أهم الأحداث ما بين غزوة تبوك وحجة الوداع
أولاً: وفد ثقيف وإسلامهم:
لما انصرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن الطائف اتبع أثره عروة بن مسعود الثقفي حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، ورجع إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام، فرموه بالنبل، فأصابه سهم فقتله, ثم إنهم رأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب الذين أسلموا, فأجمعوا على أن يرسلوا رجالا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقدم عليه ستة منهم في رمضان بعد رجوعه من تبوك سنة تسع([1]).
وكان الوفد يتكون من ستة من كبار بني مالك والأحلاف، ثلاثة لكل منهما وعلى رأسهم جميعا عبد ياليل بن عمرو([2]), وتكوين هذا الوفد على هذا النحو يدل على فكر سياسي عميق؛ ذلك لأن ثقيف تأمل في أن يتدخل المهاجرون من بني أمية للتوسط في إقرار الصلح مع الرسول بسبب علاقة بني أمية التاريخية بالأحلاف([3]).
كان الصحابة يعرفون اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بإسلام ثقيف؛ ولذلك ما إن ظهر وفد ثقيف قرب المدينة، حتى تنافس كل من أبي بكر والمغيرة على أن يكون هو البشير بقدوم الوفد للرسول، وتنازل المغيرة لأبي بكر([4]).
واستقبل الرسول الوفد راضيًا وبنى لهم خياما لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا, وكانت ضيافتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانوا يفدون عليه كل يوم، ويخلفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم، فكان عثمان كلما رجعوا وقالوا بالهاجرة، عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الدين واستقرأه القرآن، حتى فقه في الدين وعلم، وكان إذا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائما عمد إلى أبي بكر، وكان يكتم ذلك من أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعجب منه وأحبه([5]).
فمكث الوفد أياما يختلفون إلى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يدعوهم إلى الإسلام، فقال له عبد ياليل: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى أهلنا وقومنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم إن أنتم أقررتم بالإسلام قاضيتكم, وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم».
قال عبد ياليل: أرأيت الزنى؟ فإنا قوم عزاب بغرب([6]) لا بد لنا منه، ولا يصبر أحدنا على العزبة, قال: «هو مما حرم الله على المسلمين, يقول الله تعالى ( وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً )» [الإسراء: 32].
قال: أرأيت الربا؟ قال: «الربا حرام» قال: فإن أموالنا كلها ربا, قال: «لكم رءوس أموالكم, يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ )»
[البقرة: 278].
قال أفرأيت الخمر؟ فإنها عصير أعنابنا، لا بد لنا منها.
قال: «فإن الله قد حرمها» ثم تلا رسول الله هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ [المائدة: 90].
فارتفع القوم وخلا بعضهم ببعض، فقال عبد ياليل: ويحكم! نرجع إلى قومنا بتحريم هذه الخصال الثلاث! والله والله لا تصبر ثقيف عن الخمر أبدا، ولا عن الزنا أبدا.
قال سفيان بن عبد الله: أيها الرجل، إن يرد الله بها خيرا تصبر عنها، قد كان هؤلاء الذين معه على مثل هذا، فصبروا وتركوا ما كانوا عليه، مع أنا نخاف هذا الرجل، قد أوطأ الأرض غلبة ونحن في حصن في ناحية من الأرض, والإسلام حولنا فاش، والله لو قام على حصننا شهرا لمتنا جوعا، وما أرى إلا الإسلام وأنا أخاف يوما مثل يوم مكة.
وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتبوا الكتاب، كان خالد هو الذي كتبه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم الطعام فلا يأكلون منه شيئًا حتى يأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسلموا.
قالوا: أرأيت الرَّبَّة، ما ترى فيها؟ قال: «هدمها».
قالوا: هيهات لو تعلم الربة أنا أوضعنا هدمها([7]) قتلت أهلنا، قال عمر بن
الخطاب t: ويحك يا عبد ياليل, إن الربة حجر لا يدري من عبده ممن لا يعبده، قال
عبد ياليل: إنا لم نأتك يا عمر, فأسلموا وكمل الصلح، وكتب ذلك الكتاب خالد بن سعيد، فلما كمل الصلح كلموا النبي صلى الله عليه وسلم يدع الربة ثلاث سنين لا يهدمها, فأبى, قالوا: سنتين، فأبى، قالوا: سنة, فأبى، قالوا: شهرًا واحدًا، فأبى أن يوقت لهم وقتًا وإنما يريدون بترك الربة لما يخافون من سفهائهم والنساء والصبيان، وكرهوا أن يروعوا قومهم بهدمها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من هدمها([8]) فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم على طلبهم ذلك، وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خير في دين لا صلاة فيه» ([9]).
لقد طلب وفد ثقيف أن يعفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض الفرائض وأن يحلل لهم بعض المحرمات إلا أنهم فشلوا في طلباتهم وخضعوا للأمر الواقع([10]).
وقد أكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفادتهم وأحسن ضيافتهم في قدومهم وإقامتهم وعند سفرهم، وأمرَّ صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص على الطائف، فقد كان أحرصهم على تعلم القرآن والتفقه في الدين، وكان أصغرهم سنًا([11]), ولقد تأثر الوفد من معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ومن اختلاطهم بالمسلمين حتى إنهم صاموا ما بقي عليهم من شهر ومكثوا في المدينة خمسة عشر يوما ثم رجعوا إلى الطائف([12]) وبعد رجوعهم جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة خالد بن الوليد t ومشاركة المغيرة بن شعبة([13]) t وأبي سفيان بن حرب t([14]) وبعثهم في أثر الوفد([15]).
وبينما نجحت مساعي الوفد في إقناع ثقيف بالدخول في الإسلام وأخبروهم بمصير اللات، وإذا بالسرية قد وصلت إلى الطائف ودخل المغيرة بن شعبة في بضعة عشر رجلا يهدمون الربة([16]) وكان ذلك تحت حراسة مشددة من قومه بني معتب الذين قاموا دونه خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة بن مسعود([17]), وخرجت ثقيف عن بكرة أبيها رجالها ونساؤها وصبيانها حتى الأبكار من خدورهن، وكانوا -لقرب عهدهم بالشرك- لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة ويظنون أنها ممتنعة([18]).
وكان المغيرة رجلاً فيه دعابة وظرف فقال لأصحابه: والله لأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالفأس ثم سقط يركض، فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة وقالوا: أبعد الله المغيرة فقد قتلته الربة، وفرحوا حين رأوه ساقطًا ([19]) وقالوا مخاطبين أفراد السرية: من شاء منكم فليقترب وليجتهد على هدمها, فوالله لا تستطيع أبدًا، فوثب المغيرة بن شعبة، وقال: قبحكم الله يا معشر ثقيف! إنما هي لكاع([20]) حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه([21]).
أكمل المغيرة بن شعبة t ومن معه هدم الطاغية حتى سووها بالأرض، وكان سادنها واقفا على أحر من الجمر ينتظر نقمة الربة وغضبها على هؤلاء العصاة([22])، فما إن وصلوا إلى أساسها حتى صاح قائلا: سترون إذا انتهى أساسها يغضب الأساس غضبًا يخسف بهم([23]), فلما سمع المغيرة t بذلك السخف قال لقائد السرية: دعني أحفر أساسها, فحفره حتى أخرجوا ترابها وانتزعوا حليتها، وأخذوا ثيابها، فبهتت ثقيف([24]) وأدركت الواقع الذي كانت تحجبه غشاوة على أعينهم([25]).
وأقبل الوفد حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليتها وكسوتها, فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، وحمدوا الله على نصرة نبيه وإعزازه دينه([26]).
وتم القضاء على ثاني أكبر طواغيت الشرك في الجزيرة العربية، وحل محلها بيت من بيوت الله عز وجل يوحد فيه الرب الذي لا إله إلا هو، وذلك بتوجيه كريم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن أبي العاص([27]) t عامله على الطائف حيث أمره (بأن يجعل مسجد الطائف حيث كان طاغيتهم)([28]).
ثانيًا: وفاة زعيم المنافقين (عبد الله بن أبيّ ابن سلول):
مرض عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، في ليالٍ بقين من شوال, ومات في ذي القعدة من السنة التاسعة([29]).
قال أسامة بن زيد: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ في مرضه نعوده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «قد كنت أنهاك عن حب يهود»، فقال عبد الله: فقد أبغضهم سعد بن زرارة فمات([30]).
ولما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما خيرني الله فقال: ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَّغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) [التوبة: 80]. وسأزيده على سبعين» قال: إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل آية: ( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ) [التوبة: 84] ([31]).
وإنما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إجراء له على حكم الظاهر وهو الإسلام، ولما فيه من إكرام ولده عبد الله -وكان من خيار الصحابة وفضلائهم- وهو الذي عرض على النبي أن يقتل أباه لما قال مقالته يوم غزوة بني المصطلق كما بينَّا، ولما فيه من مصلحة شرعية، وهي تأليف قلوب قومه وتابعيه، فقد كان يدين له بالولاء فئة كبيرة من المنافقين، فعسى أن يتأثروا ويرجعوا عن نفاقهم ويعتبروا ويخلصوا لله ولرسوله، ولو لم يجب ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سبة وعارا على ابنه وقومه، فالرسول الكريم اتبع أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهي فانتهى([32]).
وأما إعطاؤه صلى الله عليه وسلم القميص فلأن الغنى به بخل بالكرم، وقد كان من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يرد طالب حاجة قط، على أنه كان مكافأة له على إعطائه العباس عم الرسول قميصه لما جيء به أسيرًا يوم بدر، وكان من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته رد الجميل بخير منه([33]).
وبموت عبد الله بن سلول تراجعت حركة النفاق في المدينة, حتى إننا لم نجد لهم حضورًا بارزًا في العام العاشر للهجرة، ولم يبق إلا العدد غير المعروف إلا لصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان([34]), وكان عمر -فيما بعد- لا يصلي على جنازة من جهل حاله حتى يصلي عليه حذيفة بن اليمان؛ لأنه كان يعلم أعيان المنافقين، وقد أخبره رسول الله بهم([35]).
كان العام التاسع حاسمًا لحركة النفاق في المجتمع الإسلامي، فقد وصل النظام الإسلامي إلى قوته؛ ومن ثم لا بد من تحديد إطار التعامل مع كل القوى بوضوح([36])، ولهذا عبر الإمام ابن القيم عن خطة الإسلام أمام المنافقين، فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة، وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهى أن يصلى عليهم وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم([37]).
وجاءت هذه الخطة وفق النصوص القرآنية التي احتوتها سورة التوبة (براءة), (الفاضحة) حيث يستغرق الحديث عن المنافقين أكثر من نصف السورة فيفضح نواياهم وأعمالهم ووصف أحوالهم النفسية والقلبية، وموقفهم في غزوة تبوك وقبلها وفي أثنائها وما تلاها، وكشف حقيقة حيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد، وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصفوف، وإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول والعمل([38]).
ومن أهم الأحكام التي برزت في هذه المرحلة ضد المنافقين:
1- عدم الصلاة على من مات منهم، ودمغهم بالكفر:
( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ` وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُّعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) [التوبة: 84، 85].
2- تهديم مسجدهم الذي بنوه للإضرار بالمسلمين، وهو مسجد الضرار وقد تحدثت عنه فيما مضى بنوع من التفصيل.
3- إصدار الأمر بمجاهدة المنافقين كمجاهدة الكافرين:
( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) [التحريم: 9], وسواء أكان الجهاد بالقتال أم في المعاملة والمواجهة والكشف والفضح فإن طريقة التعامل مع المنافقين بعد سورة براءة، غير المعاملة قبلها.
4- الكشف عن صفاتهم وأعمالهم بوضوح: كما جاء في سورة التوبة أيضا؛ فهم الذين قالوا تثبيطا للمسلمين: ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُّجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ) [التوبة: 81] وهم الذين يلمزون المطوعين في الصدقات ويؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القول والفعل([39])... إلخ. هذه معالم المنهج النبوي في التعامل مع حركة النفاق في المجتمع الإسلامي في العام التاسع الهجري.
ثالثًا: تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته (دروس في بيوتات الرسول صلى الله عليه وسلم):
قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً ` وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ) [الأحزاب: 28-29].
وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن نزول هاتين الآيتين كان بعد اعتزال
النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه بعد أن أقسم ألا يدخل عليهن شهرًا، فاعتزلهن في مشربة له، وهي القصة المعروفة بقصة إيلائه([40]) من نسائه, وكان تاريخ نزول هذه الآيات في العام التاسع للهجرة([41]).
وأما سبب نزولها فهو طلب زوجاته صلى الله عليه وسلم التوسعة عليهن في النفقة, فقد أخرج مسلم عن جابر t قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجمًا([42]) ساكتًا، قال: فقال: لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, لو رأيت بنت خارجة([43]) سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها([44]), فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة», فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: أتسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟! فقلن: والله لا نسأل رسول الله شيئا أبدا ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرًا أو تسعًا وعشرين، ثم نزلت عليه هذه الآية([45]).
كانت الحياة المعيشية في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم تجري على وتيرة واحدة بالرغم من إمكانية التوسع في بعض الأحيان, ونساء الرسول صلى الله عليه وسلم هن من البشر، يرغبن بما يرغب به الناس، ويشتهين ما يشتهيه الناس([46]), فقد كان مساكنهن متواضعة بسيطة غاية البساطة, فقد وصفها الدكتور أبو شهبة فقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم بنى حُجرا حول مسجده الشريف لتكون مساكن له ولأهله، ولم تكن الحجر كبيوت الملوك والأكاسرة والقياصرة، بل كانت بيوت من ترفع عن الدنيا وزخرفها، وابتغى الدار الآخرة، فقد كانت –كمسجده- مبنية من اللبن والطين وبعض الحجارة، وسقوفها من جذوع النخل والجريد قريبة الفناء، قصيرة البناء، ينالها الغلام الفارع بيده, قال الحسن البصري -وكان غلاما مع أمه خيرة مولاة أم سلمة-: قد كنت أنال أطول سقف في حُجر النبي صلى الله عليه وسلم بيدي. وكان لكل حجرة بابان، خارجي وداخلي من المسجد ليسهل دخول النبي صلى الله عليه وسلم إليه([47]).
وأما الإضاءة, فلم يكن هناك مصباح يستضاء به، يدل على ذلك ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح([48]).
أما الفراش الذي يأوي إليه النبي -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- فهو عبارة عن رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، ووسادته من أدم حشوها ليف([49]), فقد كانت معيشته صلى الله عليه وسلم تدل على الشدة, فعن أنس بن مالك t قال: ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرققا([50]) حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطًا([51]) بعينه قط([52]), وعن عائشة قالت: إن كنا لننظر إلى الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقال لها عروة بن الزبير: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء([53]). هذا, وقد فتح الله على المسلمين بعد خيبر وفتح مكة، وغزوة تبوك, وقد قرأت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم آيات في كتاب الله تبيح التمتع بنعم الله دون إسراف، فرغبن أن ينالهن حظ من ذلك, كما في قوله تعالى: ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) [الأعراف: 31].
وحض على أكل الطيبات من الرزق, قال سبحانه: ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) [الأعراف: 32].
ودعا إلى التوسط في الإنفاق والاعتدال فيه فقال تعالى: ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ) [الإسراء: 29]. إلا أن هناك جانبا آخر يتعلق به صلى الله عليه وسلم ونمط من المعيشة اختاره بتوجيه من ربه عز وجل, فلم يلتفت لشيء من هذا كما أدبه ربه -سبحانه وتعالى- بقوله: ( لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) [الحجر: 88], وقوله سبحانه: ( وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) [طه: 131]. ولذلك جاءت آيات التخيير فوقف زوجاته صلى الله عليه وسلم من قضية التخيير موقفا حاسمًا لا تردد فيه، فإنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فقد كن يطلبن منه صلى الله عليه وسلم التوسعة في النفقة, وكن يدافعن عن ذلك ما استطعن، فلما وصل الأمر إلى وضعهن أمام خيارين: الحياة الدنيا وزينتها، أو الله ورسوله والدار الآخرة, لم يترددن لحظة واحدة في سلوك الخيار الثاني، بل قلن جميعهن بصوت واحد: نريد الله ورسوله والدار الآخرة([54]).
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: «إني ذاكر لك أمرًا فلا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك», قالت: وقد علم أن أبويَّ لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: «إن الله -جل ثناؤه- قال: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً ` وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا )» [الأحزاب: 28-29], قالت: فقلت: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: ثم فعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت([55]).
وهكذا تتجلى في موقفهن -رضي الله عنهن- صورة ناصعة لقوة الإيمان، واختبار حقيقي للإخلاص والصدق مع الله تعالى، فإن الله تعالى في الآية الأولى من آيتي التخيير يقول: ]إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ ) كالوعد بحصولهن على مبتغاهن في الحياة الدنيا وزينتها إن اخترن ذلك, ولكنهن رفضن هذا، واخترن الله ورسوله والدار الآخرة, وفي قوله تعالى في الآية الثانية: ( وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ) إشارة إلى أن ما ينلنه من الأجر سببه كونهن محسنات، ومن ذلك اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة، إذ لا يكفي لحصولهن على هذا الأجر كونهن زوجات للرسول صلى الله عليه وسلم([56]).
وتنكير الأجر, ثم وصفه بأنه عظيم، فيه ترغيب لهن بالكف عن التطلع إلى الحياة الدنيا وزينتها, فهذا الأجر لا يقدر قدره إلا الله، وهو شامل لخيري الدنيا والآخرة([57]).
ولقد اعتبر الخلفاء الراشدون قصة التخيير تلك معلمًا من معالم الإسلام, ومنهجًا نبويًا كريمًا ينبغي أن يسلكه بيت القيادة في الأمة، وإن النظرة الفاحصة في التاريخ لتبين أن هذا الجانب يعد معيارًا دقيقا به يعرف القرب من الاستقامة أو البعد عنها, وقد فهم قادة الأمة المؤمنون حينما وجدوا على امتداد تاريخ الإسلام، أهمية هذا الجانب فرعوه حق رعايته، وإن الأمثلة العملية من تاريخ الخلافة الراشدة هي من الوفرة والكثرة بمكان بحيث لا تتعب الباحث في التفتيش عنها([58]).
إن قيادة الأمة تكليف ومغرم وليس مغنمًا, ولا بد للذين يتولونها أن يحسبوا أهمية التعالي على حطام الدنيا، والشوق إلى الله والدار الآخرة([59]).
رابعًا: حج أبي بكر t بالناس:
كانت تربية المجتمع وبناء الدولة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم مستمرة على كل الأصعدة والمجالات العقائدية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والتعبدية, وكانت فريضة الحج لم تمارس في السنوات الماضية، فحجة عام 8هـ بعد الفتح كُلِّف بها عتَّاب بن أسيد، ولم تكن قد تميزت حجة المسلمين عن حجة المشركين([60]), فلما حل موسم الحج أراد صلى الله عليه وسلم الحج, ولكنه قال: «إنه يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» فأرسل صلى الله عليه وسلم الصدِّيق أميرًا على الحج سنة تسع، فخرج أبو بكر ومعه عدد كبير من الصحابة([61]), وساقوا معهم الهدي([62]) فلما خرج الصديق بركب الحجيج نزلت سورة براءة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا t وأمره أن يلحق بأبي بكر الصديق، فخرج على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء, حتى أدرك الصديق أبا بكر بذي الحليفة، فلما رآه الصديق قال له: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم سارا، فأقام أبو بكر للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية، وكان الحج في هذا العام في ذي الحجة كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة لا في شهر ذي القعدة كما قيل، وقد خطب الصديق قبل التروية ويوم عرفة ويوم النحر، ويوم النفر الأول, فكان يعرف الناس مناسكهم في وقوفهم وإفاضتهم ونحرهم، ونفرهم، ورميهم للجمرات... إلخ، وعلي يخلفه في كل موقف من هذه المواقف، فيقرأ على الناس صدر سورة براءة ثم ينادي في الناس بهذه الأمور الأربعة: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك([63]). وقد أمر الصديق أبا هريرة في رهط آخر من الصحابة لمساعدة علي بن أبي طالب في إنجاز مهمته([64]).
إن نزول صدر سورة براءة يمثل مفاصلة نهائية مع الوثنية وأتباعها, حيث منعت حجهم وأعلنت الحرب عليهم([65]).
قال تعالى: ( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ.فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ` وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) [التوبة: 1-3].
وقد أُمهل المعاهدون لأجل معلوم منهم إلى انتهاء مدتهم, فقال تعالى: ( إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) [التوبة: 4].
كما أمهل من لا عهد له من المشركين إلى انسلاخ الأشهر الحرم، حيث يصبحون بعدها في حالة حرب مع المسلمين, قال تعالى: ( فَإِذَا انسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [التوبة: 5].
وقد كلف النبي صلى الله عليه وسلم عليًا بإعلان نقض العهود على مسامع المشركين في موسم الحج, مراعاة لما تعارف عليه العرب فيما بينهم في عقد العهود ونقضها, ألا يتولى ذلك إلا سيد القبيلة أو رجل من رهطه، وهذا العرف ليس فيه منافاة للإسلام؛ فلذلك تدارك النبي صلى الله عليه وسلم الأمر وأرسل عليًا بذلك, فهذا هو السبب في تكليف علي بتبليغ صدر صورة براءة, لا ما زعمته الرافضة من أن ذلك للإشارة إلى أن عليًا أحق بالخلافة من أبي بكر, وقد علق على ذلك الدكتور محمد أبو شهبة فقال: ولا أدري كيف غفلوا عن قول الصديق له: أمير أم مأمور؟([66]) وكيف يكون المأمور أحق بالخلافة من الأمير؟!([67]).
وقد كانت هذه الحجة بمثابة التوطئة للحجة الكبرى وهي حجة الوداع([68]). لقد أعلن في حجة أبي بكر أن عهد الأصنام قد انقضى، وأن مرحلة جديدة قد بدأت، وما على الناس إلا أن يستجيبوا لشرع الله تعالى، فبعد هذا الإعلان الذي انتشر بين قبائل العرب في الجزيرة، أيقنت تلك القبائل أن الأمر جد، وأن عهد الوثنية قد انقضى فعلا, فأخذت ترسل وفودها معلنة إسلامها ودخولها في التوحيد([69]).
خامسًا: عـــــام الوفـــــود (9هـ):
لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وفرغ من تبوك, وأسلمت ثقيف وبايعت, وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمد أربعة أشهر لقبائل العرب المشركين لكي يقرروا مصيرهم بأنفسهم قبل أن تتخذ الدولة الإسلامية منهم موقفا معينا، ضربت إليه وفود العرب آباط الإبل من كل وجه معلنة إيمانها وولاءها([70]), وقد اختلف العلماء في تاريخ مقدم الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عددها, حيث أشارت المصادر الحديثة والتاريخية إلى قدوم بعض الوفود إلى المدينة في تاريخ مبكر عن السنة التاسعة؛ ولعل مما أدى إلى الاختلاف في تحديد عدد الوفود بين ما يزيد على ستين وفدا عند البعض، وليرتفع فيبلغ أكثر من مائة وفد عند آخرين، ولعل البعض قد اقتصر على ذكر المشهور منهم([71]) فقد أورد محمد بن إسحاق أنه: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، وفرغ من تبوك وأسلمت ثقيف وبايعت, ضربت إليه وفود العرب من كل وجه([72]).
وقد استقصى ابن سعد في جمع المعلومات عن الوفود، كما فصل كثيرًا وقدم ترجمات وافية عن رجال الوفود، ومن كانت له صحبة منهم، وما ورد عن طريقهم من آثار, ولا تخلو أسانيد ابن سعد -أحيانا- من المطاعن، كما أن فيها أسانيد من الثقات أيضا([73]) ولا شك في أن الأخبار التي أوردها المؤرخون ليست ثابتة بالنقل الصحيح المعتمد وفق أساليب المحدثين, رغم أن عددا كبيرا من المرويات عن تلك الوفود ثابتة وصحيحة([74]) فقد أورد البخاري معلومات عن وفد قبيلة تميم وقدومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ووفود أخرى مثل: عبد القيس, وبني حنيفة، ووفد نجران، ووفد الأشعريين، وأهل اليمن، ووفد دوس([75]) وتعززت أخبار هذه الوفود بمعلومات إضافية وردت في مصادر تاريخية إلى جانب ما ورد عنها في كتب السير والمغازي([76]) وقد أورد مسلم أخبارا عن أغلب الوفود المذكورة آنفا([77]) كما أوردت بقية الكتب الستة معلومات أوسع شملت عددًا كبيرًا من الوفود([78]).
إن قصص الوفود وأخبارها وكيفية تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم معها من الأهمية بالمكان الكبير([79]) وتبقى مسألة الحاجة الماسة إلى نقد تاريخي لمتون الأخبار المفصلة التي وصلتنا عن الوفود([80]). لقد تركت لنا تلك الأخبار والقصص منهجًا نبويًا كريمًا في تعامله صلى الله عليه وسلم مع الوفود يمكننا الاستفادة من هديه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع النفسية البشرية وتربيته ودقته وتنظيمه, ففيها ثروة هائلة من الفقه الذي يدخل في دوائر التعليم والتربية والتثقيف وبعد النظر وجمع القلوب على الغاية, وربط أفراد بأعينهم بالمركز بحيث تبقى في كل الظروف والأحوال مرتكزات قوية إلى الإسلام, إلى غير ذلك من مظاهر العظمة للعاملين في كل الحقول نفسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وإداريًا وسياسيًا وعسكريًا تعطي لكل عامل في جانب من هذه الجوانب دروسا تكفيه وتغنيه([81]) هذا وقد تميز العام التاسع بتوافد العرب إلى المدينة, وقد استعدت الدولة الإسلامية لاستقبالهم وتهيئة المناخ التربوي لهم، وقد تمثل هذا الاستقبال، بتهيئة مكان إقامة لهم وكانت هناك دار للضيافة([82]) ينزل فيها الوافدون، وهناك مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان ساحة للاستقبال، ثم كان هناك تطوع أو تكليف رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة باستضافة بعض القادمين([83]) واهتم صلى الله عليه وسلم بتلك الوفود وحرص على تعليمها وتربيتها، وقد كانت تلك الوفود حريصة على فهم الإسلام وتعلم شرائعه وأحكامه، وآدابه، ونظمه في الحياة، وتطبيق ما علموه تطبيقا عمليا، جعلهم نماذج حياة لفضائله، وقد كان لكثير منهم تساؤلات عن أشياء كانت شائعة بينهم ابتغاء معرفة حلالها وحرامها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا أشد الحرص على تفقيههم في الدين، وبيان ما سألوه عنه, وكان صلى الله عليه وسلم يدني منهم من يعلم منه زيادة حرص على القرآن العظيم وحفظ آياته تفقهًا فيه ويقول لأصحابه: فقهوا إخوانكم([84]) وكان صلى الله عليه وسلم يسأل عمن يعرف من شرفائهم، فإذا رغبوا في الرحيل إلى بلادهم أوصاهم بلزوم الحق، وحثهم على الاعتصام بالصبر، ثم يجزيهم بالجوائز الحسان، ويسوي بينهم, فإذا رجعوا إلى أقوامهم رجعوا هداة دعاة مشرقة قلوبهم بنور الإيمان، يعلمونهم مما علموا، ويحدثونهم بما سمعوا، ويذكرون لهم مكارم النبي وبره وبشره واستنارة وجهه سرورا بمقدمهم عليه، ويذكرون لهم ما شاهدوه من حال أصحابه في تآخيهم وتحاببهم, ومواساة بعضهم بعضًا ليثيروا في أنفسهم الشوق إلى لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقاء أصحابه, ويحببوا إليهم التأسي بهم في سلوكهم ومكارم أخلاقهم([85]) واختارت بعض الوفود البقاء على نصرانيتها كوفود نصارى نجران ووافقت على دفع الجزية، ونحاول أن نتحدث عن بعض الوفود لما في ذلك من الفقه والدروس والعبر, كوفد عبد القيس، وبني سعد بن بكر ووفد نصارى نجران:
أ- وفد عبد القيس:
وقد تحدث ابن عباس رضي الله عنهما عن قدومهم فقال:
إن وفد عبد القيس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من الوفد؟» أو «من القوم؟» قالوا: ربيعة قال: «مرحبا بالقوم([86]) -أو بالوفد- غير خزايا ولا ندامى» ([87]). قال: فقالوا: يا رسول الله, إنا نأتيك من شقة بعيدة([88]) وإن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل([89]) نخبر به من وراءنا، ندخل به الجنة، قال: فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، قال: أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: «هل تدرون ما الإيمان بالله؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خُمسا من المغنم» ونهاهم عن الدباء([90]) والحنتم([91]) والمزفت([92]) وربما قال النقير([93]) أو المقير، وقال: «احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم» ([94]) وفي رواية: أن الأشج بن عبد القيس تخلف في الركاب حتى أناخها، وجمع متاع القوم، ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن فيك خلتين يحبهما الله ورسوله» فقال: جبل جبلت عليه أم تخلقا مني؟ قال: «بل جبل» قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله([95]).
وقد انشغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقدمهم وأخر صلاة السنة البعدية بعد الظهر وصلاها بعد العصر([96]).
ب- وفد ضمامة بن ثعلبة عن قومه بني سعد بن بكر:
قال أنس بن مالك t: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد, ثم علقه, ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: ابن عبد المطلب. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك. فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أسألك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد([97]) عليَّ في نفسك, فقال: «سل عما بدا لك» فقال: أسألك بربك وربِّ من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: «اللهم نعم». قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: «اللهم نعم». قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: «اللهم نعم» قال: أنشدك بالله, آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها في فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم نعم». فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي, وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر([98]).
وفي رواية ابن عباس... حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص.
قال: ثم انصرف راجعا إلى بعيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولَّى: «إن يصدق ذو العقيصتين([99]) يدخل الجنة» قال: فأتى إلى بعيره، فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه, فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى، قالوا: صه يا ضمام اتق البرص والجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم! إنهما –والله- لا يضران ولا ينفعان، إن الله عز وجل قد بعث رسولاً، وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، إني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلمًا, قال: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة([100]).
وتدل قصة إسلامه على مدى انتشار تعاليم الإسلام في وسط القبائل العربية، حتى جاء ضمام لا ليسأل عنها، ولكن جاء ليستوثق منها، معددا لها الواحدة تلو الأخرى، مما يدل على استيعابه لها قبل مجيئه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم([101]).
ج- وفد نصارى نجران:
كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران([102]) كتابا قال فيه: أما بعد, فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد, فإن أبيتم فالجزية, فإن أبيتم آذنتكم بحرب، والسلام([103]).
فلما أتى الأسقف الكتاب، جمع الناس وقرأه عليهم، وسألهم عن الرأي فيه, فقرروا أن يرسلوا إليه وفدًا يتكون من أربعة عشر من أشرافهم، وقيل ستين راكبًا، منهم ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم: العاقب، وهو أميرهم وصاحب مشورتهم والذي يصدرون عن رأيه، والسيد وهو صاحب رحلتهم، وأبو الحارث أسقفهم وحبرهم وصاحب مدارسهم. فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فدخلوا المسجد عليهم ثياب الحبرة، وأردية مكفوفة بالحرير، وفي أيديهم خواتيم الذهب، فقاموا يصلون في المسجد نحو المشرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوهم».
ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنهم، ولم يكلمهم، فقال لهم عثمان: من أجل زيكم هذا، فانصرفوا يومهم هذا، ثم غدوا عليه بزي الرهبان فسلموا عليه، فرد عليهم ودعاهم إلى الإسلام، فأبوا وقالوا: كنا مسلمين قبلكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يمنعكم من الإسلام ثلاث: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير، وزعمكم أن لله ولدًا»([104]) وكثر الجدال والحجاج بينه وبينهم، والنبي يتلو عليهم القرآن ويقرع باطلهم بالحجة, وكان مما قالوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك تشتم صاحبنا وتقول إنه عبد الله، فقال: «أجل إنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول»، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله؟ فأنزل الله في الرد عليهم قوله سبحانه: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ` الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ) [آل عمران: 59-60].
فكانت حجة دامغة شبه فيها الغريب بما هو أغرب منه([105]), فلما لم تُجْدِ معهم المجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة دعاهم إلى المباهلة([106]) امتثالا لقوله تعالى: ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) [آل عمران: 61].
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه علي، والحسن والحسين، وفاطمة وقال: «وإذا أنا دعوت فأمنوا»([107]) فائتمروا فيما بينهم فخافوا الهلاك لعلمهم أنه نبي حقًّا، وأنه ما باهل قوم نبيًا إلا هلكوا، فأبوا أن يلاعنوه وقالوا: احكم علينا بما أحببت، فصالحهم على ألفي حلة، ألف في رجب، وألف في صفر([108]) ولما عزموا على الرجوع إلى بلادهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ابعث معنا رجلاً أمينًا ليقبض منهم مال الصلح, فقال لهم: «لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين» فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قم يا أبا عبيدة بن الجراح»، فلما قام قال: «هذا أمين هذه الأمة»([109]).
سادسًا: بعوث رسول الله لتعليم مبادئ الإسلام وترتيب أمور الإدارة والمال:
كانت الوفود تسعى إلى المدينة لتعلن إسلامها وتنضوي تحت سيادة الدولة الإسلامية ويتعلموا ما شاء الله أن يتعلموه في المدينة قبل رجوعهم إلى موطنهم، وكان صلى الله عليه وسلم يرسل معهم من يعلمهم دينهم، وشرع صلى الله عليه وسلم يبعث دعاته في شتى الجهات, واهتم بجنوب الجزيرة حيث قبائل اليمن لتعليمهم مبادئ الإسلام وأحكامه, فقد انتشر أمر الإسلام في الجزيرة ومختلف أطرافها، وأصبحت الحاجة داعية إلى معلمين ودعاة ومرشدين يشرحون للناس حقائق الإسلام([110]) لكي تتطهر قلوبهم وتشفى صدورهم من أمراض الجاهلية وأدرانها الخبيثة، وامتنعت قبيلة بني الحارث بن كعب عن الدخول في الإسلام، فأرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدًا في سرية دعوية جهادية.
أ- بعث خالد إلى بني الحارث بن كعب (10هـ):
كان بنو الحارث بن كعب يسكنون بنجران, ولم يقبل منهم أحد الإسلام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر أو جمادى سنة عشر، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا قبل منهم، وإن لم يفعلوا قاتلهم، فخرج خالد حتى قدم عليهم, فبعث الركبان في كل وجه يدعون إلى الإسلام، فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم كتب خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه بإسلامهم وأنه مقيم فيهم حتى يكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بأن يقبل إلى المدينة ومعه وفد منهم ففعل، فلما قدموا أمَّر عليهم قيس بن الحصين، وبعث إليهم بعد ذلك عمرو بن حزام ليفقههم في الدين ويعلمهم السنة، ومعالم الإسلام([111]) وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم أرسل عليًا بدلاً من خالد, وعندما وصل إلى قبائل همدان قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان جميعًا, فكتب علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم, فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خرَّ ساجدًا، ثم رفع رأسه فقال: السلام على همدان, السلام على همدان. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على الجبهة الجنوبية للدولة وأن تدخل قبائل اليمن في الإسلام, وظهر هذا الاهتمام في النتائج الباهرة التي حققتها الدعوة في كثرة عدد الوفود التي كانت تنساب من كل أطراف اليمن متجهة إلى المدينة؛ مما يدل على أن نشاط المبعوثين إلى اليمن كان متصلا وبعيد المدى، وكانت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم تساند هذا النشاط الدعوي السلمي حيث بعث خالد بن الوليد ثم علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- في هذا السياق([112]).
إن الوثائق التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم مع قبائل اليمن وحضرموت قد بلغت عددا كبيرا ضمنها محمد حميد الله -رحمه الله- في كتابه (مجموعة الوثائق السياسية)([113]).
إن التركيز على مفاصل القوى، ومراكز التأثير في المجتمعات وبناء الدول، منهج نبوي كريم حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ممارسته في حياته.
ب- بعث معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- إلى اليمن:
1- بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل الأنصاري أعلم الصحابة في علم الحلال والحرام إلى اليمن قاضيا ومفقها، وأميرًا، ومصدقًا([114])، وجعله على أحد مخلافيها([115]) وهو الأعلى, ولما خرج معاذ قاصدا اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعه ويوصيه، ومعاذ راكب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته، فأوصاه بوصايا كثيرة ورسم له منهجا دعويًا عظيمًا حيث قال له: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم طاعوا بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم, فإن هم طاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»([116]).
وفي هذا الحديث إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم للدعاة إلى الله بالتدرج والبدء بالأهم فالمهم، فالدعوة تكون بترسيخ الإيمان بالله تعالى ورسوله إيمانا يثبت في القلوب ويهيمن على الأفكار والسلوك، ثم تكون الدعوة بعد ذلك إلى تطبيق أركان الإسلام العملية التي ترسخ هذا الإيمان وتنميه، ثم يأتي بعد ذلك الأمر بالواجبات والنهي عن المحرمات، فيتقبل الناس تكاليف الإسلام التي قد تكون مخالفة لهوى النفس؛ لأن قلوبهم قد عمرت بالإيمان واليقين قبل ذلك([117]).
وهذا منهج نبوي كريم رسمه صلى الله عليه وسلم لمعاذ ولمن يريد أن يسير على هدى الصحابة الكرام, وما أحوج الذين نذروا أنفسهم للدعوة إلى الله إلى الوقوف أمام هذا الهدي النبوي يترسمون خطاه، ويستوعبونه فهمًا ووعيًا، وتطبيقًا، وحينئذ تكون خطاهم في الطريق الصحيح([118]). ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من وصاياه لمعاذ قال له: «يا معاذ، إنك عسى لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري»([119])، فبكى معاذ خشعًا لفراق الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك وقع الأمر كما أشار الرسول، فقد أقام معاذ باليمن ولم يقدم إلا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم([120]).
2- وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري إلى مخلاف اليمن الآخر وهو الأسفل، قاضيًا ومفقهًا وأميرًا ومصدقًا، وأوصاه ومعاذ فقال: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا»([121]).
وهذا منهج نبوي كريم أرشد إليه رسول الله معاذا وأبا موسى بأن يأخذا بالتيسير على الناس ونهاهما عن التعسير عليهم، وأمرهما بالتبشير ونهاهما عن التنفير([122]).
ج- ترتيب أمور الإدارة والمال:
إن النظام جزء من هذا الدين، وداخل في كل أموره، لأن النظام يجمع الأشتات، وتحقق به الأهداف والغايات، فالنظام سمة يتميز بها الإسلام منذ اللحظة الأولى, حيث يدخل في جميع جوانب الإسلام التصورية والشعائرية والتعبدية وفي الشرائع الحياتية كلها، فكان صلى الله عليه وسلم يضع من يدير المدينة في حالة غيبته عنها، وكلما فتح منطقة وضع عليها أميرا، وكانت الوفود تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعين عليها أميرًا من قبله، ثم يترك لهم من يعلمهم دينهم, ويرسل إليهم من يجمع صدقاتهم([123]), وكان يختار عماله من الصالحين وأولي العلم والدين، ومن المنظور إليهم من العرب وذوي الشخصيات المؤثرة في قبائلهم، فقد كان عامله على مكة عتاب بن أسيد, وعلى الطائف عثمان بن العاص، وبعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن, وأقر الرسول في بعض الحالات أمراء وملوك القبائل التي أسلمت أو قبلت الجزية, ومنهم باذان ابن سامان ولد بهرام الذي أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على اليمن بعد إسلامه, ولما بلغه موته قسم عمله على جماعة من الصحابة، فولى على صنعاء شمر بن باذان, وعلى مأرب أبا موسى الأشعري، وعلى الجند يعلى بن أمية، وعلى همذان عامر ابن شمر الهمذاني، وعلى ما بين نجران وزمع وزبيد خالد بن سعيد بن العاص، وعلى نجران عمرو بن حزام، وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد البياضي, وعلى السكاسك والسكون عكاشة بن ثور([124]).
وكان صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على العمال؛ يحاسبهم على المستخرج والمصروف، وحدد صلى الله عليه وسلم لبعض عماله رواتب، منهم عتاب بن أسيد والي مكة درهمًا كل يوم([125]), ولما استعمل -عليه الصلاة والسلام- قيس بن مالك على قومه همذان خصص له قطعة من الأرض يأخذ خراجها، وكانت رواتب عماله تتغير بتغير أحوال المعيشة فهي ليست ثابتة([126]). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولي لنا ولاية ولم يكن له بيت فليتخذ بيتا، أو لم تكن له زوجة فليتخذ زوجة، أو لم تكن له دابة فليتخذ دابة» ([127]), وهذه هي الحاجات الرئيسية لولي الأمر في ذلك الوقت منعا لأخذ الرشوة، وهذه قاعدة قانونية جاء بها الإسلام قبل أن تثبتها القوانين الوضعية الحديثة في بنودها, وهي أن الهدية للحاكم رشوة صريحة([128]).
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق