العودة من تبوك إلى المدينة وحديث القرآن
في المخلَّفين عن الغزوة وعن مسجد الضرار
عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن مكث في تبوك عشرين ليلة([1]), وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدم مسجد الضرار الذي بناه المنافقون وهو راجع إلى المدينة، ولما اقترب من المدينة خرج الصبيان إلى ثنية الوداع يتلقونه, ودخل المدينة، فصلى في مسجده ركعتين ثم جلس للناس, وجاء المخلفون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمون له الاعتذار, وكانوا أربعة أصناف: فمنهم من له أعذار شرعية وعذرهم الله -سبحانه وتعالى-، ومنهم من ليس له أعذار شرعية وتاب الله عليهم، ومنهم من منافقي الأعراب الذين يسكنون حول المدينة، ومنهم من منافقي المدينة.
أولاً: المخلفون الذين لهم أعذار شرعية وعذرهم الله سبحانه وتعالى:
قال تعالى: ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ` وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إذا مَا
أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ) [التوبة: 91، 92].
بينت هذه الآيات الكريمة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وكان لهم عذر شرعي بأنه ليس عليهم حرج وليس عليهم إثم في هذا التخلف؛ ذلك لأن لهم عذرًا شرعيًّا منعهم من الخروج, وفي المراد بالضعفاء: أنهم الزمنى والمشايخ الكبار، وقيل: الصغار, وقيل: المجانين، سموا ضعافًا لضعف عقولهم, ذكر القولين الماوردي. والصحيح أنهم الذين يضعفون لزمانة أو عمى، أو سن، أو ضعف في الجسم، والمرضى: الذين بهم أعلال مانعة من الخروج للقتال([2]).
وقوله: ( وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ ).
أي: ليس على الذين لا يجدون نفقة تبلغهم إلى الغزو حرج أو إثم ( إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ ) أي إذا عرفوا الحق، وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه([3]).
وقوله: ( مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ) قال الطبري: يقول تعالى: ليس على من أحسن فنصح لله ورسوله في تخلفه عن رسول الله عن الجهاد معه، لعذر يعذر به, طريق يتطرق عليه فيعاقب من قبله ( وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ).
يقول تعالى: والله ساتر على ذنوب المحسنين، يتغمدها بعفوه لهم عنها، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها([4]).
وقال القرطبي: الآية أصل في سقوط التكاليف عن العاجز، من جهة القوة أو العجز من جهة المال([5]).
وقوله: ( وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ) معطوف على ما قبله من عطف الخاص على العام، اعتناء بشأنهم وجعلهم كأنهم –لتميزهم- جنس آخر، مع أنهم مندرجون مع الذين وصفهم الله قبل ذلك ( أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ[.
أي: لا حرج ولا إثم على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون، إذا ما تخلفوا عن الجهاد، وكذلك لا حرج ولا إثم أيضا على فقراء المؤمنين ]الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ) على الرواحل التي يركبونها لكي يخرجوا معك إلى هذا السفر الطويل, ( قُلْتَ ) لهم يا محمد([6]): ( لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ), وقوله: ( تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ) أي انصرفوا وأعينهم تسيل بالدموع من شدة الحزن لأنهم لا يجدون المال الذي ينفقونه في مطالب الجهاد، ولا الرواحل التي يركبونها في حال سفرهم إلى تبوك([7]).
ثانيًا: المخلفون الذين ليس لهم أعذار شرعية وتاب الله عليهم:
جاءت ثلاث آيات تتحدث عن هؤلاء المخلفين وهي:
1- قوله تعالى: ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [التوبة: 102].
ومعنى الآية الكريمة: أن هؤلاء الجماعة تخلفوا عن الغزو لغير عذر مسوغ للتخلف ثم ندموا على ذلك، ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة كما اعتذر المنافقون, بل تابوا واعترفوا بالذنب ورجوا أن يتوب الله عليهم, والمراد بالعمل الصالح: ما تقدم من إسلامهم وقيامهم بشرائع الإسلام وخروجهم إلى الجهاد في سائر المواطن, والمراد بالعمل السيئ: هو تخلفهم عن هذه الغزوة، وقد أتبعوا هذا العمل السيئ عملا صالحا وهو الاعتراف به والتوبة عنه.
وأصل الاعتراف الإقرار بالشيء. ومجرد الإقرار لا يكون توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي والعزم على تركه في الحال والاستقبال، وقد وقع منهم ما يفيد هذا، ومعنى الخلط أنهم خلطوا كل واحد منهما بالآخر, كقولك: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء.
وفي قوله: ( عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) دليل على أنه قد وقع منهم -مع الاعتراف- ما يفيد التوبة، أو مقدمة التوبة -وهي الاعتراف- قامت مقام التوبة, وحرف الترجي وهو (عسى) هو في كلام الله –سبحانه- يفيد تحقيق الوقوع لأن الإطماع من الله سبحانه إيجاب؛ لكونه أكرم الأكرمين ( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) أي: يغفر الذنوب ويتفضل على عباده([8]).
2- قوله تعالى: ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )
[التوبة: 106].
والمراد بهؤلاء المرجون -كما في الصحيحين- هلال بن أمية، وكعب بن مالك, ومرارة ابن الربيع، وكانوا قد تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ما -مع الهمّ باللحاق به عليه الصلاة والسلام- فلم يتيسر لهم, ولم يكن تخلفهم عن نفاق –وحاشاهم- فقد كانوا من المخلصين, فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وكان ما كان من المتخلفين قالوا: لا عذر لنا إلا الخطيئة, ولم يعتذروا له صلى الله عليه وسلم ولم يفعلوا كما فعل أهل السواري([9]), وأمر رسول الله باجتنابهم، وشدد الأمر
عليهم كما سنعلمه إن شاء الله تعالى، وقد وقف أمرهم خمسين ليلة لا يدرون ما الله -تعالى- فاعل بهم([10]).
3- قال تعالى: ( وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) [التوبة: 118].
والمراد بهؤلاء الثلاثة هم هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن الربيع, وفيهم نزلت هذه الآية([11]), وسوف نتحدث عن هذه القصة -بإذن الله- بنوع من التفصيل لما فيها من الدروس والعبر والحكم.
ثالثًا: المخلفون من منافقي الأعراب الذين يسكنون حول المدينة:
هؤلاء المخلفون من منافقي الأعراب نزل فيهم قوله تعالى: ( وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ [التوبة: 90].
رابعًا: المخلفون من منافقي المدينة:
قال تعالى: ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُّجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ` فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ` فَإِن رَّجَعَكَ اللهُ إلى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ) [التوبة: 81: 83].
هذا وقد لاحظت اختلاف سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملته للمنافقين عندما اعتذروا له, عن المسلمين الصادقين, حيث إنه صلى الله عليه وسلم عامل المنافقين باللين والصفح، واختار للمسلمين الصادقين الشدة والعقوبة! ولا شك أن الشدة والقسوة في هذا المقام مع المسلمين مظهر للإكرام والتشريف، وهو ما لا يستحقه المنافقون، وكيف يستحق المنافقون أن تنزل آيات في توبتهم -على أي حال؟! إنهم كفرة، ولن ينشلهم شيء مما يتظاهرون به في الدنيا، من الدرك الأسفل في النار يوم القيامة، وقد أمر الشارع جل جلاله أن ندعهم لما تظاهروا به ونجري الأحكام الدنيوية حسب ظواهرهم، ففيم التحقيق عن بواطن أعذارهم وحقيقة أقوالهم، وفيم معاقبتهم في الدنيا على ما قد يصدر عنهم من كذب ونحن إنما نعطيهم الظاهر فقط من المعاملة والأحكام؛ كما يبدون لنا هم أيضًا الظاهر فقط من أحوالهم وعقائدهم, قال ابن القيم: وهكذا يفعل الرب –سبحانه- بعباده في عقوبات جرائمهم، فيؤدب عبده المؤمن الذي يحبه وهو كريم عنده، بأدنى زلة وهفوة, فلا يزال مستيقظا حذرًا، وأما من سقط من عين الله وهان عليه فإنه يخلي بينه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنبا أحدث له نعمة([12]).
خامسًا: مسجد الضرار:
في أثناء عودة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة راجعا من تبوك نزلت عليه الآيات الآتية:
( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ
وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ` لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا
لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) [التوبة: 107-108].
وسبب نزول هذه الآيات الكريمات: أنه كان بالمدينة -قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها- رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف في الخزرج كبير، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه, وصارت للإسلام كلمة عالية, وأظهرهم الله يوم بدر, شرق اللعين أبو عامر بريقه, وبارز بالعداوة وظاهر بها, وخرج فارًّا إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاجتمعوا بمن وافقهم في أحياء العرب فكان من أمر المسلمين ما كان, وامتحنهم الله عز وجل, وكانت العاقبة للمتقين, وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيب ذلك اليوم فجرح وكسرت رباعيته اليمنى والسفلى, وشج رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم، واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله، ونالوا منه وسبوه, فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره وقرأ عليه القرآن، فأبى أن يسلم وتمرد, فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدًا طريدًا فنالته هذه الدعوة، وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم, فوعده ومناه, وأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه, ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء, فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك, وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته, وذكروا أنهم بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية, فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: «إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله» فلما قفل عليه السلام راجعًا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم، مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة([13]). هذا ما ذكره ابن كثير في سبب النزول.
أما معنى الآيات الكريمات: أخبر الله سبحانه أن الباعث لهم على بناء المسجد أربعة أمور:
1- الضرار لغيرهم، وهو المضارة.
2- الكفر بالله والمباهاة لأهل الإسلام, لأنهم أرادوا ببنائه تقوية أهل النفاق.
3- التفريق بين المؤمنين, لأنهم أرادوا ألا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعة المسلمين، وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ما لا يخفى.
4- الإرصاد لمن حارب الله ورسوله، أي الإعداد لأجل من حارب الله ورسوله([14]).
وقد خيَّب الله –تعالى- مسعاهم، وأبطل كيدهم بأن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بهدمه وإزالته.
وقوله: ( وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى ) ذم لهم على أيمانهم الفاجرة، وأقوالهم الكاذبة؛ لذلك قال تعالى: ( وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ).
ثم نهى الله تعالى رسوله والمؤمنين عن الصلاة في هذا المسجد نهيا مؤكدًا, فقال سبحانه: ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ).
قال ابن عاشور: وقوله سبحانه: ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) المراد بالقيام الصلاة؛ لأن أولها قيام, ووجه النهي عن الصلاة فيه أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه تكسبه يمنًا وبركة فلا يرى المسلمون لمسجد قباء مزية عليه؛ ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر، ومالك بن الدخشم مع بعض أصحابه وقال لهم: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه», ففعلوا([15]) وقوله: ( لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ) احتراس مما يستلزمه النهي عن الصلاة فيه من إضاعة عبادة في الوقت الذي رغبوه للصلاة فيه, فأمره الله بأن يصلي في ذلك الوقت الذي دعوه فيه للصلاة في مسجد الضرار أن يصلي في مسجده أو في مسجد قباء، لئلا يكون لامتناعه من الصلاة من حظوظ الشيطان أن يكون صرفه عن صلاة في وقت دعي للصلاة فيه، وهذا أدب نفساني عظيم([16]).
وفيه أيضا دفع مكيدة المنافقين أن يطعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه دعي إلى الصلاة في مسجدهم فامتنع فقوله: ( أَحَقُّ ) وإن كان اسم تفضيل فهو مسلوب المفاضلة؛ لأن النهي عن صلاته في مسجد الضرار أزال كونه حقيقًا بصلاته فيه أصلاً.
ولعل نكتة الإتيان باسم التفضيل أنه تهكم على المنافقين لمجازاتهم، ظاهرا في دعوتهم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه بأنه وإن كان حقيقًا بصلاته بمسجد أسس على التقوى أحق منه، فيعرف من وصفه بأنه ( أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى ) أن هذا أسس على ضدها([17]).
وقد رأى ابن عاشور أن المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى أنه مسجد هذه
صفته لا مسجدا واحدا معينا، فيكون هذا الوصف كليا انحصر في فردين: المسجد النبوي, ومسجد قباء([18]).
قوله تعالى: ( فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ) روى ابن ماجه أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار, إن الله قد أثنى عليكم في الطهور فما طهوركم؟» قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ونستنجي بالماء، قال: فهو ذاك فعليكموه([19]). وفي قصة مسجد الضرار دروس وعبر وفوائد منها:
1- الكفر ملة واحدة:
وقد تبين هذا في موقف أبي عامر الراهب من الإسلام ومن المسلمين؛ إذ غضب غضبا شديدا، وتألم لهزيمة المشركين في بدر، فأعلن عداءه للرسول, وتوجه إلى عاصمة الشرك مكة يحث أهلها على قتال المسلمين, وخرج مقاتلا معهم في أحد، وحاول تفتيت الصف الإسلامي([20]) وصدق الله تعالى عندما قال: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ) [الأنفال: 73].
2- محاولة التدليس على المسلمين:
حاول المنافقون أن يضفوا الشرعية على هذا البناء وأنه مسجد بنوه لأسباب مقنعة في الظاهر، ولكن لا حقيقة لها في نفوس أصحابها، فقد جاءوا يطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة في هذا البناء ليكون مسجدا قد باركه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة فيه، فإذا حدث هذا فقد استقر قرارهم في تحقيق أهدافهم، وهذا أسلوب ماكر خبيث قد ينطلي على كثير من الناس([21]).
3- فالله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين:
إن الباحث ليلاحظ مدى العناية الإلهية بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد أطلعه الله -عز وجل- على أسرار هؤلاء المنافقين وما أرادوه من تأسيس هذا المسجد، فلولا إعلام الله لرسوله لما أدرك رسول الله حقيقة نواياهم، ولصلى في البناء فأضفى عليه الشرعية وأقبل الناس يصلون فيه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وبذلك يحدث الاختلاط بين المنافقين وضعاف المسلمين فينفردون بهم وقد يؤثرون عليهم بالشائعات([22]).
4- العلاج النبوي الحاسم:
إن ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمر بهدم مسجد الضرار هو التصرف الأمثل، وهذا منهج نبوي كريم سنه لقادة الأمة في القضاء على أي عمل يراد منه الإضرار بالمسلمين وتفريق كلمتهم، فالداء العضال لا يعالج بتسكينه والتخفيف منه، وإنما يعالج بحسمه وإزالة آثاره، حتى لا يتجدد ظهوره بصورة أخرى، وإن الثمار العملية، التي لمسها المسلمون على إثر تطبيق الأمر النبوي الحازم لتدلنا على أن هذه المنهجية التي نهجها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا المكر الخبيث, هي الطريقة المثلى لقمع حركة النفاق في المجتمع المسلم، فقد أصبح أمرهم بعد ذلك يتلاشى شيئا فشيئا حتى لم يبق منهم بعد لحاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى إلا عدد قليل، ولم يعرف عنهم بعد تدمير مسجد الضرار أن قاموا بأعمال تخدم الهدف نفسه لعلمهم بنتائج العمل بعد انكشافهم([23]).
5- ما يلحق بحكم مسجد الضرار:
ذكر المفسرون ما يلحق بمسجد الضرار في الحكم، فهذه بعض أقوالهم:
أ- قال الزمخشري:... وقيل كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب, فهو لاحق بمسجد الضرار([24]).
علق الدكتور عبد الكريم زيدان على قول الزمخشري فقال: ولكن هل يلحق بمسجد الضرار فيهدم، كما هدم مسجد الضرار الذي بناه المنافقون في المدينة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه؟ لا أرى ذلك, وإنما يمكن أن يقال إن المسجد الذي بنى لهذه الأغراض يلحق بمسجد الضرار من جهة عدم ابتنائه على التقوى، والإخلاص الكامل لله تعالى([25]).
ب- قال القرطبي في تفسيره: قال علماؤنا: وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه([26]).
ج- وقال سيد قطب في تفسيره: هذا المسجد مسجد الضرار الذي اتخذ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مكيدة للإسلام والمسلمين، هذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى؛ يتخذ في صورة نشاط ظاهره الإسلام وباطنه لسحق الإسلام أو تشويهه... ويتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتتترس وراءها، وهي ترمي هذا الدين، ويتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام، لتخدر القلقين الذين يرون الإسلام يُذبح ويمحق، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب بما توحيه لهم من أن الإسلام بخير، وأنه لا داعي للخوف أو القلق عليه([27]).
6- قاعدة لمعرفة ما يلحق بالمسجد الضرار:
قال الدكتور عبد الكريم زيدان: كل ما يتخذ مما هو في ظاهره مشروع، ويريد متخذوه تحقيق غرض غير مشروع، فهو ملحق بالمسجد الضرار، لأنه يحمل روحه وعناصره([28]), وإذا أردنا الإيجاز قلنا في هذه القاعدة: كل ما كان ظاهره مشروعا ويريد متخذوه الإضرار بالمؤمنين فهو ملحق بالمسجد الضرار([29]).
وبناء على هذه القاعدة يخرج من نطاق مسجد الضرار وما يلحق به، ما ذكره الإمام ابن القيم من مشاهد الشرك، ومن أماكن المعاصي والفسوق كالحانات وبيوت الخمر والمنكرات ونحو ذلك؛ لأن هذه المنكرات ظاهرها غير مشروع فلا تلحق به وإن استحقت الإزالة كمسجد الضرار باعتبارها منكرات ظاهرًا وباطنًا([30]).
7- مساجد الضرار في بلاد المسلمين:
لا يزال أعداء الإسلام من المنافقين والملحدين، والمبشرين (المنصِّرين) والمستعمرين, يقيمون أماكن باسم العبادة وما هي لها، وإنما المراد بها الطعن في الإسلام وتشكيك المسلمين في معتقداتهم وآدابهم، وكذلك يقيمون مدارس باسم الدرس والتعليم ليتوصلوا بها إلى بث سمومهم بين أبناء المسلمين، وصرفهم عن دينهم، وكذلك يقيمون المنتديات باسم الثقافة والغرض منها خلخلة العقيدة السليمة في القلوب, والقيم الخلقية في النفوس، ومستشفيات باسم المحافظة على الصحة والخدمة الإنسانية والغرض منها التأثير على المرضى والضعفاء وصرفهم عن دينهم, وقد اتخذوا من البيئات الجاهلة والفقيرة -لاسيما في بلاد إفريقيا- ذريعة للتوصل إلى أغراضهم الدنيئة التي لا يقرها عقل ولا شرع ولا قانون([31]).
إن مسجد الضرار ليس حادثة في المجتمع الإسلامي الأول وانقضت, بل هي فكرة باقية، يخطط لها باختيار الأهداف العميقة، وتختار الوسائل الدقيقة لتنفيذها, وخططها تصب في التآمر على الإسلام وأهله بالتشويه وقلب الحقائق، والتشكيك، وزرع بذور الفتن لإبعاد الناس عن دينهم وإشغالهم بما يضرهم ويدمر مصيرهم الأخروي([32]).
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق