس عندي فيه شيء أكثر من أن الصلاة ليست من شرط صحة الاستسقاء إذ قد ثبت أنه E قد استسقى على المنبر لا أنها ليست من سنته كما ذهب إليه أبو حنيفة . وأجمع القائلون بأن الصلاة من سنته على أن الخطبة أيضا من سنته لورود ذلك في الأثر . قال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الاستسقاء وخطب واختلفوا هل هي قبل الصلاة أو بعدها ؟ لاختلاف الآثار في ذلك فرأى قوم أنها بعد الصلاة قياسا على العيدين وبه قال الشافعي ومالك . وقال الليث بن سعد : الخطبة قبل الصلاة . قال ابن المنذر : " قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استسقى فخطب قبل الصلاة " وروي عن عمر بن الخطاب مثل ذلك وبه نأخذ . قال القاضي : وقد خرج ذلك أبو داود من طرق ومن ذكر الخطبة فإنما ذكرها في علمي قبل الصلاة واتفقوا على أن القراءة فيها جهرا واختلفوا هل يكبر فيها كما يكبر في العيدين ؟ فذهب مالك إلى أنه يكبر فيها كما يكبر في سائر الصلوات وذهب الشافعي إلى أنه يكبر فيها كما يكبر في العيدين . وسبب الخلاف اختلافهم في قياسها على صلاة العيدين . وقد احتج الشافعي لمذهبه في ذلك بما روي عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيها ركعتين كما يصلي في العيدين " واتفقوا على أن من سنتها أن يستقبل الإمام القبلة واقفا ويدعو ويحول رداءه رافعا يديه على ما جاء في الآثار واختلفوا في كيفية ذلك ومتى يفعل ذلك . فأما كيفية ذلك ؟ فالجمهور على أنه يجعل ما على يمينه على شماله وما على شماله على يمينه . وقال الشافعي : بل يجعل أعلاه أسفله وما على يمينه منه على يساره وما على يساره على يمينه . وسبب الاختلاف اختلاف الآثار في ذلك وذلك أنه جاء في حديث عبد الله ابن زيد " أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى يستسقي فاستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين " وفي بعض رواياته قلت : أجعل الشمال على اليمين واليمين على الشمال أم أجعل أعلاه أسفله ؟ قال : بل اجعل الشمال على اليمين واليمين على الشمال . وجاء أيضا في حديث عبد الله هذا أنه قال " استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة له سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه " وأما متى يفعل الإمام ذلك فإن مالكا والشافعي قالا : يفعل ذلك عند الفراغ من الخطبة . وقال أبو يوسف : يحول رداءه إذا مضى صدر من الخطبة وروي ذلك أيضا عن مالك وكلهم يقول : إنه إذا حول الإمام رداءه قائما حول الناس أرديتهم جلوسا لقوله E " إنما جعل الإمام ليؤتم به " إلا محمد بن الحسن والليث ابن سعد وبعض أصحاب مالك فإن الناس عندهم لا يحولون أرديتهم بتحويل الإمام لأنه لم ينقل ذلك في صلاته E بهم وجماعة من العلماء على أن الخروج لها وقت الخروج إلى صلاة العيدين إلا أبا بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم فإنه قال : إن الخروج إليها عند الزوال . وروى أبو داود عن عائشة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الاستسقاء حين بدا حاجب الشمس "
الباب الثامن في صلاة العيدين
- أجمع العلماء على استحسان الغسل لصلاة العيدين وأنهما بلا أذان ولا إقامة لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما أحدث من ذلك معاوية في أصح الأقاويل قاله أبو عمر . وكذلك أجمعوا على أن السنة فيها تقديم الصلاة على الخطبة لثبوت ذلك أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما روي عن عثمان بن عفان أنه أخر الصلاة وقدم الخطبة لئلا يفترق الناس قبل الخطبة وأجمعوا أيضا على أنه لا توقيت في القراءة في العيدين وأكثرهم استحب أن يقرأ في الأولى بسبح وفي الثانية بالغاشية لتواتر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحب الشافعي القراءة فيهما ب " ق والقرآن المجيد " و " اقتربت الساعة " لثبوت ذلك عنه E . واختلفوا من ذلك في مسائل أشهرها اختلافهم في التكبير وذلك أنه حكى في ذلك أبو بكر بن المنذر نحوا من اثني عشر قولا إلا أنا نذكر من ذلك المشهور الذي يستند إلى صحابي أو سماع فنقول : ذهب مالك إلى أن التكبير في الأولى من ركعتي العيدين سبع مع تكبيرة الإحرام قبل القراءة وفي الثانية ست مع تكبيرة القيام من السجود . وقال الشافعي : في الأولى ثمانية ( أي ومنها تكبيرة الإحرام ا ه مصححه ) وفي الثانية ست مع تكبيرة القيام من السجود . وقال أبو حنيفة : يكبر في الأولى ثلاثا بعد تكبيرة الإحرام يرفع يديه فيها ثم يقرأ أم القرآن وسورة ثم يكبر راكعا ولا يرفع يديه فإذا قام إلى الثانية وكبر ولم يرفع يديه وقرأ فاتحة الكتاب وسورة ثم كبر ثلاث تكبيرات يرفع فيها يديه ثم يكبر للركوع ولا يرفع فيها يديه . وقال قوم : فيها تسع في كل ركعة وهو مروي عن ابن عباس والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك وسعيد بن المسيب وبه قال النخعي وسبب اختلافهم اختلاف الآثار المنقولة في ذلك عن الصحابة فذهب مالك رحمه الله إلى ما رواه عن ابن عمر أنه قال شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة فكبر في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة في الآخرة خمسا قبل القراءة ولأن العمل عنده بالمدينة كان على هذا وبهذا الأثر بعينه أخذ الشافعي إلا أنه تأول في السبع أنه ليس فيها تكبيرة الإحرام كما ليس في الخمس تكبيرة القيام ويشبه أن يكون مالك إنما أصاره أن يعد تكبيرة الإحرام في السبع ويعد تكبيرة القيام زائدا على الخمس المروية أن العمل ألفاه على ذلك فكأنه عنده وجه من الجمع بين الأثر والعمل وقد خرج أبو داود معنى حديث أبي هريرة مرفوعا عن عائشة وعن عمرو بن العاص . وروى أنه سئل أبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان : كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الأضحى والفطر ؟ فقال أبو موسى كان " يكبر أربعا على الجنائز " فقال حذيفة : صدق فقال أبو موسى : كذلك كنت أكبر في البصرة حين كنت عليهم وقال قوم بهذا
وأما أبو حنيفة وسائر الكوفيين فإنهم اعتمدوا في ذلك على ابن مسعود وذلك أنه ثبت عنه أنه كان يعلمهم صلاة العيدين على الصفة المتقدمة وإنما صار الجميع إلى الأخذ بأقاويل الصحابة في هذه المسألة لأنه لم يثبت فيها عن النبي E شيء ومعلوم أن فعل الصحابة في ذلك هو توقيف إذ لا مدخل للقياس في ذلك . وكذلك اختلفوا في رفع اليدين عند كل تكبيرة فمنهم من رأى ذلك وهو مذهب الشافعي ومنهم من لم ير الرفع إلا في الاستفتاح فقط ومنهم من خير . واختلفوا فيمن تجب عليه صلاة العيد : أعني وجوب السنة فقالت طائفة : يصليها الحاضر والمسافر وبه قال الشافعي والحسن البصري وكذلك قال الشافعي إنه يصليها أهل البوادي ومن لا يجمع حتى المرأة في بيتها وقال أبو حنيفة وأصحابه : إنما تجب صلاة الجمعة والعيدين على أهل الأمصار والمدائن . وروي عن علي أنه قال : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع . وروي عن الزهري أنه قال : لا صلاة فطر ولا أضحى على مسافر . والسبب في هذا الاختلاف اختلافهم في قياسها على الجمعة فمن قاسها على الجمعة كان مذهبه فيها مذهبه في الجمعة ومن لم يقسها رأى أن الأصل وهو أن كل مكلف مخاطب بها حتى يثبت استثناؤه من الخطاب
قال القاضي : قد فرقت السنة بين الحكم للنساء في العيدين والجمعة وذلك أنه ثبت أنه E أمر النساء بالخروج للعيدين ولم يأمر بذلك في الجمعة " وكذلك اختلفوا في الموضع الذي يجب منه المجيء إليها كاختلافهم في صلاة الجمعة من الثلاثة الأميال إلى مسيرة اليوم التام . واتفقوا على أن وقتها من شروق الشمس إلى الزوال . واختلفوا فيمن لم يأتهم علم بأنه العيد إلا بعد الزوال فقالت طائفة : ليس عليهم أن يصلوا يومهم ولا من الغد وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور وقال آخرون : يخرجون إلى الصلاة في غداة ثاني العيد وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق . قال أبو بكر بن المنذر : وبه نقول لحديث رويناه عن النبي E " أنه أمرهم أن يفطروا فإذا أصبحوا أن يعودوا إلى مصلاهم " قال القاضي : خرجه أبو داود إلا أنه عن صحابي مجهول ولكن الأصل فيهم رضي الله عنهم حملهم على العدالة
واختلفوا إذا اجتمع في يوم واحد عيد وجمعة هل يجزئ العيد عن الجمعة ؟ فقال قوم : يجزئ العيد عن الجمعة وليس عليه في ذلك اليوم إلا العصر فقط وبه قال عطاء وروي ذلك عن ابن الزبير وعلي . وقال قوم : هذه رخصة لأهل البوادي الذين يردون الأمصار للعيد والجمعة خاصة كما روي عن عثمان أنه خطب في يوم عيد وجمعة فقال : من أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظر ومن أحب أن يرجع فليرجع رواه مالك في الموطأ وروى نحوه عن عمر بن عبد العزيز وبه قال الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة : إذا اجتمع عيد وجمعة فالمكلف مخاطب بهما جميعا العيد على أنه سنة والجمعة على أنها فرض ولا ينوب أحدهما عن الأخر وهذا هو الأصل إلا أن يثبت في ذلك شرع يجب المصير إليه ومن تمسك بقول عثمان فلأنه رأى أن مثل ذلك ليس هو بالرأي وإنما هو توقيف وليس هو بخارج عن الأصول كل الخروج . وأما إسقاط فرض الظهر والجمعة التي هي بدله لمكان صلاة العيد فخارج عن الأصول جدا إلا أن يثبت في ذلك شرع يجب المصير إليه . واختلفوا فيمن تفوته صلاة العيد مع الإمام فقال قوم : يصلي أربعا وبه قال أحمد والثوري وهو مروي عن ابن مسعود . وقال قوم : بل يقضيها على صفة صلاة الإمام ركعتين يكبر فيهما نحو تكبيره ويجهر كجهره وبه قال الشافعي وأبو ثور . وقال قوم : بل ركعتين فقط لا يجهر فيهما ولا يكبر تكبيرة العيد . وقال قوم : إن صلى الإمام في المصلى صلى ركعتين وإن صلى في غير المصلى صلى أربع ركعات . وقال قوم : لا قضاء عليه أصلا وهو قول مالك وأصحابه . وحكى ابن المنذر عنه مثل قول الشافعي فمن قال أربعا شبهها بصلاة الجمعة وهو تشبيه ضعيف ومن قال ركعتين كما صلاهما الإمام فمصيرا إلى أن الأصل هو أن القضاء يجب أن يكون على صفة الأداء ومن منع القضاء فلأنه رأى أنها صلاة من شرطها الجماعة والإمام كالجمعة فلم يجب قضاؤها ركعتين ولا أربعا إذ ليست هي بدلا من شيء وهذان القولان هما اللذان يتردد فيهما النظر : أعني قول الشافعي وقول مالك . وأما سائر الأقاويل في ذلك فضعيف لا معنى له لأن صلاة الجمعة بدل من الظهر وهذه ليست بدلا من شيء فكيف يجب أن تقاس إحداهما على الأخرى في القضاء وعلى الحقيقة فليس من فاتته الجمعة فصلاته للظهر قضاء بل هي أداء لأنه إذا فاته البدل وجبت هي والله الموفق للصواب
واختلفوا في التنفل قبل صلاة العيد وبعدها فالجمهور على أنه لا يتنفل لا قبلها ولا بعدها وهو مروي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وحذيفة وجابر وبه قال أحمد . وقيل يتنفل قبلها وبعدها وهو مذهب أنس وعروة وبه قال الشافعي . وفيه قول ثالث وهو أن لا يتنفل بعدها ولا يتنفل قبلها وقال به الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وهو مروي أيضا عن ابن مسعود وفرق قوم بين أن تكون الصلاة في المصلى أو في المسجد وهو مشهور مذهب مالك . وسبب اختلافهم أنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم فطر أو يوم أضحى فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما " وقال E " إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين " وترددها أيضا من حيث هي مشروعة بين أن يكون حكمها في استحباب التنفل قبلها وبعدها حكم المكتوبة أو لا يكون ذلك حكمها ؟ فمن رأى أنه تركه الصلاة قبلها وبعدها هو من باب ترك الصلاة قبل السنن وبعدها ولم ينطلق اسم المسجد عنده على المصلى لم يستحب تنفلا قبلها ولا بعدها ولذلك تردد المذهب في الصلاة قبلها إذا صليت في المسجد لكون دليل الفعل معارضا في ذلك القول أعني أنه من حيث هو داخل في مسجد يستحب له الركوع ومن حيث هو مصل صلاة العيد يستحب له أن لا يركع تشبها بفعله E . ومن رأى أن ذلك من باب الرخصة ورآى أن اسم المسجد ينطلق على المصلى ندب إلى التنفل قبلها . ومن شبهها بالصلاة المفروضة استحب التنفل قبلها وبعدها كما قلنا . ورأى قوم أن التنفل قبلها وبعدها من باب المباح الجائز لا من باب المندوب ولا من باب المكروه وهو أقل اشتباها إن لم يتناول اسم المسجد المصلى . واختلفوا في وقت التكبير في عيد الفطر بعد أن أجمع على استحبابه الجمهور لقوله تعالى { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم } فقال جمهور العلماء : يكبر عند الغدو إلى الصلاة وهو مذهب ابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور
وقال قوم يكبر من ليلة الفطر إذا رأوا الهلال حتى يغدو إلى المصلى وحتى يخرج الإمام وكذلك في ليلة الأضحى عندهم إن لم يكن حاجا . وروي عن ابن عباس إنكار التكبير جملة إلا إذا كبر الإمام واتفقوا أيضا على التكبير في أدبار الصلوات أيام الحج . واختلفوا في توقيت ذلك اختلافا كثيرا فقال قوم : يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق وبه قال سفيان وأحمد وأبو ثور . وقيل يكبر من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق وهو قول مالك والشافعي . وقال الزهري مضت السنة أن يكبر الإمام في الأمصار دبر صلاة الظهر من يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق
وبالجملة فالخلاف في ذلك كثير حكى ابن المنذر فيها عشرة أقوال . وسبب اختلافهم في ذلك هو أنه نقلت بالعمل ولم ينقل في ذلك قول محدود فلما اختلفت الصحابة في ذلك اختلف من بعدهم . والأصل في هذا الباب قوله تعالى { واذكروا الله في أيام معدودات } فهذا الخطاب وإن كان المقصود به أولا أهل الحج فإن الجمهور رأوا أنه يعم أهل الحج وغيرهم وتلقى ذلك بالعمل وإن كانوا اختلفوا في التوقيت في ذلك ولعل التوقيت في ذلك على التخيير لأنهم كلهم أجمعوا على التوقيت واختلفوا فيه . وقال قوم : التكبير دبر الصلاة في هذه الأيام إنما هو لمن صلى في جماعة وكذلك اختلفوا في صفة التكبير في هذه الأيام فقال مالك والشافعي : يكبر ثلاثا الله أكبر الله أكبر الله أكبر . وقيل يزيد بعد هذا لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . وروي عن ابن عباس أنه يقول : الله أكبر كبيرا ثلاث مرات ثم يقول الرابعة ولله الحمد . وقالت جماعة : ليس فيه شيء مؤقت . والسبب في هذا الاختلاف عدم التحديد في ذلك في الشرع مع فهمهم من الشرع في ذلك التوقيت : أعني فهم الأكثر . وهذا هو السبب في اختلافهم في توقيت زمان التكبير أعني فهم التوقيت مع عدم النص في ذلك وأجمعوا على أنه يستحب أن يفطر في عيد الفطر قبل الغدو إلى المصلى وأن لا يفطر يوم الأضحى إلا بعد الانصراف من الصلاة وأنه يستحب أن يرجع من غير الطريق التي مشى عليها لثبوت ذلك من فعله E
الباب التاسع في سجود القرآن
- والكلام في هذا الباب ينحصر في خمسة فصول : في حكم السجود . وفي عدد السجدات التي لها عزائم أعني التي يسجد لها . وفي الأوقات التي يسجد لها . وعلى من يجب السجود . وفي صفة السجود . فأما حكم سجود التلاوة فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا : هو واجب وقال مالك والشافعي : هو مسنون وليس بواجب . وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم الأوامر بالسجود والأخبار التي معناها معنى الأوامر بالسجود مثل قوله تعالى { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا } هل هي محمولة على الوجوب أو على الندب فأبو حنيفة حملها على ظاهرها من الوجوب ومالك والشافعي اتبعا في مفهومها الصحابة إذ كانوا هم أقعد بفهم الأوامر الشرعية وذلك أنه لما ثبت أن عمر بن الخطاب قرأ السجدة يوم الجمعة فنزل وسجد وسجد الناس فلما كان في الجمعة الثانية وقرأها تهيأ الناس للسجود فقال : على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء قالوا وهذا بمحضر الصحابة فلم ينقل عن أحد منهم خلاف وهم أفهم بمغزى الشرع وهذا إنما يحتج به من يرى قول الصحابي إذا لم يكن له مخالف حجة وقد احتج أصحاب الشافعي في ذلك بحديث زيد بن ثابت أنه قال " كنت أقرأ القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأت سورة الحج فلم يسجد ولم نسجد " وكذلك أيضا يحتج لهؤلاء بما روي عنه E " أنه لم يسجد في المفصل " وبما روي أنه سجد فيها لأن وجه الجمع بين ذلك يقتضي أن لا يكون السجود واجبا وذلك بأن يكون كل واحد منهم حدث بما رأى ومن قال إنه سجد ومن قال إنه لم يسجد . وأما أبو حنيفة فتمسك في ذلك بأن الأصل هو حمل الأوامر على الوجوب والأخبار التي تتنزل منزلة الأوامر وقد قال أبو المعالي : إن احتجاج أبي حنيفة بالأوامر الواردة بالسجود في ذلك لا معنى له فإن إيجاب السجود مطلقا ليس يقتضي وجوبه مقيدا وهو عند القراءة : أعني قراءة آية السجود قال : ولو كان الأمر كما زعم أبو حنيفة لكانت الصلاة تجب عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالصلاة وإذا لم يجب ذلك فليس يجب السجود عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالسجود من الأمر بالسجود
ولأبي حنيفة أن يقول قد أجمع المسلمون على أن الأخبار الواردة في السجود عند تلاوة القرآن هي بمعنى الأمر وذلك في أكثر المواضع وإذا كان ذلك كذلك فقد ورد الأمر بالسجود مقيدا بالتلاوة أعني عند التلاوة وورد الأمر به مطلقا فوجب حمل المطلق على المقيد وليس الأمر في ذلك بالسجود كالأمر بالصلاة فإن الصلاة قيد وجوبها بقيود أخر وأيضا فإن النبي E قد سجد فيها فبين لنا بذلك معنى الأمر بالسجود الوارد فيها : أعني أنه عند التلاوة فوجب أن يحمل مقتضى الأمر في الوجوب عليه . وأما عدد عزائم سجود القرآن فإن مالكا قال في الموطأ : الأمر عندنا أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء وقال أصحابه : أولها خاتمة الأعراف وثانيها في الرعد عند قوله تعالى { بالغدو والأصال } وثالثها في النحل عند قوله تعالى { ويفعلون ما يؤمرون } ورابعها في بني إسرائيل عند قوله تعالى { ويزيدهم خشوعا } وخامسها في مريم عند قوله تعالى { خروا سجدا وبكيا } وسادسها الأولى من الحج عند قوله تعالى { إن الله يفعل ما يشاء } وسابعها في الفرقان عند قوله تعالى { وزادهم نفورا } وثامنها في النمل عند قوله تعالى { رب العرش العظيم } وتاسعها في { الم تنزيل } عند قوله تعالى { وهم لا يستكبرون } وعاشرها في { ص } عند قوله تعالى { وخر راكعا وأناب } والحادية عشرة في { حم تنزيل } عند قوله تعالى { إن كنتم إياه تعبدون } وقيل عند قوله { وهم لا يسأمون } وقال الشافعي : أربع عشرة سجدة : ثلاث منها في المفصل : في الانشقاق وفي النجم وفي { اقرأ باسم ربك } ولم ير في { ص } سجدة لأنها عنده من باب الشكر . وقال أحمد : هي خمسة عشرة سجدة أثبت فيها الثانية من الحج وسجدة { ص } وقال أبو حنيفة : هي اثنتا عشرة سجدة . قال الطحاوي : وهي كل سجدة جاءت بلفظ الخبر . والسبب في اختلافهم اختلافهم في المذاهب التي اعتمدوها في تصحيح عددها وذلك أن منهم من اعتمد عمل أهل المدينة ومنهم من اعتمد القياس ومنهم من اعتمد السماع
أما الذين اعتمدوا العمل فمالك وأصحابه . وأما الذين اعتمدوا القياس فأبو حنيفة وأصحابه وذلك أنهم قالوا : وجدنا السجدات التي أجمع عليها جاءت بصيغة الخبر وهي سجدة الأعراف والنحل والرعد والإسراء ومريم وأول الحج والفرقان والنمل والم تنزيل فوجب أن تلحق بها سائر السجدات التي جاءت بصيغة الخبر وهي التي في ص وفي الانشقاق ويسقط ثلاثة جاءت بلفظ الأمر وهي التي في والنجم وفي الثانية من الحج وفي اقرأ باسم ربك وأما الذين اعتمدوا السماع فإنهم صاروا إلى ما ثبت عنه E من سجوده في الانشقاق وفي { اقرأ باسم ربك } وفي { والنجم } خرج ذلك مسلم . وقال الأثرم : سئل أحمد كم في الحج من سجدة ؟ قال سجدتان . وصحح حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " في الحج سجدتان " وهو قول عمر وعلي
قال القاضي : خرجه أبو داود . وأما الشافعي فإنه إنما صار إلى إسقاط سجدة ص لما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري " أن النبي E قرأ وهو على المنبر آية السجود من سورة { ص } فنزل وسجد فلما كان يوم آخر قرأها فتهيأ الناس للسجود فقال : إنما هي توبة نبي ولكن رأيتكم تشيرون للسجود فنزلت فسجدت " وفي هذا ضرب من الحجة لأبي حنيفة في قوله بوجوب السجود لأنه علل ترك السجود في هذه السجدة بعلة انتفت في غيرها من السجدات فوجب أن يكون حكم التي انتفت عنها العلة بخلاف التي ثبتت لها العلة وهو نوع من الاستدلال وفيه اختلاف لأنه من باب تجويز دليل الخطاب . وقد احتج بعض من لم ير السجود في المفصل بحديث عكرمة عن ابن عباس خرجه أبو داود " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ هاجر إلى المدينة " قال أبو عمر : وهو منكر لأن أبا هريرة الذي روى سجوده في المفصل لم يصحبه E إلا بالمدينة . وقد روى الثقات عنه " أنه سجد E في والنجم " . وأما وقت السجود فإنهم اختلفوا فيه فمنع قوم السجود في الأوقات المنهى عن الصلاة فيها وهو مذهب أبي حنيفة على أصله في منع الصلوات المفروضة في هذه الأوقات ومنع مالك أيضا ذلك في الموطأ لأنها عنده من النفل والنفل ممنوع في هذه الأوقات عنده . وروى ابن القاسم عنه أنه يسجد فيها بعد العصر مالم تصفر الشمس أو تتغير وكذلك بعد الصبح وبه قال الشافعي وهذا بناء على أنها سنة وأن السنن تصلى في هذه الأوقات ما لم تدن الشمس من الغروب أو الطلوع . وأما على من يتوجه حكمها ؟ فأجمعوا على أنه يتوجه على القارئ في صلاة كان أو في غير صلاة . واختلفوا في السامع هل عليه سجود أم لا ؟ فقال أبو حنيفة : عليه السجود ولم يفرق بين الرجل والمرأة . وقال مالك : يسجد السامع بشرطين : أحدهما إذا كان قعد ليسمع القرآن والآخر أن يكون القارئ يسجد وهو مع هذا ممن يصح أن يكون إماما للسامع . وروى ابن القاسم عن مالك أنه يسجد السامع وإن كان القارئ ممن لا يصلح الإمامة إذا جلس إليه . وأما صفة السجود فإن جمهور الفقهاء قالوا : إذا سجد القارئ كبر إذا خفض وإذا رفع واختلف قول مالك في ذلك إذا كان في غير صلاة . وأما إذا كان في الصلاة فإنه يكبر قولا واحدا
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله
كتاب أحكام الميت
- والكلام في هذا الكتاب وهي حقوق الأموات على الأحياء . ينقسم إلى ست جمل : الجملة الأولى : فيما يستحب أن يفعل به عند الاحتضار وبعده . الثانية : في غسله . الثالثة : في تكفينه . الرابعة : في حمله واتباعه . الخامسة : في الصلاة عليه . السادسة : في دفنه
الباب الأول . فيما يستحب أن يفعل به عند الاحتضار وبعده
- ويستحب أن يلقن الميت عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله لقوله E " لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله " وقوله " من كان آخر قوله لا إله إلا الله دخل الجنة " . واختلفوا في استحباب توجيهه إلى القبلة فرأى ذلك قوم ولم يره آخرون . وروي عن مالك أنه قال في التوجيه : ما هو من الأمر القديم . وروي عن سعيد بن المسيب أنه أنكر ذلك ولم يرو ذلك عن أحد من الصحابة ولا من التابعين : أعني الأمر بالتوجيه فإذا قضى الميت غمض عينيه ويستحب تعجيل دفنه لورود الآثار بذلك إلا الغريق فإنه يستحب في المذهب تأخير دفنه مخافة أن يكون الماء قد غمره فلم تتبين حياته . قال القاضي : وإذا قيل هذا في الغريق فهو أولى في كثير من المرضى مثل الذين يصيبهم انطباق العروق وغير ذلك مما هو معروف عند الأطباء حتى قال الأطباء إن المسكوتين لا ينبغي أن يدفنوا إلا بعد ثلاث
الباب الثاني في غسل الميت
- ويتعلق بهذا الباب فصول أربعة : منها في حكم الغسل . ومنها فيمن يجب غسله من الموتى . ومن يجوز أن يغسل وما حكم الغاسل ومنها في صفة الغسل
الفصل الأول في حكم الغسل
- فأما حكم الغسل فإنه قيل فيه إنه فرض على الكفاية . وقيل سنة على الكفاية . والقولان كلاهما في المذهب . والسبب في ذلك أنه نقل بالعمل لا بالقول والعمل ليس له صيغة تفهم الوجوب أو لا تفهمه . وقد احتج عبد الوهاب لوجوبه بقوله E في ابنته " اغسلنها ثلاثا أو خمسا " وبقوله في المحرم " اغسلوه " فمن رأى أن هذا القول خرج مخرج تعليم لصفة الغسل لا مخرج الأمر به لم يقل بوجوبه ومن رأى أنه يتضمن الأمر والصفة قال : بوجوبه
الفصل الثاني فيمن يجب غسله من الموتى
- وأما الأموات الذين يجب غسلهم فإنهم اتفقوا من ذلك على غسل الميت المسلم الذي لم يقتل في معترك حرب الكفار . واختلفوا في غسل الشهيد وفي الصلاة عليه وفي غسل المشرك . فأما الشهيد : أعني الذي قتله في المعترك المشركون فإن الجمهور على ترك غسله لما روي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد فدفنوا بثيابهم ولم يصل عليهم " وكان الحسن وسعيد ابن المسيب يقولان : يغسل كل مسلم فإن كل ميت يجنب ولعلهم كانوا يرون إن ما فعل بقتلى أحد كان لموضع الضرورة : أعني المشقة في غسلهم وقال بقولهم من فقهاء الأمصار عبيد الله بن الحسن العنبري . وسئل أبو عمر فيما حكى ابن المنذر عن غسل الشهيد فقال : قد غسل عمر وكفن وحنط وصلى عليه وكان شهيدا يC . واختلف الذين اتفقوا على أن الشهيد في حرب المشركين لا يغسل في الشهداء من قتل اللصوص أو غير أهل الشرك . فقال الأوزاعي وأحمد وجماعة حكمهم حكم من قتله أهل الشرك . وقال مالك والشافعي : يغسل . وسبب اختلافهم هو هل الموجب لرفع حكم الغسل هي الشهادة مطلقا أو الشهادة على أيدي الكفار فمن رأى أن سبب ذلك هي الشهادة مطلقا قال : لا يغسل كل من نص عليه النبي E أنه شهيد ممن قتل . ومن رأى أن سبب ذلك هي الشهادة من الكفار قصر ذلك عليهم . وأما غسل المسلم الكافر فكان مالك يقول : لا يغسل المسلم والده الكافر ولا يقبره إلا أن يخاف ضياعه فيواريه . وقال الشافعي : لابأس بغسل المسلم قرابته من المشركين ودفنهم وبه قال أبو ثور وأبو حنيفة وأصحابه قال أبو بكر بن المنذر : ليس في غسل الميت المشرك سنة تتبع وقد روى " أن النبي E . أمر بغسل عمه لما مات " . وسبب الخلاف هل الغسل من باب العبادة أو من باب النظافة ؟ فإن كانت عبادة لم يجز غسل الكافر وإن كانت نظافة جاز غسله
الفصل الثالث فيمن يجوز أن يغسل الميت
- وأما من يجوز أن يغسل الميت فإنهم اتفقوا على أن الرجال يغسلون الرجال والنساء يغسلون النساء . واختلفوا في المرأة تموت مع الرجال أو الرجل يموت مع النساء ما لم يكونا زوجين على ثلاثة أقوال : فقال قوم : يغسل كل واحد منهما صاحبه من فوق الثياب . وقال قوم : ييمم كل واحد منهما صاحبه وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء . وقال قوم : لا يغسل واحد منهما صاحبه ولا ييممه وبه قال الليث بن سعد بل يدفن من غير غسل . وسبب اختلافهم هو الترجيح بين تغليب النهي على الأمر أو الأمر على النهي وذلك أن الغسل مأمور به ونظر الرجل إلى بدن المرأة والمرأة إلى بدن الرجل منهي عنه . فمن غلب النهي تغليبا مطلقا أعني لم يقس الميت على الحي في كون الطهارة التراب له بدلا من طهارة الماء عند تعذرها قال : لا يغسل واحد منهما صاحبه ولا ييممه . ومن غلب الأمر على النهي قال يغسل كل واحد منهما صاحبه : أعني غلب الأمر على النهي تغليبا مطلقا . ومن ذهب إلى التيمم فلأنه رأى أنه لا يلحق الأمر والنهي في ذلك تعارض وذلك أن النظر إلى مواضع التيمم يجوز لكل الصنفين ولذلك رأى مالك أن ييمم الرجل المرأة في يديها ووجهها فقط لكون ذلك منها ليسا بعورة وأن تيمم المرأة الرجل إلى المرفقين لأنه ليس من الرجل عورة إلا من السرة إلى الركبة على مذهبه فكأن الضرورة التي نقلت الميت من الغسل إلى التيمم عند من قال به هي تعارض الأمر والنهي فكأنه شبه هذه الضرورة بالضرورة التي يجوز معها للحي التيمم وهو تشبيه فيه بعد ولكن عليه الجمهور . فأما مالك فاختلف في قوله هذه المسألة فمرة قال : ييمم كل واحد منهما صاحبه قولا مطلقا ومرة فرق في ذلك بين ذوي المحارم وغيرهم ومرة فرق في ذوي المحارم بين الرجال والنساء فيتحصل عنه أن له في ذوي المحارم ثلاثة أقوال : أشهرها أنه يغسل كل واحد منهما على الثياب . والثاني أنه لا يغسل أحدهما صاحبه لكن ييممه مثل قول الجمهور في غير ذوي المحارم . والثالث الفرق بين الرجال والنساء : أعني تغسل المرأة الرجل ولا يغسل الرجل المرأة . فسبب المنع أن كل واحد منهما لا يحل له أن ينظر إلى موضع الغسل من صاحبه كالأجانب سواء . وسبب الإباحة أنه موضع ضرورة وهم أعذر في ذلك من الأجنبي . وسبب الفرق أن نظر الرجال إلى النساء أغلظ من نظر النساء إلى الرجال بدليل أن النساء حجبن عن نظر الرجال إليهن ولم يحجب الرجال عن النساء . وأجمعوا من هذا الباب على جواز غسل المرأة زوجها . واختلفوا في جواز غسله إياها فالجمهور على جواز ذلك وقال أبو حنيفة : لا يجوز غسل الرجل لزوجته . وسبب اختلافهم هو تشبيه الموت بالطلاق فمن شبهه بالطلاق قال : لا يحل أن ينظر إليها بعد الموت ومن لم يشبهه بالطلاق وهم الجمهور قال : إن ما يحل له من النظر إليها قبل الموت يحل له بعد الموت وإنما دعا أبا حنيفة أن يشبه الموت بالطلاق لأنه رأى أنه إذا ماتت إحدى الأختين حل له نكاح الأخرى كالحال فيها إذا طلقت وهذا فيه بعد فإن علة منع الجمع مرتفعة بين الحي والميت ولذلك حلت إلا أن يقال إن علة منع الجمع غير معقوله وإن منع الجمع بين الأختين عبادة محضة غير معقولة المعنى فيقوى حينئذ مذهب أبي حنيفة وكذلك أجمعوا على أن المطلقة المبتوتة لا تغسل زوجها واختلفوا في الرجعية فروي عن مالك أنها تغسله وبه قال أبو حنيفة وأصحابه . وقال ابن القاسم : لا تغسله وإن كان الطلاق رجعيا وهو قياس قول مالك لأنه ليس يجوز عنده أن يراها وبه قال الشافعي . وسبب اختلافهم هو هل يحل للزوج أن ينظر إلى الرجعية أو لا ينظر إليها ؟ وأما حكم الغاسل فإنهم اختلفوا فيما يجب عليه فقال قوم : من غسل ميتا وجب عليه الغسل . وقال قوم : لا غسل عليه . وسبب اختلافهم معارضة حديث أبي هريرة لحديث أسماء وذلك أن أبا هريرة روى عن النبي E أنه قال " من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ " خرجه أبو داود . وأما حديث أسماء فإنها لما غسلت أبا بكر رضي الله عنه خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين والأنصار وقالت إني صائمة وإن هذا يوم شديد البرد فهل علي من غسل ؟ قالوا : لا وحديث أسماء في هذا صحيح . وأما حديث أبي هريرة فهو عند أكثر أهل العلم فيما حكى أبو عمر غير صحيح لكن حديث أسماء ليس فيه في الحقيقة معارضة له فإن من أنكر الشيء يحتمل أن يكون ذلك لأنه لم تبلغه السنة في ذلك الشيء وسؤال أسماء والله أعلم يدل على الخلاف في ذلك في الصدر الأول ولهذا كله قال الشافعي رضي الله عنه على عادته في الاحتياط والالتفات إلى الأثر لا غسل على من غسل الميت إلا أن يثبت حديث أبي هريرة
الفصل الرابع في صفة الغسل . وفي هذا الفصل مسائل :
- ( إحداها ) هل ينزع عن الميت قميصه إذا غسل ؟ أم يغسل في قميصه ؟ اختلفوا في ذلك فقال مالك : إذا غسل الميت تنزع ثيابه وتستر عورته وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي : يغسل في قميصه . وسبب اختلافهم تردد غسله E في قميصه بين أن يكون خاصا به وبين أن يكون سنة فمن رأى أنه خاص به أنه لا يحرم من النظر إلى الميت إلا ما يحرم منه وهو حي قال : يغسل عريانا إلا عورته فقط التي يحرم النظر إليها في حال الحياة . ومن رأى أن ذلك سنة يستند إلى باب الإجماع أو إلى الأمر الإلهي لأنه روي في الحديث أنهم سمعوا صوتا يقول لهم : لا تنزعوا القميص وقد ألقي عليهم النوم قال : الأفضل أن يغسل الميت في قميصه
- ( المسألة الثانية ) قال أبو حنيفة : لا يوضأ الميت . وقال الشافعي : يوضأ . وقال مالك : إن وضئ فحسن . وسبب الخلاف في ذلك معارضة القياس للأثر . وذلك أن القياس يقتضي أن لا وضوء على الميت لأن الوضوء طهارة مفروضة لموضع العبادة وإذا أسقطت العبادة عن الميت سقط شرطها الذي هو الوضوء ولولا أن الغسل ورد في الآثار لما وجب غسله . وظاهر حديث أم عطية الثابت أن الوضوء شرط في غسل الميت لأن فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غسل ابنته " ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها " وهذه الزيادة ثابتة خرجها البخاري ومسلم ولذلك يجب أن تعارض بالروايات التي فيها الغسل مطلقا لأن المقيد يقضي على المطلق إذ فيه زيادة على ما يراه كثير من الناس ويشبه أيضا أن يكون من أسباب الخلاف في ذلك معارضة المطلق للمقيد وذلك أنه وردت آثار كثيرة فيها الأمر بالغسل مطلقا من غير ذكر وضوء فيها فهؤلاء رجحوا الإطلاق على التقييد لمعارضة القياس له في هذا الموضع . والشافعي جرى على الأصل من حمل المطلق على المقيد
- ( المسألة الثالثة ) اختلفوا في التوقيت في الغسل فمنهم من أوجبه ومنهم من استحسنه واستحبه . والذين أوجبوا التوقيت منهم من أوجب الوتر أي وتر كان وبه قال ابن سيرين . ومنهم من أوجب الثلاثة فقط وهو أبو حنيفة . ومنهم من حد أقل الوتر في ذلك فقال : لا ينقص عن الثلاثه ولم يحد الأكثر وهو الشافعي . ومنهم من حد الأكثر في ذلك فقال : لا يتجاوز به السبعة وهو أحمد بن حنبل . وممن قال باستحباب الوتر ولم يحد فيه حدا مالك بن أنس وأصحابه . وسبب الخلاف بين من شرط التوقيت ومن لم يشترطه بل استحبه معارضة القياس للأثر وذلك أن ظاهر حديث أم عطية يقتضي التوقيت لأن فيه " اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن " وفي بعض رواياته " أو سبعا " . وأما قياس الميت على الحي في الطهارة فيقتضي أن لا توقيت فيها كما ليس في طهارة الحي توقيت فمن رجح الأثر على النظر قال بالتوقيت . ومن رأى الجمع بين الأثر والنظر حمل التوقيت على الاستحباب . وأما الذين اختلفوا في التوقيت فسبب اختلافهم ألفاظ الروايات في ذلك عن أم عطية . فأما الشافعي فإنه رأى أن لا ينقص عن ثلاثة لأنه أقل وتر نطق به في حديث أم عطية ورأى أن ما فوق ذلك مباح لقوله E " أو أكثر من ذلك إن رأيتن " . وأما أحمد فأخذ بأكثر وتر نطق به في بعض روايات الحديث وهو قوله E " أو سبعا " . وأما أبو حنيفة فصار في قصره الوتر على الثلاث لما روي أن محمد بن سيرين كان يأخذ الغسل عن أم عطية " ثلاثا يغسل بالسدر مرتين والثالثة بالماء والكافور " وأيضا فإن الوتر الشرعي عنده إنما ينطلق على الثلاث فقط . وكان مالك يستحب أن يغسل في الأولى بالماء القراح وفي الثانية بالسدر وفي الثالثة بالماء والكافور . واختلفوا إذا خرج من بطنه حدث هل يعاد غسله أم لا ؟ فقيل لا يعاد وبه قال مالك وقيل يعاد . والذين رأوا أنه يعاد اختلفوا في العدد الذي تجب به الإعادة إن تكرر خروج الحدث فقيل يعاد الغسل عليه واحدة وبه قال الشافعي . وقيل يعاد ثلاثا . وقيل يعاد سبعا . وأجمعوا على أنه لا يزاد على السبع شيء . واختلفوا في تقليم أظفار الميت والأخذ من شعره فقال قوم : تقلم أظفاره ويؤخذ منه . وقال قوم : لا تقلم أظفاره ولا يؤخذ من شعره وليس فيه أثر . وأما سبب الخلاف في ذلك فالخلاف الواقع في ذلك في الصدر الأول ويشبه أن يكون سبب الخلاف في ذلك قياس الميت على الحي فمن قاسه أوجب تقليم الأظفار وحلق العانة لأنها من سنة الحي باتفاق وكذلك اختلفوا في عصر بطنه قبل أن يغسل . فمنهم من رأى ذلك ومنهم من لم يره . فمن رآه رأى أن فيه ضربا من الاستنقاء من الحدث عند ابتداء الطهارة وهو مطلوب من الميت كما هو مطلوب من الحي . ومن لم ير ذلك رأى أنه من باب تكليف ما لم يشرع وأن الحي في ذلك بخلاف الميت
الباب الثالث في الأكفان
- والأصل في هذا الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة " وخرج أبو داود عن ليلى بنت قائف الثقفية قالت " كنت فيمت غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أول ما أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقو ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر قالت : ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند الباب معه أكفانها يناولناها ثوبا ثوبا " فمن العلماء من أخذ بظاهر هذين الأثرين فقال : يكفن الرجل في ثلاثة أثواب والمرأة في خمسة أثواب وبه قال الشافعي وأحمد وجماعة . وقال أبو حنيفة : أقل ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب والسنة خمسة أثواب وأقل ما يكفن فيه الرجل ثوبان والسنة فيه ثلاثة أثواب . ورأى مالك أنه لا حد في ذلك وأنه يجزئ ثوب واحد فيهما إلا أنه يستحب الوتر . وسبب اختلافهم في التوقيت اختلافهم في مفهوم هذين الأثرين فمن فهم منهما الإباحة لم يقل بالتوقيت إلا أنه استحب الوتر لاتفاقهما في الوتر ولم يفرق في ذلك بين المرأة والرجل وكأنه فهم منهما الإباحة إلا في التوقيت فإنه فهم منه شرعا لمناسبته للشرع ومن فهم من العدد أنه شرع الإباحة قال بالتوقيت إما على جهة الوجوب وإما على جهة الاستحباب وكله واسع إن شاء الله وليس فيه شرع محدود ولعله تكلف شرع فيما ليس فيه شرع وقد كفن مصعب بن عمير يوم أحد بنمرة فكانوا إذا غطوا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطوا بها رجليه خرج رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر " واتفقوا على أن الميت يغطى رأسه ويطيب إلا المحرم إذا مات في إحرامه فإنهم اختلفوا فيه فقال مالك وأبو حنيفة : المحرم بمنزلة غير المحرم . وقال الشافعي : لا يغطى رأس المحرم إذا مات ولا يمس طيبا . وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص . فأما الخصوص فهو حديث ابن عباس قال " أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل وقصته راحلته فمات وهو محرم فقال : كفنوه في ثوبين واغسلوه بماء وسدر ولا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة يلبي " وأما العموم فهو ما ورد من الأمر بالغسل مطلقا فمن خص من الأموات المحرم بهذا الحديث كتخصيص الشهداء بقتلى أحد جعل الحكم منه E على الواحد حكما على الجميع وقال : لا يغطى رأس المحرم ولا يمس طيبا . ومن ذهب مذهب الجمع لا مذهب الاستثناء والتخصيص قال : حديث الأعرابي خاص به لا يعدى إلى غيره
الباب الرابع في صفة المشي مع الجنازة
- واختلفوا في سنة المشي مع الجنازة . فذهب أهل المدينة إلى أن من سنتها المشي أمامها . وقال الكوفيون وأبو حنيفة وسائرهم : إن المشي خلفها أفضل . وسبب اختلافهم اختلاف الآثار التي روى كل واحد من الفريقين عن سلفه وعمل به فروى مالك عن النبي E مرسلا المشي أمام الجنازة وعن أبي بكر وعمر وبه قال الشافعي . وأخذ أهل الكوفة بما رووا عن علي بن أبي طالب من طريق عبد الرحمن بن أبزي قال : كنت أمشي مع علي في جنازة وهو آخذ بيدي وهو يمشي خلفها وأبو بكر وعمر يمشيان أمامها فقلت له في ذلك فقال : إن فضل الماشي خلفها على الماشي أمامها كفضل صلاة المكتوبة على صلاة النافلة وإنهما ليعلمان ذلك ولكنهما سهلان يسهلان على الناس . وروي عنه رضي الله عنه أنه قال : قدمها بين يديك واجعلها نصب عينيك فإنما هي موعظة وتذكرة وعبرة وبما روي أيضا عن ابن مسعود أنه كان يقول : سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السير مع الجنازة فقال " الجنازة متبوعة وليست بتابعة وليس معها من يقدمها " وحديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الراكب يمشي أمام الجنازة والماشي خلفها وأمامها وعن يمينها ويسارها قريبا منها " وحديث أبي هريرة أيضا في هذا المعنى قال " امشوا خلف الجنازة " وهذه الأحاديث صار إليها الكوفيون وهي أحاديث يصححونها ويضعفها غيرهم . وأكثر العلماء على أن القيام إلى الجنازة منسوخ بما روى مالك من حديث علي بن أبي طالب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الجنائز ثم جلس " وذهب قوم إلى وجوب القيام وتمسكوا في ذلك بما روي من أمره صلى الله عليه وسلم بالقيام لها كحديث عامر بن ربيعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا رأيتم الجنائز فقوموا إليها حتى تخلفكم أو توضع " واختلف الذين رأوا أن القيام منسوخ في القيام على القبر في وقت الدفن فبعضهم رأى أنه لم يدخل تحت النهي وبعضهم رأى أنه داخل تحت النهي على ظاهر اللفظ ومن أخرجه من ذلك احتج بفعل علي في ذلك وذلك أنه روى النسخ وقام على قبر ابن المكفف فقيل له ألا تجلس يا أمير المؤمنين ؟ فقال : قليل لأخينا قيامنا على قبره
الباب الخامس في الصلاة على الجنازة
- وهذه الجملة يتعلق بها بعد معرفة وجوبها فصول : أحدها في صفة صلاة الجنازة . والثاني : على من يصلي ومن أولى بالصلاة . والثالث : في وقت هذه الصلاة . والرابع : في موضع هذه الصلاة . والخامس : في شروط هذه الصلاة
الفصل الأول في صفة صلاة الجنازة . فأما صفة الصلاة فإنها يتعلق بها مسائل :
- ( المسألة الأولى ) اختلفوا في عدد التكبير في الصدر الأول اختلافا كثيرا من ثلاث إلى سبع : أعني الصحابة رضي الله عنهم ولكن فقهاء الأمصار على أن التكبير في الجنازة أربع إلا ابن أبي ليلى وجابر بن زيد فإنهما كانا يقولون إنهما خمس . وسبب الاختلاف اختلاف الآثار في ذلك وذلك أنه روي من حديث أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات " وهو حديث متفق على صحته ولذلك أخذ به جمهور فقهاء الأمصار وجاء في هذا المعنى أيضا من " أنه E صلى على قبر مسكينة فكبر عليها أربعا " وروى مسلم أيضا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال " كان زيد بن أرقم يكبر على الجنائز أربعا وأنه كبر على جنازة خمسا فسألناه فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها " وروي عن أبي خيثمة عن أبيه قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وستا وسبعا وثمانيا حتى مات النجاشي فصف الناس وراءه وكبر أربعا ثم ثبت صلى الله عليه وسلم على أربع حتى توفاه الله " وهذا فيه حجة لائحة للجمهور . وأجمع العلماء على رفع اليدين في أول التكبير على الجنازة واختلفوا في سائر التكبير فقال قوم : يرفع وقال قوم : لا يرفع . وروى الترمذي عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في جنازة فرفع يديه في أول التكبير ووضع يده اليمنى على اليسرى " فمن ذهب إلى ظاهر هذا الأثر وكان مذهبه في الصلاة أنه لا يرفع إلا في أول التكبير قال : الرفع في أول التكبير . ومن قال يرفع في كل تكبير شبه التكبير الثاني بالأول لأنه كله يفعل في حال القيام والاستواء
- ( المسألة الثانية ) اختلف الناس في القراءة في صلاة الجنازة فقال مالك وأبو حنيفة : ليس فيها قراءة إنما هو الدعاء . وقال مالك : قراءة فاتحة الكتاب فيها ليس بعمول به في بلدنا بحال قال : وإنما يحمد الله ويثني عليه بعد التكبيرة الأولى ثم يكبر الثانية فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يكبر الثالثة فيشفع للميت ثم يكبر الرابعة ويسلم . وقال الشافعي : يقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب ثم يفعل في سائر التكبيرات مثل ذلك وبه قال أحمد وداود . وسبب اختلافهم معارضة العمل للأثر وهل يتناول أيضا اسم الصلاة صلاة الجنائز أم لا ؟ أما العمل فهو الذي حكاه مالك عن بلده وأما الأثر فما رواه البخاري عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال : صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب فقال : تعلموا أنها السنة فمن ذهب إلى ترجيح هذا الأثر على العمل وكان اسم الصلاة يتناول عنده صلاة الجنازة وقد قال صلى الله عليه وسلم " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " رأى قراءة فاتحة الكتاب فيها . ويمكن أن يحتج لمذهب مالك بظواهر الآثار التي نقل فيها دعاؤه E على الجنائز ولم ينقل فيها أنه قرأ وعلى هذا فتكون تلك الآثار كأنها معارضة لحديث ابن عباس ومخصصة لقوله " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " وذكر الطحاوي عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال وكان من كبراء الصحابة وعلمائهم وأبناء الذين شهدوا بدرا : أن رجلا من أصحاب النبي E أخبره أن السنة في الصلاة على الجنائز أن يكبر الإمام ثم يقرأ فاتحة الكتاب سرا في نفسه ثم يخلص الدعاء في التكبيرات الثلاث . قال ابن شهاب : فذكرت الذي أخبر به أبو أمامة من ذلك لمحمد بن سويد الفهري فقال : وأنا سمعت الضحاك بن قيس يحدث عن حبيب بن مسلمة في الصلاة على الجنائز بمثل ما حدثك به أبو أمامة
- ( المسألة الثالثة ) واختلفوا في التسليم من الجنازة هل هو واحد أو اثنان ؟ فالجمهور على أنه واحد وقالت طائفة وأبو حنيفة : يسلم تسليمتين واختاره المزني من أصحاب الشافعي وهو أحد قولي الشافعي . وسبب اختلافهم اختلافهم في التسليم من الصلاة وقياس صلاة الجنائز على الصلاة المفروضة فمن كانت عنده التسليمة واحدة في الصلاة المكتوبة وقاس صلاة الجنازة عليها قال بواحدة . ومن كانت عنده تسليمتين في الصلاة المفروضة قال : هنا بتسليمتين إن كانت عنده تلك سنة فهذه سنة وإن كانت فرضا فهذه فرض وكذلك اختلف المذهب هل يجهر فيها أو لا يجهر بالسلام ؟
- ( المسألة الرابعة ) واختلفوا أين يقوم الإمام من الجنازة فقال جملة من العلماء : يقوم في وسطها ذكرا كان أو أنثى وقال قوم آخرون : يقوم من الأنثى وسطها ومن الذكر عند رأسه ومنهم من قال : يقوم من الذكر والأنثى عند صدرهما وهو قول ابن القاسم وقول أبي حنيفة وليس عند مالك والشافعي في ذلك حد وقال قوم : يقوم منهما أين شاء . والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب وذلك أنه خرج البخاري ومسلم من حديث سمرة بن جندب قال " صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم كعب ماتت وهي نفساء فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة على وسطها " وخرج أبو داود من حديث همام بن غالب قال : " صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل فقام حيال رأسه ثم جاءوا بجنازة امرأة فقالوا يا أبا حمزة صل عليها فقام حيال وسط السرير فقال العلاء بن زياد هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز كبر أربعا وقام على جنازة المرأة مقامك منها ومن الرجل مقامك منه قال نعم فاختلف الناس في المفهوم من هذه الأفعال فمنهم من رأى أن قيامه E في هذه المواضع المختلفة يدل على الإباحة وعلى عدم التحديد . ومنهم من رأى أن قيامه على أحد هذه الأوضاع أنه شرع وأنه يدل على التحديد وهؤلاء انقسموا قسمين : فمنهم من أخذ بحديث سمرة بن جندب للاتفاق على صحته فقال : المرأة في ذلك والرجل سواء لأن الأصل أن حكمهما واحد إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي ومنهم من صحح حديث ابن غالب وقال فيه زيادة على حديث سمرة بن جندب فيجب المصير إليها وليس بينهما تعارض أصلا . وأما مذهب ابن القاسم وأبي حنيفة فلا أعلم له من جهة السمع في ذلك مسندا إلا ما روي عن ابن مسعود من ذلك
- ( المسألة الخامسة ) واختلفوا في ترتيب جنائز الرجال والنساء إذا اجتمعوا عند الصلاة فقال الأكثر : يجعل الرجال مما يلي الإمام والنساء مما يلي القبلة . وقال قوم بخلاف هذا : أي النساء مما يلي الإمام والرجال مما يلي القبلة وفيه قول ثالث أنه يصلي كل على حدة الرجال مفردون والنساء مفردات . وسبب الخلاف ما يغلب على الظن باعتبار أحوال الشرع من أنه يجب أن يكون في ذلك شرع محدود مع أنه لم يرد في ذلك شرع يجب الوقوف عنده ولذلك رأى كثير من الناس أنه ليس في أمثال هذه المواضع شرع أصلا . وأنه لو كان فيها شرع لبين للناس وإنما ذهب الأكثر لما قلناه من تقديم الرجال على النساء لما رواه مالك في الموطأ من أن عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وأبا هريرة كانوا يصلون على الجنائز بالمدينة الرجال والنساء معا فيجعلون الرجال مما يلي الإمام ويجعلون النساء مما يلي القبلة . وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أنه صلى كذلك على جنازة فيها ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة والإمام يومئذ سعيد بن العاص فسألهم عن ذلك أو أمر من سألهم فقالوا : هي السنة وهذا يدخل في المسند عندهم ويشبه أن يكون من قال بتقديم الرجال شبههم أمام الإمام بحالهم خلف الإمام في الصلاة ولقوله E " أخروهن من حيث أخرهن الله " . وأما من قال بتقديم النساء على الرجال فيشبه أن يكون اعتقد أن الأول هو المقدم ولم يجعل التقديم بالقرب من الإمام . وأما من فرق فاحتياطا من أن لا يجوز ممنوعا لأنه لم ترد سنة بجواز الجمع فيحتمل أن يكون على أصل الإباحة ويحتمل أن يكون ممنوعا بالشرع وإذا وجد الاحتمال وجب التوقف إذا وجد إليه سبيلا
- ( المسألة السادسة ) واختلفوا في الذي يفوته بعض التكبير على الجنازة في مواضع : منها هل يدخل بتكبير أم لا ؟ ومنها هل يقضي ما فاته أم لا ؟ وإن قضى فهل يدعو بين التكبير أم لا ؟ فروى أشهب عن مالك أنه يكبر أول دخوله وهو أحد قولي الشافعي . وقال أبو حنيفة : ينتظر حتى يكبر الإمام وحينئذ يكبر وهي رواية ابن القاسم عن مالك والقياس التكبير قياسا على من دخل في المفروضة . واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعي على أنه يقضي ما فاته من التكبير إلا أن أبا حنيفة يرى أن يدعو بين التكبير المقضي ومالك والشافعي يريان أن يقضيه نسقا وإنما اتفقوا على القضاء لعموم قوله E " ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا " فمن رأى أن هذا العموم يتناول التكبير والدعاء قال : يقتضي التكبير وما فاته من الدعاء ومن أخرج الدعاء من ذلك إذ كان غير مؤقت قال : يقضي التكبير فقط إذ كان هو المؤقت فكان تخصيص الدعاء من ذلك العموم هو من باب تخصيص العام بالقياس فأبو حنيفة أخذ بالعموم وهؤلاء بالخصوص
- ( المسألة السابعة ) واختلفوا في الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الجنازة فقال مالك : لا يصلى على القبر وقال أبو حنيفة : لا يصلي على القبر إلا الولي فقط إذا فاتته الصلاة على الجنازة وكان الذي صلى عليها غير وليها وقال الشافعي وأحمد وداود وجماعة : يصلي على القبر من فاتته الصلاة على الجنازة واتفق القائلون بإجازة الصلاة على القبر أن من شرط ذلك حدوث الدفن وهؤلاء اختلفوا في هذه المدة وأكثرها شهر . وسبب اختلافهم معارضة العمل للأثر . أما مخالفة العمل فإن ابن القاسم قال : قلت لمالك فالحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على قبر إمرأة قال : قد جاء هذا الحديث وليس عليه العمل والصلاة على القبر ثابتة باتفاق من أصحاب الحديث قال أحمد بن حنبل : رويت الصلاة على القبر عن النبي E من طرق ستة كلها حسان . وزاد بعض المحدثين ثلاثة طرق فذلك تسع . وأما البخاري ومسلم فرويا ذلك من طريق أبي هريرة . وأما مالك فخرجه مرسلا عن أبي أمامة بن سهل . وقد روى ابن وهب عن مالك مثل قول الشافعي وأما أبو حنيفة فإنه جرى في ذلك على عادته فيما أحسب أعني من رد أخبار الآحاد التي تعم بها البلوى إذا لم تنتشر ولا انتشر العمل بها وذلك أن عدم الانتشار إذا كان خبرا شأنه شأن الانتشار قرينة توهن الخبر وتخرجه عن غلبة الظن بصدقه إلى الشك فيه أو إلى غلبة الظن بكذبه أو نسخه : قال القاضي : وقد تكلمنا فيما سلف من كتابنا هذا في وجه الاستدلال بالعمل وفي هذا النوع من الاستدلال الذي يسميه الحنفية عموم البلوى وقلنا : إنها من جنس واحد
الفصل الثاني فيمن يصلي عليه ومن أولى بالتقديم
- وأجمع أكثر أهل العلم على إجازة الصلاة على كل من قال لا إله إلا الله وفي ذلك أثر أنه قال E " صلوا على من قال لا إله إلا الله " وسواء كان من أهل الكبائر أو من أهل البدع إلا أن مالكا كره لأهل الفضل الصلاة على أهل البدع ولم ير أن يصلي الإمام على من قتله حدا . واختلفوا فيمن قتل نفسه فرأى قوم أنه لا يصلى عليه وأجاز آخرون الصلاة عليه ومن العلماء من لم يجز الصلاة على أهل الكبائر ولا على أهل البغي والبدع . والسبب في اختلافهم في الصلاة أما في أهل البدع فلاختلافهم في تكفيرهم ببدعهم فمن كفرهم بالتأويل البعيد لم يجز الصلاة عليهم ومن لم يكفرهم إذ كان الكفر عنده إنما هو تكذيب الرسول لا تأويل أقواله E قال : الصلاة عليهم جائزة وإنما أجمع العلماء على ترك الصلاة على المنافقين مع تلفظهم بالشهادة لقوله تعالى { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } الآية . وأما اختلافهم في أهل الكبائر فليس يمكن أن يكون له سبب إلا من جهة اختلافهم في القول في التكفير بالذنوب لكن ليس هذا مذهب أهل السنة فلذلك ليس ينبغي أن يمنع الفقهاء الصلاة على أهل الكبائر
وأما كراهية مالك الصلاة على أهل البدع فذلك لمكان الزجر والعقوبة لهم وإنما لم ير مالك صلاة الإمام على من قتله حدا " لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على ما عز ولم ينه عن الصلاة عليه " خرجه أبو داود وإنما اختلفوا في الصلاة على من قتل نفسه لحديث جابر بن سمرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى أن يصلي على رجل قتل نفسه " فمن صحح هذا الأثر قال : لا يصلى على قاتل نفسه ومن لم يصححه رأى أن حكمه حكم المسلمين وإن كان من أهل النار كما ورد به الأثر لكن ليس هو من المخلدين لكونه من أهل الإيمان وقد قال E حكاية عن ربه " أخرجوا من النار من في قلبه مثقال حبة من الإيمان " واختلفوا أيضا في الصلاة على الشهداء المقتولين في المعركة فقال مالك والشافعي لا يصلى على الشهيد المقتول في المعركة ولا يغسل وقال أبو حنيفة : يصلى عليه ولا يغسل . وسبب اختلافهم اختلاف الآثار الواردة في ذلك وذلك أنه خرج أبو داود من طريق جابر " أنه صلى الله عليه وسلم أمر بشهداء أحد فدفنوا بثيابهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا " وروى من طريق ابن عباس مسندا " أنه E صلى على قتلى أحد وعلى حمزة ولم يغسل ولم يتيمم " وروى ذلك أيضا مرسلا من حديث أبي مالك الغفاري وكذلك روى أيضا أن أعرابيا جاءه سهم فوقع في حلقه فمات فصلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " إن هذا عبد خرج مجاهدا في سبيلك فقتل شهيدا وأنا شهيد عليه " وكلا الفريقين يرجح الأحاديث التي أخذ بها
وكانت الشافعية تعتل بحديث ابن عباس هذا وتقول : يرويه ابن أبي الزناد وكان قد اختل آخر عمره وقد كان شعبة يطعن فيه وأما المراسيل فليست عندهم بحجة واختلفوا متى يصلى على الطفل فقال مالك : لا يصلى على الطفل حتى يستهل صارخا وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يصلي عليه إذا نفخ فيه الروح وذلك أنه إذا كان له في بطن أمه أربعة أشهر فأكثر وبه قال ابن أبي ليلى . وسبب اختلافهم في ذلك معارضة المطلق للمقيد وذلك أنه روى الترمذي عن جابر بن عبد الله عن النبي E أنه قال " الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل صارخا " وروي عن النبي E من حديث المغيرة بن شعبة أنه قال " الطفل يصلى عليه " فمن ذهب مذهب حديث جابر قال : ذلك عام وهذا مفسر فالواجب أن يحمل ذلك العموم على هذا التفسير فيكون معنى حديث المغيرة أن الطفل يصلى عليه إذا استهل صارخا ومن ذهب مذهب حديث المغيرة قال : معلوم أن المعتبر في الصلاة وهو حكم الإسلام والحياة والطفل إذا تحرك فهو حي وحكمه حكم المسلمين وكل مسلم حي إذا مات صلى عليه فرجحوا هذا العموم على ذلك الخصوص لموضع موافقة القياس له ومن الناس من شذ وقال : لا يصلى على الأطفال أصلا . وروى أبو داود " أن النبي E لم يصل على ابنه إبراهيم وهو ابن ثمانية أشهر " وروي فيه " أنه صلى عليه وهو ابن سبعين ليلة " واختلفوا في الصلاة على الأطفال المسبيين فذهب مالك في رواية البصرين عنه أن الطفل من أولاد الحربيين لا يصلى عليه حتى يعقل الإسلام سواء سبى مع أبويه أو لم يسب معهما وأن حكمه حكم أبويه إلا أن يسلم الأب فهو تابع له دون الأم ووافقه الشافعي على هذا إلا أنه إن أسلم أحد أبويه فهو عنده تابع لمن أسلم منهما لا للأب وحده على ما ذهب إليه مالك . وقال أبو حنيفة : يصلى على الأطفال المسبيين وحكمهم حكم من سباهم . وقال الأوزاعي : إذا ملكهم المسلمون صلى عليهم : يعني إذا بيعوا في السبي . قال : وبهذا جرى العمل في الثغر وبه الفتيا فيه . وأجمعوا على أنه إذا كانوا مع آبائهم ولم يملكهم مسلم ولا أسلم أحد أبويهم أن حكمهم حكم آبائهم . والسبب في اختلافهم اختلافهم في أطفال المشركين هل هم من أهل الجنة أو من أهل النار ؟ وذلك أنه جاء في بعض الآثار أنهم من آبائهم : أي أن حكمهم حكم آبائهم ودليل قوله E " كل مولود يولد على الفطرة " أن حكمهم حكم المؤمنين . وأما من أولى بالتقديم للصلاة على الجنازة فقيل الولي وقيل الوالي فمن قال الوالي شبهه بصلاة الجمعة من حيث هي صلاة جماعة ومن قال الولي شبهها بسائر الحقوق التي الولي أحق بها مثل مواراته ودفنه وأكثر أهل العلم على أن الوالي بها أحق
قال أبو بكر بن المنذر : وقدم الحسين بن علي سعيد بن العاص وهو والي المدينة ليصلي على الحسن بن علي وقال : لولا أنها سنة ما تقدمت قال أبو بكر : وبه أقول وأكثر العلماء على أنه لا يصلى إلا على الحاضر . وقال بعضهم يصلى على الغائب لحديث النجاشي والجمهور على أن ذلك خاص بالنجاشي وحده . واختلفوا هل يصلى على بعض الجسد والجمهور على أنه يصلى على أكثره لتناول إسم الميت له ومن قال أنه يصلى على أقله قال : لأن حرمة البعض كحرمة الكل لاسيما إن كان ذلك البعض محل الحياة وكان ممن يجيز الصلاة على الغائب
الفصل الثالث في وقت الصلاة على الجنازة :
- واختلفوا في الوقت الذي تجوز فيه الصلاة على الجنازة فقال قوم : لا يصلى عليها في الأوقات الثلاثة التي ورد النهي عن الصلاة فيها وهي وقت الغروب والطلوع وزوال الشمس على ظاهر حديث عقبة بن عامر " ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر موتانا " الحديث . وقال قوم : لا يصلى في الغروب والطلوع فقط ويصلى بعد العصر ما لم تصفر الشمس وبعد الصبح ما لم يكن الإسفار . وقال قوم : لا يصلى على الجنازة في الأوقات الخمسة التي ورد النهي عن الصلاة فيها وبه قال عطاء والنخعي وغيرهم وهو قياس قول أبي حنيفة . وقال الشافعي : يصلى على الجنازة في كل وقت لأن النهي عنده إنما هو خارج على النوافل لا على السنن على ما تقدم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق