الباب الأول في معرفة الأوقات
- وهذا الباب ينقسم أولا إلى فصلين : الأول في معرفة الأوقات المأمور بها . الثاني في معرفة الأوقات المنهي عنها
الفصل الأول في معرفة الأوقات المأمور بها
- وهذا الفصل ينقسم إلى قسمين أيضا : القسم الأول في الأوقات الموسعة والمختارة . والثاني في أوقات أهل الضرورة
- القسم الأول من الفصل الأول من الباب الأول من الجملة الثانية
والأصل في هذا الباب قوله تعالى { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } اتفق المسلمون على أن للصلوات الخمس أوقاتا خمسا هي شرط في صحة الصلاة وأن منها أوقات فضيلة وأوقات توسعة واختلفوا في حدود أوقات التوسعة والفضيلة وفيه خمس مسائل :
- ( المسألة الأولى ) اتفقوا على أن أول وقت الظهر الذي لا تجوز قبله هو الزوال إلا خلافا شاذا روي عن ابن عباس وإلا ما روي من الخلاف في صلاة الجمعة على ما سيأتي واختلفوا منها في موضعين في آخر وقتها الموسع وفي وقتها المرغب فيه . فأما آخر وقتها الموسع فقال مالك والشافعي وأبو ثور وداود هو أن يكون ظل كل شيء مثله . وقال أبو حنيفة : آخر الوقت أن يكون ظل كل شيء مثليه في إحدى الروايتين عنه وهو عنده أول وقت العصر . وقد روي عنه أن آخر وقت الظهر هو المثل وأول وقت العصر المثلان وأن ما بين المثل والمثلين ليس يصلح لصلاة الظهر وبه قال صاحباه أبو يوسف ومحمد . وسبب الخلاف في ذلك اختلاف الأحاديث وذلك أنه ورد في إمامة جبريل أنه صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس وفي اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله ثم قال : " الوقت ما بين هذين " وروي عنه قال صلى الله عليه وسلم : " إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين فقال أهل الكتاب أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطينا قيراطا قيراطا ونحن كنا أكثر عملا ؟ قال الله تعالى : هل ظلمتكم من أجركم من شيء ؟ قالوا : لا قال : فهو فضلي أوتيه من أشاء " فذهب مالك والشافعي إلى حديث إمامة جبريل وذهب أبو حنيفة إلى مفهوم ظاهر هذا وهو أنه إذا كان من العصر إلى الغروب أقصر من أول الظهر إلى العصر على مفهوم هذا الحديث فواجب أن يكون العصر أكثر من قامة وأن يكون هذا هو آخر وقت الظهر . وقال أبو محمد بن حزم : وليس كما ظنوا وقد امتحنت الأمر فوجدت القامة تنتهي من النهار إلى تسع ساعات وكسر . قال القاضي : أنا الشاك في الكسر وأظنه قال : وثلث حجة من قال باتصال الوقتين أعني اتصالا لا بفصل غير منقسم قوله E " لا يخرج وقت صلاة حتى يدخل وقت أخرى " وهو حديث ثابت . وأما وقتها المرغب فيه والمختار فذهب مالك إلى أنه للمنفرد أول الوقت ويستحب تأخيرها عن أول الوقت قليلا في مساجد الجماعات . وقال الشافعي : أول الوقت أفضل إلا في شدة الحر . وروي مثل ذلك عن مالك . وقالت طائفة : أول الوقت أفضل بإطلاق للمنفرد والجماعة وفي الحر والبرد وإنما اختلفوا في ذلك لاختلاف الأحاديث وذلك أن في ذلك حديثين ثابتين : أحدهما قوله E " إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم " والثاني " أن النبي E كان يصلي الظهر بالهاجرة " وفي حديث خباب " أنهم شكوا إليه حر الرمضاء فلم يشكهم " خرجه مسلم . قال زهير رواي الحديث : قلت لأبي إسحاق شيخه أفي الظهر ؟ قال : نعم قلت : أفي تعجليها ؟ قال : نعم فرجح قوم حديث الإبراد إذ هو نص وتأولوا هذه الأحاديث إذ ليست بنص . وقوم رجحوا هذه الأحاديث لعموم ما روي من قوله E " وقد سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : الصلاة لأول ميقاتها " والحديث متفق عليه وهذه الزيادة فيه أعني " لأول ميقاتها " مختلف فيه
- ( المسألة الثانية ) اختلفوا من صلاة العصر في موضعين : أحدهما في اشتراك أول وقتها مع آخر وقت صلاة الظهر . والثاني في آخر وقتها . فأما اختلافهم في الاشتراك فإنه اتفق مالك والشافعي وداود وجماعة على أن أول وقت العصر هو بعينه آخر وقت الظهر وذلك إذا صار ظل كل شيء مثله إلا أن مالكا يرى أن آخر وقت الظهر وأول وقت العصر هو وقت مشترك للصلاتين معا : أعني بقدر ما يصلي فيه أربع ركعات . وأما الشافعي وأبو ثور وداود فآخر وقت الظهر عندهم هو الآن الذي هو أول وقت العصر هو زمان غير منقسم . وقال أبو حنيفة كما قلنا أول وقت العصر إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه وقد تقدم سبب اختلاف أبي حنيفة معهم في ذلك . وأما سبب اختلاف مالك مع الشافعي ومن قال بقوله في هذه فمعارضة حديث جبريل في هذا المعنى لحديث عبد الله بن عمر وذلك أنه جاء في إمامة جبريل أنه صلى بالنبي E الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول . وفي حديث ابن عمر أنه قال E " وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر " خرجه مسلم . فمن رجح حديث جبريل جعل الوقت مشتركا ومن رجح حديث عبد الله لم يجعل بينهما اشتراكا وحديث جبريل أمكن أن يصرف إلى حديث عبد الله من حديث عبد الله إلى حديث جبريل لأنه يحتمل أن يكون الراوي تجوز في ذلك لقرب ما بين الوقتين وحديث إمامة جبريل صححه الترمذي وحديث ابن عمر خرجه مسلم . وأما اختلافهم في آخر وقت العصر فعن مالك في ذلك روايتان إحداهما : أن آخر وقتها أن يصير ظل كل شيء مثليه وبه قال الشافعي . والثانية أن آخر وقتها ما لم تصفر الشمس وهذا قول أحمد بن حنبل . وقال أهل الظاهر : آخر وقتها قبل غروب الشمس بركعة . والسبب في اختلافهم أن في ذلك ثلاثة أحاديث متعارضة : الظاهر أحدها حديث عبد الله بن عمر خرجه مسلم وفيه " فإذا صليتم العصر فإنه وقت إلى أن تصفر الشمس " وفي بعض رواياته " وقت العصر ما لم تصفر الشمس " . والثاني حديث ابن عباس في إمامة جبريل وفيه " أنه صلى به العصر في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثليه " . والثالث حديث أبي هريرة المشهور " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح " فمن صار إلى ترجيح حديث إمامة جبريل جعل آخر وقتها المختار المثلين ( ومن صار إلى ترجيح حديث ابن عمر جعل آخر وقتها اصفرار الشمس ) ( ما بين القوسين زائد بالنسخة المطبوعة بفاس أثبتناه لأنه من الضروري ) ومن صار إلى ترجيح حديث أبي هريرة قال : وقت العصر إلى أن يبقى منها ركعة قبل غروب الشمس وهم أهل الظاهر كما قلنا . وأما الجمهور فسلكوا في حديث أبي هريرة وحديث ابن عمر مع حديث ابن عباس إذ كان معارضا لهما كل التعارض مسلك الجمع لأن حديثي ابن عباس وابن عمر تتقارب الحدود المذكورة فيهما ولذلك قال مالك مرة بهذا ومرة بذلك . وأما الذي في حديث أبي هريرة فبعيد منهما ومتفاوت فقالوا : حديث أبي هريرة إنما خرج مخرج أهل الأعذار
- ( المسألة الثالثة ) اختلفوا في المغرب هل لها وقت موسع كسائر الصلوات أم لا ؟ فذهب قوم إلى أن وقتها واحد غير موسع وهذا هو أشهر الروايات عن مالك وعن الشافعي . وذهب قوم إلى أن وقتها موسع وهو ما بين غروب الشمس إلى غروب الشفق وبه قال أبو حنيفة وأحمد وأبو ثور وداود وقد روي هذا القول عن مالك والشافعي . وسبب اختلافهم في ذلك معارضة حديث إمامة جبريل في ذلك لحديث عبد الله بن عمر وذلك أن في حديث إمامة جبريل أنه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد وفي حديث عبد الله " ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق " فمن رجح حديث إمامة جبريل جعل لها وقتا واحد ومن رجح حديث عبد الله جعل لها وقتا موسعا وحديث عبد الله خرجه مسلم ولم يخرج الشيخان حديث إمامة جبريل : أعني حديث ابن عباس الذي فيه أنه صلى بالنبي E عشر صلوات مفسرة الأوقات ثم قال له : الوقت ما بين هذين والذي في حديث عبد الله من ذلك هو موجود أيضا في حديث بريدة الأسلمي خرجه مسلم وهو أصل في هذا الباب . قالوا : وحديث بريدة أولى لأنه كان بالمدينة عند سؤال السائل له عن أوقات الصلوات وحديث جبريل كان في أول الفرض بمكة
- ( المسألة الرابعة ) اختلفوا من وقت العشاء الآخرة في موضعين : أحدهما في أوله والثاني في آخره . أما أوله فذهب مالك والشافعي وجماعة إلى أنه مغيب الحمرة وذهب أبو حنيفة إلى أنه مغيب البياض الذي يكون بعد الحمرة . وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم الشفق في لسان العرب فإنه كما أن الفجر في لسانهم فجران كذلك الشفق شفقان : أحمر وأبيض . ومغيب الشفق الأبيض يلزم أن يكون بعده من أول الليل ( إما بعد الفجر المستدق من آخر الليل : أعني الفجر الكاذب وإما بعد الفجر الأبيض المستطير وتكون الحمرة نظير الحمرة فالطوالع إذا أربعة : الفجر الكاذب والفجر الصادق والأحمر والشمس وكذلك يجب أن تكون الغوارب ولذلك ما ذكر عن الخليل من أنه رصد الشفق الأبيض فوجده يبقى إلى ثلث الليل كذب بالقياس والتجربة ( ما بين القوسين زيادة بالنسخة المصرية غير موجودة بالنسخة الفاسية فأثبتناها كما هي ا ه ) ) وذلك أنه لا خلاف بينهم أنه قد ثبت في حديث بريدة وحديث إمامة جبريل أنه صلى العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق وقد رجح الجمهور مذهبهم بما ثبت " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء عند مغيب القمر في الليلة الثالثة " ورجح أبو حنيفة مذهبة بما ورد في تأخير العشاء واستحباب تأخيره وقوله " لولا أن أشق على أمتي لأخرت هذه الصلاة إلى نصف الليل " وأما آخر وقتها فاختلفوا فيه على ثلاثة أقوال : قول إنه ثلث الليل . وقول إنه نصف الليل وقول إنه إلى طلوع الفجر وبالأول : أعني ثلث الليل قال الشافعي وأبو حنيفة وهو المشهور من مذهب مالك وروي عن مالك القول الثاني : أعني نصف الليل وأما الثالث فقول داود . وسبب الخلاف في ذلك تعارض الآثار ففي حديث إمامة جبريل أنه صلاها بالنبي E في اليوم الثاني ثلث الليل . وفي حديث أنس أنه قال " أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل " خرجه البخاري . وروي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي E أنه قال " لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى نصف الليل " وفي حديث أبي قتادة ليس التفريط في النوم إنما التفريط أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى . فمن ذهب مذهب الترجيح لحديث إمامة جبريل قال ثلث الليل ومن ذهب مذهب الترجيح لحديث أنس قال شطر الليل . وأما أهل الظاهر فاعتمدوا حديث أبي قتادة وقالوا هو عام وهو متأخر عن حديث إمامة جبريل فهو ناسخ ولو لم يكن ناسخا لكان تعارض الآثار يسقط حكمها فيجب أن يصار إلى استصحاب حال الإجماع وقد اتفقوا على أن الوقت يخرج لما بعد طلوع الفجر واختلفوا فيما قبل فإنا روينا عن ابن عباس أن الوقت عنده إلى طلوع الفجر فوجب أن يستصحب حكم الوقت إلا حيث وقع الاتفاق على خروجه وأحسب أنه به قال أبو حنيفة
- ( المسألة الخامسة ) واتفقوا على أن أول وقت الصبح طلوع الفجر الصادق وآخره طلوع الشمس إلا ما روي عن ابن القاسم وعن بعض أصحاب الشافعي من أن آخر وقتها الإسفار . واختلفوا في وقتها المختار فذهب الكوفيون وأبو حنيفة وأصحابه والثوري وأكثر العراقيين إلى أن الإسفار بها أفضل وذهب مالك والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأبو ثور وداود إلى أن التغليس بها أفضل وسبب اختلافهم اختلافهم في طريقة جمع الأحاديث المختلفة الظواهر في ذلك وذلك أنه ورد عنه E من طريق رافع بن خديج أنه قال " أسفروا بالصبح فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر " وروي عنه E أنه قال وقد سئل أي الأعمال أفضل ؟ قال : " الصلاة لأول ميقاتها " وثبت عنه E أنه كان يصلي الصبح فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس " وظاهر الحديث أنه كان عمله في الأغلب فمن قال إن حديث رافع خاص وقوله " الصلاة لأول ميقاتها " عام والمشهور أن الخاص يقضي عن العام إذا هو استثنى من هذا العموم صلاة الصبح وجعل حديث عائشة محمولا على الجواز وأنه إنما تضمن الإخبار بوقوع ذلك منه لا بأنه كان ذلك غالب أحواله صلى الله عليه وسلم قال : الإسفار أفضل من التغليس . ومن رجح حديث العموم لموافقة حديث عائشة له ولأنه نص في ذلك أو ظاهر وحديث رافع بن خديج محتمل لأنه يمكن أن يريد بذلك تبين الفجر وتحققه فلا يكون بينه وبين حديث عائشة ولا العموم الوارد في ذلك تعارض قال : أفضل الوقت أوله . وأما من ذهب إلى أن آخر وقتها الإسفار فإنه تأول الحديث في ذلك أنه لأهل الضرورات : أعني قوله E " من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح " وهذا شبيه بما فعله الجمهور في العصر . والعجب أنهم عدلوا عن ذلك في هذا ووافقوا أهل الظاهر ولذلك لأهل الظاهر أن يطالبوهم بالفرق بين ذلك
- القسم الثاني من الفصل الأول من الباب الأول
فأما أوقات الضرورة والعذر فأثبتها كما قلنا فقهاء الأمصار ونفاها أهل الظاهر وقد تقدم سبب اختلافهم في ذلك . واختلف هؤلاء الذين أثبتوها في ثلاثة مواضع : أحدها لأي الصلوات توجد هذه الأوقات ولأيها لا ؟ والثاني في حدود هذه الأوقات . والثالث في من هم أهل العذر الذين رخص لهم في هذه الأوقات وفي أحكامهم في ذلك : أعني من وجوب الصلاة ومن سقوطها
- ( المسألة الأولى ) اتفق مالك والشافعي على أن هذا الوقت هو لأربع صلوات : للظهر والعصر مشتركا بينهما والمغرب والعشاء كذلك وإنما اختلفوا في جهة اشتراكهما على ما سيأتي بعد وخالفهم أبو حنيفة فقال : إن هذا الوقت إنما هو للعصر فقط وأنه ليس ههنا وقت مشترك . وسبب اختلافهم في ذلك هو اختلافهم في جواز الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما على ما سيأتي بعد فمن تمسك بالنص الوارد في صلاة العصر أعني الثابت من قوله E " من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل مغيب الشمس فقد أدرك العصر " وفهم من هذا الرخصة ولم يجز الاشتراك في الجمع لقوله E " لا يفوت وقت صلاة حتى يدخل وقت الأخرى " ولما سنذكره بعد في باب الجمع من حجج الفريقين قال : إنه لا يكون هذا الوقت إلا لصلاة العصر فقط . ومن أجاز الاشتراك في الجمع في السفر قاس عليه أهل الضرورات لأن المسافر أيضا صاحب ضرورة وعذر فجعل هذا الوقت مشتركا للظهر والعصر والمغرب والعشاء
- ( المسألة الثانية ) اختلف مالك والشافعي في آخر الوقت المشترك لهما فقال مالك : هو للظهر والعصر من بعد الزوال بمقدار أربع ركعات للظهر للحاضر وركعتين للمسافر إلى أن يبقى للنهار مقدار أربع ركعات للحاضر وركعتين للمسافر فجعل الوقت الخاص للظهر إنما هو مقدار أربع ركعات للحاضر بعد الزوال وإما ركعتان للمسافر وجعل الوقت الخاص بالعصر إما أربع ركعات قبل المغيب للحاضر وإما ثنتان للمسافر : أعني أنه من أدرك الوقت الخاص فقط لم تلزمه إلا الصلاة الخاصة بذلك الوقت إن كان ممن لم تلزمه الصلاة قبل ذلك الوقت ومن أدرك أكثر من ذلك أدرك الصلاتين معا أو حكم ذلك الوقت وجعل آخر الوقت الخاص لصلاة العصر مقدار ركعة قبل الغروب وكذلك فعل في اشتراك المغرب والعشاء إلا أن الوقت الخاص مرة جعله للمغرب فقال : هو مقدار ثلاث ركعات قبل أن يطلع الفجر ومرة جعله للصلاة الأخيرة كما فعل في العصر فقال هو مقدار أربع ركعات وهو القياس وجعل آخر هذا الوقت مقدار ركعة قبل طلوع الفجر . وأما الشافعي فجعل حدود أواخر هذه الأوقات المشتركة حدا واحدا وهو إدراك ركعة قبل غروب الشمس وذلك للظهر والعصر معا ومقدار ركعة أيضا قبل انصداع الفجر وذلك للمغرب والعشاء معا وقد قيل عنه بمقدار تكبيرة : أعني أنه من أدرك تكبيرة قبل غروب الشمس فقد لزمته صلاة الظهر والعصر معا . وأما أبو حنيفة فوافق مالكا في أن آخر وقت العصر مقدار ركعة لأهل الضرورات عنده قبل الغروب ولم يوافق في الاشتراك والاختصاص . وسبب اختلافهم أعني مالكا والشافعي هل القول باشتراك الوقت للصلاتين معا يقتضي أن لهما وقتين : وقت خاص بهما ووقت مشترك ؟ أم إنما يقتضي أن لهما وقتا مشتركا فقط ؟ وحجة الشافعي أن الجمع إنما دل على الاشتراك فقط لا على وقت خاص . وأما مالك فقاس الاشتراك عنده في وقت الضرورة على الاشتراك عنده في وقت التوسعة : أعني أنه لما كان لوقت الظهر والعصر الموسع وقتان وقت مشترك ووقت خاص وجب أن يكون الأمر كذلك في أوقات الضرورة والشافعي لا يوافقه على اشتراك الظهر والعصر في وقت التوسعة فخلافهما في هذه المسألة إنما ينبني والله أعلم على اختلافهم في تلك الأولى فتأمله فإنه بين والله أعلم
- ( المسألة الثالثة ) وأما هذه الأوقات : أعني أوقات الضرورة فاتفقوا على أنها لأربع : للحائض تطهر في هذه الأوقات أو تحيض في هذه الأوقات وهي لم تصل والمسافر يذكر الصلاة في هذه الأوقات وهو حاضر أو الحاضر يذكرها فيها وهو مسافر والصبي يبلغ فيها والكافر يسلم . واختلفوا في المغمي عليه فقال مالك والشافعي : هو كالحائض من أهل هذه الأوقات لأنه لا يقضي عندهم الصلاة التي ذهب وقتها . وعند أبي حنيفة أنه يقضي الصلاة فيما دون الخمس فإذا أفاق عنده من إغمائه متى ما أفاق قضى الصلاة . وعند الآخر أنه إذا أفاق في أوقات الضرورة لزمته الصلاة التي أفاق في وقتها وإذا لم يفق فيها لم تلزمه الصلاة وستأتي مسألة المغمى عليه فيما بعد واتفقوا على أن المرأة إذا طهرت في هذه الأوقات إنما تجب عليها الصلاة التي طهرت في وقتها فإن طهرت عند مالك وقد بقي من النهار أربع ركعات لغروب الشمس إلى ركعة فالعصر فقط لازمة لها وإن بقي خمس ركعات فالصلاتان معا . وعند الشافعي إن بقي ركعة للغروب فالصلاتان معا كما قلنا أو تكبيرة على القول الثاني له وكذلك الأمر عند مالك في المسافر الناسي يحضر في هذه الأوقات أو الحاضر يسافر وكذلك الكافر يسلم في هذه الأوقات : أعني أنه تلزمهم الصلاة وكذلك الصبي يبلغ والسبب في أن جعل مالك الركعة جزءا لآخر الوقت وجعل الشافعي جزء الركعة حدا مثل التكبيرة . منها أن قوله E " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " وهو عند مالك من باب التنبيه بالأقل على الأكثر وعند الشافعي من باب التنبيه بالأكثر على الأقل وأيد هذا بما روي " من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " فإنه فهم من السجدة ههنا جزء من الركعة وذلك على قوله الذي قال فيه : من أدرك منهم تكبيرة قبل الغروب أو الطلوع فقد أدرك الوقت . ومالك يرى أن الحائض إنما تعتد بهذا الوقت بعد الفراغ من طهرها وكذلك الصبي يبلغ . وأما الكافر يسلم فيعتد له بوقت الإسلام دون الفراغ من الطهر وفيه خلاف . والمغمى عليه عند مالك كالحائض وعند عبد الملك كالكافر يسلم . ومالك يرى أن الحائض إذا حاضت في هذه الأوقات وهي لم تصل بعد أن القضاء ساقط عنها والشافعي يرى أن القضاء واجب عليها وهو لازم لمن يرى أن الصلاة تجب بدخول أول الوقت لأنها إذا حاضت وقد مضى من الوقت ما يمكن أن تقع فيه الصلاة فقد وجبت عليها الصلاة إلا أن يقال إن الصلاة إنما تجب بآخر الوقت وهو مذهب أبي حنيفة لا مذهب مالك فهذا كما ترى لازم لقول أبي حنيفة أعني جاريا على أصوله لا على أصول قول مالك
الفصل الثاني من الباب الأول في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
- وهذه الأوقات اختلف العلماء منها في موضعين : أحدهما في عددها والثاني في الصلوات التي يتعلق النهي عن فعلها فيها
- ( المسألة الأولى ) اتفق العلماء على أن ثلاثة من الأوقات منهي عن الصلاة فيها وهي : وقت طلوع الشمس ووقت غروبها ومن لدن تصلي صلاة الصبح حتى تطلع الشمس . واختلفوا في وقتين : في وقت الزوال وفي الصلاة بعد العصر فذهب مالك وأصحابه إلى أن الأوقات المنهي عنها هي أربعة : الطلوع والغروب وبعد الصبح وبعد العصر وأجاز الصلاة عند الزوال . وذهب الشافعي إلى أن هذه الأوقات خمسة كلها منهي عنها إلا وقت الزوال يوم الجمعة فإنه أجاز فيه الصلاة . واستثنى قوم من ذلك الصلاة بعد العصر . وسبب الخلاف في ذلك أحد شيئين : إما معارضة أثر لأثر وإما معارضة الأثر للعمل عند من راعى العمل : أعني عمل أهل المدينة وهو مالك بن أنس فحيث ورد النهي ولم يكن هناك معارض لا من قول ولا من عمل اتفقوا عليه وحيث ورد المعارض اختلفوا . أما اختلافهم في وقت الزوال فلمعارضة العمل فيه للأثر وذلك أنه ثبت من حديث عقبة بن عامر الجهني أنه قال " ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا : حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل وحين تضيف الشمس للغروب " خرجه مسلم وحديث أبو عبد الله الصنابحي في معناه ولكنه منقطع خرجه مالك في موطئه . فمن الناس من ذهب إلى منع الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة كلها . ومن الناس من استثنى من ذلك وقت الزوال إما بإطلاق وهو مالك وإما في يوم الجمعة فقط وهو الشافعي . وأما مالك فلأن العمل عنده بالمدينة لما وجده على الوقتين فقط ولم يجده على الوقت الثالث : أعني الزوال أباح الصلاة فيه وأعتقد أن ذلك النهي منسوخ بالعمل . وأما من لم ير للعمل تأثيرا فبقي على أصله في المنع وقد تكلمنا في العمل وقوته في كتابنا في الكلام الفقهي وهو الذي يدعى بأصول الفقه . وأما الشافعي فلما صح عنده ما روى ابن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر ومعلوم أن خروج عمر كان بعد الزوال على ما صح ذلك من حديث الطنفسة التي كانت تطرح إلى جدار المسجد الغربي فإذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب مع ما رواه أيضا عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة " استثنى من ذلك النهي يوم الجمعة وقوي هذا الأثر عنده العمل في أيام عمر بذلك وإن كان الأثر عنده ضعيفا . وأما من رجح الأثر الثابت في ذلك فبقي على أصله في النهي . وأما اختلافهم في الصلاة بعد صلاة العصر فسببه تعارض الآثار الثابتة في ذلك وذلك أن في ذلك حديثين متعارضين : أحدهما حديث أبي هريرة المتفق على صحته " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس " . والثاني حديث عائشة قالت " ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتين في بيتي قط سرا ولا علانية : ركعتين قبل الفجر وركعتين بعد العصر " فمن رجح حديث أبي هريرة قال بالمنع ومن رجح حديث عائشة أو رآه ناسخا لأنه العمل الذي مات عليه صلى الله عليه وسلم قال بالجواز وحديث أم سلمة يعارض حديث عائشة وفيه " أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين بعد العصر فسألته عن ذلك فقال : إنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر وهما هاتان "
- ( المسألة الثانية ) اختلف العلماء في الصلاة التي لا تجوز في هذه الأوقات فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنها لا تجوز في هذه الأوقات صلاة بإطلاق لا فريضة مقضية ولا سنة ولا نافلة إلا عصر يومه قالوا : فإنه يجوز أن يقضيه عند غروب الشمس إذا نسيه . واتفق مالك والشافعي أنه يقضي الصلوات المفروضة في هذه الأوقات . وذهب الشافعي إلى أن الصلوات التي لا تجوز في هذه الأوقات هي النوافل فقط التي تفعل لغير سبب وأن السنن مثل صلاة الجنازة تجوز في هذه الأوقات ووافقه مالك في ذلك بعد العصر وبعد الصبح : أعني في السنن وخالفه في التي تفعل لسبب مثل ركعتي المسجد فإن الشافعي يجيز هاتين الركعتين بعد العصر وبعد الصبح ولا يجيز ذلك مالك واختلف قول مالك في جواز السنن عند الطلوع والغروب . وقال الثوري في الصلوات التي لا تجوز في هذه الأوقات هي ما عدا الفرض ولم يفرق سنة من نفل فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال : قول هي الصلوات بإطلاق . وقول إنها ما عدا الفروض سواء كانت سنة أو نفلا . وقول إنها النفل دون السنن . وعلى الرواية التي منع مالك فيها صلاة الجنائز عند الغروب قول رابع وهو أنها النفل فقط بعد الصبح والعصر والنفل والسنن معا عند الطلوع والغروب . وسبب الخلاف في ذلك اختلافهم في الجمع بين العمومات المتعارضة في ذلك أعني الواردة في السنة وأي يخص بأي وذلك أن عموم قوله E " إذا نسي أحدكم الصلاة فليصلها إذا ذكرها " يقتضي استغراق جميع الأوقات وقوله في أحاديث النهي في هذه الأوقات " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها " يقتضي أيضا عموم أجناس الصلوات المفروضات والسنن والنوافل فمتى حملنا الحديثين على العموم في ذلك وقع بينهما تعارض هو من جنس التعارض الذي يقع بين العام والخاص إما في الزمان وإما في اسم الصلاة . فمن ذهب إلى الاستثناء في الزمان : أعني الاستثناء الخاص من العام منع الصلوات بإطلاق في تلك الساعات ومن ذهب إلى استثناء الصلاة المفروضة المنصوص عليها بالقضاء من عموم اسم الصلاة المنهي عنها منع ما عدا الفرض في تلك الأوقات وقد رجح مالك مذهبه من استثناء الصلوات المفروضة من عموم لفظ الصلاة بما ورد من قوله E " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " ولذلك استثنى الكوفيون عصر اليوم من الصلوات المفروضة لكن قد كان يجب عليهم أن يستثنوا من ذلك صلاة الصبح أيضا للنص الوارد فيها ولا يردوا ذلك برأيهم من أن المدرك لركعة قبل الطلوع يخرج للوقت المحظور والمدرك لركعة قبل الغروب يخرج للوقت المباح . وأما الكوفيون فلهم أن يقولوا إن هذا الحديث ليس يدل على استثناء الصلوات المفروضة من عموم اسم الصلاة التي تعلق النهي بها في تلك الأيام لأن عصر اليوم ليس في معنى سائر الصلوات المفروضة وكذلك كان لهم أن يقولوا في الصبح لو سلموا أنه يقضى في الوقت المنهي عنه فإذا الخلاف بينهم آيل إلى أن المستثنى الذي ورد به اللفظ هل هو من باب الخاص أريد به الخاص أم من باب الخاص أريد به العام ؟ وذلك أن من رأى أن المفهوم من ذلك هي صلاة العصر والصبح فقط المنصوص عليهما فهو عنده من باب الخاص أريد به الخاص ومن رأى أن المفهوم من ذلك ليس هو صلاة العصر فقط ولا الصبح بل هي جميع الصلاة المفروضة فهو عنده من باب الخاص أريد به العام وإذا كان ذلك كذلك فليس ها هنا دليل قاطع على أن الصلوات المفروضة هي المستثناة من اسم الصلاة الفائتة كما أنه ليس ههنا دليل أصلا لا قاطع ولا غير قاطع على استثناء الزمان الخاص الوارد في أحاديث النهي من الزمان العام الوارد في أحاديث الأمر دون استثناء الصلاة الخاصة المنطوق بها في أحاديث الأمر من الصلاة العامة المنطوق بها في أحاديث النهي وهذا بين فإنه إذا تعارض حديثان في كل واحد منهما عام وخاص لم يجب أن يصار إلى تغليب أحدهما إلا بدليل : أعني استثناء خاص هذا من عام ذاك أو خاص ذاك من عام هذا وذلك بين والله أعلم
الباب الثاني في معرفة الأذان والإقامة
- هذا الباب ينقسم أيضا إلى فصلين : الأول في الأذان . والثاني في الإقامة
الفصل الأول
- هذا الفصل ينحصر الكلام فيه في خمسة أقسام : الأول : صفته . الثاني : في حكمه . الثالث : في وقته . الرابع : في شروطه . الخامس : فيما يقوله السامع له
- القسم الأول من الفصل الأول من الباب الثاني في صفة الأذان
اختلف العلماء في الأذان على أربع صفات مشهورة : إحداها تثنية التكبير فيه وتربيع الشهادتين وباقيه مثنى وهو مذهب أهل المدينة مالك وغيره واختار المتأخرون من أصحاب مالك الترجيع وهو أن يثني الشهادتين أولا خفيا ثم يثنيهما مرة ثانية مرفوع الصوت . والصفة الثانية أذان المكيين وبه قال الشافعي وهو تربيع التكبير الأول والشهادتين وتثنية باقي الأذان والصفة الثالثة أذان الكوفيين وهو تربيع التكبير الأول وتثنية باقي الأذان وبه قال أبو حنيفة . والصفة الرابعة أذان البصريين وهو تربيع التكبير الأول وتثليث الشهادتين وحي على الصلاة وحي على الفلاح ويبدأ بأشهد أن لا إله إلا الله حتى يصل إلى حي على الفلاح ثم يعيد كذلك مرة ثانية : أعني الأربع كلمات تبعا ثم يعيدهن ثالثة وبه قال الحسن البصري وابن سيرين . والسبب في اختلاف كل واحد من هؤلاء الأربع فرق اختلاف الآثار في ذلك واختلاف اتصال العمل عند كل واحد منهم وذلك أن المدنيين يحتجون لمذهبهم بالعمل المتصل بذلك في المدينة والمكيون كذلك أيضا يحتجون بالعمل المتصل عندهم بذلك وكذلك الكوفيون والبصريون ولكل واحد منهم آثار تشهد لقوله . أما تثنية التكبير في أوله على مذهب أهل الحجاز فروي من طرق صحاح عن أبي محذورة وعبد الله بن زيد الأنصاري وتربيعه أيضا مروي عن أبي محذورة من طرق أخر وعن عبد الله بن زيد . قال الشافعي : وهي زيادات يجب قبولها مع اتصال العمل بذلك بمكة . وأما الترجيع الذي اختاره المتأخرون من أصحاب مالك فروي من طريق أبي قدامة : قال أبو عمر : وأبو قدامة عندهم ضعيف . وأما الكوفيون فبحديث أبي ليلى وفيه " أن عبد الله بن زيد رأى في المنام رجلا قام على خرم حائط وعليه بردان أخضران فأذن مثنى وأقام مثنى وأنه أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام بلال فأذن مثنى وأقام مثنى " والذي خرجه البخاري في هذا الباب إنما هو من حديث أنس فقط وهو " أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا قد قامت الصلاة فإنه يثنيها " وخرج مسلم عن أبي محذورة على صفة أذان الحجازين ولمكان هذا التعارض الذي ورد في الأذان رأى أحمد بن حنبل وداود أن هذه الصفات المختلفة إنما وردت على التخيير لا على إيجاب واحدة منها وأن الإنسان مخير فيها واختلفوا في قول المؤذن في صلاة الصبح الصلاة خير من النوم هل يقال فيها أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أنه يقال ذلك فيها . وقال آخرون : إنه لا يقال لأنه ليس من الأذان المسنون وبه قال الشافعي . وسبب اختلافهم اختلافهم هل قيل ذلك في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ؟ أو إنما قيل في زمان عمر ؟
- القسم الثاني من الفصل الأول من الباب الثاني
اختلف العلماء في حكم الأذان هل هو واحب أو سنة مؤكدة وإن كان واجبا فهل هو من فروض الأعيان أو من فروض الكفاية ؟ فقيل عن مالك إن الأذان هو فرض على مساجد الجماعات وقيل سنة مؤكدة ولم يره على المنفرد لا فرضا ولا سنة . وقال بعض أهل الظاهر هو واجب على الأعيان . وقال بعضهم : على الجماعة كانت في سفر أو في حضر . وقال بعضهم : في السفر . واتفق الشافعي وأبو حنيفة على أنه سنة للمنفرد والجماعة إلا أنه آكد في حق الجماعة . قال أبو عمر : واتفق الكل على أنه سنة مؤكدة أو فرض على المصري لما ثبت " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع النداء لم يغر وإذا لم يسمعه أغار " . والسبب في اختلافهم معارضة المفهوم من ذلك لظواهر الآثار وذلك أنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث ولصاحبه " إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما " وكذلك ما روي من اتصال عمله به صلى الله عليه وسلم في الجماعة فمن فهم من هذا الوجوب مطلقا قال إنه فرض على الأعيان أو على الجماعة وهو الذي حكاه ابن المغلس عن داود ومن فهم منه الدعاء إلى الاجتماع للصلاة قال إنه سنة المساجد أو فرض في المواضع التي يجتمع إليها الجماعة . فسبب الخلاف هو تردده بين أن يكون قولا من أقاويل الصلاة المختصة بها أو يكون المقصود به هو الاجتماع
- القسم الثالث من الفصل الأول في وقته
وأما وقت الأذان فاتفق الجميع على أنه لا يؤذن للصلاة قبل وقتها ما عدا الصبح فإنه اختلفوا فيها فذهب مالك والشافعي إلى أنه يجوز أن يؤذن لها قبل الفجر ومنع ذلك أبو حنيفة وقال قوم : لا بد للصبح إذا أذن لها قبل الفجر من أذان بعد الفجر لأن الواجب عندهم هو الأذان بعد الفجر . وقال أبو محمد بن حزم : لا بد لها من أذان بعد الوقت وإن أذن قبل الوقت جاز إذا كان بينهما زمان يسير قدر ما يهبط الأول ويصعد الثاني . والسبب في اختلافهم أنه ورد في ذلك حديثان متعارضان : أحدهما الحديث المشهور الثابت وهو قوله E " إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم وكان ابن مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت . والثاني ما روي عن ابن عمر " أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي : ألا إن العبد قد نام " وحديث الحجازين أثبت وحديث الكوفيين أيضا خرجه أبو داود وصححه كثير من أهل العلم فذهب الناس في هذين الحديثين إما مذهب الجمع وإما مذهب الترجيح فأما من ذهب مذهب الترجيح فالحجازيون فإنهم قالوا : حديث بلال أثبت والمصير إليه أوجب . وأما من ذهب مذهب الجمع فالكوفيون وذلك أنهم قالوا : يحتمل أن يكون نداء بلال في وقت يشك فيه في طلوع الفجر لأنه كان في بصره ضعف ويكون نداء ابن أم مكتوم في وقت يتيقن فيه طلوع الفجر ويدل على ذلك ما روي عن عائشة أنها قالت " لم يكن بين أذانيهما إلا بقدر ما يهبط هذا ويصعد هذا " وأما من قال إنه يجمع بينهما : أعني أن يؤذن قبل الفجر وبعده فعلى ظاهر ماروي من ذلك في صلاة الصبح خاصة أعني أنه كان يؤذن لها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم
- القسم الرابع من الفصل الأول من الشروط
وفي هذا القسم مسائل ثمانية : إحداها هل من شروط من أذن أن يكون هو الذي يقيم أم لا ؟ والثانية هل من شرط الأذان أن لا يتكلم في أثنائه أم لا ؟ والثالثة هل من شرطه أن يكون على طهارة أم لا ؟ والرابعة هل من شرطه أن يكون متوجها إلى القبلة أم لا ؟ والخامسة هل من شرطه أن يكون قائما أم لا ؟ والسادسة هل يكره أذان الراكب أم ليس يكره ؟ والسابعة هل من شرطه البلوغ أم لا ؟ والثامنة هل من شرطه أن لا يأخذ على الأذان أجرا أم يجوز له أن يأخذه ؟ . فأما اختلافهم في الرجلين يؤذن أحدهما ويقيم الآخر فأكثر فقهاء الأمصار على إجازة ذلك وذهب بعضهم إلى أن ذلك لا يجوز والسبب في ذلك أنه ورد في هذا حديثان متعارضان : أحدهما حديث الصدائي قال " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان أوان الصبح أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم " . والحديث الثاني ما روي أن عبد الله بن زيد حين أري الأذان رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن ثم أمر عبد الله فأقام . فمن ذهب مذهب النسخ قال : حديث عبد الله بن زيد متقدم وحديث الصدائي متأخر . ومن ذهب مذهب الترجيح قال : حديث عبد الله بن زيد أثبت لأن حديث الصدائي انفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم . وأما اختلافهم في الأجرة على الأذان فلمكان اختلافهم في تصحيح الخبر الوارد في ذلك : أعني حديث عثمان بن أبي العاص أنه قال " إن من آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا " ومن منعه قاس الأذان في ذلك على الصلاة . وأما سائر الشروط الأخر فسبب الخلاف فيها هو قياسها على الصلاة فمن قاسها على الصلاة أوجب تلك الشروط الموجودة في الصلاة ومن لم يقسها لم يوجب ذلك . قال أبو عمر بن عبد البر : قد روينا عن أبي وائل بن حجر قال : حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن إلا وهو قائم ولا يؤذن إلا على طهر قال : وأبو وائل هو من الصحابة وقوله سنة يدخل في المسند وهو أولى من القياس . قال القاضي : وقد خرج الترمذي عن أبي هريرة أنه E قال " لا يؤذن إلا متوضئ "
- القسم الخامس
اختلف العلماء فيما يقوله السامع للمؤذن فذهب قوم إلى أنه يقول ما يقول المؤذن كلمة بكلمة إلى آخر النداء وذهب آخرون إلى أنه يقول مثل ما يقول المؤذن إلا إذا قال حي على الصلاة حي على الفلاح فإنه يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله . والسبب في الاختلاف في ذلك تعارض الآثار وذلك أنه قد روي من حديث أبي سعيد الخدري أنه E قال " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول " وجاء من طريق عمر بن الخطاب وحديث معاوية أن السامع يقول عند حي على الفلاح لا حول ولا قوة إلا بالله . فمن ذهب مذهب الترجيح أخذ بعموم حديث أبي سعيد الخدري ومن بنى العام في ذلك على الخاص جمع بين الحديثين وهو مذهب مالك بن أنس
الفصل الثاني من الباب الثاني من الجملة الثانية في الإقامة
- اختلفوا في الإقامة في موضعين في حكمها وفي صفتها . أما حكمها فإنها عند فقهاء الأمصار في حق الأعيان والجماعات سنة مؤكدة أكثر من الأذان وهي عند أهل الظاهر فرض ولا أدري هل هي فرض عندهم على الإطلاق أو فرض من فروض الصلاة ؟ والفرق بينهما أن على القول الأول لا تبطل الصلاة بتركها . وعلى الثاني تبطل . وقال ابن كنانة من أصحاب مالك : من تركها عامدا بطلت صلاته . وسبب هذا الاختلاف اختلافهم هل هي من الأفعال التي وردت بيانا لمجمل الأمر بالصلاة فيحمل على الوجوب لقوله E " صلوا كما رأيتموني أصلي " أم هي من الأفعال التي تحمل على الندب ؟ وظاهر حديث مالك بن الحويرث يوجب كونها فرضا إما في الجماعة وإما على المنفرد . وأما صفة الإقامة فإنها عند مالك والشافعي . إما التكبير الذي في أولها فمثنى . وأما ما بعد ذلك فمرة واحدة إلا قوله قد قامت الصلاة فإنها عند مالك مرة واحدة وعند الشافعي مرتين . وأما الحنفية فإن الإقامة عندهم مثنى مثنى وخير أحمد بن حنبل بين الإفراد والتثنية على رأيه في التخيير في النداء . وسبب الاختلاف تعارض حديث أنس في هذا المعنى وحديث أبي ليلى المتقدم وذلك أن في حديث أنس الثابت أمر بلال أن يشفع الأذان ويفرد الإقامة إلا قد قامت الصلاة . وفي حديث أبي ليلى أنه E أمر بلالا فأذن مثنى وأقام مثنى . والجمهور أنه ليس على النساء أذان ولا إقامة . وقال مالك : إن أقمن فحسن وقال الشافعي : إن أذن وأقمن فحسن وقال إسحاق : إن عليهن الأذان والإقامة . وروي عن عائشة أنها كانت تؤذن وتقيم فيما ذكره ابن المنذر والخلاف آيل إلى هل تؤم المرأة أو لا تؤم ؟ وقيل الأصل أنها في معنى الرجل في كل عبادة إلا أن يقوم الدليل على تخصيصها أم في بعضها هي كذلك وفي بعضها يطلب الدليل ؟
الباب الثالث من الجملة الثانية في القبلة
- اتفق المسلمون على أن التوجه نحو البيت شرط من شروط صحة الصلاة لقوله تعالى { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام } أما إذا أبصر البيت فالفرض عندهم هو التوجه إلى عين البيت ولا خلاف في ذلك . وأما إذا غابت الكعبة عن الأبصار فاختلفوا من ذلك في موضعين : أحدهما هل الفرض هو العين أو الجهة ؟ والثاني هل فرضه الإصابة أو الاجتهاد : أعني إصابة الجهة أو العين عند من أوجب العين ؟ فذهب قوم إلى أن الفرض هو العين وذهب آخرون إلى أنه الجهة . والسبب في اختلافهم هل في قوله تعالى { فول وجهك شطر المسجد الحرام } محذوف حتى يكون تقديره : ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام أم ليس ههنا محذوف أصلا وأن الكلام على حقيقته ؟ فمن قدر هنالك محذوفا قال : الفرض الجهة ومن لم يقدر هنالك محذوفا قال : الفرض العين والواجب حمل الكلام على الحقيقة حتى يدل الدليل على حمله على المجاز وقد يقال إن الدليل على تقدير هذا المحذوف قوله E " ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه نحو البيت " قالوا : واتفاق المسلمين على الصف الطويل خارج الكعبة يدل على أن الفرض ليس هو العين أعني إذا لم تكن الكعبة مبصرة . والذي أوله إنه لو كان واجبا قصد العين لكان حرجا قد قال تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } فإن إصابة العين شيء لا يدرك إلا بتقريب وتسامح بطريق الهندسة واستعمال الأرصاد في ذلك فكيف بغير ذلك من طرق الاجتهاد ونحن لم نكلف الاجتهاد فيه بطريق الهندسة المبني على الأرصاد المستنبط منها طول البلاد وعرضها
- ( وأما المسألة الثانية ) فهي هل فرض المجتهد في القبلة الإصابة أو الاجتهاد فقط حتى يكون إذا قلنا إن فرضه الإصابة متى تبين له أنه أخطأ أعاد الصلاة . ومتى قلنا إن فرضه الاجتهاد لم يجب أن يعيد إذا تبين له الخطأ وقد كان صلى قبل اجتهاده . أما الشافعي فزعم أن فرضه الإصابة وأنه إذا تبين له أنه أخطأ أعاد أبدا . وقال قوم : لا يعيد وقد مضت صلاته ما لم يتعمد أو صلى بغير اجتهاد وبه قال مالك وأبو حنيفة إلا أن مالكا استحب له الإعادة في الوقت . وسبب الخلاف في ذلك معارضة الأثر للقياس مع الاختلاف أيضا في تصحيح الأثر الوارد في ذلك . أما القياس فهو تشبيه الجهة بالوقت : أعني بوقت الصلاة وذلك أنهم أجمعوا على أن الفرض فيه هو الإصابة وأنه إن انكشف للمكلف أنه صلى قبل الوقت أعاد أبدا إلا خلافا شاذا في ذلك عن ابن عباس وعن الشعبي وما روي عن مالك من أن المسافر إذا جهل فصلى العشاء قبل غيبوية الشفق ثم انكشف له أنه صلاها قبل غيبوبة الشفق أنه قد مضت صلاته ووجه الشبه بينهما أن هذا ميقات وقت وهذا ميقات جهة . وأما الأثر فحديث عامر بن ربيعة قال " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء في سفر فخفيت علينا القبلة فصلى كل واحد منا إلى وجه وعلمنا فلما أصبحنا فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : مضت صلاتكم ونزلت { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله } وعلى هذا فتكون هذه الآية محكمة وتكون فيمن صلى فانكشف له أنه صلى لغير القبلة والجمهور على أنها منسوخة بقوله تعالى { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام } فمن لم يصح عنده هذا الأثر قاس ميقات الجهة على ميقات الزمان ومن ذهب مذهب الأثر لم تبطل صلاته . وفي هذا الباب مسألة مشهورة وهي جواز الصلاة في داخل الكعبة . وقد اختلفوا في ذلك فمنهم من منعه على الإطلاق ومنهم من أجازه على الإطلاق ومنهم من فرق بين النفل في ذلك والفرض . وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك والاحتمال المتطرق لمن استقبل أحد حيطانها من داخل هل يسمى مستقبلا للبيت كما يسمى من استقبله من خارج أم لا ؟ أما الأثر فإنه ورد في ذلك حديثان متعارضان كلاهما ثابت : أحدهما حديث ابن عباس قال " لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال : هذه القبلة " والثاني حديث عبد الله بن عمر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال بن رباح فأغلقها عليه ومكث فيها فسألت بلالا حين خرج ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : جعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه ثم صلى " فمن ذهب مذهب الترجيح أو النسخ قال إما بمنع الصلاة مطلقا إن رجح حديث ابن عباس وإما بإجازتها مطلقا إن رجح حديث ابن عمر ومن ذهب مذهب الجمع بينهما حمل حديث ابن عباس على الفرض وحديث ابن عمر على النفل والجمع بينهما فيه عسر فإن الركعتين اللتين صلاهما E خارج الكعبة وقال " هذه القبلة " هي نفل ومن ذهب مذهب سقوط الأثر عند التعارض فإن كان ممن يقول باستصحاب حكم الإجماع والاتفاق لم يجز الصلاة داخل البيت أصلا وإن كان ممن لا يرى استصحاب حكم الإجماع عاد النظر في انطلاق اسم المستقبل للبيت على من صلى داخل الكعبة فمن جوزه أجاز الصلاة ومن لم يجوزه وهو الأظهر لم يجز الصلاة في البيت واتفق العلماء بأجمعهم على استحباب السترة بين المصلي والقبلة إذا صلى منفردا كان أو إماما وذلك لقوله E " إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل " واختلفوا في الخط إذا لم يجد سترة فقال الجمهور : ليس عليه أن يخط . وقال أحمد بن حنبل : يخط خطا بين يديه . وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح الأثر الوارد في الخط والأثر رواه أبو هريرة أنه E قال " إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يكن فلينصب عصا فإن لم تكن معه عصا فليخط خطا ولا يضره من مر بين يديه " خرجه أبو داود وكان أحمد بن حنبل يصححه والشافعي لا يصححه وقد روي " أنه صلى الله عليه وسلم صلى لغير سترة " والحديث الثابت أنه كان يخرج له العنزة فهذه جملة قواعد هذا الباب وهي أربع مسائل
الباب الرابع من الجملة الثانية
- وهذا الباب ينقسم إلى فصلين : أحدهما في ستر العورة والثاني فيما يجزئ من اللباس في الصلاة
الفصل الأول
- اتفق العلماء على أن ستر العورة فرض بإطلاق واختلفوا هل هو شرط من شروط صحة الصلاة أم لا ؟ وكذلك اختلفوا في حد العورة من الرجل والمرأة وظاهر مذهب مالك أنها من سنن الصلاة وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنها من فروض الصلاة وسبب الخلاف في ذلك تعارض الآثار واختلافهم في مفهوم قوله تعالى { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } هل الأمر بذلك على الوجوب أو على الندب ؟ فمن حمله على الوجوب قال : المراد به ستر العورة واحتج لذلك بأن سبب نزول هذه الآية كان أن المرأة كانت تطوف بالبيت عريانة وتقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
فأنزلت هذه الآية " وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان " ومن حمله على الندب قال : المراد بذلك الزينة الظاهرة من الرداء وغير ذلك من الملابس التي هي زينة واحتج لذلك بما جاء في الحديث من أنه كان رجال يصلون مع النبي E عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان ويقال للنساء لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا قالوا : ولذلك من لم يجد ما به يستر عورته لم يختلف في أنه يصلي واختلف فيمن عدم الطهارة هل يصلي أم لا يصلي ؟
- ( وأما المسألة الثانية ) وهي حد العورة من الرجل فذهب مالك والشافعي إلى أن حد العورة منه ما بين السرة إلى الركبة وكذلك قال أبو حنيفة وقال قوم : العورة هما السوأتان فقط من الرجل . وسبب الخلاف في ذلك أثران متعارضان كلاهما ثابت : أحدهما حديث جرهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الفخذ عورة " . والثاني حديث أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم حسر عن فخذه وهو جالس مع أصحابه " قال البخاري وحديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط وقد قال بعضهم العورة الدبر والفرج والفخذ
- ( وأما المسألة الثالثة ) وهي حد العورة في المرأة فأكثر العلماء على أن بدنها كله عورة ما خلى الوجه والكفين وذهب أبو حنيفة إلى أن قدمها ليست بعورة وذهب أبو بكر بن عبد الرحمن وأحمد إلى أن المرأة كلها عورة . وسبب الخلاف في ذلك احتمال قوله تعالى { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } هل هذا المستثنى المقصود منه أعضاء محدودة أم إنما المقصود به ما لا يملك ظهوره ؟ فمن ذهب إلى أن المقصود من ذلك ما لا يملك ظهوره عند الحركة قال : بدنها كله عورة حتى ظهرها واحتج لذلك بعموم قوله تعالى { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين } الآية ومن رأى أن المقصود من ذلك ما جرت به العادة بأنه لا يستر وهو الوجه والكفان ذهب إلى أنهما ليسا بعورة واحتج لذلك بأن المرأة ليست تستر وجهها في الحج
الفصل الثاني من الباب الرابع فيما يجزئ في اللباس في الصلاة
- أما اللباس فالأصل فيه قوله تعالى { خذوا زينتكم عند كل مسجد } والنهي الوارد عن هيئات بعض الملابس في الصلاة وذلك أنهم اتفقوا فيما أحسب على أن الهيئات من اللباس التي نهي عن الصلاة فيها مثل اشتمال الصماء وهو أن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء وسائر ما ورد من ذلك أن ذلك كله سد ذريعة ألا تنكشف عورته ولا أعلم أن أحدا قال لا تجوز صلاة على إحدى هذه الهيئات إن لم تنكشف عورته وقد كان على أصول أهل الظاهر يجب ذلك واتفقوا على أنه يجزئ الرجل من اللباس في الصلاة الثوب الواحد لقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل أيصلي الرجل في الثوب الواحد ؟ فقال " أو لكلكم ثوبان ؟ " واختلفوا في الرجل يصلي مكشوف الظهر والبطن فالجمهور على جواز صلاته لكون الظهر والبطن من الرجل ليسا بعورة وشذ قوم فقالوا : لا تجوز صلاته لنهيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء وتمسك بوجوب قوله تعالى { خذوا زينتكم عند كل مسجد } واتفق الجمهور على أن اللباس المجزئ للمرأة في الصلاة هو درع وخمار لما روي عن أم سلمة " أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا تصلي فيه المرأة ؟ فقال : في الخمار والدرع السابغ إذا غيبت ظهور قدميها " ولما روي أيضا عن عائشة عن النبي E أنه قال " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " وهو مروي عن عائشة وميمونة وأم سلمة أنهم كانوا يفتون بذلك وكل هؤلاء يقولون إنها إن صلت مكشوفة أعادت في الوقت وبعده إلا مالكا فإنه قال : إنها تعيد في الوقت فقط . والجمهور على أن الخادم لها أن تصلي مكشوفة الرأس والقدمين وكان الحسن البصري يوجب عليها الخمار واستحبه عطاء . وسبب الخلاف الخطاب المتوجه إلى الجنس الواحد هل يتناول الأحرار والعبيد معا أم الأحرار فقط دون العبيد ؟ واختلفوا في صلاة الرجل في الثوب الحرير فقال قوم : تجوز صلاته فيه . وقال قوم : لا تجوز . وقوم استحبوا له الإعادة في الوقت . وسبب اختلافهم في ذلك هل الشيء المنهي عنه مطلقا اجتنابه شرط في صحة الصلاة أم لا ؟ فمن ذهب إلى أنه شرط : قال إن الصلاة لا تجوز به ومن ذهب إلى أنه يكون بلباسه مأثوما والصلاة جائزة قال : ليس شرطا في صحة الصلاة كالطهارة التي هي شرط وهذه المسألة هي من نوع الصلاة في الدار المغصوبة والخلاف فيها مشهور
الباب الخامس
- وأما الطهارة من النجس فمن قال إنها سنة مؤكدة فيبعد أن يقول إنها فرض في الصلاة أي من شروط صحتها . ومن قال إنها فرض بإطلاق فيجوز أن يقول إنها فرض في الصلاة ويجوز أن لا يقول ذلك وحكى عبد الوهاب عن المذهب في ذلك قولين : أحدهما إن إزالة النجاسة شرط في صحة الصلاة في حال القدرة والذكر والقول الآخر إنها ليست شرطا . والذي حكاه من أنها شرط لا يتخرج على مشهور المذهب من أن غسل النجاسة سنة مؤكدة وإنما يتخرج على القول بأنها فرض مع الذكر والقدرة وقد مضت هذه المسألة في كتاب الطهارة وعرف هنالك أسباب الخلاف فيها وإنما الذي يتعلق به ههنا الكلام من ذلك : هل ما هو فرض مطلق مما يقع في الصلاة يجب أن يكون فرضا في الصلاة أم لا ؟ والحق أن الشيء المأمور به على الإطلاق لا يجب أن يكون شرطا في صحة شيء ما ( آخر مأمور به وإن وقع فيه إلا بأمر آخر وكذلك الأمر في الشيء المنهي عنه على الإطلاق لا يجب أن يكون شرطا في صحة شيء ما ) ( ما بين القوسين غير موجود بالنسخة المصرية لكنه مثبت في النسخة الفاسية اه ) إلا بأمر آخر
الباب السادس
- وأما المواضع التي يصلي فيها فإن من الناس من أجاز الصلاة في كل موضع لا تكون فيه نجاسة ومنهم من استثنى من ذلك سبعة مواضع : المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق والحمام ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله ومنهم من استثنى من ذلك المقبرة فقط ومنهم من استثنى المقبرة والحمام ومنهم من كره الصلاة في هذه المواضع المنهي عنها ولم يبطلها وهو أحد ما روي عن مالك وقد روي عنه الجواز وهذه رواية ابن القاسم . وسبب اختلافهم تعارض ظواهر الآثار في هذا الباب وذلك أن ههنا حديثين متفق على صحتهما وحديثين مختلف فيهما . فأما المتفق عليهما فقوله E " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي وذكر فيها : وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأينما أدركتني الصلاة صليت " وقوله E " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا " وأما الغير المتفق عليهما فأحدهما ما روي " أنه E نهى أن يصلي في سبعة مواطن : في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله " خرجه الترمذي . والثاني ما روي أنه قال E " صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل " فذهب الناس في هذه الأحاديث ثلاثة مذاهب : أحدهما مذهب الترجيح والنسخ والثاني مذهب البناء : أعني بناء الخاص على العام والثالث مذهب الجمع . فأما من ذهب مذهب الترجيح والنسخ فأخذ بالحديث المشهور وهو قوله E " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " وقال هذا ناسخ لغيره لأن هذه هي فضائل له E وذلك مما لا يجوز نسخه . وأما من ذهب مذهب بناء الخاص على العام فقال : حديث الإباحة عام وحديث النهي خاص فيجب أن يبني الخاص على العام . فمن هؤلاء من استثنى السبعة مواضع ومنهم من استثنى الحمام والمقبرة وقال : هذا هو الثابت عنه E لأنه قد روي أيضا النهي عنهما مفردين . ومنهم من استثنى المقبرة فقط للحديث المتقدم . وأما من ذهب مذهب الجمع ولم يستثن خاصا من عام فقال أحاديث النهي محمولة على الكراهة والأول على الجواز . واختلفوا في الصلاة في البيع والكنائس فكرهها قوم وأجازها قوم وفرق قوم بين أن يكون فيها صور أو لا يكون وهو مذهب ابن عباس لقول عمر : لا تدخل كنائسهم من أجل التماثيل والعلة فيمن كرهها لا من أجل التصاوير حملها على النجاسة واتفقوا على الصلاة على الأرض واختلفوا في الصلاة على الطنافس وغير ذلك مما يقعد عليه على الأرض والجمهور على إباحة السجود على الحصير وما يشبهه مما تنبت الأرض والكراهية بعد ذلك وهو مذهب مالك بن أنس ( لا يخفى ما في هذه العبارة فتدبر )
الباب السابع . في معرفة الشروط التي هي شروط في صحة الصلاة
- وأما التروك المشترطة في الصلاة فاتفق المسلمون على أن منها قولا ومنها فعلا . فأما الأفعال فجميع الأفعال المباحة التي ليست من أفعال الصلاة إلا قتل العقرب والحية في الصلاة فإنهم اختلفوا في ذلك لمعارضة الأثر في ذلك للقياس واتفقوا فيما أحسب على جواز الفعل الخفيف . وأما الأقوال فهي أيضا الأقوال التي ليست من أقاويل الصلاة وهذه أيضا لم يختلفوا أنها تفسد الصلاة عمدا لقوله تعالى { وقوموا لله قانتين } ولما ورد من قوله E " إن الله يحدث من أمره ما يشاء " ومما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة وهو حديث ابن مسعود وحديث زيد بن أرقم أنه قال " كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت { وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام " وحديث معاوية بن الحكم السلمي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتهليل والتحميد وقراءة القرآن " إلا أنهم اختلفوا من ذلك في موضعين : أحدهما إذا تكلم ساهيا والآخر إذا تكلم عامدا لإصلاح الصلاة . وشذ الأوزاعي فقال : من تكلم في الصلاة لإحياء نفس أو لأمر كبير فإنه يبنى . والمشهور من مذهب مالك أن التكلم عمدا على جهة الإصلاح لا يفسدها . وقال الشافعي : يفسدها التكلم كيف كان إلا مع النسيان . وقال أبو حنيفة : يفسدها التكلم كيف كان . والسبب في اختلافهم تعارض ظواهر الأحاديث في ذلك وذلك أن الأحاديث المتقدمة تقتضي تحريم الكلام على العموم وحديث أبي هريرة المشهور " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين : اقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصدق ذو اليدين ؟ فقالوا : نعم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين أخريين ثم سلم " ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم والناس معه وأنهم بنوا بعد التكلم ولم يقطع ذلك التكلم صلاتهم فمن أخذ بهذا الظاهر ورأى أن هذا شيء يخص الكلام لإصلاح الصلاة استثنى هذا من ذلك العموم وهو مذهب مالك بن أنس ومن ذهب إلى أنه ليس في الحديث دليل على أنهم تكلموا عمدا في الصلاة وإنما يظهر منهم أنهم تكلموا وهم يظنون أن الصلاة قد قصرت وتكلم النبي E وهو يظن أن الصلاة قد تمت ولم يصح عنده أن الناس قد تكلموا بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما قصرت الصلاة وما نسيت " قال : إن المفهوم من الحديث إنما هو إجازة الكلام لغير العامد فإذا السبب في اختلاف مالك والشافعي في المستثنى من ذلك العموم هو اختلافهم في مفهوم هذا الحديث مع أن الشافعي اعتمد أيضا في ذلك أصلا عاما وهو قوله E " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " وأما أبو حنيفة فحمل أحاديث النهي على عمومها ورأى أنها ناسخة لحديث ذي اليدين وأنه متقدم عليها
الباب الثامن . في معرفة النية وكيفية اشتراطها في الصلاة
- وأما النية فاتفق العلماء على كونها شرطا في صحة الصلاة لكون الصلاة هي رأس العبادات التي وردت في الشرع لغير مصلحة معقولة : أعني من المصالح المحسوسة واختلفوا هل من شرط نية المأموم أن توافق نية الإمام في تعيين الصلاة وفي الوجوب حتى لا يجوز أن يصلي المأموم ظهرا بإمام يصلي عصرا ؟ ولا يجوز أن يصلي الإمام ظهرا يكون في حقة نفلا وفي حق المأموم فرضا ؟ فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه يجب أن توافق نية المأموم نية الإمام وذهب الشافعي إلى أنه ليس يجب . والسبب في اختلافهم معارضة مفهوم قوله E " إنما جعل الإمام ليؤتم به " لما جاء في حديث معاذ من أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يصلي بقومه فمن رأى ذلك خاصا لمعاذ وأن عموم قوله E " إنما جعل الإمام ليؤتم به " يتناول النية اشترط موافقة الإمام للمأموم . ومن رأى أن الإباحة لمعاذ في ذلك هي إباحة لغيره من سائر المكلفين وهو الأصل قال : لا يخلو الأمر في ذلك الحديث الثاني من أحد أمرين : إما أن يكون ذلك العموم الذي فيه لا يتناول النية لأن ظاهره إنما هو في الأفعال فلا يكون بهذا الوجه معارضا لحديث معاذ وإما أن يكون يتناولها فيكون حديث معاذ قد خصص في ذلك العموم . وفي النية مسائل ليس لها تعلق بالمنطوق به من الشرع رأينا تركها إذ كان غرضنا على القصد الأول إنما هو الكلام في المسائل التي تتعلق بالمنطوق به من الشرع
( الجملة الثالثة من كتاب الصلاة ) وهي معرفة ما تشتمل عليه من الأقوال والأفعال وهي الأركان والصلوات المفروضة تختلف في هذين بالزيادة والنقصان إما من قبل الانفراد والجماعة وإما من قبل الزمان مثل مخالفة ظهر الجمعة لظهر سائر الأيام وإما من قبل الحضر والسفر وإما من قبل الأمن والخوف وإما من قبل الصحة والمرض فإذا أريد أن يكون القول في هذه صناعيا وجاريا على نظام فيجب أن يقال أولا فيما تشترك فيه هذه كلها ثم يقال فيما يخص واحدة واحدة منها أو يقال في واحدة واحدة منها وهو الأسهل وإن كان هذا النوع من التعليم يعرض منه تكرار ما وهو الذي سلكه الفقهاء ونحن نتبعهم في ذلك فنجعل هذه الجملة منقسمة إلى ستة أبواب . الباب الأول : في صلاة المنفرد الحاضر الآمن الصحيح . الباب الثاني : في صلاة الجماعة : أعني في أحكام الإمام والمأموم في الصلاة . الباب الثالث : في صلاة الجمعة . الباب الرابع : في صلاة السفر . الباب الخامس : في صلاة الخوف . الباب السادس : في صلاة المريض
الباب الأول في صلاة المنفرد الحاضر الآمن الصحيح
- وهذا الباب فيه فصلان : الفصل الأول : في أقوال الصلاة . والفصل الثاني : في أفعال الصلاة
الفصل الأول في أقوال الصلاة . وفي هذا الفصل من قواعد المسائل تسع مسائل :
- ( المسألة الأولى ) اختلف العلماء في التكبير على ثلاثة مذاهب : فقوم قالوا : إن التكبير كله واجب في الصلاة . وقوم قالوا : إنه كله ليس بواجب وهو شاذ . وقوم أوجبوا تكبيرة الإحرام فقط وهم الجمهور وسبب اختلاف من أوجبه كله ومن أوجب منه تكبيرة الإحرام فقط : معارضة ما نقل من قوله لما نقل من فعله E فأما ما نقل من قوله فحديث أبي هريرة المشهور أن النبي E قال للرجل الذي علمه الصلاة " إذا أردت الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ " فمفهوم هذا هو أن التكبيرة الأولى هي الفرض فقط ولو كان ما عدا ذلك من التكبير فرضا لذكره له كما ذكر سائر فروض الصلاة . وأما ما نقل من فعله فمنها حديث أبي هريرة " أنه كان يصلي فيكبر كلما حفض ورفع ثم يقول : إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومنها حديث مطرف بن عبد الله بن الشخير قال " صليت أنا وعمران بن الحصين خلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه فكان إذا سجد كبر وإذا رفع رأسه من الركوع كبر فلما قضى صلاته وانصرفنا أخذ عمران بيده فقال : أذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم " فالقائلون بإيجابه تمسكوا بهذا العمل المنقول في هذه الأحاديث وقالوا : الأصل أن تكون كل أفعاله التي أتت بيانا لواجب محمولة على الوجوب كما قال صلى الله عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي " و " خذوا عني مناسككم " وقالت الفرقة الأولى ما في هذه الآثار يدل على أن العمل عند الصحابة إنما كان على إتمام التكبير ولذلك كان أبو هريرة يقول : إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال عمران : أذكرني هذا بصلاته صلاة محمد صلى الله عليه وسلم . وأما من جعل التكبير كله نفلا فضعيف ولعله قاسه على سائر الأذكار التي في الصلاة مما ليست بواجب إذ قاس تكبيرة الإحرام على سائر التكبيرات . قال أبو عمر بن عبد البر : ومما يؤيد مذهب الجمهور ما رواه شعبة بن الحجاج عن الحسن بن عمران عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتم التكبير وصليت مع عمر بن عبد العزيز فلم يتم التكبير . وما رواه أحمد بن حنبل عن عمر رضي الله عنه أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده وكأن هؤلاء رأوا أن التكبير إنما هو لمكان إشعار الإمام للمأمومين بقيامه وقعوده ويشبه أن يكون إلى هذا ذهب من رآه نفلا
- ( المسألة الثانية ) قال مالك : لا يجزئ من لفظ التكبير إلا الله أكبر . وقال الشافعي : الله أكبر والله الأكبر اللفظان كلاهما يجزئ . وقال أبو حنيفة : يجزئ من لفظ التكبير كل لفظ في معناه مثل : الله الأعظم والله الأجل . وسبب اختلافهم : هل اللفظ هو المتعبد به في الافتتاح أو المعنى وقد استدل المالكيون والشافعيون بقوله E " مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم " قالوا : والألف واللام ههنا للحصر والحصر يدل على أن الحكم خاص بالمنطوق به وأنه لا يجوز بغيره وليس يوافقهم أبو حنيفة على هذا الأصل فإن هذا المفهوم هو عنده من باب دليل الخطاب وهو أن يحكم للمسكوت عنه بضد حكم المنطوق به ودليل الخطاب عند أبي حنيفة غير معمول به
- ( المسألة الثالثة ) ذهب قوم إلى أن التوجيه في الصلاة واجب وهو أن يقول بعد التكبير : إما { وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض } وهو مذهب الشافعي وإما أن يسبح وهو مذهب أبي حنيفة وإما أن يجمع بينهما وهو مذهب أبي يوسف وصاحبه . وقال مالك ليس التوجيه بواجب في الصلاة ولا بسنة . وسبب الاختلاف معارضة الآثار الواردة بالتوجيه للعمل عند مالك أو الاختلاف في صحة الآثار الواردة بذلك . قال القاضي : قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة قال : فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي : إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول ؟ قال : أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب ( 1 ) الأبيض من الدنس اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد " وقد ذهب قوم إلى استحسان سكتات كثيرة في الصلاة منها حين يكبر ومنها حين يفرغ من قراءة أم القرآن وإذا فرغ من القراءة قبل الركوع وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو ثور والأوزاعي وأنكر ذلك مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه . وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث أبي هريرة أنه قال " كانت له E في صلاته حين يكبر ويفتتح الصلاة وحين يقرأ فاتحة الكتاب وإذا فرغ من القراءة قبل الركوع
_________
( 1 ) [ في نسختنا " البرب " بدل " الثوب " وهو خطأ مطبعي . وتصحيحنا موافق للروايات المشهورة لهذا الدعاء . دار الحديث ]
- ( المسألة الرابعة ) اختلفوا في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في افتتاح القراءة في الصلاة فمنع ذلك مالك في الصلاة المكتوبة جهرا كانت أو سرا لا في استفتاح أم القرآن ولا في غيرها من السور وأجاز ذلك في النافلة . وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد يقرؤها مع أم القرآن في كل ركعة سرا وقال الشافعي : يقرؤها ولا بد في الجهر جهرا وفي السر سرا وهي عنده آية من فاتحة الكتاب وبه قال أحمد وأبو ثور وأبو عبيد . واختلف قول الشافعي هل هي آية من كل سورة ؟ أم إنما هي آية من سورة النمل فقط ومن فاتحة الكتاب ؟ فروي عنه القولان جميعا . وسبب الخلاف في هذا آيل إلى شيئين : أحدهما اختلاف الآثار في هذا الباب والثاني اختلافهم : هل بسم الله الرحمن الرحيم آية من فاتحة الكتاب أم لا ؟ فأما الآثار التي احتج بها من أسقط ذلك فمنها حديث ابن مغفل قال " سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال : يا بني إياك والحدث فإني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم أسمع رجلا منهم يقرؤها " قال أبو عمر بن عبد البر : ابن مغفل رجل مجهول . ومنها ما رواه مالك من حديث أنس أنه قال : " قمت وراء أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكلهم كان لا يقرأ بسم الله إذا افتتحوا الصلاة " قال أبو عمر : وفي بعض الروايات أنه قال : " خلف النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم " فقال أبو عمر : إلا أن أهل الحديث قالوا في حديث أنس هذا : إن النقل فيه مضطرب اضطرابا لا تقوم به حجة وذلك أن مرة روي عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومرة لم يرفع ومنهم من يذكر عثمان ومن لا يذكره ومنهم من يقول : فكانوا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم ومنهم من يقول : فكانوا لا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم . ومنهم من يقول : فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم . وأما الأحاديث المعارضة لهذا فمنها حديث نعيم بن عبد الله المجمر قال : صليت خلف أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم قبل أم القرآن وقبل السورة وكبر في الخفض والرفع وقال : أنا أشبهكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومنها حديث ابن عباس " أن النبي E كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم " ومنها حديث أم سلمة أنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين " فاختلاف هذه الآثار أحد ما أوجب اختلافهم في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة . والسبب الثاني كما قلنا هو : هل بسم الله الرحمن الرحيم آية من أم الكتاب وحدها أو من كل سورة أم ليست آية لا أم الكتاب ولا من كل سورة ؟ فمن رأى أنها آية من أم الكتاب أوجب قراءتها بوجوب قراءة أم الكتاب عنده في الصلاة ومن رأى أنها آية من أول كل سورة وجب عنده أن يقرأها مع السورة . وهذه المسألة قد كثر الاختلاف فيها والمسألة محتملة ولكن من أعجب ما وقع في هذه المسألة أنهم يقولون : ربما اختلف فيه هل بسم الله الرحمن الرحيم آية من القرآن في غير سورة النمل ؟ أم إنما هي آية من القرآن في سورة النمل فقط ؟ ويحكون على جهة الرد على الشافعي أنها لو كانت من القرآن في غير سورة النمل لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن القرآن نقل تواترا هذا الذي قاله القاضي في الرد على الشافعي وظن أنه قاطع وأما أبو حامد فانتصر لهذا بأن قال إنه أيضا لو كانت من غير القرآن لوجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك وهذا كله تخبط وشيء غير مفهوم فإنه كيف يجوز في الآية الواحدة بعينها أن يقال فيها إنها من القرآن في موضع وإنها ليست من القرآن في موضع آخر بل يقال إن بسم الله الرحمن الرحيم قد ثبت أنها من القرآن حيثما ذكرت وأنها آية من سورة النمل وهل هي آية من سورة أم القرآن ومن كل سورة يستفتح بها مختلف فيه والمسألة محتملة وذلك أنها في سائر السور فاتحة وهي جزء من سورة النمل فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم
- ( المسألة الخامسة ) اتفق العلماء على أنه لا تجوز صلاة بغير قراءة لا عمدا ولا سهوا إلا شيئا روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى فنسي القراءة فقيل له في ذلك فقال : كيف كان الركوع والسجود ؟ فقيل حسن فقال : لا بأس إذا وهو حديث غريب عندهم أدخله مالك في موطئه في بعض الروايات وإلا شيئا روي عن ابن عباس أنه لا يقرأ في صلاة السر وأنه قال " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلوات وسكت في أخرى " فنقرأ فيما قرأ ونسكت فيما سكت . وسئل هل في الظهر والعصر قراءة ؟ فقال : لا وأخذ الجمهور بحديث خباب " أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر قيل فبأي شيء كنتم تعرفون ذلك ؟ قال : باضطراب لحيته " وتعلق الكوفيون بحديث ابن عباس في ترك وجوب القراءة في الركعتين الأخيرتين من الصلاة لاستواء صلاة الجهر والسر في سكوت النبي صلى الله عليه وسلم في هاتين الركعتين . واختلفوا في القراءة الواجبة في الصلاة فرأى بعضهم أن الواجب من ذلك أم القرآن لمن حفظها وأن ما عداها ليس فيه توقيت ومن هؤلاء من أوجبها في كل ركعة ومنهم من أوجبها في أكثر الصلاة ومنهم من أوجبها في نصف الصلاة ومنهم من أوجبها في ركعة من الصلاة وبالأول قال الشافعي وهي أشهر الروايات عن مالك وقد روي عنه أنه إن قرأها في ركعتين من الرباعية أجزأته
وأما من رأى أنها تجزئ في ركعة فمنهم الحسن البصري وكثير من فقهاء البصرة . وأما أبو حنيفة فالواجب عنده إنما هو قراءة القرآن أي آية اتفقت أن تقرأ وحد أصحابه في ذلك ثلاث آيات قصار أو آية طويلة مثل آية الدين وهذا في الركعتين الأوليين . وأما في الأخيرتين فيستحب عنده التسبيح فيهما دون القراءة وبه قال الكوفيون . والجمهور يستحبون القراءة فيها كلها . والسبب في هذا الاختلاف تعارض الآثار في هذا الباب ومعارضة ظاهر الكتاب للأثر . أما الآثار المتعارضة في ذلك فأحدها حديث أبي هريرة الثابت " ان رجلا دخل المسجد فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام وقال : ارجع فصل فإنك لم تصل فصلى ثم أمره بالرجوع فعل ذلك ثلاث مرات فقال : والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فقال E : إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تستوي قائما ثم افعل ذلك في صلاتك كلها "
وأما المعارض لهذا فحديثان ثابتان متفق عليهما : أحدهما حديث عبادة بن الصامت أنه E قال " لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب " وحديث أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج ثلاثا " وحديث أبي هريرة المتقدم ظاهره أنه يجزئ من القراءة في الصلاة ما تيسر من القرآن وحديث عبادة وحديث أبي هريرة الثاني يقتضيان أن أم القرآن شرط في الصلاة وظاهر قوله تعالى { فاقرءوا ما تيسر منه } يعضد حديث أبي هريرة المتقدم : والعلماء المختلفون في هذه المسألة إما أن يكونوا ذهبوا في تأويل هذه الأحاديث مذهب الجمع وإما أن يكونوا ذهبوا مذهب الترجيح وعلى كلا القولين يتصور هذا المعنى وذلك أنه من ذهب مذهب من أوجب قراءة ما تيسر من القرآن له أن يقول هذا أرجح لأن ظاهر الكتاب يوافقه وله أن يقول على طريق الجمع أنه يمكن أن يكون حديث عبادة المقصود به نفي الكمال لا نفي الإجزاء وحديث أبي هريرة المقصود منه الإعلام بالمجزئ من القراءة إذا كان المقصود منه تعليم فرائض الصلاة ولأولئك أيضا أن يذهبوا هذين المذهبين بأن يقولوا هذه الأحاديث أوضح لأنها أكثر وأيضا فإن حديث أبي هريرة المشهور يعضده وهو الحديث الذي فيه يقول تعالى " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي " الحديث ولهم أن يقولوا أيضا إن قوله E " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " مبهم والأحاديث الأخر معينة والمعين يقضي على المبهم وهذا فيه عسر فإن معنى حرف " ما " ههنا إنما هو معنى أي شيء تيسر وإنما يسوغ هذا إن دلت " ما " في كلام العرب على ما تدل عليه لام العهد فكان يكون تقدير الكلام : اقرأ الذي تيسر معك من القرآن ويكون المفهوم منه أم الكتاب إذا كانت الألف واللام في الذي تدل على العهد فينبغي أن يتأمل هذا في كلام العرب فإن وجدت العرب تفعل هذا أعني تتجوز في موطن ما فتدل بما على شيء معين فليسغ هذا التأويل وإلا فلا وجه له فالمسألة كما ترى محتملة وإنما كان يرتفع الاحتمال لو ثبت النسخ
وأما الاختلاف من أوجب أم الكتاب في الصلاة في كل ركعة أو في بعض الصلاة فسببه احتمال عودة الضمير الذي في قوله E " لم يقرأ فيها بأم القرآن " على كل أجزاء الصلاة أو على بعضها وذلك أن من قرأ في الكل منها أو في الجزء : أعني في ركعة أو ركعتين لم يدخل تحت قوله E " لم يقرأ فيها " وهذا الاحتمال بعينه هو الذي أصار أبا حنيفة إلى أن يترك القراءة أيضا في بعض الصلاة : أعني في الركعتين الأخرتين واختار مالك أن يقرأ في الركعتين الأوليين من الرباعية بالحمد وسورة وفي الأخرتين بالحمد فقط فاختار الشافعي أن تقرأ في الأربع من الظهر بالحمد وسورة إلا أن السورة التي تكون في الأوليين تكون أطول فذهب مالك إلى حديث أبي قتادة الثابت " أنه E كان يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة وفي الأخريين منها بفاتحة الكتاب فقط . وذهب الشافعي إلى ظاهر حديث ابي سعيد الثابت أيضا أنه كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية وفي الأخريين قدر خمسة عشر آية ولم يختلفوا في العصر لاتفاق الحديثين فيها وذلك أن في حديث أبي سعيد هذا " أنه كان يقرأ في الأوليين من العصر قدر خمس عشرة آية وفي الأخريين قدر النصف من ذلك "
- ( المسألة السادسة ) اتفق الجمهور على منع قراءة القرآن في الركوع والسجود لحديث علي في ذلك قال " نهاني جبريل صلى الله عليه وسلم أن أقرأ القرآن راكعا وساجدا " قال الطبري : وهو حديث صحيح وبه أخذ فقهاء الأمصار وصار قوم من التابعين إلى جواز ذلك وهو مذهب البخاري لأنه لم يصح الحديث عنده والله أعلم . واختلفوا : هل الركوع والسجود قول محدود يقوله المصلي أم لا ؟ فقال مالك : ليس في ذلك قول محدود . وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجماعة غيرهم إلى أن المصلي يقول في ركوعه : سبحان ربي العظيم ثلاثا وفي السجود سبحان ربي الأعلى ثلاثا على ما جاء في حديث عقبة بن عامر . وقال الثوري : أحب إلى أن يقولها الإمام خمسا في صلاته حتى يدرك الذي خلفه ثلاثة تسبيحات . والسبب في هذا الاختلاف معارضة حديث ابن عباس في هذا الباب لحديث عقبة بن عامر وذلك أن في حديث ابن عباس أنه E قال " ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم " وفي حديث عقبة بن عامر أنه قال " لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال : اجعلوها في سجودكم " وكذلك اختلفوا في الدعاء في الركوع بعد اتفاقهم على جواز الثناء على الله فكره ذلك مالك لحديث علي أنه قال E : " أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء " وقالت طائفة يجوز الدعاء في الركوع واحتجوا بأحاديث جاء فيها أنه E دعا في الركوع وهو مذهب البخاري واحتج بحديث عائشة قالت " كان النبي E يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي " وأبو حنيفة لا يجيز الدعاء في الصلاة بغير ألفاظ القرآن ( وكذا ما ورد من السنة ا ه مصححه ) ومالك والشافعي يجيزان ذلك . والسبب في ذلك اختلافهم فيه هل هو كلام أم لا ؟
- ( المسألة السابعة ) اختلفوا في وجوب التشهد وفي المختار منه فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة إلى أن التشهد ليس بواجب وذهبت طائفة إلى وجوبه وبه قال الشافعي وأحمد وداود . وسبب اختلافهم معارضة القياس لظاهر الآثار وذلك أن القياس يقتضي إلحاقه بسائر الأركان التي ليست بواجبة في الصلاة لاتفاقهم على وجوب القرآن وأن التشهد ليس بقرآن فيجب . وحديث ابن عباس أنه قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن " يقتضي وجوبه مع أن الأصل عند هؤلاء أن أفعاله وأقواله في الصلاة يجب أن تكون محمولة على الوجوب حتى يدل الدليل على خلاف ذلك والأصل عند غيرهم على خلاف هذا وهو أن ما ثبت وجوبه في الصلاة مما اتفق عليه أو صرح بوجوبه فلا يجب أن يلحق به إلا ما صرح به ونص عليه فهما كما ترى أصلان متعارضان . وأما المختار من التشهد فإن مالكا رحمه الله اختار تشهد عمر رضي الله عنه الذي كان يعلمه الناس على المنبر وهو : التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . واختار أهل الكوفة أبو حنيفة وغيره تشهد عبد الله بن مسعود . قال أبو عمر : وبه قال أحمد وأكثر أهل الحديث لثبوت نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو : " التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " واختار الشافعي وأصحابه تشهد عبد الله بن عباس الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول " التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " وسبب اختلافهم اختلاف ظنونهم في الأرجح منها فمن غلب على ظنه رجحان حديث ما من هذه الأحاديث الثلاثة مال إليه وقد ذهب كثير من الفقهاء إلى أن هذا كله على التخيير كالأذان والتكبير على الجنائز وفي العيدين وفي غير ذلك مما تواتر نقله وهو الصواب والله أعلم . وقد اشترط الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد وقال : إنها فرض لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } ذهب إلى أن هذا التسليم هو التسليم من الصلاة وذهب الجمهور إلى أنه التسليم الذي يؤتى به عقب الصلاة عليه وذهب قوم من أهل الظاهر إلى أنه واجب أن يتعوذ المتشهد من الأربع التي جاءت في الحديث من عذاب القبر ومن عذاب جهنم ومن فتنة المسيح الدجال ومن فتنة المحيا والممات لأنه ثبت " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ منها في آخر تشهده " وفي بعض طرقه " إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ من أربع " الحديث خرجه مسلم
- ( المسألة الثامنة ) اختلفوا في التسليم من الصلاة فقال الجمهور بوجوبه وقال أبو حنيفة وأصحابه : ليس بواجب والذين أوجبوه منهم من قال الواجب على المنفرد والإمام تسليمة واحدة ومنهم من قال اثنتان فذهب الجمهور مذهب ظاهر حديث علي وهو قوله E فيه " وتحليلها التسليم " ومن ذهب إلى أن الواجب من ذلك تسليمتان فلما ثبت من " أنه E كان يسلم تسليمتين " وذلك عند من حمل فعله على الوجوب . واختار مالك للمأموم تسليمتين والإمام واحدة وقد قيل عنه إن المأموم يسلم ثلاثا : الواحدة للتحليل والثانية للإمام والثالثة لمن هو عن يساره . وأما أبو حنيفة فذهب إلى ما رواه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي أن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة حدثاه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا جلس الرجل في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته " قال أبو عمر بن عبد البر : وحديث علي المتقدم أثبت عند أهل النقل لأن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص انفرد به الإفريقي وهو عند أهل النقل ضعيف . قال القاضي : إن كان أثبت من طريق النقل فإنه محتمل من طريق اللفظ وذلك أنه ليس يدل على أن الخروج من الصلاة لا يكون بغير التسليم إلا بضرب من دليل الخطاب وهو مفهوم ضعيف عند الأكثر ولكن للجمهور أن يقولوا إن الألف واللام التي للحصر أقوى من دليل الخطاب في كون حكم المسكوت عنه بضد حكم المنطوق به
- ( المسألة التاسعة ) اختلفوا في القنوت فذهب مالك إلى أن القنوت في صلاة الصبح مستحب . وذهب الشافعي إلى أنه سنة وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجوز القنوت في صلاة الصبح وأن القنوت إنما موضعه الوتر . وقال قوم : بل يقنت في كل صلاة . وقال قوم : لا قنوت إلا في رمضان . وقال قوم : بل في النصف الأخير منه . وقال قوم : بل في النصف الأول منه . والسبب في ذلك اختلاف الآثار المنقولة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقياس بعض الصلوات في ذلك على بعض : أعني التي قنت فيها على التي لم يقنت فيها . قال أبو عمر بن عبد البر : والقنوت بلعن الكفرة في رمضان مستفيض في الصدر الأول اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه على رعل وذكوان والنفر الذين قتلوا أصحاب بئر معونة . وقال الليث بن سعد : ما قنت منذ أربعين عاما أو خمسة وأربعين عاما إلا وراء إمام يقنت . قال الليث : وأخذت في ذلك بالحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت شهرا أو أربعين يدعو لقوم ويدعو على آخرين حتى أنزل الله تبارك وتعالى معاتبا { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم القنوت فما قنت بعدها حتى لقي الله قال : فمنذ حملت هذا الحديث لم أقنت وهو مذهب يحيى بن يحيى . قال القاضي : ولقد حدثني الأشياخ أنه كان العمل عليه بمسجده عندنا بقرطبة وأنه استمر إلى زماننا أو قريب من زماننا . وخرج مسلم عن أبي هريرة " أن النبي E قنت في صلاة الصبح ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم } وخرج عن أبي هريرة أنه قنت في الظهر والعشاء الأخيرة وصلاة الصبح . وخرج عنه E " أنه قنت شهرا في صلاة الصبح يدعو على بني عصية " واختلفوا فيما يقنت به فاستحب مالك القنوت ب " اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونستهديك ونؤمن بك ونخنع لك ونخلع ونترك من يكفرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخاف عذابك إن عذابك بالكافرين ملحق " ويسميها أهل العراق السورتين ويروى أنها في مصحف أبي بن كعب . وقال الشافعي وإسحاق بل يقنت " باللهم اهدنا فيمن هديت وعافينا فيمن عافيت وقنا شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك تباركت ربنا وتعاليت " وهذا يرويه الحسن بن علي من طرق ثابتة أن النبي E علمه هذا الدعاء يقنت به في الصلاة . وقال عبد الله بن داود : من لم يقنت بالسورتين فلا يصلي خلفه . وقال قوم : ليس في القنوت شيء موقوت
الفصل الثاني في الأفعال التي هي أركان وفي هذا الفصل من قواعد المسائل ثماني مسائل
- ( المسألة الأولى ) اختلف العلماء في رفع اليدين في الصلاة في ثلاثة مواضع : أحدها في حكمه . والثاني في المواضع التي يرفع فيها من الصلاة . والثالث إلى أن ينتهي برفعها . فأما الحكم فذهب الجمهور إلى أنه سنة في الصلاة وذهب داود وجماعة من أصحابه إلى أن ذلك فرض وهؤلاء انقسموا أقساما فمنهم من أوجب ذلك في تكبيرة الإحرام فقط . ومنهم من أوجب ذلك في الاستفتاح وعند الركوع : أعني عند الانحطاط فيه وعند الارتفاع منه ومنهم من أوجب ذلك في هذين الموضعين وعند السجود وذلك بحسب اختلافهم في المواضع التي يرفع فيها . وسبب اختلافهم معارضة ظاهر حديث أبي هريرة الذي فيه تعليم فرائض الصلاة لفعله E وذلك أن حديث أبي هريرة إنما فيه أنه قال له وكبر ولم يأمره برفع يديه وثبت عنه E من حديث ابن عمر وغيره " أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة " وأما اختلافهم في المواضع التي ترفع فيها فذهب أهل الكوفة أبو حنيفة وسفيان الثوري وسائر فقهائهم إلى أنه لا يرفع المصلي يديه إلا عند تكبيرة الإحرام فقط وهي رواية ابن القاسم عن مالك
وذهب الشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور وجمهور أهل الحديث وأهل الظاهر إلى الرفع عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الرفع من الركوع وهو مروى عن مالك إلا أنه عند بعض أولئك فرض وعند مالك سنة . وذهب بعض أهل الحديث إلى رفعها عند السجود وعند الرفع منه . والسبب في هذا الاختلاف كله اختلاف الآثار الواردة في ذلك ومخالفة العمل بالمدينة لبعضها وذلك أن في ذلك أحاديث أحدها حديث عبد الله بن مسعود وحديث البراء بن عازب " أنه كان E يرفع يديه عند الإحرام مرة واحدة لا يزيد عليها والحديث الثاني حديث ابن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما أيضا كذلك وقال " سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد " كان لا يفعل ذلك في السجود وهو حديث متفق على صحته وزعموا أنه روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر رجلا من أصحابه . والحديث الثالث حديث وائل بن حجر وفيه زيادة على ما في حديث عبد الله بن عمر " أنه كان يرفع يديه عند السجود " فمن حمل الرفع ههنا على أنه ندب أو فريضة فمنهم من اقتصر به على الإحرام فقط ترجيحا لحديث عبد الله بن مسعود وحديث البراء بن عازب وهو مذهب مالك لموافقة العمل به ومنهم من رجح حديث عبد الله بن عمر فرأى الرفع في الموضعين أعني في الركوع وفي الافتتاح لشهرته واتفق الجميع عليه ومن كان رأيه من هؤلاء أن الرفع فريضة حمل ذلك على الفريضة ومن كان رأيه أنه ندب حمل ذلك على الندب ومنهم من ذهب مذهب الجمع وقال : إنه يجب أن تجمع هذه الزيادات بعضها إلى بعض على ما في حديث وائل بن حجر فإذا العلماء ذهبوا في هذه الآثار مذهبين : إما مذهب الترجيح وإما مذهب الجمع . والسبب في اختلافهم في حمل رفع اليدين في الصلاة : هل هو على الندب أو على الفرض ؟ هو السبب الذي قلناه قبل من أن بعض الناس يرى أن الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم أن تحمل على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك ومنهم من يرى أن الأصل لا يزاد فيما صح بدليل واضح من قول ثابت أو إجماع أنه من فرائض الصلاة إلا بدليل واضح وقد تقدم هذا من قولنا ولا معنى لتكرير الشيء الواحد مرات كثيرة وأما الحد الذي ترفع إليه اليدان فذهب بعضهم إلى أنه المنكبان وبه قال مالك والشافعي وجماعة وذهب بعضهم إلى رفعهما إلى الأذنين وبه قال أبو حنيفة وذهب بعضهم إلى رفعهما إلى الصدر وكل ذلك مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أثبت ما في ذلك أنه كان يرفعهما حذو منكبيه وعليه الجمهور والرفع إلى الأذنين أثبت من الرفع إلى الصدر وأشهر
- ( المسألة الثانية ) ذهب أبو حنيفة إلى أن الاعتدال من الركوع وفي الركوع غير واجب . وقال الشافعي : هو واجب . واختلف أصحاب مالك : هل ظاهر مذهبه يقتضي أن يكون سنة أو واجبا إذ لم ينقل عنه نص في ذلك : والسبب في اختلافهم : هل الواجب الأخذ ببعض ما ينطلق عليه الاسم أم بكل ذلك الشيء الذي ينطلق عليه الاسم فمن كان الواجب عنده الأخذ ببعض ما ينطلق عليه الاسم لم يشترط الاعتدال في الركوع ومن كان الواجب عنده الأخذ بالكل اشترط الاعتدال وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث المتقدم للرجل الذي علمه فروض الصلاة " اركع حتى تطمئن راكعا وارفع حتى تطمئن رافعا " فالواجب اعتقاد كونه فرضا وعلى هذا الحديث عول كل من رأى أن الأصل لا تحمل أفعاله E في سائر أفعال الصلاة مما لم ينص عليها في هذا الحديث على الوجوب حتى يدل الدليل على ذلك ومن قبل هذا لم يروا رفع اليدين فرضا ولا ما عدا تكبيرة الإحرام والقراءة من الأقاويل التي في الصلاة فتأمل هذا فإنه أصل مناقض للأصل الأول وهو سبب الخلاف في أكثر هذه المسائل
- ( المسألة الثالثة ) اختلف الفقهاء في هيئة الجلوس فقال مالك وأصحابه يقضي بأليتيه إلى الأرض وينصب رجله اليمنى ويثني اليسرى وجلوس المرأة عنده كجلوس الرجل . وقال أبو حنيفة وأصحابه : ينصب الرجل اليمنى ويقعد على اليسرى . وفرق الشافعي بين الجلسة الوسطى والأخيرة فقال في الوسطى بمثل قول أبي حنيفة وفي الأخيرة بمثل قول مالك . وسبب اختلافهم في ذلك تعارض الآثار وذلك أن في ذلك ثلاثة آثار : أحدها وهو ثابت باتفاق حديث أبي حميد الساعدي الوارد في وصف صلاته E وفيه " وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته " . والثاني حديث وائل بن حجر وفيه " أنه كان إذا قعد في الصلاة نصب اليمنى وقعد على اليسرى " . والثالث ما رواه مالك عن عبد الله بن عمر أنه قال " إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى وهو يدخل في المسند لقوله فيه : إنما سنة الصلاة . وفي روايته عن القاسم بن محمد أنه أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمنى وثنى اليسرى وجلس على وركه الأيسر ولم يجلس على قدمه ثم قال : أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك فذهب مالك مذهب الترجيح لهذا الحديث وذهب أبو حنيفة مذهب الترجيح لحديث وائل . وذهب الشافعي مذهب الجمع على حديث أبي حميد . وذهب الطبري مذهب التخيير . وقال : هذه الهيئات كلها جائزة وحسن فعلها لثبوتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول حسن فإن الأفعال المختلفة أولى أن تحمل على التخيير منها على التعارض وإنما يتصور ذلك التعارض أكثر ذلك في الفعل مع القول أو في القول مع القول
- ( المسألة الرابعة ) اختلف العلماء في الجلسة الوسطى والأخيرة فذهب الأكثر في الوسطى إلى أنها سنة وليست بفرض وشذ قوم وقالوا : إنها فرض وكذلك ذهب الجمهور في الجلسة الأخرى إلى أنها فرض وشذ قوم فقالوا : إنها ليست بفرض . والسبب في اختلافهم هو تعارض مفهوم الأحاديث وقياس إحدى الجلستين على الثانية وذلك أن في حديث أبي هريرة المتقدم " اجلس حتى تطمئن جالسا " فوجب الجلوس على ظاهر هذا الحديث في الصلاة كلها فمن أخذ بهذا قال : إن الجلوس كله فرض ولما جاء في حديث ابن بحينة الثابت " أنه E أسقط الجلسة الوسطى ولم يجبرها وسجد لها " وثبت عنه أنه أسقط ركعتين فجبرهما وكذلك ركعة . فهم الفقهاء من هذا الفرق بين حكم الجلسة الوسطى وحكم الركعة وكانت عندهم الركعة فرضا بإجماع فوجب أن لا تكون الجلسة الوسطى فرضا فهذا هو الذي أوجب أن فرق الفقهاء بين الجلستين ورأوا أن سجود السهو إنما يكون للسنن دون الفروض ومن رأى أنها فرض قال : السجود للجلسة الوسطى شيء يخصها دون سائر الفرائض وليس في ذلك دليل على أنها ليست بفرض وأما من ذهب إلى أنهما كليهما سنة فقاس الجلسة الأخيرة على الوسطى بعد أن اعتقد في الوسطى بالدليل الذي اعتقد به الجمهور أنها سنة فإذا السبب في اختلافهم هو في الحقيقة آيل إلى معارضة الاستدلال لظاهر القول أو ظاهر الفعل فإن من الناس أيضا من اعتقد أن الجلستين كليهما فرض من جهة أن أفعاله عليه الصلاة عنده الأصل فيها أن تكون في الصلاة محمولة على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك على ما تقدم فإذا الأصلان جميعا يقتضيان ههنا أن الجلوس الأخير فرض ولذلك عليه أكثر الجمهور من غير أن يكون له معارض إلا القياس وأعني بالأصلين القول والعمل ولذلك أضعف الأقاويل من رأى أن الجلستين سنة والله أعلم . وثبت عنه E " أنه كان يضع كفه اليمنى على ركبته اليمنى وكفه اليسرى على ركبته اليسرى ويشير بإصبعه " واتفق العلماء على أن هذه الهيئة من هيئة الجلوس المستحسنة في الصلاة واختلفوا في تحريك الأصابع لاختلاف الأثر في ذلك والثابت أنه كان يشير فقط
- ( المسألة الخامسة ) اختلف العلماء في وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة فكره ذلك مالك في الفرض وأجازه في النفل . ورأى قوم أن هذا الفعل من سنن الصلاة وهم الجمهور . والسبب في اختلافهم أنه قد جاءت آثار ثابتة نقلت فيها صفة صلاته E ولم ينقل فيها أنه كان يضع يده اليمنى على اليسرى وثبت أيضا أن الناس كانوا يؤمرون بذلك . وورد ذلك أيضا من صفة صلاته E في حديث أبي حميد فرأى قوم أن الآثار التي أثبتت ذلك اقتضت زيادة على الآثار التي لم تنقل فيها هذه الزيادة وأن الزيادة يجب أن يصار إليها . ورأى قوم أن الأوجب المصير إلى الآثار التي ليس فيها هذه الزيادة لأنها أكثر ولكون هذه ليست مناسبة لأفعال الصلاة وإنما هي من باب الاستعانة ولذلك أجازها مالك في النفل ولم يجزها في الفرض وقد يظهر من أمرها أنها هيئة تقتضي الخضوع وهو الأولى بها
- ( المسألة السادسة ) اختار قوم إذا كان الرجل في وتر من صلاته أن لا ينهض حتى يستوي قاعدا واختار آخرون أن ينهض من سجوده نفسه وبالأول قال الشافعي وجماعة وبالثاني قال مالك وجماعة . وسبب الخلاف أن في ذلك حديثين مختلفين : أحدهما حديث مالك بن الحويرث الثابت " أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي " فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا وفي حديث أبي حميد في صفة صلاته E أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى قام ولم يتورك " فأخذ بالحديث الأول الشافعي وأخذ بالثاني مالك وكذلك اختلفوا إذا سجد هل يضع يديه قبل ركبتيه أو ركبتيه قبل يديه ؟ ومذهب مالك وضع الركبتين قبل اليدين . وسبب اختلافهم أن في حديث ابن حجر قال " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه " وعن أبي هريرة أن النبي E قال " إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه " وكان عبد الله بن عمر يضع يديه قبل ركبتيه . وقال بعض أهل الحديث : حديث وائل بن حجر أثبت من حديث أبي هريرة
- ( المسألة السابعة ) اتفق العلماء على أن السجود يكون على سبعة أعضاء : الوجه واليدين والركبتين وأطراف القدمين لقوله E " أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء " واختلفوا فيمن سجد على وجهه ونقصه السجود على عضو من تلك الأعضاء هل تبطل صلاته أم لا ؟ فقال قوم : لا تبطل صلاته لأن اسم السجود إنما يتناول الوجه فقط . وقال قوم : تبطل إن لم يسجد على السبعة الأعضاء للحديث الثابت ولم يختلفوا أن من سجد على جبهته وأنفه فقد سجد على وجهه واختلفوا فيمن سجد على أحدهما فقال مالك : إن سجد على جبهته دون أنفه جاز وإن سجد على أنفه دون جبهته لم يجز . وقال أبو حنيفة : بل يجوز ذلك . وقال الشافعي : لا يجوز إلا أن يسجد عليهما جميعا . وسبب اختلافهم : هل الواجب هو امتثال بعض ما ينطلق عليه الاسم أم كله وذلك أن في حديث النبي E الثابت عن ابن عباس " أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء " فذكر منها الوجه فمن رأى أن الواجب هو بعض ما ينطلق عليه الاسم قال : إن سجد على الجبهة أو الأنف أجزأه . ومن رأى أن اسم السجود يتناول من سجد على الجبهة ولا يتناول من سجد على الأنف أجاز السجود على الجبهة دون الأنف وهذا كأنه تحديد للبعض الذي هو امتثاله هو الواجب مما ينطلق عليه الاسم وكان هذا على مذهب من يفرق بين أبعاض الشيء فرأى أن بعضها يقوم في امتثاله مقام الوجوب وبعضها لا يقوم مقامه فتأمل هذا فإنه أصل في هذا الباب وإلا جاز لقائل أن يقول : إنه إن مس من أنفه الأرض مثقال خردلة تم سجوده وأما من رأى أن الواجب هو امتثال كل ما ينطلق عليه الاسم فالواجب عنده أن يسجد على الجبهة والأنف . والشافعي يقول : إن هذا الاحتمال الذي من قبل اللفظ قد أزاله فعله E وبينه فإنه كان يسجد على الأنف والجبهة لما جاء من أنه انصرف من صلاة من الصلوات وعلى جبهته وأنفه أثر الطين والماء فوجب أن يكون فعله مفسرا للحديث المجمل . قال أبو عمر بن عبد البر : وقد ذكر جماعة من الحفاظ حديث ابن عباس فذكروا فيه الأنف والجبهة . قال القاضي أبو الوليد : وذكر بعضهم الجبهة فقط وكلا الروايتين في كتاب مسلم وذلك حجة لمالك . واختلفوا أيضا هل من شرط السجود أن تكون يد الساجد بارزة وموضوعة على الذي يوضع عليها الوجه أم ليس ذلك من شروطه ؟ فقال مالك : ذلك من شرط السجود أحسبه شرط تمامه . وقالت جماعة : ليس ذلك من شرط السجود . ومن هذا الباب اختلافهم في السجود على طاقات العمامة وللناس فيه ثلاثة مذاهب : قول بالمنع وقول بالجواز وقول بالفرق بين أن يسجد على طاقات يسيرة من العمامة أو كثيرة وقول بالفرق بين أن يمس من جبهته الأرض شيء أو لا يمس منها شيء وهذا الاختلاف كله موجود في المذهب وعند فقهاء الأمصار وفي البخاري وكانوا يسجدون على القلانس والعمائم . واحتج من لم ير إبراز اليدين في السجود بقول ابن عباس " أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نسجد على سبعة أعضاء ولا نكفت ثوبا ولا شعرا " وقياسا على الركبتين وعلى الصلاة في الخفين يمكن أن يحتج بهذا العموم في السجود على العمامة
- ( المسألة الثامنة ) اتفق العلماء على كراهية الإقعاء في الصلاة لما جاء في الحديث من النهي أن يقعي الرجل في صلاته كما يقعي الكلب إلا أنهم اختلفوا فيما يدل عليه الاسم فبعضهم رأى أن الإقعاء المنهي عنه هو جلوس الرجل على أليتيه في الصلاة ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع ولا خلاف بينهم أن هذه الهيئة ليست من هيئات الصلاة . وقوم رأوا أن معنى الإقعاء الذي نهي عنه هو أن يجعل أليته على عقيبه بين السجدتين وأن يجلس على صدور قدميه وهو مذهب مالك لما روي عن ابن عمر أنه ذكر أنه إنما كان يفعل ذلك لأنه كان يشتكي قدميه . وأما ابن عباس فكان يقول : الإقعاء على القدمين في السجود على هذه الصفة هو سنة نبيكم خرجه مسلم . وسبب اختلافهم هو تردد اسم الإقعاء المنهي عنه في الصلاة بين أن يدل على المعنى اللغوي أو يدل على معنى شرعي : أعني على هيئة خصها الشرع بهذا الاسم فمن رأى أنه يدل على المعنى اللغوي قال : هو إقعاء الكلب . ومن رأى أنه يدل على معنى شرعي قال : إنما أريد بذلك إحدى هيئات الصلاة المنهي عنها ولما ثبت عن ابن عمر أن قعود الرجل على صدور قدميه ليس من سنة الصلاة سبق إلى اعتقاده أن هذه الهيئة هي التي أريد بالإقعاء المنهي عنه وهذا ضعيف فإن الأسماء التي لم تثبت لها معان شرعية يجب أن تحمل على المعنى اللغوي حتى يثبت لها معنى شرعي بخلاف الأمر في الأسماء التي ثبت لها معان شرعية : أعني أنه يجب أن يحمل على المعاني الشرعية حتى يدل الدليل على المعنى اللغوي مع أنه قد عارض حديث ابن عمر في ذلك حديث ابن عباس
الباب الثاني من الجملة الثالثة
- وهذا الباب الكلام المحيط بقواعده فيه فصول سبعة : أحدها : في معرفة حكم صلاة الجماعة . والثاني في معرفة شروط الإمامة ومن أولى بالتقديم وأحكام الإمام الخاصة به . الثالث : في مقام المأموم من الإمام والأحكام الخاصة بالمأمومين . الرابع : في معرفة ما يتبع فيه المأموم الإمام مما ليس يتبعه . الخامس : في صفة الاتباع . السادس : فيما يحمله الإمام عن المأمومين . السابع : في الأشياء التي إذا فسدت لها صلاة الإمام يتعدى الفساد إلى المأمومين
الفصل الأول في معرفة حكم صلاة الجماعة
- في هذا الفصل مسئلتان : إحداهما : هل صلاة الجماعة واجبة على من سمع النداء أم ليست بواجبة . المسألة الثانية إذا دخل الرجل المسجد وقد صلى هل يجب عليه أن يصلي مع الجماعة الصلاة التي قد صلاها أم لا ؟
- ( أما المسألة الأولى ) فإن العلماء اختلفوا فيها فذهب الجمهور إلى أنها سنة أو فرض على الكفاية . وذهبت الظاهرية إلى أن صلاة الجماعة فرض متعين على كل مكلف . والسبب في اختلافهم تعارض مفهومات الآثار في ذلك وذلك أن ظاهر قوله E " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة أو بسبع وعشرين درجة " يعني أن الصلاة في الجماعات من جنس المندوب إليه وكأنها كمال زائد على الصلاة الواجبة فكأنه قال E : صلاة الجماعة أكمل من صلاة المنفرد . والكمال إنما هو شيء زائد على الإجزاء وحديث الأعمى المشهور حين استأذنه في التخلف عن صلاة الجماعة لأنه لا قائد له فرخص له في ذلك ثم قال له E : أتسمع النداء ؟ قال : نعم قال : لا أجد لك رخصة " هو كالنص في وجوبها مع عدم العذر خرجه مسلم . ومما يقوي هذا حديث أبي هريرة المتفق على صحته وهو " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء " وحديث ابن مسعود وقال فيه " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه " وفي بعض رواياته " ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم " فسلك كل واحد من هذين الفريقين مسلك الجمع بتأويل حديث مخالفه وصرفه إلى ظاهر الحديث الذي تمسك به . فأما أهل الظاهر فإنهم قالوا : إن المفاضلة لا يمتنع أن تقع في الواجبات أنفسها : أي إن صلاة الجماعة في حق من فرضه صلاة الجماعة تفضل صلاة المنفرد في حق من سقط عنه وجوب صلاة الجماعة لمكان العذر بتلك الدرجات المذكورة . قالوا : وعلى هذا فلا تعارض بين الحديثين واحتجوا لذلك بقوله E : " صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم " وأما أولئك فزعموا أنه يمكن أن يحمل حديث الأعمى على نداء يوم الجمعة إذ ذلك هو النداء الذي يجب على من سمعه الإتيان إليه باتفاق وهذا فيه بعد والله أعلم لأن نص الحديث هو أن أبا هريرة قال " أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال : يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال : هل تسمع النداء بالصلاة . قال : نعم قال : فأجب " وظاهر هذا يبعد أن يفهم منه نداء الجمعة مع أن الإتيان إلى صلاة الجمعة واجب على كل من كان في المصر وإن لم يسمع النداء ولا أعرف في ذلك خلافا . وعارض هذا الحديث أيضا حديث عتبان بن مالك المذكور في الموطأ وفيه أن عتبان بن مالك كان يؤم وهو أعمى وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم " إنه تكون الظلمة المطر والسيل وأنا رجل ضرير البصر فصل يا رسول الله في بيتي مكانا أتخذه مصلى فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أين تحب أن أصلي فأشار له إلى مكان من البيت فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم "
- ( وأما المسألة الثانية ) فإن الذي دخل المسجد وقد صلى لا يخلو من أحد وجهين : إما أن يكون صلى منفردا وإما أن يكون صلى في جماعة . فإن كان صلى منفردا فقال قوم : يعيد معهم كل الصلوات إلا المغرب فقط وممن قال بهذا القول مالك وأصحابه . وقال أبو حنيفة : يعيد الصلوات كلها إلا المغرب والعصر . وقال الأوزاعي : إلا المغرب والصبح . وقال أبو ثور : إلا العصر والفجر . وقال الشافعي : يعيد الصلوات كلها وإنما اتفقوا على إيجاب إعادة الصلاة عليه بالجملة لحديث بشر بن محمد عن أبيه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين دخل المسجد ولم يصل معه : مالك لم تصل مع الناس : ألست برجل مسلم ؟ فقال بلى يا رسول الله ولكني صليت في أهلي فقال E : إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت " فاختلف الناس لاحتمال تخصيص هذا العموم بالقياس أو بالدليل فمن حمله على عمومه أوجب عليه إعادة الصلوات كلها وهو مذهب الشافعي . وأما من استثنى من ذلك صلاة المغرب فقط فإنه خصص العموم بقياس الشبه وهو مالك رحمه الله وذلك أنه زعم أن صلاة المغرب هي وتر فلو أعيدت لأشبهت صلاة الشفع التي ليست بوتر لأنها كانت تكون بمجموع ذلك ست ركعات فكأنها كانت تنتقل من جنسها إلى جنس صلاة أخرى وذلك مبطل لها وهذا القياس فيه ضعف لأن السلام قد فصل بين الأوتار والتمسك بالعموم أقوى من الاستثناء بهذا النوع من القياس وأقوى من هذا ما قاله الكوفيون من أنه إذا أعادها يكون قد أوتر مرتين وقد جاء في الأثر " لا وتران في ليلة " وأما أبو حنيفة فإنه قال : إن الصلاة الثانية تكون له نفلا فإن أعاد العصر يكون قد تنفل بعد العصر وقد جاء النهي عن ذلك فخصص العصر بهذا القياس والمغرب بأنها وتر والوتر لا يعاد وهذا قياس جديد إن سلم لهم الشافعي أن الصلاة الأخيرة لهم نفل . وأما من فرق بين العصر والصبح في ذلك فلأنه لم تختلف الأثار في النهي عن الصلاة بعد الصبح واختلف في الصلاة بعد العصر كما تقدم وهو قول الأوزاعي . وأما إذا صلى في جماعة فهل يعيد في جماعة أخرى ؟ فأكثر الفقهاء على أنه لا يعيد منهم مالك وأبو حنيفة وقال بعضهم : بل يعيد وممن قال بهذا القول أحمد وداود وأهل الظاهر . والسبب في اختلافهم تعارض مفهوم الآثار في ذلك وذلك أنه ورد عنه E أنه قال " لا تصلي صلاة في يوم مرتين " وروي عنه " أنه أمر الذين صلوا في جماعة أن يعيدوا مع الجماعة الثانية " وأيضا فإن ظاهر حديث بشر يوجب الإعادة على كل مصل إذا جاء المسجد فإن قوته قوة العموم والأكثر على أنه إذا ورد العام على سبب خاص لا يقتصر به على سببه وصلاة معاذ مع النبي E ثم كان يؤم قومه في تلك الصلاة فيه دليل على جواز إعادة الصلاة في الجماعة فذهب الناس في هذه الأثار مذهب الجمع ومذهب الترجيح . أما من ذهب مذهب الترجيح فإنه أخذ بعموم قوله E " لا تصلى صلاة واحدة في يوم مرتين " ولم يستثن من ذلك إلا صلاة المنفرد فقط لوقوع الاتفاق عليها . وأما من ذهب مذهب الجمع فقالوا إن معنى قوله E : " لا تصلى صلاة واحدة في يوم مرتين " إنما ذلك أن لا يصلي الرجل الصلاة الواحدة بعينها مرتين يعتقد في كل واحدة منهما أنها فرض بل يعتقد في الثانية أنها زائدة على الفرض ولكنه مأمور بها . وقال قوم : بل معنى هذا الحديث إنما هو للمنفرد : أعني أن لا يصلي الرجل المنفرد صلاة واحدة بعينها مرتين
الفصل الثاني . في معرفة شروط الإمامة ومن أولى بالتقديم وأحكام الإمام الخاصة به . وفي هذا الفصل مسائل أربع :
- ( المسألة الأولى ) اختلفوا فيمن أولى بالإمامة فقال مالك : يؤم القوم أفقههم لا أقرؤهم وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد : يؤم القوم أقرؤهم . والسبب في هذا الاختلاف اختلافهم في مفهوم قوله E " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم إسلاما ولا يؤم الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه " وهو حديث متفق على صحته لكن اختلف العلماء في مفهومه فمنهم من حمله على ظاهره وهو أبو حنيفة . ومنهم من فهم من الأقرأ ههنا الأفقه . لأنه زعم أن الحاجة إلى الفقه في الإمامة أمس من الحاجة إلى القراءة وأيضا فإن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه ضرورة وذلك بخلاف ما عليه الناس اليوم
- ( المسألة الثانية ) اختلف الناس في إمامة الصبي الذي لم يبلغ الحلم إذا كان قارئا فأجاز ذلك لعموم ( هذا الأثر ) { ما بين القوسين زائدة في النسخة المصرية مع أنه لم يذكر أثرا فلهذا نبهنا على زيادته } ولحديث عمرو بن سلمة أنه كان يؤم قومه وهو صبي . ومنع ذلك قوم مطلقا وأجازه قوم في النفل ولم يجيزوه في الفريضة وهو مروي عن مالك . وسبب الخلاف في ذلك هل يؤم أحد في صلاة غير واجبة عليه من وجبت عليه ؟ وذلك لاختلاف نية الإمام والمأموم ؟
- ( المسألة الثالثة ) اختلفوا في إمامة الفاسق فردها قوم بإطلاق وأجازها قوم بإطلاق وفرق قوم بين أن يكون فسقه مقطوعا به أو غير مقطوع به فقالوا : إن كان فسقه مقطوعا به أعاد الصلاة المصلي وراءه أبدا وإن كان مظنونا استحبت له الإعادة في الوقت وهذا الذي اختاره الأبهري تأولا على المذهب ومنهم من فرق بين أن يكون فسقه بتأويل أو يكون بغير تأويل مثل الذي يشرب النبيذ ويتأول أقوال أهل العراق فأجازوا الصلاة وراء المتأول ولم يجيزوها وراء غير المتأول . وسبب اختلافهم في هذا أنه شيء مسكوت عنه في الشرع والقياس فيه متعارض . فمن رأى أن الفسق لما كان لا يبطل صحة الصلاة ولم يكن من يحتاج المأموم إمامه إلا صحة صلاته فقط على قول من يرى أن الإمام يحمل عن المأموم أجاز إمامة الفاسق ومن قاس الإمامة على الشهادة واتهم الفاسق أن يكون يصلي صلاة فاسدة كما يتهم في الشهادة أن يكذب لم يجز إمامته ولذلك فرق قوم بين أن يكون فسقه بتأويل أو بغير تأويل وإلى قريب من هذا يرجع من فرق بين أن يكون فسقه مقطوعا به أو غير مقطوع به لأنه إذا كان مقطوعا به فكأنه غير معذور في تأويله وقد رام أهل الظاهر أن يجيزوا إمامة الفاسق بعموم قوله E " يؤم القوم أقرؤهم " قالوا : فلم يستثن من ذلك فاسقا من غير فاسق والاحتجاج بالعموم في غير المقصود ضعيف ومنهم من فرق بين أن يكون فسقه في شروط صحة الصلاة أو في أمور خارجة عن الصلاة بناء على أن الإمام إنما يشترط فيه وقوع صلاته صحيحة
- ( المسألة الرابعة ) اختلفوا في إمامة المرأة فالجمهور على أنه لا يجوز أن تؤم الرجال واختلفوا في إمامتها النساء فأجاز ذلك الشافعي ومنع ذلك مالك وشذ أبو ثور والطبري فأجازا إمامتها على الإطلاق وإنما اتفق الجمهور على منعها أن تؤم الرجال لأنه لو كان جائزا لنقل ذلك عن الصدر الأول ولأنه أيضا لما كانت سنتهن في الصلاة التأخير عن الرجال علم أنه ليس يجوز لهن التقدم عليهم لقوله E " أخروهن حيث أخرهن الله " ولذلك أجاز بعضهم إمامتها النساء إذ كن متساويات في المرتبة في الصلاة مع أنه أيضا نقل ذلك عن بعض الصدر الأول ومن أجاز إمامتها فإنما ذهب إلى ما رواه أبو داود من حديث أم ورقة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزورها في بيتها وجعل لها مؤذنا يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها " وفي هذا الباب مسائل كثيرة أعني من اختلافهم في الصفات المشترطة في الإمام تركنا ذكرها لكونها مسكوتا عنها في الشرع . قال القاضي : وقصدنا في هذا الكتاب إنما هو ذكر المسائل المسموعة أو ماله تعلق قريب بالمسموع
- ( وأما أحكام الإمام الخاصة به ) فإن في ذلك أربعة مسائل متعلقة بالسمع : إحداها هل يؤمن الإمام إذا فرغ من قراءة أم القرآن ؟ أم المأموم هو الذي يؤمن فقط . والثانية متى يكبر تكبيرة الإحرام ؟ والثالثة إذا أرتج عليه هل يفتح عليه أم لا ؟ والرابعة هل يجوز أن يكون موضعه أرفع من موضع المأمومين . فأما هل يؤمن الإمام إذا فرغ من قراءة أم الكتاب فإن مالكا ذهب في رواية ابن القاسم عنه والمصريين أنه لا يؤمن وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يؤمن كالمأموم سواء وهي رواية المدنيين عن مالك وسبب اختلافهم أن في ذلك حديثين متعارضي الظاهر : أحدهما حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيح أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أمن الإمام فأمنوا " والحديث الثاني ما خرجه مالك عن أبي هريرة أيضا أنه قال E " إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا أمين " فأما الحديث الأول فهو نص في تأمين الإمام . وأما الحديث الثاني فيستدل منه على أن الإمام لا يؤمن وذلك أنه لو كان يؤمن لما أمر المأموم بالتأمين عند الفراغ من أم الكتاب قبل أن يؤمن الإمام لأن الإمام كما قال E " إنما جعل الإمام ليؤتم به " إلا أن يخص هذا من أقوال الإمام : أعني أن يكون للمأموم أن يؤمن معه أو قبله فلا يكون فيه دليل على حكم الإمام في التأمين ويكون إنما تضمن حكم المأموم فقط لكن الذي يظهر أن مالكا ذهب مذهب الترجيح للحديث الذي رواه لكون السامع هو المؤمن لا الداعي وذهب الجمهور لترجيح الحديث الأول لكونه نصا ولأنه ليس فيه شيء من حكم الإمام وإنما الخلاف بينه وبين الحديث الآخر في موضع تأمين المأموم فقط لا في هل يؤمن الإمام أو لا يؤمن فتأمل هذا . ويمكن أيضا أن يتأول الحديث الأول بأن يقال : إن معنى قوله " فإذا أمن فأمنوا " أي إذا بلغ موضع التأمين وقد قيل إن التأمين هو الدعاء وهذا عدول عن الظاهر لشيء غير مفهوم من الحديث إلا بقياس : أعني أن يفهم من قوله " فإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فأمنوا " أنه لا يؤمن الإمام . وأما متى يكبر الإمام فإن قوما قالوا : لا يكبر إلا بعد تمام الإقامة واستواء الصفوف وهو مذهب مالك والشافعي وجماعة . وقوم قالوا : إن موضع التكبير هو قبل أن يتم الإقامة واستحسنوا تكبيره عند قول المؤذن قد قامت الصلاة وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وزفر . وسبب الخلاف في ذلك تعارض ظاهر حديث أنس وحديث بلال . أما حديث أنس فقال : " أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكبر في الصلاة فقال : أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري " وظاهر هذا أن الكلام منه كان بعد الفراغ من الإقامة مثل ما روي عن عمر أنه كان إذا تمت الإقامة واستوت الصفوف حينئذ يكبر . وأما حديث بلال فإنه روى " أنه كان يقيم للنبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول له : يا رسول الله لا تسبقني بآمين " خرجه الطحاوي . قالوا : فهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر والإقامة لم تتم . وأما اختلافهم في الفتح على الإمام إذا أرتج عليه فإن مالكا والشافعي وأكثر العلماء أجازوا الفتح عليه ومنع ذلك الكوفيون . وسبب الخلاف في ذلك اختلاف الآثار وذلك " أنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تردد في آية فلما انصرف قال : أين أبي ألم يكن في القوم ؟ " أي يريد الفتح عليه . وروي عنه E أنه قال " لا يفتح على الإمام " والخلاف في ذلك في الصدر الأول والمنع مشهور عن علي والجواز عن ابن عمر مشهور . وأما موضع الإمام فإن قوما أجازوا أن يكون أرفع من موضع المأمومين وقوم منعوا ذلك وقوم استحبوا من ذلك اليسير وهو مذهب مالك . وسبب الخلاف في ذلك حديثان متعارضان : أحدهما الحديث الثابت : " أنه E أم الناس على المنبر ليعلمهم الصلاة وأنه كان إذا أراد أن يسجد نزل من على المنبر " والثاني ما رواه أبو داود أن حذيفة أم الناس على دكان فأخذ ابن مسعود بقميصه فجذبه فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك أو ينهى عن ذلك ؟ . وقد اختلفوا هل يجب على الإمام أن ينوي الإمامة أم لا ؟ فذهب قوم إلى أنه ليس ذلك بواجب عليه لحديث ابن عباس أنه أقام إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد دخوله في الصلاة ورأى قوم أن هذا محتمل وأنه لابد من ذلك إذا كان يحمل بعض أفعال الصلاة عن المأمومين وهذا على مذهب من يرى أن الإمام يحمل فرضا أو نفلا عن المأمومين
الفصل الثالث . في مقام المأموم من الإمام والأحكام الخاصة بالمأمومين . وفي هذا الباب خمس مسائل :
- ( المسألة الأولى ) اتفق جمهور العلماء على أن سنة الواحد المنفرد أن يقوم عن يمين الإمام لثبوت ذلك من حديث ابن عباس وغيره وأنهم إن كانوا ثلاثة سوى الإمام قاموا وراءه واختلفوا إذا كانا اثنين سوى الإمام فذهب مالك والشافعي إلى أنهما يقومان خلف الإمام . وقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون : بل يقوم الإمام بينهما . والسبب في اختلافهم أن في ذلك حديثين متعارضين : أحدهما حديث جابر بن عبد الله قال : " قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه ثم جاء جابر بن صخر فتوضأ ثم جاء فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بأيدينا جميعا فدفعنا حتى قمنا خلفه " والحديث الثاني حديث ابن مسعود أنه صلى بعلقمة والأسود فقام وسطهما وأسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر : واختلف رواة هذا الحديث فبعضهم أوقفه وبعضهم أسنده والصحيح أنه موقوف وأما أن سنة المرأة أن تقف خلف الرجل أو الرجال إن كان هنالك رجل سوى الإمام أو خلف الإمام إن كانت وحدها فلا أعلم في ذلك خلافا لثبوت ذلك من حديث أنس الذي خرجه البخاري " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى به وبأمه أو خالته قال : فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا " والذي خرجه عنه أيضا مالك أنه قال " فصففت أنا واليتيم وراءه E والعجوز من ورائنا " وسنة الواحد عند الجمهور أن يقف عن يمين الإمام لحديث ابن عباس حين بات عند ميمونة . وقال قوم : بل عن يساره ولا خلاف في أن المرأة الواحدة تصلي خلف الإمام وأنها إن كانت مع الرجل صلى الرجل إلى جانب الإمام والمرأة خلفه
- ( المسألة الثانية ) أجمع العلماء على أن الصف الأول مرغب فيه وكذلك تراص الصفوف وتسويتها لثبوت الأمر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا إذا صلى إنسان خلف الصف وحده فالجمهور على أن صلاته تجزئ . وقال أحمد وأبو ثور وجماعة صلاته فاسدة . وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث وابصة ومخالفة العمل له وحديث وابصة هو أنه قال E " لا صلاة لقائم خلف الصف " وكان الشافعي يرى أن هذا يعارضه قيام العجوز وحدها خلف الصف في حديث أنس . وكان أحمد يقول : ليس في ذلك حجة لأن سنة النساء هي القيام خلف الرجال . وكان أحمد كما قلنا يصحح حديث وابصة . وقال غيره : هو مضطرب الإسناد لا تقوم به حجة . واحتج الجمهور بحديث أبي بكرة أنه ركع دون الصف فلم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعادة وقال له " زادك الله حرصا ولا تعد " ولو حمل هذا على الندب لم يكن تعارض : أعني بين حديث وابصة وحديث أبي بكرة
- ( المسألة الثالثة ) اختلف الصدر الأول في الرجل يريد الصلاة فيسمع الإقامة هل يسرع المشي إلى المسجد أم لا مخافة أن يفوته جزء من الصلاة ؟ فروي عن عمرو وابن مسعود أنهم كانوا يسرعون المشي إذا سمعوا الإقامة . وروي عن زيد بن ثابت وأبي ذر وغيرهم من الصحابة أنهم كانوا لا يرون السعي بل أن تؤتى الصلاة بوقار وسكينة وبهذا القول قال فقهاء الأمصار لحديث أبي هريرة الثابت " إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة " ويشبه أن يكون سبب الخلاف في ذلك أنه لم يبلغهم هذا الحديث أو رأوا أن الكتاب يعارضه لقوله تعالى { فاستبقوا الخيرات } وقوله { السابقون السابقون أولئك المقربون } وقوله { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم }
وبالجملة فأصول الشرع تشهد بالمبادرة إلى الخير لكن إذا صح الحديث وجب أن تستثنى الصلاة من بين سائر أعمال القرب
- ( المسألة الرابعة ) متى يستحب أن يقام إلى الصلاة فبعض استحسن البدء في أول الإقامة على الأصل في الترغيب في المسارعة وبعض عند قوله : قد قامت الصلاة وبعضهم عند حي على الفلاح وبعضهم قال : حتى يروا الإمام وبعضهم لم يحد في ذلك حدا كمالك رضي الله عنه فإنه وكل ذلك إلى قدر طاقة الناس وليس في هذا شرع مسموع إلا حديث أبي قتادة أنه قال E : " إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني " فإن صح هذا وجب العمل به وإلا فالمسألة باقية على أصلها المعفو عنه : أعني أنه ليس فيها شرع وأنه متى قام كل فحسن
- ( المسألة الخامسة ) ذهب مالك وكثير من العلماء إلى أن الداخل وراء الإمام إذا خاف فوات الركعة بأن يرفع الإمام رأسه منها إن تمادى حتى يصل إلى الصف الأول أن له أن يركع دون الصف الأول ثم يدب راكعا وكره ذلك الشافعي وفرق أبو حنيفة بين الجماعة والواحد فكرهه للواحد وأجازه للجماعة . وما ذهب إليه مالك مروي عن زيد بن ثابت وابن مسعود . وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث أبي بكرة وهو " أنه دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وهم ركوع فركع ثم سعى إلى الصف فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من الساعي ؟ قال أبو بكرة أنا قال : زادك الله حرصا ولا تعد "
الفصل الرابع . في معرفة ما يجب على المأموم أن يتبع فيه الإمام
- وأجمع العلماء على أنه يجب على المأموم أن يتبع الإمام في جميع أقواله وأفعاله إلا في قوله : سمع الله لمن حمده وفي جلوسه إذا صلى جالسا لمرض عند من أجاز إمامة الجالس . وأما اختلافهم في قوله سمع الله لمن حمده فإن طائفة ذهبت إلى أن الإمام يقول إذا رفع رأسه من الركوع : سمع الله لمن حمده فقط ويقول المأموم : ربنا ولك الحمد فقط وممن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة وغيرهما . وذهبت طائفة أخرى إلى أن الإمام والمأموم يقولان جميعا سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد وإن المأموم يتبع فيهما معا الإمام كسائر التكبير سواء . وقد روي عن أبي حنيفة أن المنفرد والإمام يقولانهما جميعا ولا خلاف في المنفرد : أعني أنه يقولهما جميعا . وسبب الاختلاف في ذلك حديثان متعارضان : أحدهما حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا : ربنا ولك الحمد " والحديث الثاني حديث ابن عمر " أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما أيضا كذلك وقال : سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد " فمن رجح مفهوم حديث أنس قال : لا يقول المأموم سمع الله لمن حمده ولا الإمام ربنا ولك الحمد وهو من باب دليل الخطاب لأنه جعل حكم المسكوت عنه بخلاف حكم المنطوق به . ومن رجح حديث ابن عمر قال : يقول الإمام ربنا ولك الحمد ويجب على المأموم أن يتبع الإمام في قوله سمع الله لمن حمده لعموم قوله " إنما جعل الإمام ليؤتم به " ومن جمع بين الحديثين فرق في ذلك بين الإمام والمأموم . والحق في ذلك أن حديث أنس يقتضي بدليل الخطاب أن الإمام لا يقول ربنا ولك الحمد وأن المأموم لا يقول سمع الله لمن حمده . وحديث ابن عمر يقتضي نصا أن الإمام يقول ربنا ولك الحمد فلا يجب أن يترك النص بدليل الخطاب فإن النص أقوى من دليل الخطاب . وحديث أنس يقتضي بعمومه أن المأموم يقول : سمع الله لمن حمده بعموم قوله " إنما جعل الإمام ليؤتم به " وبدليل خطابه أن لا يقولها فوجب أن يرجح بين العموم ودليل الخطاب ولا خلاف أن العموم أقوى من دليل الخطاب لكن العموم يختلف أيضا في القوة والضعف ولذلك ليس يبعد أن يكون بعض أدلة الخطاب أقوى من بعض أدلة العموم فالمسألة لعمري اجتهادية : أعني في المأموم
- ( وأما المسألة الثانية ) وهي صلاة القائم خلف القاعد فإن حاصل القول فيها أن العلماء اتفقوا على أنه ليس للصحيح أن يصلي فرضا قاعدا إذا كان منفردا أو إماما لقوله تعالى { وقوموا لله قانتين } واختلفوا إذا كان المأموم صحيحا فصلى خلف إمام مريض يصلي قاعدا على ثلاثة أقوال : أحدها أن المأموم يصلي خلفه قاعدا وممن قال بهذا القول أحمد وإسحق والقول الثاني أنهم يصلون خلفه قياما . قال أبو عمر بن عبد البر : وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار الشافعي وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر وأبو ثور وغيرهم وزاد هؤلاء فقال يصلون وراءه قياما وإن كان لا يقوى على الركوع والسجود بل يؤمئ إيماء . وروى ابن القاسم أنه لا تجوز إمامة القاعد وأنه إن صلوا خلفه قياما أو قعودا بطلت صلاتهم وقد روي عن مالك أنهم يعيدون الصلاة في الوقت وهذا إنما بني على الكراهة لا على المنع والأول هو المشهور عنه . وسبب الاختلاف تعارض الآثار في ذلك ومعارضة العمل للآثار : أعني عمل أهل المدينة عند مالك وذلك أن في ذلك حديثين متعارضين : أحدهما حديث أنس وهو قوله E " وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا " وحديث عائشة في معناه وهو " أنه صلى صلى الله عليه وسلم وهو شاك جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال " إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا " والحديث الثاني حديث عائشة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه الذي توفي منه فأتى المسجد فوجد أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس فاستأخر أبو بكر فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كما أنت فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر " فذهب الناس في هذين الحديثين مذهبين : مذهب النسخ ومذهب الترجيح . فأما من ذهب مذهب النسخ فإنهم قالوا : إن ظاهر حديث عائشة وهو " أن النبي E كان يؤم الناس وأن أبا بكر كان مسمعا " لأنه لا يجوز أن يكون إمامان في صلاة واحدة وإن الناس كانوا قياما وإن النبي E كان جالسا فوجب أن يكون هذا من فعله E إذ كان آخر ما فعله ناسخا لقوله وفعله المتقدم . وأما من ذهب مذهب الترجيح فإنهم رجحوا حديث أنس بأن قالوا إن هذا الحديث قد اضطربت الرواية عن عائشة فيه فيمن كان الإمام هل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر ؟ . وأما مالك فليس له مستند من السماع لأن كلا الحديثين اتفقا على جواز إمامة القاعد وإنما اختلفا في قيام المأموم أو قعوده حتى إنه لقد قال أبو محمد بن حزم إنه ليس في حديث عائشة أن الناس صلوا لا قياما ولا قعودا وليس يجب أن يترك المنصوص عليه لشيء لم ينص عليه . قال أبو عمر : وقد ذكر أبو المصعب في مختصره عن مالك أنه قال : لا يؤم الناس أحد قاعدا فإن أمهم قاعدا فسدت صلاتهم وصلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يؤمن أحد بعدي قاعدا " قال أبو عمر وهذا حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث لأنه يرويه جابر الجعفي مرسلا وليس بحجة فيما أسند فكيف فيما أرسل ؟ وقد روى ابن القاسم عن مالك أنه كان يحتج بما رواه ربيعة بن أبي عبد الرحمن " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو مريض فكان أبو بكر هو الإمام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بصلاة أبي بكر وقال : ما مات نبي حتى يؤمه رجل من أمته " وهذا ليس فيه حجة إلا أن يتوهم أنه ائتم بأبي بكر لأنه لا تجوز صلاة الإمام القاعد وهذا ظن لا يجب أن يترك له النص مع ضعف هذا الحديث
الفصل الخامس في صفة الاتباع
- وفيه مسئلتان : إحداهما في وقت تكبيرة الإحرام للمأموم والثانية في حكم من رفع رأسه قبل الإمام . أما اختلافهم في وقت تكبير المأموم فإن مالكا استحسن أن يكبر بعد فراغ الإمام من تكبيرة الإحرام قال : وإن كبر معه أجزأه وقد قيل إنه لا يجزئه وأما إن كبر قبله فلا يجزئه . وقال أبو حنيفة : وغيره يكبر مع تكبيرة الإمام فإن فرغ قبله لم يجزه . وأما الشافعي فعنه في ذلك روايتان : إحداهما مثل قول مالك وهو الأشهر . والثانية أن المأموم إن كبر قبل الإمام أجزأه . وسبب الخلاف أن في ذلك حديثين متعارضين : أحدهما قوله E " فإذا كبر فكبروا " والثاني ما روي " أنه E كبر في صلاة من الصلوات ثم أشار إليهم أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى رأسه أثر الماء " فظاهر هذا أن تكبيره وقع بعد تكبيرهم لأنه لم يكن له تكبير أولا لمكان عدم الطهارة وهو أيضا مبني على أصله أن صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام والحديث ليس فيه ذكر هل استأنفوا التكبير أو لم يستأنفوه فليس ينبغي أن يحمل على أحدهما إلا بتوقيف والأصل هو الاتباع وذلك لا يكون إلا بعد أن يتقدم الإمام إما بالتكبير وإما بافتتاحه . وأما من رفع رأسه قبل الإمام فإن الجمهور يرون أنه أساء ولكن صلاته جائزة وأنه يجب عليه أن يرجع فيتبع الإمام . وذهب قوم إلى أن صلاته تبطل للوعيد الذي جاء في ذلك وهو قوله E " أما يخاف الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار " ؟
الفصل السادس فيما حمله الإمام عن المأمومين
- واتفقوا على أنه لا يحمل الإمام عن المأموم شيئا من فرائض الصلاة ما عدا القراءة فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال : أحدها أن المأموم يقرأ مع الإمام فيما أسر فيه ولا يقرأ معه فيما جهر به . والثاني أنه لا يقرأ معه أصلا . والثالث أنه يقرأ فيما أسر أم الكتاب وغيرها وفيما جهر أم الكتاب فقط وبعضهم فرق في الجهر بين أن يسمع قراءة الإمام أو لا يسمع فأوجب عليه القراءة إذا لم يسمع ونهاه عنها إذا سمع وبالأول قال مالك إلا أنه يستحسن له القراءة فيما أسر فيه الإمام . وبالثاني قال أبو حنيفة وبالثالث قال الشافعي والتفرقة بين أن يسمع أو لا يسمع هو قول أحمد بن حنبل . والسبب في اختلافهم اختلاف الأحاديث في هذا الباب وبناء بعضها على بعض وذلك أن في ذلك أربعة أحاديث : أحدها قوله E " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " وما ورد من الأحاديث في هذا المعنى مما ذكرناه في باب وجوب القراءة . والثاني ما روى مالك عن أبي هريرة ؟ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال : هل قرأ معي منكم أحد آنفا فقال رجل : نعم أنا يا رسول الله فقال رسول الله : إني أقول مالي أنازع القرآن " فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . والثالث حديث عبادة بن الصامت قال " صلى بنا رسول الله صلاة الغداة فثقلت عليه القراءة . فلما انصرف قال : إني لأراكم تقرءون وراء الإمام قلنا : نعم قال : فلا تفعلوا إلا بأم القرآن " قال أبو عمر وحديث عبادة بن الصامت هنا من رواية مكحول وغيره متصل السند صحيح . والحديث الرابع حديث جابر عن النبي E قال " من كان له إمام فقراءته له قراءة " وفي هذا أيضا حديث خامس صححه أحمد بن حنبل وهو ما روي أنه قال E " إذا قرأ الإمام فأنصتوا " فاختلف الناس في وجه جمع هذه الأحاديث . فمن الناس من استثنى من النهي عن القراءة فيما جهر فيه الإمام قراءة أم القرآن فقط على حديث عبادة بن الصامت . ومنهم من استثنى من عموم قوله E " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " المأموم فقط في صلاة الجهر لمكان النهي الوارد عن القراءة فيما جهر فيه الإمام في حديث أبي هريرة وأكد ذلك بظاهر قوله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } قالوا : وهذا إنما ورد في الصلاة . ومنهم من استثنى القراءة الواجبة على المصلي المأموم فقط سرا كانت الصلاة أو جهرا وجعل الوجوب الوارد في القراءة في حق الإمام والمنفرد فقط مصيرا إلى حديث جابر وهو مذهب أبي حنيفة فصار عنده حديث جابر مخصصا لقوله E " واقرأ ما تيسر معك فقط " لأنه لا يرى وجوب قراءة أم القرآن في الصلاة وإنما يرى وجوب القراءة مطلقا على ما تقدم وحديث جابر لم يروه مرفوعا إلا جابر الجعفي ولا حجة في شيء مما ينفرد به . قال أبو عمر : وهو حديث لا يصح إلا مرفوعا عن جابر
الفصل السابع . في الأشياء التي إذا فسدت لها صلاة الإمام يتعدى الفساد إلى المأمومين
- واتفقوا على أنه إذا طرأ عليه الحدث في الصلاة فقطع أن صلاة المأمومين ليست تفسد . واختلفوا إذا صلى بهم وهو جنب وعلموا بذلك بعد الصلاة فقال قوم : صلاتهم صحيحة وقال قوم : صلاتهم فاسدة وفرق قوم بين أن يكون الإمام عالما بجنابته أو ناسيا لها فقالوا إن كان عالما فسدت صلاتهم وإن كان ناسيا لم تفسد صلاتهم وبالأول قال الشافعي وبالثاني قال أبو حنيفة وبالثالث قال مالك . وسبب اختلافهم هل صحة انعقاد صلاة المأموم مرتبطة بصحة صلاة الإمام أم ليست مرتبطة ؟ فمن لم يرها مرتبطة قال : صلاتهم جائزة ومن رآها مرتبطة قال : صلاتهم فاسدة ومن فرق بين السهو والعمد قصد إلى ظاهر الأثر المتقدم وهو " أنه E كبر في صلاة من الصلوات ثم أشار إليهم أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى جسمه أثر الماء " فإن ظاهر هذا أنهم بنوا على صلاتهم والشافعي يرى أنه لو كانت الصلاة مرتبطة للزم أن يبدءوا بالصلاة مرة ثانية
الباب الثالث من الجملة الثالثة
- والكلام المحيط بقواعد هذا الباب منحصر في أربعة فصول : الفصل الأول : في وجوب الجمعة وعلى من تجب . الثاني : في شروط الجمعة . الثالث : في أركان الجمعة . الرابع : في أحكام الجمعة
الفصل الأول في وجوب الجمعة ومن تجب عليه
- أما وجوب صلاة الجمعة على الأعيان فهو الذي عليه الجمهور لكونها بدلا من واجب وهو الظهر ولظاهر قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } والأمر على الوجوب ولقوله E " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم " وذهب قوم إلى أنها من فروض الكفايات . وعن مالك رواية شاذة أنها سنة . والسبب في هذا الاختلاف تشبيهها بصلاة العيد لقوله E " إن هذا يوم جعله الله عيدا " وأما على من تجب فعلى من وجدت فيه شروط وجوب الصلاة المتقدمة ووجد فيها زائدا عليها أربعة شروط اثنان باتفاق واثنان مختلف فيهما . أما المتفق عليهما فالذكورة والصحة فلا تجب على امرأة ولا على مريض باتفاق ولكن إن حضروا كانوا من أهل الجمعة . وأما المختلف فيهما فهما المسافر والعبد فالجمهور على أنه لا تجب عليهما الجمعة وداود وأصحابه على أنه تجب عليهما الجمعة . وسبب اختلافهم اختلافهم في صحة الأثر الوارد في ذلك وهو قوله E " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة : عبد مملوك . أو امرأة . أو صبي أو مريض " وفي أخرى " إلا خمسة " وفيه " أو مسافر " والحديث لم يصح عند أكثر العلماء
الفصل الثاني في شروط الجمعة
- وأما شروط الجمعة فاتفقوا على أنها شروط الصلاة المفروضة بعينها : أعني الثمانية المتقدمة ما عدا الوقت والأذان فإنهم اختلفوا فيهما وكذلك اختلفوا في شروطها المختصة بها . أما الوقت فإن الجمهور على أن وقتها وقت الظهر بعينه : أعني وقت الزوال وأنها لا تجوز قبل الزوال وذهب قوم إلى أنه يجوز أن تصلى قبل الزوال وهو قول أحمد بن حنبل . والسبب في هذا الاختلاف في مفهوم الآثار الواردة في تعجيل الجمعة مثل ما خرجه البخاري عن سهل بن سعد أنه قال ما كنا نتغدى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقيل إلا بعد الجمعة . ومثل ما روي أنهم كانوا يصلون وينصرفون وما للجدران أظلال فمن فهم من هذه الآثار الصلاة قبل الزوال أجاز ذلك ومن لم يفهم منها إلا التكبير فقط لم يجز ذلك لئلا تتعارض الأصول في هذا الباب وذلك أنه قد ثبت من حديث أنس بن مالك " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس " وأيضا فإنها لما كانت بدلا من الظهر وجب أن يكون وقتها وقت الظهر فوجب من طريق الجمع بين هذه الآثار أن تحمل تلك على التبكير إذ ليست نصا في الصلاة قبل الزوال وهو الذي عليه الجمهور
وأما الأذان فإن جمهور الفقهاء اتفقوا على أن وقته هو إذا جلس الإمام على المنبر واختلفوا هل يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد فقط أو أكثر من واحد ؟ فذهب بعضهم إلى أنه إنما يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد فقط وهو الذي يحرم به البيع والشراء . وقال آخرون : بل يؤذن اثنان فقط . وقال قوم : بل إنما يؤذن ثلاثة . والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك وذلك أنه روى البخاري عن السائب ابن يزيد أنه قال " كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان زمان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء " وروي أيضا عن السائب بن يزيد أنه قال " لم يكن يوم الجمعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد " وروي أيضا عن سعيد بن المسيب أنه قال " كان الأذان يوم الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانا واحدا حين يخرج الإمام فلما كان زمان عثمان وكثر الناس فزاد الأذان الأول ليتهيأ الناس للجمعة " ورى ابن حبيب " أن المؤذنين كانوا يوم الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة " فذهب قوم إلى ظاهر ما رواه البخاري وقالوا : يؤذن يوم الجمعة مؤذنان . وذهب آخرون إلى أن المؤذن واحد فقالوا : إن معنى قوله : فلما كان زمان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث أن النداء الثاني هو الإقامة
وأخذ آخرون بما رواه ابن حبيب وأحاديث ابن حبيب عند أهل الحديث ضعيفة ولا سيما بما انفرد به . وأما شروط الوجوب والصحة المختصة ليوم الجمعة فاتفق الكل على أن من شرطها الجماعة واختلفوا في مقدار الجماعة فمنهم من قال : واحد مع الإمام وهو الطبري . ومنهم من قال اثنان سوى الإمام . ومنهم من قال : ثلاثة دون الإمام وهو قول أبي حنيفة . ومنهم من اشترط أربعين وهو قول الشافعي وأحمد . وقال قوم ثلاثين . ومنهم من لم يشترط عددا ولكن رأى أنه يجوز بما دون الأربعين ولا يجوز بالثلاثة والأربعة وهو مذهب مالك وحدهم بأنهم الذين يمكن أن تتقرى بهم قرية
وسبب اختلافهم في هذا اختلافهم في أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع هل ذلك ثلاثة أو أربعة أو اثنان وهل الإمام داخل فيهم أم ليس بداخل فيهم ؟ وهل الجمع المشترط في هذه الصلاة هو أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع في غالب الأحوال وذلك هو أكثر من الثلاثة والأربعة فمن ذهب إلى أن الشرط في ذلك هو أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع وكان عنده أن أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع اثنان فإن كان ممن يعد الإمام في الجمع المشترط في ذلك قال تقوم الجمعة باثنين الإمام وواحد ثان وإن كان ممن لا يرى أن يعد الإمام في الجمع قال تقوم باثنين سوى الإمام ومن كان أيضا عنده أن أقل الجمع ثلاثة فإن كان لا يعد الإمام في جملتهم قال بثلاثة سوى الإمام وإن كان ممن يعد الإمام في جملتهم وافق قول من قال أقل الجمع اثنان ولم يعد الإمام في جملتهم . وأما من راعى ما ينطلق عليه في الأكثر والعرف المستعمل اسم الجمع قال لا تنعقد بالاثنين ولا بالأربعة ولم يحد في ذلك حدا ولما كان من شرط الجمعة الاستيطان عنده حد هذا الجمع بالقدر من الناس الذين يمكنهم أن يسكنوا على حدة من الناس وهو مالك رحمه الله . وأما من اشترط الأربعين فمصيرا إلى ما روي أن هذا العدد كان في أول جمعة صليت بالناس فهذا هو أحد شروط صلاة الجمعة : أعني شروط الوجوب وشروط الصحة فإن من الشروط ما هي شروط وجوب فقط ومنها ما يجمع الأمرين جميعا : أعني أنها شروط وجوب وشروط صحة . وأما الشرط الثاني وهو الاستيطان فإن فقهاء الأمصار اتفقوا عليه لاتفاقهم على أن الجمعة لا تجب على مسافر وخالف في ذلك أهل الظاهر لإيجابهم الجمعة على المسافر
واشترط أبو حنيفة المصر والسلطان مع هذا ولم يشترط العدد . وسبب اختلافهم في هذا الباب هو الاحتمال المتطرق إلى الأحوال الراتبة التي اقترنت بهذه الصلاة عند فعله إياها صلى الله عليه وسلم هل هي شرط في صحتها أو وجوبها أم ليست بشرط ؟ وذلك أنه لم يصلها صلى الله عليه وسلم إلا في جماعة ومصر ومسجد جامع فمن رأى أن اقتران هذه الأشياء بصلاته مما يوجب كونها شرطا في صلاة الجمعة اشترطها ومن رأى بعضها دون بعض اشترط ذلك البعض دون غيره كاشتراط مالك المسجد وتركه اشتراط المصر والسلطان ومن هذا الوضع اختلفوا في مسائل كثيرة من هذا الباب مثل اختلافهم هل تقام جمعتان في مصر واحد أو لا تقام ؟ والسبب في اختلافهم في اشتراط الأحوال والأفعال المقترنة بها هو كون بعض تلك الأحوال أشد مناسبة لأفعال الصلاة من بعض ولذلك اتفقوا على اشتراط الجماعة إذ كان معلوما من الشرع أنها حال من الأحوال الموجودة في الصلاة ولم ير مالك المصر ولا السلطان شرطا في ذلك لكونه غير مناسب لأحوال الصلاة ورأى أن المسجد شرطا لكونه أقرب مناسبة حتى لقد اختلف المتأخرون من أصحابه هل من شرط المسجد السقف أم لا ؟ وهل من شرطه أن تكون الجمعة راتبة فيه أم لا ؟ وهذا كله لعله تعمق في هذا الباب ودين الله يسر . ولقائل أن يقول : إن هذه لو كانت شروطا في صحة الصلاة لما جاز أن يسكت عنها E ولا أن يترك بيانها لقوله تعالى { لتبين للناس ما نزل إليهم } ولقوله تعالى { لتبين لهم الذي اختلفوا فيه } والله المرشد للصواب
الفصل الثالث في الأركان . اتفق المسلمون على أنها خطبة وركعتان بعد الخطبة واختلفوا في ذلك في خمس مسائل هي قواعد هذا الباب
- ( المسألة الأولى ) في الخطبة هل هي شرط في صحة الصلاة وركن من أركانها أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أنها شرط وركن . وقال قوم : إنها ليست بفرض وجمهور أصحاب مالك على أنها فرض إلا ابن الماجشون . وسبب اختلافهم هو هل الأصل المتقدم من احتمال كل ما اقترن بهذه الصلاة أن يكون من شروطها أو لا يكون . فمن رأى أن الخطبة حال من الأحوال المختصة بهذه الصلاة وبخاصة إذا توهم أنها عوض من الركعتين اللتين نقصتا من هذه الصلاة قال : إنها ركن من أركان هذه الصلاة وشرط في صحتها ومن رأى أن المقصود منها هو الموعظة المقصودة من سائر الخطب رأى أنها ليست شرطا من شروط الصلاة وإنما وقع خلاف في هذه الخطبة هل هي فرض أم لا ؟ لكونها راتبة من سائر الخطب وقد احتج قوم لوجوبها بقوله تعالى { فاسعوا إلى ذكر الله } وقالوا هو الخطبة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق