المبحث الخامس
الخلاف في الأنفال والأسرى
أولا: الخلاف في الأنفال:
عن عبادة بن الصامت t قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرًا, فالتقى الناس فهَزَم الله تبارك وتعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون, فأكبت طائفة على العسكر يحوونه ويجمعونه, وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة, حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض, قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا, نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: وخفنا أن يصيب العدو منه غرة واشتغلنا به فنزلت: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ) [الأنفال: 1]. فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فواق بين المسلمين([1]).
وفي رواية: قال عبادة بن الصامت عن الأنفال حين سُئل عن الأنفال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا, فنزعه الله تبارك وتعالى من أيدينا فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه رسول الله فينا عن بَوَاء, يقول: على السواء([2]).
لقد خلد الله سبحانه وتعالى ذكرى غزوة بدر في سورة الأنفال، وجاءت مفصلة عن أحداثها وأسبابها ونتائجها, وتعرضت الآيات الكريمة لعلاج النفس البشرية وتربيتها على معاني الإيمان العميق والتكوين الدقيق، فبدأت السورة بتبيان حكم أثر من آثار القتال وهو الغنائم، فبينت أن هذه الغنائم لله وللرسول، فالله هو مالك كل شيء، ورسوله هو خليفته، ثم أمر الله المؤمنين ثلاثة أوامر: بالتقوى، وإصلاح ذات البين، والطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أوامر مهمة جدًّا في موضوع الجهاد، فالجهاد إذا لم ينشأ عن تقوى فليس جهادًا، والجهاد يحتاج إلى وحدة صف، ومن ثم فلا بد من إصلاح ذات البين، والانضباط هو الأساس في الجهاد، إذ لا جهاد بلا انضباط، ثم بين الله عز وجل أن الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم علامة الإيمان.
ثم حدد الله عز وجل صفات المؤمنين الحقيقيين، وهذا الوصف والتحديد مهمان في موضوع الجهاد الإسلامي؛ لأن الإيمان الحقيقي هو الذي يقوم به الجهاد الإسلامي، لقد حدد الله عز وجل صفات المؤمنين: بأنهم إذا ذكر الله فزعت قلوبهم وخافت وفرقت. وإذا قرئ عليهم القرآن ازداد إيمانهم ونما.
والصفة الثالثة: هي التوكل على الله، فلا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الخلق وحده لا شريك له، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.
والصفة الرابعة: إقامة الصلاة والمحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، ومن ذلك إسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
والصفة الخامسة: الإنفاق مما رزقهم الله، وذلك يشمل إخراج الزكاة وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحق، والخلق كلهم عباد الله, فأحبهم إليه أنفعهم لخلقه، ثم بين الله -عز وجل- أن المتصفين بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان، وأن لهم عند الله منازل ومقامات ودرجات في الجنات، وأن الله يغفر لهم السيئات، ويشكر الحسنات، وبهذا تنتهي مقدمة السورة بعد أن رفعت الهمم لكل لوازم الجهاد، ونفت كل عوامل الخذلان، من اختلاف على غنائم، أو خلاف بسبب شيء, داعية إلى الطاعة، والارتفاع إلى منازل الإيمان الكامل([3])، قال تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ` إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ` الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ` أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) [الأنفال: 1-4].
يقول الأستاذ محمد الأمين المصري: لم تذكر الآيات شيئًا من أعمال المؤمنين في بدر، ولكن ذكرت عتابًا أليمًا موجعًا يحمل المؤمنين على الرجوع إلى أنفسهم والاستحياء من ربهم، وهناك نقاط أرسلت الآيات النقاط عليها وبينت نواحي الضعف فيها بيانًا جليًا قويًّا، بتصوير ما في النفوس وصفًا دقيقًا رائعًا تشاهد العين فيه الحركات والخلجات، وكل ذلك من شأنه أن ينبه ضمير المؤمن ليلمس المسافة بينه وبين درجات الإيمان التي يهفو قلبه للوصول إليها. ولقد كانت الآيات من تربية الحكيم العليم, ويشعر الذوق السليم هاهنا روعة الأسلوب في عرض العتاب بغير عتاب، ولكنه تصوير ما في النفوس تصويرًا يوقن معه العادي من الناس، أنه ما كان لمؤمن صحيح الإيمان أن يتصف بها؛ ولذلك اقترنت الآيات بتقديم خصائص الإيمان العالية وميزاته الرفيعة التي تصور الفجوة البعيدة بين المؤمن وبين أي إسفاف: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ` الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ` أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) [الأنفال: 2-4]. ما ذكرت الآيات عتابًا، ولكنها ذكرت واقعًا وكان ذكر الواقع أبلغ من كل عتاب.
لقد استجاب الصحابة الكرام لهذا التوجيه الرباني ونزلت الآيات تبين لرسول
الله صلى الله عليه وسلم كيف يتصرف في الأنفال.
بعد أن أصحبت الغنائم لله ورسوله بيَّن المولى عز وجل كيف توزع هذه الغنائم, قال تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [الأنفال: 41].
وهذا بعد ما طهرت قلوبهم من الأخلاط، وأخلصت إلى علام الغيوب في الطاعة، وتمثلت الآيات، فتحققت بمعنى العبودية الخالصة لله, وهذا الحكم صريح في أن أربعة أخماس ما غنموه مقسوم بينهم، والخمس لله ورسوله، وهذا الخمس نفسه مردود فيهم أيضا، وموزع على الجهات المذكورة كما ثبت بالسنة.
إن التوجيه التربوي، في إرجاء إنزال جواب السؤال عن الغنائم، يشير إلى أن الأحكام الشرعية ينبغي أن يهيأ لها الجو النفسي الروحي المناسب، لتحتل مكانها اللائق في العقل والضمير، فتثبت وتتمكن، وتؤتي أطيب النتائج، إذ يتجلى فيها أكمل الحلول، وهكذا صرف المولى -جل شأنه- عبادة المسلمين عن التعلق بالغير، أولا، وبالغنائم ثانيا، ليكونوا له من المخلصين الجديرين بنصره، وإتمام نعمته، فلما تفرغوا للخالق وأخلصوا في الجهاد، أكرمهم بالنصر من لدنه، وأسبغ عليهم من فضله بأكثر مما كانوا يودون([4]), فعن عبد الله بن عمرو قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر في ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً من أصحابه فلما انتهى إليها قال: «اللهم إنهم جياع فأشبعهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم» ففتح الله له يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بحمل أو حملين، واكتسوا وشبعوا)([5]).
ومن عدل النبي صلى الله عليه وسلم في تقسيم الغنائم إعطاؤه من هذه الغنيمة من تخلف بأمر رسول الله لمهام أوكلها إليهم, فضرب لهم بسهمهم من الغنيمة وبأجرهم فكانوا كمن حضرها([6]). فكان صلى الله عليه وسلم يراعي ظروف الجنود التي تمنعهم من المشاركة في القتال، لأن الله تعالى لم يكلف عباده شيئًا فوق طاقتهم, قال تعالى: ( لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا )[البقرة: 286].
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكلف المسلمين فوق طاقتهم سواء كان ذلك في السلم أو الحرب، وفي غزوة بدر أعفى النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة؛ لأن ظروفهم الأسرية تتطلب منهم القيام عليها ورعايتها، فقد أعفى عثمان بن عفان t من الخروج يوم بدر؛ لأن زوجته رقية كانت مريضة وبحاجة إلى من يرعى شؤونها، روى البخاري في صحيحه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبر عن سبب تغيب عثمان t في غزوة بدر فقال t: (... وأما تغيبه عن بدر, فإنه كانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لك أجر رجل ممن شهد بدرًا وسهمه...»([7]).
وأمر صلى الله عليه وسلم أبا أمامة بالبقاء عند أمه حيث كانت مريضة وهي بحاجة إليه، فعن أبي أمامة بن ثعلبة t أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرهم بالخروج إلى بدر وأجمع الخروج معه, فقال له خاله أبو بردة بن نيار: أقم على أمك، يا ابن أختي. فقال له أبو أمامة: بل أنت فأقم على أختك، فذكرا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمر أبا أمامة بالمقام على أمه وخرج بأبي بردة، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقد توفيت فصلى عليها([8]). إن هذه الأخلاق الرفيعة ومراعاة شعور الجنود وأحوالهم العائلية تولد قوة ترابط بين القيادة والجنود، وتدخل تحت مفهوم فقه التمكين، وقد مارسه الرسول صلى الله عليه وسلم في أعلى صوره.
ومن الصحابة الذين كانت لهم مهمات خاصة أو أصيبوا أثناء الطريق فردهم الرسول صلى الله عليه وسلم:
1- أبو لبابة: استخلفه على المدينة.
2- عاصم بن عدي: أرسله صلى الله عليه وسلم في مهمة لأهل العالية في المدينة.
3- الحارث بن حاطب: أرسله صلى الله عليه وسلم في مهمة إلى بني عمرو بن عوف.
4- الحارث بن الصمة: وقع أثناء الطريق فكسر فرُد.
5- خوَّات بن جبير: أصابه في الطريق حجر في ساقه فرده من الصفراء([9]).
وكذلك أعطى لورثة الشهداء وذويهم نصيبهم من الغنائم؛ وبذلك كان للإسلام السبق في تكريم الشهداء ورعاية أبنائهم وأسرهم من قرابة أربعة عشر قرنًا([10]).
ثانيًا: الأسرى:
قال ابن عباس t: (... فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: «ما ترون في هؤلاء الأسارى؟» فقال أبو بكر: يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة: أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ترى يا ابن الخطاب؟» قال: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي يراه أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننا منهم، فنضرب أعناقهم، فتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان (نسيبًا لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدهم، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهْوَ ما قلتُ, فلما كان من الغد جئت فإذا رسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت يا رسول الله: أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، ولقد عُرِض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة» -شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم- وأنزل الله عز وجل: ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) إلى قوله: ( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا ) [الأنفال: 67-69] فأحل الله لهم الغنيمة([11]). وفي رواية: عن عبد الله بن مسعود t قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم واستأْنِ بهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله أخرجوك وكذبوك, قرِّبهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر واديًا كثير الحطب، فأدخلهم فيه ثم اضرم عليهم نارًا، فقال العباس: قطعت رحمك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئًا، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر، كمثل إبراهيم عليه السلام قال: ( فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: ( إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [المائدة: 118], وإن مثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال: ( رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) [نوح: 26]. وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: ( رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ) [يونس: 88]. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أنتم عالة، فلا ينفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق».
قال عبد الله بن مسعود: فقلت: يا رسول الله، إلا سهيل بن بيضاء فإنه يذكر الإسلام قال: فسكت، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي حجارة من السماء في ذلك اليوم، حتى قال: إلا سهيل بن بيضاء فأنزل الله ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) إلى آخر الآية([12]).
وهذه الآية تضع قاعدة هامة في بناء الدولة حينما تكون في مرحلة التكوين والإعداد، وكيف ينبغي ألا تظهر بمظهر اللين، حتى تُرْهَب من قبل أعدائها، وفي سبيل هذه الكلية يطرح الاهتمام بالجزئيات حتى ولو كانت الحاجة ملحة إليها([13]).
وكان سعد بن معاذ t لما شرع الصحابة في أسر المشركين كره ذلك ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجه سعد لما يصنع الناس, فقال له رسول الله: «والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم» قال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان بالقتل أحب إلىَّ من استبقاء الرجل([14]).
كانت معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للأسرى تحفها الرحمة، والعدل، والحزم، والأهداف الدعوية؛ ولذلك تعددت أساليبه، وتنوعت طرق تعامله عليه الصلاة والسلام، فهناك من قتله، وبعضهم قبل فيهم الفداء، والبعض الآخر منَّ عليهم, وآخرون اشترط عليهم تعليم عشرة من أبناء المسلمين مقابل المن عليهم.
أ- حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لجوار المطعم بن عدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر: «لو كان مُطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له»([15]).
وهذا الحديث تعبير عن الوفاء والاعتراف بالجميل، فقد كان للمطعم مواقف تذكر بخير، فهو الذي دخل الرسول صلى الله عليه وسلم في جواره حينما عاد من الطائف، كما كان من أشد القائمين على نقض الصحيفة يوم حُصِرَ المسلمون وبنو هاشم([16]).
وهذا يدل على قمة الوفاء لمواقف الرجال، ولو كانوا مشركين([17]).
ب- مقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث: وإذا كان هذا الوفاء لرجل مثل المطعم بن عدي، فلا بد من الحزم مع مجرمي الحرب ورؤوس الفتنة من أمثال عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، فقد كان من أكبر دعاة الحرب ضد الإسلام، والمتربصين بالمسلمين الدوائر، فبقاؤهما يعد مصدر خطر كبير على الإسلام، ولا سيما في تلك الظروف الحاسمة التي تمر بها الدعوة الإسلامية، فلو أطلق سراحهما لما تورعا على سلوك أي طريق فيه كيد للإسلام وأهله، فقتْلهما في هذا الظرف ضرورة تقتضيها المصلحة العامة لدعوة الإسلام الفتية([18])؛ ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما عندما وصل إلى الصفراء([19]), أثناء رجوعه للمدينة، فلما سمع عقبة بن معيط بأمر قتله قال: يا ويلي، علام أُقتل يا معشر قريش من بين من هاهنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعداوتك لله ولرسوله» قال: يا محمد مَنُّك أفضل، فاجعلني كرجل من قومي، إن قتلتهم قتلتني، وإن مننت عليهم مننت علي، وإن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم، يا محمد مَنْ للصبية؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النار، قدمه يا عاصم فاضرب عنقه» ([20]) فقدمه عاصم فضرب عنقه([21]).
وأما النضر بن الحارث، فقد كان من شياطين قريش، وممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم وإسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا فذكَّر فيه بالله، وحذر قومه ما أصاب قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام, ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه، فهلم إليَّ فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وإسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثًا مني؟([22]).
إن هذا الرجل المتعالي على الله والمتألي عليه، والذي يزعم أنه سينزل أحسن ما أنزل الله، والذي يزعم أنه أحسن حديثًا من محمد لا بد لمثل من يمثل هذا التيار وقد أصبح بين يدي رسول رب العالمين، لا بد أن يُثأر لله ولرسوله منه، ومن أجل هذا لم يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمن نطاق الاستشارة([23])، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، فقتله علي بن أبي طالب t([24]).
وبمقتل هذين المجرمين تعلم المسلمون أن بعض الطغاة العتاة المعادين لا مجال للتساهل معهم، فهم زعماء الشر وقادة الضلال، فلا هوادة معهم؛ لأنهم تجاوزوا حد العفو والصفح([25]) بأعمالهم الشنيعة، فقد كان هذان الرجلان من شر عباد الله وأكثرهم كفرًا وعنادًا وبغيًا وحسدًا وهجاء للإسلام وأهله([26]).
جـ- الوصية بإكرام الأسرى جانب من المنهج النبوي الكريم: ولما رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فرَّق الأسرى بين أصحابه، وقال لهم: «استوصوا بهم خيرًا»([27]) وبهذه التوصية النبوية الكريمة ظهر تحقيق قول الله تعالى: ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) [الإنسان: 8]. فهذا أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير يحدثنا عما رأى قال: كنت في الأسرى يوم بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالأسارى خيرًا»، وكنت في نفر من الأنصار, فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر، وأطعموني البُرَّ لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم([28]).
وهذا أبو العاص بن الربيع يحدثنا قال: كنت في رهط من الأنصار جزاهم الله خيرًا، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر, والخبز معهم قليل، والتمر زادهم, حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إليَّ، وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد، وكانوا يحملوننا ويمشون([29]).
كان هذا الخلق الرحيم الذي وضع أساسه القرآن الكريم في ثنائه على المؤمنين، وذكر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فاتخذوه خلقًا، وكان لهم طبيعة, قد أثر في إسراع مجموعة من أشراف الأسرى وأفاضلهم إلى الإسلام، فأسلم أبو عزيز عقيب بدر, بُعيد وصول الأسرى إلى المدينة, وتنفيذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأسلم معه السائب بن عبيد([30]) بعد أن فدى نفسه، فقد سرت دعوة الإسلام إلى قلوبهم، وطهرت نفوسهم، وعاد الأسرى إلى بلادهم وأهليهم يتحدثون عن محمد صلى الله عليه وسلم ومكارم أخلاقه، وعن محبته وسماحته، وعن دعوته وما فيها من البر والتقوى والإصلاح والخير([31]). إن هذه المعاملة الكريمة للأسرى شاهد على سمو الإسلام في المجال الأخلاقي، حيث نال أعداء الإسلام في معاملة الصحابة أعلى درجات مكارم الأخلاق، التي تتمثل في خلق الإيثار([32]).
د- فداء العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا، وقال العباس: يا رسول الله قد كنت مسلمًا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك، وأما ظاهرك قد كان علينا, فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر» قال: ما ذاك عندي يا رسول الله, قال: «فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقلت لها: إن أصبت في سفري هذا، فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبد الله وقثم» قال: والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا الشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل, فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك» ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه, فأنزل الله عز وجل فيه: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَنْ فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُّؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ` وَإِن يُّرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) [الأنفال: 70، 71]. قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين أوقية في الإسلام عشرين عبدًا كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل([33]).
هذا والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذه الآية الكريمة، وإن كانت نزلت في العباس، إلا أنها عامة في جميع الأسرى([34]).
استأذن بعض الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا العباس فداءه، قال: «والله لا تذرون منه درهمًا»([35]) أي لا تتركوا للعباس من الفداء شيئًا، ويظهر أدب الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قولهم لرسول الله: ابن أختنا([36]), لتكون المنة عليهم في إطلاقه بخلاف لو قالوا: (عمك) لكانت المنة عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا من قوة الذكاء وحسن الأدب في الخطاب، وإنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن إجابتهم لئلا يكون في الدين نوع محاباة([37]).
وهنا يتعلم الأسرى والمسلمون أيضا درسًا بليغًا في عدم محاباة ذوي القربى، بل كان الأمر على خلاف ذلك، فقد أغلا رسول الله الفداء على عمه العباس([38]).
ورجع العباس لمكة، وقد دفع فداءه وابْنَيْ أخويه، وأخفى إسلامه، وأصبح يقود جهاز استخبارات الدولة الإسلامية بمكة بمهارة فائقة، وقدرة نادرة حتى انتهى دوره في فتح مكة، فأعلن إسلامه قبلها بساعات([39]).
هـ- أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم: قالت عائشة رضي الله عنها: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت لخديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها، قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لها رقة شديدة، وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها فافعلوا»، فقالوا: (نعم يا رسول الله, فأطلقوه وردوا عليها الذي لها)([40]).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليه، أو وعده أن يخلي سبيل زينب إليه، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار فقال: «كونا ببطن يأجج([41]) حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها»([42]).
إن أبا العاص بن الربيع زوج زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُعرف عنه قط موقف في مقاومة الدعوة بأي لون من ألوانها، وقد كفَّ يده ولسانه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشغله ماله وتجارته وحياؤه من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مواقف الشراسة القرشية في مقاومة الدعوة إلى الله، وفي بدر كان أبو العاص صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين الأسرى الذين لم يسمع لهم في المعركة صوت، ولم يعرف لهم رأي، ولا شوهدت لهم في قتال جولة، وبعد أن بدأت قريش تفدي أسراها، أرسلت السيدة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجة أبي العاص بمال تفديه به، ومع المال قلادة كانت أمها السيدة خديجة رضي الله عنها أهدتها إليها فأدخلتها بها على زوجها للتحلي بها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلادة ابنته رقَّ لها رقة شديدة، إذ كانت هذه القلادة الكريمة مبعث ذكريات أبوية عنده صلى الله عليه وسلم، وذكريات زوجية، وذكريات أسرية، وذكريات عاطفية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أب، له من عواطف الأبوة أرفع منازلها في سجل المكارم الإنسانية وأشرفها في فضائل الحياة, فتواثبت إلى خبايا نفسه الكريمة المكرمة أسمى مشاعر الرحمة، وتزاحمت على فؤاده الأطهر عواطف الحنان والحنين، فتوجه إلى أصحابه t متلطفـًا يطلب إليهم في رجاء الأعز الأكرم, رجاء يدفعهم إلى العطاء ولا يسلهم حقهم في الفداء لو أنهم أرادوا الاحتفاظ بهذا الحق وهو في أيديهم يملكون التصرف فيه، فقال لهم: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا».
وهذا أسلوب من أبلغ وألطف ما يسري في حنايا النفوس الكريمة، فيطوعها إلى الاستجابة الراغبة الراضية رضاء ينم عن الغبطة والبهجة([43]).
إن هذا الموقف وما يظهر منه من مظاهر الرحمة والعطف منه صلى الله عليه وسلم على ابنته، يحمل في طياته مقصدًا آخر وهو أنه كان يتألف صهره للإسلام بذلك، لما عرف عنه من العقل السديد، والرأي الرشيد، فقد كان صلى الله عليه وسلم يثني عليه وهو على شركه بحسن المعاملة([44]).
و- أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي بين الرحمة والحزم النبوي: كان محتاجًا ذا بنات قال: يا رسول الله، لقد عرفت ما لي من مال، وإني لذو حاجة، وذو عيال فامنن عليَّ، فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عليه ألا يظاهر عليه أحدًا فقال أبو عزة يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك:
بأنك حق والمليك حميدُ | | مَنْ مبلغ عني الرسول محمدًا |
لها درجات سهلة وصعودُ | | وأنت امرؤ بُوِّئت فينا مباءة ([45]) |
شقيٌّ ومن سالمته لسعيدُ | | فإنك من حاربته لمحاربٌ |
تأوَّّبُ ما بي، حسرة وقعود | | ولكن إذا ذكرت بدرًا وأهله |
قال ابن كثير: ثم إن أبا عزة هذا نقض ما كان عاهد الرسول عليه، ولعب المشركون بعقله فرجع إليهم، فلما كان يوم أحد أُسر أيضا، فسأل من النبي صلى الله عليه وسلم أن يمن عليه أيضا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أدعك تمسح عارضيك، وتقول: خدعت محمدا مرتين»، ثم أمر به فضربت عنقه([46]).
فكان النبي صلى الله عليه وسلم به رحيمًا وعفا عنه، وأطلق سراحه بدون فداء لما ذكر أبو عزة فقره وما لديه من بنات يعولهن، ولكنه لم يف لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما عاهده من لزوم السلم وعدم إثارة الحرب ضده، فوقع أسيرًا في معركة أحد، فكان موقف النبي صلى الله عليه وسلم منه الحزم فأمر بضرب عنقه.
ز- سهيل بن عمرو ووقوعه في الأسر وماذا قالت سودة رضي الله عنها: قال عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة t: (قُدم بالأسارى حين قدم بهم المدينة، وسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء، وذلك قبل أن يضرب الحجاب، قالت سودة: فوالله إني لعندهم إذ أتينا فقيل: هؤلاء الأسارى قد أتى بهم، فرجعت إلى بيتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة ويداه مجموعتان إلى عنقه بحبل، فوالله ما ملكت حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت: أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كرامًا.. فما انتبهت إلا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت: «يا سودة أعلى الله ورسوله تحرضين؟» فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه بالحبل أن قلت ما قلت)([47]).
وفد مكرز بن حفص بن الأخيَفْ في فداء سهيل بن عمرو، فلما فاوض المسلمين وانتهى إلى رضائهم قالوا: هات الذي لنا, قال لهم مكرز بن حفص: اجعلوا رجلي مكان رجله، وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه, فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرزًا عندهم، وجاء في حديث مرسل أن عمر بن الخطاب t قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أنزع ثنية سهيل بن عمر، يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبًا في موطن آخر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيًّا»([48]) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه عسى أن يقوم مقامًا لا تذمه»([49]).
قال ابن كثير: وهذا هو المقام الذي قامه سهيل بمكة حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدَّ العرب، ونجم النفاق بالمدينة وغيرها، فقام بمكة فخطب في الناس وثبتهم على الدين الحنيف([50]), فقد قال في ذلك: يا معشر قريش، لا تكونوا آخر الناس إسلامًا وأولهم ردة، من رابنا ضربنا عنقه([51]).
فقد أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزع ثنية سهيل، ورأى أن ذلك من باب التمثيل وتشويه خلقة الإنسان، وقال لعمر: «لا أمثل به فيمثل الله بي، وإن كنت نبيًا» وهذا نموذج من منهج رسالته صلى الله عليه وسلم وضعه ليكون نبراسًا لأمته في انتصاراتها على أعدائها([52]).
ح- التعليم مقابل الفداء: قال ابن عباس: كان ناس من الأسارى يوم بدر ليس لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة([53])؛ وبذلك شرع الأسرى يعلمون غلمان المدينة القراءة والكتابة، وكل من يعلم عشرة من الغلمان يفدي نفسه([54]). وقبول النبي صلى الله عليه وسلم تعليم القراءة والكتابة بدل الفداء في ذلك الوقت الذي كانوا فيه بأشد الحاجة إلى المال يرينا سمو الإسلام في نظرته إلى العلم والمعرفة، وإزالة الأمية، وليس هذا بعجيب من دين كان أول ما نزل من كتابه الكريم: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ` خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ` اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ ` الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) [العلق: 1-4]. واستفاضت فيه نصوص القرآن والسنة في الترغيب في العلم وبيان منزلة العلماء، وبهذا العمل الجليل يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم أول من وضع حجر الأساس في إزالة الأمية وإشاعة القراءة والكتابة، وأن السبق في هذا للإسلام([55]).
ط- حكم الأسرى: إن حكم الأسرى في الإسلام مفوض إلى رأي الإمام ليختار حكمًا من أربعة, وعلى الإمام أن يراعي مصلحة المسلمين العامة, والأحكام الأربعة هي:
1- القتل: وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث.
2- المن: وهو إطلاق الأسير بدون مقابل، وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي عزة الجمحي.
3- الفداء: إطلاق سراح الأسير مقابل مبلغ من المال، وهذا ما حدث مع العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم, ونوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب وغيرهم.
4- الاسترقاق: وقد حكم سعد بن معاذ t في يهود بني قريظة أن يقتل المحاربون وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء([56]).
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق