آفاق المستقبل
كيف يمكن للعالم العربي أن يتخفف من ديونه تمهيدا للتخلص منها نهائيا؟ هذا ما تحاول هذه الدراسة الإجابة عليه وفق ثلاثة مبادئ أساسية:
1- أن تكون هذه الحلول ممكنة التطبيق.
2- ألا تؤثر سلبياً في مجرى الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
3- أن تتسم هذه الحلول بالاستمرار.
صعود صاروخي في حجم الديون
تضاعفت الديون الخارجية للدول العربية في العقدين الماضيين سبع مرات إذ زاد حجمها من 49 مليار دولار في عام 1980 إلى 325 مليارا في عام 2000 (1). ولم يصاحب هذا الارتفاع زيادة مماثلة في الناتج المحلي الإجمالي. في بداية الفترة كانت الديون الخارجية تشكل 12% من الناتج المحلي الإجمالي العربي، فأصبحت في نهايتها 46% منه. وتشكل خدمة هذه الديون عبئاً ثقيلاً على مالية الدولة وتؤثر تأثيراً سلبياً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كما لم تصمم إعادة الجدولة إلا لتأجيل المشكلة، أما إلغاء الديون فتعتمد على اعتبارات سياسية بحتة ناهيك عن ضعف فاعليتها.
دقة التشخيص
تتطلب المعالجة الحقيقية لأزمة المديونية تشخيصاً دقيقاً لأسبابها. هنالك كتابات عديدة تشير إلى أن المديونية الخارجية ناجمة عن قلة الادخار المحلي مقارنة بطموحات الخطط الاقتصادية، إذ إن القروض تنمي هذا الادخار فيرتفع الإنتاج وتتحسن الصادرات ويسهل لاحقاً سداد الديون.
مشكلة السياسات المالية
لكن هذا التحليل الذي يشجع في نهاية المطاف على الاستدانة لا يمت بصلة لواقع مديونية الدول العربية، فلا تشكو هذه الدول من ضعف مدخراتها بقدر ما تعانى من عدم فاعلية السياسات المالية والاقتصادية في توجيه الأموال العامة نحو الاستثمار النافع.
الإنفاق الخاطئ
كما لم يخصص الجزء الأكبر من القروض للتنمية بل لشراء معدات عسكرية وتمويل مشاريع ضعيفة الإنتاجية. فلا علاقة لأزمة الديون بالتنمية. فقد عرفت البلدان العربية على اختلاف مستوياتها الاقتصادية تطوراً ملموساً في الستينيات دون حاجة فعلية للتمويل الخارجي، لذلك لم تكن مشكلة المديونية مطروحة بحدة، الأمر الذي يجر إلى الاعتقاد الشديد بأن التنمية ليست سبباً لاستفحال الأزمة بل إن تعثر التنمية هو الذي قاد إلى ذلك. فلو استخدمت الموارد الذاتية والقروض الخارجية لتدعيم النمو الاقتصادي لما تفاقمت الديون لأن النمو سيكون كفيلاً بتحرير المجتمع من التزاماته المالية. وعلى هذا الأساس لا يمكن معالجة المديونية العربية إلا عن طريق إنهاء التوترات السياسية البينية العقيمة التي تقود إلى ارتفاع الإنفاق العسكري.
لكن تقليص هذا الإنفاق لا يكفي لمواجهة الأزمة المالية، ففي عام 1975 كان حجم القروض الجديدة الممنوحة للدول العربية غير الخليجية 5457 مليون دولار، أي أكبر بكثير من خدمة ديونها القديمة البالغة 1556 مليون دولار. كانت إذن التحويلات الصافية (3901 مليون دولار) لصالحها. وبمرور السنوات بدأ العد التنازلي لهذه التحويلات، ومنذ عام 1989 لم تحصل على أي إيراد رغم استمرار تدفق القروض بل باتت التحويلات الصافية لصالح المؤسسات والدول المقرضة.
وفي عام 1997 بلغ حجم القروض الجديدة 7537 مليون دولار في حين وصلت خدمة الديون القديمة إلى 12004 ملايين دولار (2). وحدث هذا الأثر السيئ رغم هبوط أسعار فائدة جميع أنماط القروض الخارجية. وبات من اللازم إذن البحث عن مصادر مالية لخدمة الديون الخارجية والقيام بعملية التنمية. وسنتناول في هذه المقالة مجموعة من المقترحات تساعد في التخفيف من ديون الدول العربية ومن ثم التخلص منها نهائيا كل ذلك من خلال المحاور التالية:
- ترشيد المالية العامة
- ترشيد الإنفاق العسكري
- تتمية الموارد الخارجية
- استغلال الموارد المائية
- استغلال الديون في التنمية
- تحسين السياسات المالية
- تشجيع الاستثمار الأجنبي
- حث الدائنين على تبديل الديون
- تحويل الإعفاءات الضريبية إلى ضريبة ثابتة
ترشيد المالية العامة
العجز سمة مشتركة لميزانيات جميع الدول العربية النفطية وغير النفطية، الأمر الذي يقود إلى نتائج سيئة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، ويؤثر مباشرة في ثقل المديونية إذ إن البلدان العربية اقترضت لإعادة التوازن للميزانية فارتفعت ديونها، ويؤثر أيضاً بصورة غير مباشرة لأن العجز المالي المفرط يفقد الثقة بالسياسة المالية فتهرب رؤوس الأموال الوطنية والأجنبية.. عندئذ تقترض الدولة من الخارج لتعوض هذا الهروب.
الإجراءات العربية للحد من الإنفاق
واتخذت الأقطار العربية إجراءات ترمي إلى الحد من تزايد الإنفاق وتحسين الإيراد. وقد هبط العجز من 9.8% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1992 إلى 5.9% في عام 1999 (3). ولكن هذه الإجراءات أدت إلى ارتفاع معدلات البطالة حتى في صفوف حملة الشهادات بسبب تنصل القطاع العام من دوره في التوظيف وتباطؤ القوة الشرائية للمواطنين نتيجة ارتفاع الضغط الضريبي وانخفاض الدعم الحكومي الموجه للمواد الاستهلاكية الأساسية.
وتستوجب الإستراتيجية المستقبلية إعادة النظر في هذه السياسة التي يساندها صندوق النقد الدولي والمطبقة في الدول العربية المثقلة بالديون الخارجية، فيتعين أن تقوم السياسة الجديدة على التصدي للعجز المالي وفق قواعد حسن الإدارة وأسس علمية قوامها تحديد الأولويات حسب الإمكانات المتوفرة.
تخصيص بعض مؤسسات الدولة المالية
هنالك شركات تجارية تابعة للحكومة تهتم بالعمليات المصرفية والتأمين والنقل تعتمد نفقاتها على الميزانية العامة، وتشير نتائج حسابات الكثير منها إلى خسارة بسبب سوء إدارتها. وينبغي سلخ هذه الشركات عن ميزانية الدولة لتصبح حسب خصوصيات كل بلد تابعة للقطاع الخاص أو لأنظمة مالية مستقلة. أما المؤسسات الضرورية للتنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية كتلك التي تنصرف للصحة والتعليم فيجب أن تحظى دائماً برعاية مالية الدولة وفق أساسين هما:
الأول: يرتبط بالمبادئ العامة وهي استخدام الموارد المالية بصورة فاعلة إلى أقصى الحدود.
الثاني: يتعلق بتحديد اتجاه الإنفاق الحكومي، إذ إن تلبية حاجات المجتمع للصحة الوقائية تتطلب تدخل الدولة عن طريق الإنفاق العام.
وينطبق هذا التدخل أيضاً على التعليم الإلزامي، في حين يختلف أمر الصحة العلاجية التي يمكن أن يتحمل المستفيدون منها مصاريف العلاج شريطة أن تكون هذه المصاريف في متناول الشريحة العريضة من المجتمع، وتصح هذه الملاحظة أيضاً على التعليم العالي.
تقليل عمليات الاستدانة
من ناحية أخرى يجب ألا تلجأ الميزانية العامة للقروض الخارجية إلا في الظروف الاستثنائية التي يحددها القانون، فمن غير المقبول أن تمول الميزانية بشكل دوري بالقروض الخارجية كما هو الوضع في المغرب ومصر والأردن، حيث تشكل القروض الخارجية في المغرب على سبيل المثال حوالي ثلث الإيرادات العامة (4).
الحد من التهرب الضريبي
كما يتعين التصدي بحزم لظاهرة التهرب الضريبي المتفشية في العالم العربي، فهذه الظاهرة لها آثار سلبية عديدة من الزاويتين المالية والاجتماعية، فهي تقلص الإيرادات العامة فتضطر الدولة للاقتراض من الداخل والخارج وتلجأ أحياناً للإصدارات النقدية، عندئذ يرتفع الدين العام وتزداد معدلات التضخم، وتقود كذلك إلى عدم المساواة في توزيع الأعباء خاصة عندما يتعلق الأمر بالضرائب المباشرة، إذ لا يستطيع أصحاب المرتبات التهرب من الضريبة بسبب العجز عند المنبع وذلك على عكس أصحاب الأرباح التجارية بسبب اعتماد الإدارة على تصريحاتهم.
لاشك في أن القضاء على هذه الظاهرة مستحيل لأنها توجد بوجود الضرائب، ولكن يمكن اتخاذ إجراءات للحد من أهميتها، ولا تقتصر هذه الإجراءات على الجوانب الفنية البحتة للأنظمة الضريبية ومحاربة الرشوة في الأجهزة الإدارية ومعاقبة المتهربين، بل تشمل أيضاً الاعتناء بالسياسة المالية، فإذا كانت هذه السياسة عادلة ولا تتجه نحو تبذير الأموال في مشاريع غير مفيدة وفي النفقات الخاصة للنخبة الحاكمة فسوف يشعر المكلف وهو مواطن بواجبه في تحمل الأعباء العامة.
علاقة طردية
إن ترشيد المالية العامة بهدف معالجة المديونية الخارجية لا يتحقق إلا عن طريق تقليص الإنفاق العسكري، فعند النظر إلى تطور الوضع الاقتصادي العالمي في العشرين سنة المنصرمة نلاحظ أن المنطقة العربية تكاد تكون الوحيدة في العالم التي لم تحرز تقدماً يتناسب مع إمكاناتها المالية والطبيعية، فالديون الخارجية ترتفع باستمرار، والموازين الخارجية في حالة عجز، وارتفعت معدلات البطالة، وتدهورت الحالة المعيشية لجميع المواطنين. وحسب مؤشر التنمية البشرية (يتضمن مدة الأمل في الحياة ودرجة المعرفة ومستوى القوة الشرائية) الذي يغطي 174 دولة والذي تسجل فيه كندا المرتبة العالمية الأولى يتبين أن المملكة العربية السعودية تحتل المرتبة رقم 75 رغم إمكاناتها المالية الكبيرة، وتنخفض التنمية البشرية في بلدان أخرى لتصل إلى المرتبة العالمية رقم 111 في سوريا و119 في مصر و124 في المغرب و126 في العراق و143 في السودان (5).
ترشيد الإنفاق العسكري
نجم هذا الوضع المتردي عن أسباب عديدة في مقدمتها ارتفاع الإنفاق العسكري الذي لا يتيح الفرصة لتطوير الأنشطة المدنية النافعة للمجتمع، فالمرفق العسكري العربي مستهلك ومبذر.. مستهلك لأن الجيوش العربية تعتمد على استيراد الأسلحة وبالتالي فهو يسهم إسهاما فاعلا في عجز الموازين الخارجية دون إضافة قيمة إنتاجية جديدة. وهو مبذر لكونه المرفق الوحيد الذي لا يخضع طلبه للاعتبارات المالية.
ومنذ عدة سنوات تتجه السياسات الاقتصادية للدول العربية نحو الإصلاح المالي الذي لا يعني سوى الضغط على الإنفاق العام بطريقة أو بأخرى كالتخصيص وتقليص الإعانات الاجتماعية والحد من التوظيف. لكن الإصلاح بهذا المفهوم التقشفي لا يشمل القطاع العسكري الذي تتسم حاجاته بعدم المرونة، فلا تتردد الدولة في حجب الأموال عن القطاعات المنتجة لإضافتها إلى القطاع العسكري. وبالنظر إلى الأزمات السياسية الإقليمية وعدم كفاية الموارد المالية الوطنية راحت الدول الغنية والفقيرة تقترض من الخارج لشراء المزيد من الأسلحة فتفاقمت ديونها.
نفقات التسليح العربي
وفقا للمصادر (6) استورد العالم العربي بين عامي 1978 و1988 أسلحة بمبلغ يعادل 14% من الناتج المحلي الإجمالي مول نصفه عن طريق القروض الخارجية. وحسب مصادر أخرى (7) بلغ الإنفاق العسكري للبلدان العربية (باستثناء العراق) 48 مليار دولار في عام 1985 و35.9 مليارا في عام 1995. أي ما يعادل على التوالي 28.8% و22.6% من النفقات العامة الكلية و10.7% و7.9% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذه نسب عالية جداً مقارنة بالمعدلات في المناطق الأخرى من العالم.
نموذج العراق
والدول التي تخصص نسبة عالية للإنفاق العسكري هي جميع دول مجلس التعاون الخليجي والأردن ومصر وسوريا واليمن والمغرب وكذلك وبصورة خاصة العراق. ففي الفترة الواقعة بين 1981 و1988 (إبان الحرب مع إيران) صرف العراق 166.1 مليار دولار للدفاع والأمن ولم يحصل إلا على 77.6 مليارا من النفط، أي لم تعد إيرادات الخام تغطي سوى 47% من النفقات العسكرية علماً بأنه من اللازم توفير المال لاستيراد الأدوات المدنية ومعدات التنمية والمواد الغذائية والطبية. لذا فإن السحب من الأرصدة الخارجية أصبح ضروريا، ففي أقل من ثلاث سنوات من بداية الحرب نفدت تقريباً جميع الأموال المودعة في الخارج، وانتقلت من 35.5 مليار دولار في عام 1980 إلى 15.8 مليارا في عام 1981 ثم إلى 1.2 مليار دولار في عام 1982 وإلى 0.8 مليار دولار في عام 1983 (8).
وهكذا هبطت الفوائد الناجمة عنها من 4200 مليون دولار في عام 1979 إلى 60 مليونا في عام 1983. وغني عن البيان أن مصادر العملة الحرة محدودة جداً، فعلى عكس بلدان المغرب العربي لا يعير العراق أهمية للسياحة الدولية رغم مكانته المرموقة على الصعيدين الحضاري والديني، ولم يعتد العراقيون المقيمون بالخارج على تحويل قسط من دخولهم إلى بلدهم إضافة إلى قلة عددهم.
- التحويلات الخارجية
وبالمقابل شكلت تحويلات العمال العرب والأجانب المقيمين في العراق ثغرة جديدة في المالية الخارجية، فقد قدرت هذه التحويلات بحوالي ثلاثة مليارات دولار سنوياً، أي ثلث إيرادات النفط. أما صادرات التمر والمواد الأولية فتشكل في أفضل الحالات 3% فقط من إيرادات النفط علماً بأن العراق أكبر بلد منتج ومصدر للتمر في العالم. لذلك لا يوجد سوى منفذ مالي واحد لتأجيل الأزمة وهو الاقتراض من الخارج، فسقط البلد في فخ الديون.
وبعد انتهاء الحرب مع إيران وصلت ديون العراق إلى 84 مليار دولار (9). وبسبب حرب الخليج الثانية والحصار لم يستطع البلد خدمة ديونه فتراكمت متأخرات السداد حتى أصبحت الديون الخارجية 126 مليارا في نهاية عام 1998 (10).
حل الخلافات السياسية
إن المستقبل الاقتصادي والاجتماعي للعالم العربي يتوقف على إزالة الخلافات السياسية البينية وإقامة علاقات تجارية متينة، عندئذ تنخفض نفقات المؤسسات العسكرية. أما القول بعدم إمكانية خفض هذه النفقات بسبب الوجود الإسرائيلي فهو غير منطقي، فقد أنفقت أموال طائلة في حرب العراق مع إيران وحرب الخليج الثانية وحرب المغرب في الصحراء الغربية والحروب الأهلية في جنوب السودان وشمال العراق واليمن وكذلك في تسليح دول مجلس التعاون الخليجي.. ولم تخصص هذه الأموال لمواجهة العدو الصهيوني، بل إن بعض البلدان العربية المثقلة بالديون خاصة مصر والأردن وموريتانيا أقامت علاقات مع إسرائيل تهدف فيما تهدف إليه الحصول على مساعدات أميركية والدخول إلى الأسواق الغربية وإلغاء الديون.
تنمية الموارد الخارجية
تتوفر جميع البلدان العربية المدينة على إمكانات واسعة لتنمية مواردها المالية الخارجية الضرورية لخدمة الديون القديمة وتقليص الاعتماد على القروض الجديد. ويمكن معالجة عجز الميزان التجاري عن طريق الاعتناء بالقطاع الزراعي ورفع مستوى المبادلات التجارية البينية واستخدام القروض في الأنشطة الإنتاجية، كما يمكن استخدام السياسة النقدية لتعزيز تلك الموارد. ويتعين كذلك تشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة نظراً لأهميتها في زيادة الصادرات ونقل التكنولوجيا الحديثة ناهيك عن دورها الإيجابي في تحسين حالة ميزان المدفوعات.
تقليص العجز التجاري
وفقا للإحصاءات الرسمية (11) يتبين أن فائض الموازين التجارية للبلدان النفطية يتجه نحو الهبوط حيث انتقل من 123.3 مليار دولار في عام 1980 إلى 18.4 مليارا في عام 1998، كما ارتفع عجز الموازين التجارية للبلدان غير النفطية في الفترة نفسها من 14.8 مليارا إلى 24.7 مليارا. وانعكست هذه النتائج السلبية على الموازين الجارية فأصبحت تعاني من العجز في المجموعتين. وللحصول على توازن ميزان المدفوعات لابد من إحداث فائض في حساب العمليات الرأسمالية يعادل عجز الميزان التجاري. ولما كان من الصعب الحصول على استثمارات أجنبية مباشرة وعلى رؤوس أموال أجنبية قصيرة الأجل وجب الاقتراض من الخارج. وهذا الأسلوب يسبب متاعب مالية لأنه يفضي إلى استفحال المديونية الخارجية، كما أنه يفقد الثقة بالسياسة المالية فتزداد صعوبة تدفق رؤوس الأموال الأجنبية إلى الدولة. لذا فمن الضروري تحسين مركز الميزان التجاري بدلاً من تحقيق فائض في حساب العمليات الرأسمالية، فتقليص العجز التجاري سيكفل تخفيف حدة المديونية عن طريق التأثير في الصادرات والواردات في آن واحد دون إحداث آثار اجتماعية واقتصادية سيئة.
تنشيط الصادرات
فيما يخص الصادرات تواجه البلدان المدينة عدة صعوبات يتعذر أحياناً التصدي لها وتنعكس مباشرة على ثقل المديونية على اعتبار أن حصيلة الصادرات هي الطريق الطبيعي لخدمة الديون. في مقدمة هذه العراقيل الركود الاقتصادي الذي ظهر في البلدان الصناعية منذ أكثر من 15 سنة، وقد أثر هذا في مقدرتها على استقطاب كميات كبيرة من السلع.
كما قاد تطور التعاون الاقتصادي والسياسي في دول أوروبا الغربية إلى فرض شتى وسائل الحماية لمنتجاتها البينية الأمر الذي انعكس سلبياً على الصادرات العربية التي تعتمد بالدرجة الأولى على هذه الدول. أضف إلى ذلك أن القطاعات الاقتصادية للدول العربية المدينة تتسم باعتمادها على عدد قليل من السلع وبالتالي تهتز ماليتها عند هبوط أسعارها في السوق العالمية.
لذا بات يتعين على البلدان المدينة تحسين إنتاجها الزراعي للحد من الواردات الغذائية، الأمر الذي يؤثر بصورة إيجابية في موازين مدفوعاتها. ومن دون ذلك سيزداد عبء المديونية بحكم التنظيم الجديد للتجارة العالمية، إذ سيفضي هذا التنظيم إلى إلغاء الدعم المالي الممنوح للمنتجين والمصدرين الزراعيين في الدول المتقدمة، وإلغاء الدعم يعني زيادة كلفة الإنتاج وما ينجم عنها من ارتفاع أسعار السلع الزراعية. ولما كانت الأقطار العربية تستورد أكثر من نصف حاجاتها الزراعية، فإن تحرير التجارة العالمية سيقود إلى ظهور آثار سلبية في موازين مدفوعاتها وفي مستوى معيشة مواطنيها إذ سترتفع أسعار الحبوب واللحوم والألبان والسكر والزيوت.
استغلال الموارد المائية
لاشك في أن المنطقة العربية فقيرة جداً بمواردها المائية مقارنة بالمناطق الأخرى من العالم. وهذا الوضع يؤثر في مساحة الأراضي القابلة للزراعة التي لا تتجاوز 197 مليون هكتار أي 14% من المساحة الكلية للعالم العربي. لكن مساحة الأراضي المزروعة فعلاً لا تتعدى 70 مليون هكتار (12)، بمعنى أن 127 مليون هكتار غير مستغلة لأسباب ترتبط بالسياسات الاقتصادية لا بندرة المياه. لذلك يتعين تنسيق الجهود بين البلدان المتوفرة على أيدي عاملة والبلدان الغنية برؤوس الأموال، وهكذا يهبط عجز الميزان الزراعي وتكف البلدان المدينة عن الاقتراض لسد هذا العجز أو لشراء تلك المواد. ففي مصر بلغت صادراتها الزراعية 572 مليون دولار في حين وصلت وارداتها الزراعية إلى 3716 مليونا. وبالتالي تستطيع الاستغناء عن الاقتراض الخارجي إن حققت الاكتفاء الذاتي الغذائي. وبشكل عام إن عولجت الفجوة الغذائية سوف يقتصد العالم العربي 19 مليار دولار سنوياً يخصص منها 12 مليارا لخدمة ديونه دون حاجة إلى إعادة جدولتها.
استخدام القروض الخارجية في التنمية
ومن زاوية أخرى لابد من استخدام القروض الخارجية في مجالات تنموية، وهذا يلزم إقامة علاقة بين القروض الجديدة من جهة والاستثمار والتصدير من جهة أخرى. فعندما تنفق الأموال المقترضة لزيادة الإنتاج المخصص للتصدير يصبح سداد الديون سهلاً إذ عن طريق زيادة الصادرات تتحرر ذمة الدولة. وعلى هذا الأساس لا تهتم النظرة المستقبلية للمديونية الخارجية بحجم الديون ومبلغ خدمتها بل بعلاقة هذا الحجم بالناتج المحلي الإجمالي وعلاقة هذا المبلغ بالصادرات، ففي فترة زمنية معينة إذا كانت نسبة حجم الديون مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي ونسبة خدمة الديون مقارنة بالصادرات أقل في نهاية الفترة قياساً ببدايتها فذلك يعني نجاح السياسة المالية في استخدام القروض في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بطبيعة الحال على افتراض عدم تدخل عوامل أخرى.
تحسين السياسات المالية
ومن أجل تحسين الموارد المالية يتعين استخدام السياسة النقدية، فإذا كان تأثير خفض قيمة العملة ضعيفاً في ميدان التجارة الخارجية السلعية للدول العربية فإن تأثيره الإيجابي كبير في ميدان تحويلات الدخول التي يجريها العمال المغتربون. فهذه التحويلات لها أهمية مالية قصوى خاصة في مصر والسودان والجزائر وتونس والمغرب ولبنان والأردن، ففي السودان كان الدولار يعادل 29 جنيها في عام 1992 وبلغت تحويلات العمال السودانيين المقيمين بالخارج 120 مليون دولار. وبعد تخفيضات متتالية أصبح الدولار يساوي 157 جنيها في عام 1998 فارتفعت التحويلات إلى 346 مليون دولار أي 58% من الصادرات الكلية. وعلى أثر تعويم الجنيه المصري أصبحت تحويلات العمال المصريين المقيمين بالخارج تزيد على خمسة مليارات دولار، أي أكثر من مجموع حصيلة الصادرات مما أدى إلى تحسين مستوى الاحتياطيات الرسمية وتخفيف عبء المديونية الخارجية.
أما إذا كان سعر الصرف الرسمي للعملة المحلية لا يتناسب مع قيمتها الحقيقية فإن العمال المقيمين بالخارج سيعزفون عن التحويل بواسطة القنوات المصرفية وتحرم مالية الدولة من مصدر مهم للإيرادات. وتنطبق هذه الحالة على العراق وهو أكبر بلد مدين في العالم العربي. وبات من اللازم له تعويم الدينار وبمقتضاه يتحدد سعر الصرف حسب العرض والطلب، عندئذ يستطيع المغتربون تحويل جزء من دخولهم بالطريق المصرفي. وعلى افتراض أن عدد العراقيين بالخارج مليون شخص وأن كلا منهم يحول 50 دولاراً شهرياً، فسوف يصل إلى العراق 600 مليون دولار سنوياً دون مقابل. إنه المبلغ اللازم لتغطية حاجات جميع المواطنين من الأدوية مجانا، وبذلك يحد التعويم من الموجات التضخمية العالية.
أما الآثار السلبية للتعويم فتكاد تكون منعدمة في الظروف الحالية. فهو لا يقود إلى تخفيض قيمة الدينار بل إلى تطابق السعر الرسمي مع القيمة الحقيقية للعملة وهذا هو هدف أسعار الصرف المتسمة بالمصداقية. فجميع الدول العربية المثقلة بالديون الخارجية التي تعتمد على تحويلات عمالها المغتربين تطبق نظام التعويم، ولا يوجد أي مانع من العودة إلى التثبيت عندما تتحسن الأحوال المالية لأن هذا النظام أو ذاك يتم بمجرد صدور قرار حكومي ولا يتطلب إجراءات معقدة.
تشجيع رؤوس الأموال الأجنبية
لرؤوس الأموال الأجنبية أهمية قصوى في تخفيف حدة المديونية الخارجية، فهي إيرادات تدخل إلى حساب رأس المال في ميزان المدفوعات الأمر الذي يقلص عجز الموازين الخارجية ويفضي بالنتيجة النهائية إلى الحد من اللجوء مجدداً إلى الاقتراض، كما تلعب رؤوس الأموال الأجنبية دوراً بارزاً في نقل التكنولوجيا الحديثة ورفع مستوى العمالة وزيادة الإنتاج وفتح منافذ خارجية للسلع المحلية، عندئذ يتحسن مركز الميزان التجاري فيهبط عجز ميزان المدفوعات، وهكذا تضعف الحاجة إلى القروض الجديدة وتسهل خدمة الديون القديمة.
حث الدائنين على تبديل الديون
يتعين حث الدائنين على إمكانية تبديل الديون. وقد تمكنت بعض الأقطار العربية (13) من تحويل ديونها الخارجية إلى استثمارات محلية أو مقايضتها بسلع قابلة للتصدير. وغالباً ما تتم هذه العملية أو تلك بعد خصم يتفق عليه الطرفان الدائن والمدين. فقد اتفق الأردن مع روسيا على شراء دين روسي قيمته 800 مليون دولار بمبلغ 140 مليون دولار، وسدد هذا المبلغ بصادرات أردنية قدرها 52 مليونا ودفع الباقي نقدا.
واتفق المغرب مع فرنسا على تحويل 440 مليونا من الديون المستحقة لفرنسا إلى استثمارات خاصة داخل المغرب.
وعقدت مصر عدة اتفاقات مع دائنيها تم بموجبها تحويل حوالي 3200 مليون دولار بعد خصم بنسبة 46% إلى استثمارات خاصة بالجنيه وإلى سلع مصرية تصدر إلى الخارج، وتتولى أجهزة وزارة الاقتصاد والبنك المركزي الإشراف على هذه العملية.
تحويل الإعفاءات الضريبية إلى ضرائب ثابتة
بالنظر لأهمية الاستثمارات الأجنبية شرعت البلدان العربية أنظمة تمنح بموجبها امتيازات عديدة لها في مقدمتها الإعفاءات الضريبية. لكن هذه الإعفاءات تقلص الإيرادات وتقود بالتالي إلى ارتفاع عجز الميزانية العامة، كما وجهت الدراسات (14) انتقادات عديدة لهذه الإعفاءات. إنها تتعارض مع مبادئ الإنصاف بسبب تطبيقها على الأجانب دون المواطنين، وتقود إلى هروب رؤوس الأموال المحلية إلى الخارج لتدخل مرة أخرى إلى البلد بصفتها استثمارات أجنبية، وتؤدي إلى تزايد الرشوة في الإدارات المختصة بالنظر في منح الإعفاءات، وبات من اللازم إلغاء هذه الإعفاءات وتغييرها إلى ضرائب ثابتة وملائمة لنمط الاستثمار. فالضغط الضريبي الذي يتحمله استثمار أجنبي مباشر في قطاع الخدمات يجب أن يكون أعلى من ذلك الذي يتحمله استثمار أجنبي مباشر في قطاع الصادرات الصناعية، وهكذا يمكن أن تتدرج المعاملة حتى تصل إلى أعلى مستوياتها في رؤوس الأموال الأجنبية القصيرة الأجل التي تهدف إلى الربح السريع فقط.
تعتمد قرارات المستثمرين الأجانب على عوامل عديدة أساسية وثانوية، والضغط الضريبي المرتفع عامل أساسي يحول دون جلب الاستثمارات الأجنبية بل يقود إلى هروب رؤوس الأموال الوطنية، لكن الإعفاءات السخية ليست سوى عامل ثانوي أحياناً غير فاعل لتشجيع الاستثمارات الأجنبية، فلا توجد حالة تتكالب فيها رؤوس الأموال الأجنبية بسبب الإعفاءات الضريبية في دولة تعاني من تباطؤ النمو وضعف البنية التحتية واختلال مزمن للموازين الخارجية وكثرة القيود النقدية والتجارية والمالية على القطاع الخاص.
ينبغي إذا العمل على موازنة الامتيازات الممنوحة للاستثمارات الأجنبية مع المكاسب الاقتصادية التي تحققها، فمن جهة هنالك الخسائر المكونة من مبالغ الإعفاءات الضريبية والأرباح المحولة إلى الخارج، ومن جهة أخرى هنالك المكاسب المتمثلة بالقيمة المضافة لرؤوس الأموال. والواقع أنه لا توجد في البلدان العربية دراسة جدية لمعادلة هذين الشطرين. فالضيق المالي الذي قاد إلى اللجوء المتزايد للقروض الخارجية دون الاكتراث بمرحلة السداد أدى إلى منح امتيازات سخية دون حساب، وعلى الرغم من ذلك لا تزال الاستثمارات الأجنبية المباشرة ضعيفة في البلدان العربية. ففي عام 1999 بلغت 8.7 مليارات دولار (15) أي 4.2% فقط من مجموع تدفق الاستثمارات المباشرة إلى الدول النامية.
إن معالجة المشاكل السياسية والقانونية والإدارية في الأقطار العربية هي الخطوة الأساسية لبناء مناخ استثماري ملائم في مجالات لا تقتصر على الميدان النفطي بل تمتد لتشمل الصناعات التحويلية والزراعة والسياحة. وإذا كان من الضروري توفير المناخ المناسب لرؤوس الأموال الأجنبية العربية وغير العربية فإنه من الضروري أيضاً ألا يسبب هذا المناخ مشاكل مالية قد تقود إلى استفحال المديونية الخارجية كما حدث في المكسيك وشرق آسيا والبرازيل في التسعينيات. يتعين تطبيق خطة مدروسة دراسة دقيقة وعميقة تتضمن كيفية ودرجات تحرير الأنماط المختلفة لرؤوس الأموال.
وقد دلت التجارب على ضرورة الاعتماد على التسلسل الصحيح للتحرير، فلا يجوز إعطاء حرية واسعة لتدفق الأموال الأجنبية القصيرة الأجل إلى الداخل قبل تحرير الاستثمارات الأجنبية المباشرة. ومع ذلك فهذه الاستثمارات كالقروض الخارجية تمتص الاحتياطيات الرسمية بسبب ترحيل أرباحها، فيجب إذن أن يقتصر التشجيع على الاستثمارات التي تطور الصناعات وتسهل خدمة الديون وتحسن الأداء الاقتصادي.
الخاتمة
لمعالجة المديونية الخارجية لابد من الاعتماد على الجهود الذاتية التي ترتكز على مواجهة الاختلال المالي فيتعين:
- تقليص الإنفاق العسكري باعتباره السبب الأساسي لتفاقم المديونية العربية.
- تنمية الموارد الخارجية لخدمة الديون وتنفيذ الخطط الاقتصادية، ولتحقيق ذلك يجب التصدي لعجز الميزان التجاري بطرق عديدة في مقدمتها تحسين الإنتاج الزراعي واتباع سياسة نقدية ملائمة.
- دعم مركز ميزان المدفوعات والحد من الاقتراض الجديد عن طريق تشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة بتوفير المناخ المناسب لها.
وأخيراً يقترح هذا البحث تحديد نسبة معينة من الموارد المالية الخارجية لخدمة الديون كأن تكون 20% مثلاً، ويمكن الاقتراض من الخارج إذا كانت خدمة الديون القديمة أقل من هذه النسبة، أما إذا تم تجاوزها لسبب أو لآخر كتردي أسعار الصادرات أو ارتفاع الواردات أو هبوط إيرادات السياحة والاستثمارات الخارجية يتعين عدم اللجوء إلى الاقتراض الخارجي والبحث عن وسائل أخرى للتمويل. بهذه الطريقة يمكن سداد الديون دون إجراءات تقشفية قاسية. كما يطمئن الدائنون على المقدرة المالية للدولة وتزداد ثقة المستثمرين الأجانب بالسياسة الاقتصادية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق