وقع العديد من البلدان النامية ومن بينها الدول العربية في فخ المديونية الخارجية وبلغ حجمها مستويات حرجة باتت تؤثر على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لهذه الدول.
والتساؤل الذي يطرح نفسه الآن وبإلحاح هو: هل ساعدت هذه الأموال الدول النامية ومنها الدول العربية على تحقيق التنمية المنشودة؟ وما هي انعكاسات المديونية الخارجية على مسارات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدول العربية المدينة؟ وإلى أي حد أثرت أزمة المديونية الخارجية على القرار السياسي العربي؟.
- انعكاسات المديونية الخارجية على الخطط الإنمائية
- الآثار الاجتماعية للديون الخارجية
- التداعيات السياسية للمديونية الخارجية
انعكاسات المديونية الخارجية على الخطط الإنمائية
لعل من المفارقات أنه في الوقت الذي تكونت فيه العائدات النفطية في المنطقة العربية بكميات كبيرة لا سابق لها (ارتفاع أسعار النفط في السبعينات), شهدت الفترة نفسها تصاعد حجم الدين الخارجي بمعدلات لم يسبق لها مثيل أيضا.
ولم تقتصر عمليات الاستدانة على الدول العربية غير النفطية فحسب، بل تفاقم حجم مديونية الدول النفطية كذلك. وقد رافق ذلك تصاعد في حجم مدفوعات خدمة الدين الخارجي في جميع الأقطار العربية (غير النفطية خصوصا) وأصبحت تلتهم جانبا كبيرا من حصيلة الصادرات من السلع والخدمات.
وشكل هذا قيدا أوحملا ثقيلا على خطط التنمية المستقبلية، نظرا لابتلاع جانب مهم من النقد الأجنبي في خدمة الدين الخارجي.
ويمكن تشخيص آثار المديونية الخارجية على الخطط الإنمائية من خلال تحليل آثارها على الادخار المحلي والقدرة الاستيرادية ومعدلات التضخم.
1-على الادخار المحلي
إن العلاقة بين رؤوس الأموال الأجنبية والادخار المحلي أفرزت أطروحتين: أطروحة التكامل بين الموارد المالية المحلية والأجنبية وأطروحة الإحلال بين الصنفين.
التكامل بين الموارد المالية المحلية والأجنبية
فيرى أنصار الفرضية الأولى أن رؤوس الأموال الأجنبية إذا ما استغلت استغلالا اقتصاديا جيدا تؤدي إلى زيادة الناتج القومي وارتفاع مستويات الدخل وبالتالي ترتفع معدلات الادخار وذلك نتيجة لسد النقص في الموارد المالية اللازمة لتمويل المشاريع الاستثمارية وهوالهدف الذي توخته الدول النامية من وراء اقتراضها.
الإحلال بين الصنفين
في حين يرى أنصار الفرضية الثانية أن هذه الأموال لا تستغل الاستغلال الأمثل لها وغالبا ما تتجه نحو تمويل الاستهلاك خصوصا للسلع المستوردة ونسبة قليلة تتجه إلى الاستثمار في مشاريع تتميز بانخفاض مردودها, مما يقلل من فرص خلق فوائض مالية جديدة ورفع كفاءة الاقتصاد ونموه وهوما يؤثر سلبا على إمكانات الادخار المحلي.
وإذا نظرنا إلى أثر الأموال الأجنبية بصورة عامة, والديون على وجه الخصوص, على مستويات الادخار في الدول النامية من خلال الدراسات الحديثة التي تناولت هذا الموضوع نجد أن هذا التأثير يختلف من دراسة إلى أخرى تبعا لعينة الدول المدروسة وطرق التقدير المستخدمة بالإضافة إلى اختيار فترة الدراسة.
وتشير أغلب الدراسات في هذا المجال إلى أثر سلبي -مباشر أوغير مباشر- للديون الخارجية على الادخار المحلي في معظم الدول النامية.
2-على الطاقة الاستيرادية
إذا استطاعت الدولة توفير القدر الكافي من المال اللازم لاستيراد الآلات والمعدات الإنتاجية الضرورية للتوسع الاقتصادي, استطاعت تنفيذ مخططاتها الإنمائية دون ضغوط خارجية أوحدوث اختناقات تعوق طموح وتنفيذ هذه الخطط.
وهناك عدة عوامل تؤثر بشكل أوبآخر في المقدرة الاستيرادية منها: حجم وعائدات الصادرات وتكلفة السلع المستوردة وخدمة الديون الخارجية والتي تتمثل في مجموع الأقساط والفوائد التي تدفعها الدول المدينة خدمة لديونها وإعادة جدولتها.
وتؤثر هذه الأعباء سلبا على إمكانية تنمية الموارد المالية الذاتية بسبب استنزافها للحظ الأوفر من العملات الصعبة المتاحة للبلد.
3- على معدلات التضخم
إن ارتفاع اعتماد الدول النامية ومنها الدول العربية على القروض الخارجية أدى إلى تزايد معدلات التضخم في هذه الدول, لما تشكله هذه القروض والمديونية المترتبة من ضغط على القدرة التنافسية لصادرات الدول المدينة.
ويؤدي تخفيض قيمة العملة الوطنية -استجابة لضغوط الأطراف الدائنة- إلى تدهور القيم الحقيقية للمدخرات مما يضطر العديد من الأفراد إلى إيداع أموالهم في الخارج (أحد أهم أسباب ظاهرة هروب رؤوس الأموال إلى الخارج) خوفا من تآكلها.
وبصورة عامة فإن التأثير السلبي للديون الخارجية على القدرة المالية والاستيرادية للدول المدينة ومنها الدول العربية قد انعكس على عمليات الاستثمار المطلوبة لتحقيق أهداف النمو المتسارع الذي تتطلع إليه اقتصادات هذه الدول.
ويتمثل هذا التأثير السلبي في كون أعباء المديونية الخارجية تستحوذ على نسب عالية من الناتج المحلي الإجمالي وتشكل إنقاصا للموارد المالية التي كان من الممكن أن تتجه إلى الادخار والتوسع الاقتصادي.
كما أن ارتفاع خدمة الديون الخارجية الذي شهدته الدول العربية في السنوات الأخيرة يشكل عبئا على النقد الأجنبي المتاح لتمويل الواردات الاستثمارية.
ومن الطبيعي أن يواكب ارتفاع خدمة الديون ضغط على تمويل هذه الواردات مما اضطر بعض هذه الدول إلى تأجيل تنفيذ العديد من المشاريع الاستثمارية المبرمجة ضمن مخططات التنمية وإلى تخفيض معدلات الاستثمار المستهدفة مما يؤدي إلى تسريح العمال وتزايد البطالة وما إلى ذلك من انعكاسات على المجتمع.
إلا أنه من الضروري التذكير أن العيب لا يكمن في مسألة استيراد رأس المال الأجنبي وإنما الأهم هو طبيعة واستخدامات هذه الأموال.
لقد لعب رأس المال الأجنبي دورا أساسيا في تطوير الدول المتقدمة نظرا للاستغلال الأمثل لهذا العنصر مما ساعد على خلق فوائض مالية أخذت تصدرها إلى البلدان النامية. أما بالنسبة لمعظم الدول النامية ومن بينها الدول العربية فلم يلعب رأس المال الأجنبي الدور الذي كان يجب أن يلعبه في تنمية هذه الدول مما أوقعها في مديونية خانقة لها آثار اجتماعية وسياسية لا تقل خطورة عن الآثار الاقتصادية.
وقد أدى تخلف اقتصادات الدول النامية ومنها الأقطار العربية بصورة عامة وتفاقم حدة الديون الخارجية على وجه الخصوص إلى مزيد التبعية للدول المتقدمة الدائنة, التي أصبحت تتحكم في مسارات التنمية في الدول المدينة. وتأخذ هذه التبعية أشكالا وأنماطا مختلفة منها التبعية التجارية والمالية والتكنولوجية.
أشكال تبعية الاقتصاديات العربية بسبب الديون
أولاً: التبعية التجارية
ويقصد بها تحكم الطلب العالمي في معدلات نمو اقتصادات الدول النامية. ومرد ذلك أن قطاع التصدير يعتبر المصدر الأساسي للدخل في الدول النامية. كما أن عدم تنوع صادرات الدول النامية حتى من المواد الأولية, إذ كثيرا ما تتركز هذه الصادرات في مادة أولية واحدة أومجموعة محدودة منها, يعرض عمليات التنمية في البلدان المعنية للتذبذب من خلال تعرضها لتقلبات الظروف الاقتصادية العالمية. إن هذه التبعية التجارية التي تعاني منها الدول النامية قد نشأت في عهد الاستعمار وتطورت بعد الاستقلال السياسي وتعمقت بعد تفاقم الديون الخارجية, بفعل بعض العوامل الداخلية والخارجية المرتبطة بمتطلبات التنمية. وهذه المتطلبات هي التي دفعت بتلك الدول في مدار التبعية المالية.
ثانياً: التبعية المالية
ترجع هذه التبعية -سواء كانت سببا أونتيجة للمديونية الخارجية- إلى حاجة الدول النامية إلى مصادر لتمويل خططها الإنمائية. فالحاجة إلى رؤوس الأموال دفعت بالدول ذات الموارد المالية المحدودة إلى فتح المجال أمام رأس المال الأجنبي بأشكاله المختلفة. وحتى الدول النامية ذات الفوائض المالية -ومنها الأقطار العربية النفطية- تعاني من نوع آخر من التبعية المالية للدول المتقدمة، ألا وهو اندماج مؤسساتها المالية في النظام الرأسمالي الدولي مما قد يجلب لها مخاطر عدة منها احتمال التجميد من قبل الحكومات الغربية كما حصل مع الودائع الليبية والعراقية.
ثالثاً: التبعية التكنولوجية
ويقصد بها النقل الأفقي للتكنولوجيا أي استيرادها من الدول المتقدمة بدل العمل على تنميتها وطنيا أوقوميا أوإقليميا. وقد اختار معظم الدول النامية اكتساب هذه التكنولوجيا عن طريق استيرادها جاهزة باعتقاد أن ذلك سيمكنها من اقتصاد الوقت والنفقـات. لكن المشكلة تكمن في كون هذه التقنية لا تتلاءم مع الطبيعة الإنتاجية للدول النامية مما عمق من تبعيتها للدول المنتجة لهذه التكنولوجيا.
إن بلدان العالم الثالث المديـنة, ومنها الدول العربية, تتعرض "لمؤامرة مالية دولية" بعد أن تم توريطها في مديونية مفرطة. وتأخذ هذه المؤامرة شكلا خطيرا تمثل في احتلال المستثمرين الأجانب للأصول الإنتاجية الإستراتيجية التي بنتها هذه الدول عبر جهودها الإنمائية المضنية خلال عقود من الزمن على نحو يعيد لها السيطرة الأجنبية.
فبعد وصول أزمة الديون إلى مستوى حرج وبعد التعثر في سداد خدمتها ظهر اتجاه بين صفوف الدائنين يدعو إلى مبادلة الدين الخارجي ببعض الأصول الإنتاجية في الدول المدينة, أي مقايضة الديون بحقوق ملكية في المشاريع التي تملكها الدولة في هذه البلدان. وهواتجاه يؤسس نظرته إلى مشكلة الديون في تلك الدول على أنها مشكلة إفلاس وليست نقص سيولة.
وقد لقي هذا الطرح صدى واسعا في نفوس الدائنين لأنه يحسن من محافظهم المالية ويحول الديون المشكوك في تحصيلها (لأنها حالة إفلاس) إلى أصول إنتاجية ذات عوائد مستمرة وهنا يتحول الدائنون إلى مستثمرين وهوما يؤدي إلى إخضاع السياسات الاقتصادية والاجتماعية في البلدان المدينة إلى مزيد من الرقابة الخارجية.
الآثار الاجتماعية للديون الخارجية
إن الآثار السلبية للديون الخارجية لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية فقط في الدول النامية وإنما تتعداها إلى الأبعاد الاجتماعية ومع تنامي ظاهرة العولمة بشكل عام وتفاقم أزمة المديونية بشكل خاص, كان من الطبيعي أن تتأثر الدول العربية بهذا الواقع من خلال آلـيات مختلفة.
فالدول العربية التي كانت ت***ى فلسفة اقتصادية تقوم بالأساس على تحكم الدولة في إدارة النشاطات الاقتصادية من قبل, نجدها تتحول تحولا جذريا, من خلال تطبيق برامج التثبيت والإصلاح الهيكلي, متنازلة بذلك عن جزء كبير من مهمتها الاجتماعية. وتستند هذه البرامج إلى إعطاء قوى السوق الدور البارز في الحياة الاقتصادية وتحرير المعاملات الاقتصادية والمالية مع العالم الخارجي.
ومن المنطقي أن يكون لمثل هذه الـتحولات الجذرية أثرها على المجتمع. وفي تحليلنا للآثار الاجتماعية للمديونية الخارجية سوف نركز على التأثيرات المترتبة على أسواق العمل والتشغيل في الدول العربية المدينة وذلك استنادا إلى أن الكسب من العمل يمثل المصدر الرئيسي لمداخيل غالبية الأفراد وأن حرمانها من هذا الحق ينتج عنه استفحال البطالة بأنواعها وتفاقم حدة الفقر وإحداث المزيد من الاختلالات في توزيع الدخل وتعاظم الهوة بين طبقات المجتمع.
أن أغلب الدول النامية ومنها الدول العربية التي لجأت إلى تطبيق برامج التثبيت والإصلاح الهيكلي تحت وطأة ارتفاع مديونيتها الخارجية وبمباركة من المؤسسات الدولية الدائنة (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ونادي باريس ونادي لندن...), عانت من معدلات بطالة مرتفعة أصبحت تهدد استقرارها الاجتماعي والسياسي.
وترجع هذه المعدلات إلى عدة عوامل منها على سبيل المثال: تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي في هذه الدول نتيجة لتطبيق سياسات انكماشية تتضمنها هذه البرامج خاصة في المراحل الأولى لها, مما يؤدي إلى خفض الطلب المحلي ويزيد من حدة الركود الاقتصادي الذي يؤدي بدوره إلى تراجع الطلب على العمل.
يضاف إلى ذلك تأثير عمليات خصخصة المنشآت العامة وضرورة تقليص العمالة بها قبل انتقالها إلى الملكية الخاصة, وكذلك تراجع الحكومات عن خلق فرص جديدة للعمل بحجة الضغط على الإنفاق العام وتقليص عجز الموازنات العامة, إلى غير ذلك من الإجراءات المرافقة لبرامج الإصلاح الاقتصادي هذه التي أصبحت شرطا ضروريا لطلب إعادة جدولة الديون أوالحصول على قروض جديدة تفرضه الجهات المانحة.
وعلى الرغم من شح ودقة البيانات المتعلقة بالتشغيل والبطالة في الدول العربية فإن القدر المتوافر منها يشير إلى اتجاه تصاعدي واضح للبطالة. وتراوحت معدلات البطالة في الدول العربية ما بين 15% و20 % خلال التسعينات وهي الحقبة التي شهدت ارتفاع حجم الدين الخارجي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المعدلات المرتفعة للبطالة لا ترجع بالكامل إلى أزمة الدين الخارجي وإنما تتفاعل معها جملة من العوامل الأخرى تتعلق بعدم قدرة الاقتصاديات العربية على خلق فرص للعمل تتناسب مع حجم قوة العمل العربية التي تطورت في الأعوام الأخيرة.
ويمكن القول أن المحصلة العامة لتفاعل أزمة الديون الخارجية والنتائج المترتبة عليها, قد أثرت سلبا على مستويات المعيشة لغالبية الدول المدينة وأدت إلى تفاقم الفقر في هذه الدول (تقرير البنك الدولي سنة 2000, ص 15).
وقد ***ى البنك الدولي في السنوات الأخيرة سياسة التصدي لمسألة الفقر وأوضح أنه يجب أن يكون من بين مكونات السياسة العامة لأي دولة ترغب في تخفيف عبء ديونها أوالحصول عل قروض جديدة, إجراءات تخفف وطأة الفقر في المجتمع.
وعموما فإن أزمة الديون الخارجية في الثمانينات عولجت بوصفات تنطوي على العديد من الإجراءات المجحفة بالدول النامية. وكثيرا ما تفرض الأطراف الدائنة والمانحة للقروض إتباع سياسات اقتصادية ترتكز على حزمة من الإجراءات التي تؤثر سلبيا على المجتمع مثل: تخفيض قيمة العملة المحلية -وما ينجر عن ذلك من تسارع لمعدلات التضخم الذي يعتبر العدوالأول للفقراء- وإلغاء الرسوم والضرائب على السلع المستوردة وتخفيض الإنفاق العام ورفع الدعم عن السلع والخصخصة وكلها سياسات تؤدي إلى زيادة تدخل الدول الدائنة وشركاتها المتعددة الجنسية وتغلغلها في اقتصادات الدول المدينة والتحكم فيها.
التداعيات السياسية للمديونية الخارجية
إن خطورة تفاقم الديون الخارجية لا تقف عند الحدود الاقتصادية والاجتماعية بل إنها تتجاوز إلى تعريض حرية صانع القرار السياسي إلى مزيد الضغوطات والتدخل الأجنبي. وفي ظل عالم يتميز بهيمنة الدول المتقدمة ومؤسساتها المالية الدولية ومع تنامي ظاهرة العولمة بكافة أوجهها -خاصة الوجه المالي- فإنه من المتوقع تسارع عملقة رأس المال واحتواء الشركات المتعددة الجنسية المحركة لهذا المال لمصير الخطط الإنمائية وتعميق المشاكل الاقتصادية والاجتماعية إلا أن خطورة هذا النفوذ لن تقف عند البعدين الاقتصادي والاجتماعي بل ستتعدى إلى البعد السياسي. فيرى البعض أن هذه الأموال والشركات الكبرى المحركة لها قادرة على التأثير في سيادة الدول وتلعب دور الشرطي الذي يلزم الدول المضيفة بتوجهات معينة في سياساتها العامة وهوما يشكل مساسا للسيادة الوطنية واستقلال القرار السياسي(محمد الأطرش, ص 414).
وتتمثل الآثار المصاحبة لدخول رؤوس الأموال الأجنبية والشركات الدافعة لها في اختراق النظام السياسي والتأثير عليه بما يتلاءم مع مصالحها. فقد كشفت التحقيقات الجنائية أن هذه الشركات تمول الأحزاب المتنافسة في الانتخابات في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا مثلا حتى لا تأتي نتائج الانتخابات بأي أثر سلبي يمكن أن يضايق مصالحها فما بالك بالدول النامية وبهذا يتحول السياسيون من رجال دولة (Statesmen) إلى بياعين
(Salesmen) (إسماعيل صبري عبد الله, ص 378) بالإضافة إلى شراء ذمم الكثير من أعضاء البرلمان وحتى الحكومة.
ونشير إلى أن أزمة الديون الخارجية وما رافقها من تعاظم لدور الشركات المتعددة الجنسية والمستثمرين الخواص الدوليين أوجد واقعا جديدا على حكامنا التعامل معه. ويتجلى هذا الواقع في تراجع مكانة العلاقات بين الحكومات لصالح هذه الشركات والمستثمرين. وهوما يحتم تعزيز قدرتنا التفاوضية كعرب مع هذه الجهات والبحث عن اللغة التي تفهمها هذه الأطراف بعيدا عن العواطف والصيغ الفارغة. وعناصر هذه اللغة هي حجم السوق المحلية والأداء الاقتصادي والمالي الجيد والمستقر ورأس المال البشري المؤهل بالإضافة الاستقرار السياسي والتشريعات والنظم المحكمة.
بعد تفاقم أزمة الديون وتكريس العولمة وخاصة المالية لهيمنة الدول المتقدمة, تجسدت سياسة ازدواجية المعايير كأبرز سمات العولمة المعاصرة والنظام العالمي الجديد. حيث أصبح هذا النظام يبيح لدول معينة أشياء ويحرمها ذاتها عن دول أخرى لا لشيء إلا لاختلال الموازين واختلاف المصالح الإستراتيجية مع الدول المهيمنة أوالقادرة على الهيمنة (خلاف خلف الشاذلي, ص 64).
وفي ظل هذا الظرف الدولي الراهن, تصبح الدول العربية مطالبة أكثر من أي وقت مضى ببلورة وتجسيد رؤية متكاملة حول التحولات الدولية الراهنة, تمكنها من احتلال موقعا أفضل يخولها مواجهة تداعيات هذه التحولات.
خاتمة
1- يتضح من العرض العام للمديونية الخارجية للدول العربية المدينة أن أعباء خدمة هذه الديون قد نمت في السنوات الأخيرة بمعدلات مرتفعة وبلغت حدا حرجا. وأصبح مأزق الديون الخارجية للدول النامية, ومنها الدول العربية, بصورة عامة يستدعي حلا عاجلا قبل بلوغ مستويات يصعب معها حتى التفكير في تحقيق معدلات نمو اقتصادية.
2- وإذا كان البعض يرى عدم الإفراط في تهويل حدة الديون الخارجية للدول العربية المقترضة, إلا أن ذلك لا يستوجب بالضرورة تحجيمها أوالتقليل من حدتها وإنما ضرورة النظر إليها باعتبارها تحد لا بد من تشخيصه ومواجهة آثاره المحتملة.
3- إن أخطر آثار المديونية الخارجية يتمثل في شلل جهود التنمية وما يترتب عليه من انعكاسات اجتماعية وسياسية في الدول المدينة وفي تعميق تبعيتها للجهات الدائنة وإلى تعرضها إلى نوع من "الإرهاب المالي الدولي "الذي يستهدف إخضاع القرارات الاقتصادية والسياسية لهذه الدول لنوع صارم من الرقابة والتدخل في الشؤون الداخلية تحت وطأة تفاقم مديونيتها. ويبدوذلك واضحا في حالات الدول التي تضطر إلى طلب إعادة جدولة ديونها الخارجية أوالحصول على قروض جديدة, حيث تفرض الأطراف المانحة داخل نادي باريس ونادي لندن ومعهم في ذلك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي, سياسات وبرامج تعمق من تبعية الدول المدينة لرأس المال الدولي.
4- إن الأزمات الاقتصادية والمالية التي تواجهها الدول النامية لا ترجع بالكامل إلى الأموال الخارجية وإنما مردها في الواقع هو طريقة الدول المقترضة في إدارة تلك الأموال بشكل خاص وعمليات التنمية الاقتصادية بشكل عام. كما أن اللجوء إلى الاقتراض ليس بالضرورة سلبيا أوإيجابيا ويتوقف ذلك على النتائج المترتبة على هذا الاقتراض وتحدد طبيعة ومصادر وشروط واستخدامات الأموال الأجنبية مستوى تأثيرها في النمو الاقتصادي
5- أثبت العديد من الدراسات والبحوث أن الدول التي تعرضت لأزمات مديونية حادة قد اتجهت الأموال المقترضة فيها لتمويل الاستهلاك والاستثمارات الغير منتجة.
6- حل مشكلة الديون الخارجية للدول النامية والتخفيف من وطأتها, لخلق نوع من التوازن في الداخل وبين الدول -أصبح ضروريا للتوازن الاقتصادي العالمي- يتطلب توافر جهود كافة الأطراف وبالدرجة الأولى الأطراف الدائنة وجدية إرادتها في تحقيق ذلك.
7- أصبح من الضروري صياغة سياسات جديدة تؤسس المناخ الملائم للدول العربية الدائنة للتصدي للانعكاسات السلبية لهذه التحولات من فقر وتهميش وتبعية وارتهان للمؤسسات المالية الدولية ترتكز على ثلاثة محاور عامة:
محور اقتصادي:
يتعلق بطبيعة التنمية الاقتصادية المستهدفة وآليات تحقيقها وأنماط توزيع ثمارها, حيث يجب أن تكون هذه التنمية مرتكزة على القدرات الذاتية العربية من خلال التعجيل بالتكامل والاندماج الاقتصادي بين الدول العربية وتفعيل السوق العربية المشتركة وتحديث وتطوير المؤسسات المالية العربية المحلية من أجل ضمان توفير التمويل الذاتي العربي للتنمية وجلب رؤوس الأموال العربية الهاربة.
محور اجتماعي:
يستند إلى التركيز على التنمية البشرية بمفهومها الواسع من تعليم وصحة وبحث وتطوير وضمان لحقوق الإنسان.
محور سياسي:
يؤسس لقواعد ديموقراطية ترتكز على المشاركة الشعبية الفاعلة في القرارات التنموية وتدعيم آليات الرقابة ومكافحة الرشوة والفساد داخل القطاعات المختلفة.
ونختم بإعادة التأكيد على أن العامل الأهم في تجسيد محاولات التكامل الاقتصادي العربي يرتبط أساسا بالإرادة السياسية للقادة العرب وفي غياب هذه الإرادة يصعب أن تخطو الدول العربية جديا نحو طريق الوحدة الاقتصادية والتي أصبحت الخيار الأهم في مواجهة تداعيات العولمة ومخاطرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق