دروس وعبر وفوائــــــد
أولاً: معالم من المنهج القرآني في الحديث عن غزوة تبوك:
إن الآيات التي أنزلها الله في كتابه المتعلقة بغزوة العسرة هي أطول ما نزل في قتال المسلمين وخصومهم, وقد بدأت باستنهاض الهمم لرد هجوم المسيحية، وإشعارهم بأن الله لا يقبل ذرة تفريط في حماية دينه ونصرة نبيه، وإن التراجع أمام الصعوبات الحائلة دون قتال الروم، يعد مزلقة إلى الردة والنفاق([1]) قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ` إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [التوبة: 38، 39].
وعند التأمل في سورة التوبة يلاحظ القارئ أن لها معالم في عرضها لغزوة تبوك منها:
1- عاتب القرآن الكريم من تخلف عتابًا شديدًا، وتميزت غزوة تبوك عن سائر الغزوات بأن الله حث على الخروج فيها -وعاتب من تخلف عنها- والآيات الكريمة جاءت بذلك, كقوله تعالى: ( انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [التوبة: 41].
وقد ختمت الغزوات النبوية بهذه الغزوة, وقد كان تطبيقا عمليا لوضع النص القرآني في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ ) [التوبة: 123] موضع التنفيذ([2]).
2- ميز القرآن الكريم هذه الغزوة عن غيرها, فسماها الله تعالى ساعة العسرة، قال تعالى: ( لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ) [التوبة: 117] فقد كانت غزوة عسرة بمعنى الكلمة.
3- من معالم منهج القرآن في عرضه لهذه الغزوة العظيمة أن الله رد على المنافقين لمزهم فقراء الصحابة عندما جاء أحدهم بنصف صاع وتصدق به, فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا إلا رياء، فنزلت الآية: ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [التوبة: 79].
4- بين القرآن الكريم أن المؤمنين الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -وعددهم يزيد عن الثلاثين ألفا- قد كتب الله لهم الأجر العظيم([3]) قال تعالى: ( وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ) [التوبة: 92].
ثانيًا: ممارسة الشورى في هذه الغزوة:
مارس رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة الشورى وقبـِل مشورة الصدِّيق والفاروق في بعض النوازل التي حدثت في الغزوة ومن هذه النوازل:
أ- قبول مشورة أبي بكر الصديق في الدعاء حين تعرض الجيش لعطش شديد:
قال عمر بن الخطاب: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع, حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقى على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله, إن الله قد عودك في الدعاء خيرا، فادع الله، قال: «أتحب ذلك؟» قال: نعم، فرفع يديه فلم يردهما حتى حالت السماء فأظلت ثم سكبت فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر([4]).
ب- قبول مشورة عمر بن الخطاب في ترك نحر الإبل حين أصابت الجيش مجاعة:
أصابت جيش العسرة مجاعة أثناء سيرهم إلى تبوك, فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم حتى يسدوا جوعتهم، فلما أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك جاءه عمر t فأبدى مشورته في هذه المسألة, وهي أن الجند إن فعلوا ذلك نفدت رواحلهم وهم أحوج ما يكونون إليها في هذا الطريق الطويل، ثم ذكر t حلا لهذه المعضلة وهو: جمع أزواد القوم ثم الدعاء لهم بالبركة فيها، فعمل صلى الله عليه وسلم بهذه المشورة حتى صدر القوم عن بقية من هذا الطعام بعد أن ملأوا أوعيتهم منه وأكلوا حتى شبعوا.
ج- قبول مشورة عمر t في ترك اجتياز حدود الشام والعودة إلى المدينة:
عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى منطقة تبوك وجد أن الروم فروا خوفًا من جيش المسلمين، فاستشار أصحابه في اجتياز حدود الشام, فأشار عليه عمر بن الخطاب t بأن يرجع بالجيش إلى المدينة وعلل رأيه بقوله: إن للروم جموعا كثيرة وليس بها أحد من أهل الإسلام، ولقد كانت مشورة مباركة؛ فإن القتال داخل بلاد الرومان يعد أمرًا صعبًا، إذ إنه يتطلب تكتيكًا خاصًا لأن الحرب في الصحراء تختلف في طبيعتها عن الحرب في المدن, بالإضافة إلى أن عدد الرومان في الشام يقرب من مائتين وخمسين ألفـًا، ولا شك في أن تجمع هذا العدد الكبير في تحصنه داخل المدن يعرض جيش المسلمين للخطر([5]).
إن ممارسة الشورى في حياة الأمة في كل شئونها السياسية والعسكرية والاجتماعية... إلخ منهج تربوي كريم سار عليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في حياته.
ثالثا: التدريب العملي العنيف:
كان في خروج الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه إلى تبوك فوائد كثيرة, منها:
تدريبهم تدريبا عنيفا، فقطع بهم صلى الله عليه وسلم مسافة طويلة في ظروف جوية صعبة حيث كانت حرارة الصيف اللاهب, بالإضافة إلى الظروف المعيشية التي كانوا يعانون منها، فقد كانت هناك قلة في الماء حتى كادوا يهلكون من شدة العطش، وأيضا كانت هناك قلة في الزاد والظهر ولا شك في أن هذه الأمور تعد تدريبا عنيفا لا يتحمله إلا الأقوياء من الرجال.
وفي هذا الدرس يقول الأستاذ محمود شيت خطاب: تعمل الجيوش الحديثة على تدريب جنودها تدريبا عنيفا, كاجتياز مواقع وعراقيل صعبة جدا، وقطع مسافات طويلة في ظروف جوية مختلفة، وحرمان من الطعام والماء بعض الوقت، وذلك لإعداد هؤلاء الجنود لتحمل أصعب المواقف المحتمل مصادفتها في الحرب، لقد تحمل جيش العسرة مشقات لا تقل صعوبة عن مشقات هذا التدريب العنيف -إن لم تكن أصعب منها بكثير- لقد تركوا المدينة في موسم نضج ثمارها, وقطعوا مسافات طويلة شاقة في صحراء الجزيرة العربية صيفًا, وتحملوا الجوع والعطش مدة طويلة.
إن غزوة تبوك تدريب عنيف للمسلمين، كان غرض الرسول صلى الله عليه وسلم منه إعدادهم لتحمل رسالة حماية حرية نشر الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية... فقد كانت هذه الغزوة آخر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم, فلابد من الاطمئنان إلى كفاءة جنوده قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى([6]) وقد ساعد هذا التدريب العملي الصحابة في عصر الخلفاء فقاموا بفتح بلاد الشام وبلاد الفرس بقوة إيمانهم, وثقتهم بخالقهم, وساعدهم على ذلك لياقتهم البدنية العالية، ومعرفتهم العملية لاستخدام السيوف والرماح وأنواع الأسلحة في زمانهم.
رابعًا: أهم نتائج الغزوة:
أ- يمكن للباحث أن يلاحظ أهم نتائج هذه الغزوة وهي:
1- إسقاط هيبة الروم من نفوس العرب جميعًا -مسلمهم وكافرهم على السواء- لأن قوة الروم كانت في حس العرب لا تقاوم، ولا تغلب، ومن ثم فقد فزعوا من ذكر الروم وغزوهم، ولعل الهزيمة التي لحقت بالمسلمين في غزوة (مؤتة) كانت مؤكدة على ما ترسخ في ذهن العربي في جاهليته من أن الروم قوة لا تقهر، فكان لا بد من هذا النفير العام لإزاحة هذه الهزيمة النفسية من نفوس العرب.
2- إظهار قوة الدولة الإسلامية كقوة وحيدة في المنطقة قادرة على تحدي القوى العظمى عالميا –حينذاك- ليس بدافع عصبي أو عرقي، أو تحقيق أطماع زعامات معاصرة، وإنما بدافع تحريري؛ حيث تدعو الإنسانية إلى تحرير نفسها من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، ولقد حققت هذه الغزوة الغرض المرجو منها بالرغم من عدم الاشتباك الحربي مع الروم الذين آثروا الفرار شمالا فحققوا انتصارا للمسلمين دون قتال، حيث أخلوا مواقعهم للدولة الإسلامية، وترتب على ذلك خضوع النصرانية التي كانت تمت بصلة الولاء لدولة الروم مثل إمارة دومة الجندل، وإمارة إيلة (مدينة العقبة حاليا على خليج العقبة), وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم كتابا يحدد ما لهم وما عليهم([7]) وأصبحت القبائل العربية الشامية الأخرى التي لم تخضع للسيطرة الإسلامية في تبوك تتعرض بشدة للتأثير الإسلامي، وبدأ الكثير من هذه القبائل يراجع موقفه ويقارن بين جدوى الاستمرار في الولاء للدولة البيزنطية أو تحويل هذا الولاء إلى الدولة الإسلامية الناشئة، ويعد ما حدث في تبوك نقطة البداية العملية للفتح الإسلامي لبلاد الشام([8]) وإن كانت هناك محاولات قبلها ولكنها لم تكن في قوة التأثير كغزوة تبوك, فقد كانت هذه الغزوة بمثابة المؤشر لبداية عمليات متواصلة لفتح البلدان، والتي واصلها خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده، ومما يؤكد هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل موته جهز جيشا بقيادة أسامة بن زيد بن حارثة ليكون رأس حربة موجهة صوب الروم، وطليعة لجيش الفتح، ضم هذا الجيش جُلَّ صحابة رسول الله، ولكنه لم يقم بمهمته إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم, ومع هذا فقد حقق الهدف المطلوب منه كما سيأتي([9]) بإذن الله عند الحديث في سيرة الصديق t.
لقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسس الأولى والخطوات المثلى لفتح بلاد الشام والفتوحات الإسلامية.
3- توحيد الجزيرة العربية تحت حكم الرسول صلى الله عليه وسلم, حيث تأثر موقف القبائل العربية من الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة الإسلامية بمؤثرات متداخلة كفتح مكة، وخيبر, وغزوة تبوك، فبادر كل قوم بإسلامهم بعد أن امتد سلطان المسلمين إلى خطوط التماس مع الروم ثم مصالحة نجران في الأطراف الجنوبية على أن يدفعوا الجزية، فلم يعد أمام القبائل العربية إلا المبادرة الشاملة إلى اعتناق الإسلام والالتحاق بركب النبوة بالسمع والطاعة؛ ونظرا لكثرة وفود القبائل العربية التي قدمت إلى المدينة من أنحاء الجزيرة العربية بعد عودة
النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك لتعلن إسلامها هي ومن وراءها, فقد سمي العام التاسع للهجرة في المصادر الإسلامية بعام الوفود([10]).
وبهذه الغزوة المباركة ينتهي الحديث عن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي قادها بنفسه، فقد كانت حياته المباركة غنية بالدروس والعبر التي تتربى عليها أمته في أجيالها المقبلة([11]), ومليئة بالدروس والعبر في تربية الأمة وإقامة الدولة التي تحكم بشرع الله.
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق