المبحث السابع
بعض الدروس والعبر والفوائد من غزوة بدر
أولاً: حقيقة النصر من الله تعالى:
إن حقيقة النصر في بدر كانت من الله تعالى قال سبحانه فقد بين سبحانه وتعالى أن النصر لا يكون إلا من عند الله تعالى في قوله: ( وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) [آل عمران: 126], وقوله تعالى: ( وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[الأنفال: 10].
في هاتين الآيتين تأكيد على أن النصر لا يكون إلا من عند الله عز وجل, والمعنى: ليس النصر إلا من عند الله دون غيره، و(العزيز) أى: ذو العزة التي لا ترام([1]), و(الحكيم) أى: الحكيم فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى([2]).
ويستفاد من هاتين الآيتين: تعليم المؤمنين الاعتماد على الله وحده، وتفويض أمورهم إليه مع التأكيد على أن النصر إنما هو من عند الله وحده, وليس من الملائكة أو غيرهم، فالأسباب يجب أن يأخذ بها المسلمون، لكن يجب أن لا يغتروا بها، وأن يكون اعتمادهم على خالق الأسباب حتى يمدهم الله بنصره وتوفيقه، ثم بين سبحانه مظاهر فضله على المؤمنين، وأن النصر الذي كان في بدر، وقتلهم المشركين، ورمي النبي صلى الله عليه وسلم المشركين بالتراب يوم بدر إنما كان في الحقيقة بتوفيق الله أولاً وبفضله ومعونته. وبهذه الآية الكريمة يربي القرآن المسلمين ويعلمهم الاعتماد عليه, قال تعالى: ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [الأنفال: 17]. ولما بيَّن سبحانه وتعالى أن النصر كان من عنده، وضح بعض الحكم من ذلك النصر، قال تعالى: ( لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ ` لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) [آل عمران: 127، 128].
وأمر سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتذكروا دائما تلك النعمة العظيمة؛ نعمة النصر في بدر، ولا ينسوا من أذهانهم كيف كانت حالتهم قبل النصر, قال تعالى: ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [الأنفال: 26].
ثانيًا: يوم الفرقان:
سُمي يوم بدر يوم الفرقان, ولهذه التسمية أهمية عظيمة في حياة المسلمين، وقد تحدث الأستاذ سيد قطب عن وصف الله تعالى ليوم بدر بأنه يوم الفرقان في قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [الأنفال: 41]. فقال: كانت غزوة بدر، التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده, فرقانًا بين الحق والباطل، كما يقول المفسرون إجمالاً، وفرقانًا بمعنى أشمل وأدق وأوسع وأعمق كثيرًا. كانت فرقانًا بين الحق والباطل فعلاً.. ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وقامت عليه فطرة الأحياء والأشياء.. الحق الذي يتمثل في تفرد الله سبحانه بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير، وفي عبودية الكون كله سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه، لهذه الألوهية المتفردة، ولهذا السلطان المتوحد, ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك, والباطل الزائف الطارئ الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك، ويغشي على ذلك الحق الأصيل، ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء, وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء، فهذا الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر، حيث فرق بين ذلك الحق الكبير، وهذا الباطل الطاغي، وزيَّل بينهما فلم يعودا يلتبسان.
لقد كانت فرقانًا بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق، على أبعاد وآماد، كانت فرقانًا بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير؛ فرقانًا بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور, وفي الخلق والسلوك، وفي العبادة والعبودية، وبين الشرك في كل صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص، والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات, وكانت فرقانًا بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر, كذلك فرقانًا بين العبودية الواقعية للأشخاص، والأهواء، وللقيم والأوضاع والشرائع والقوانين وللتقاليد والعادات, وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره، ولا متسلط سواه، ولا حاكم دونه، ولا مشرع إلا إياه، فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله، وتساوت الرؤوس فلا تخضع إلا لحاكميته وشرعه، وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة.
وكانت فرقانًا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية: عهد المصابرة والصبر والتجمع والانتظار، وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، والإسلام بوصفه تصويرًا جديدا للحياة, ومنهجًا جديدًا للوجود الإنساني، ونظامًا جديدًا للمجتمع، وشكلاً جديدًا للدولة، بوصفه إعلانًا عامًّا لتحرير الإنسان في الأرض بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته, ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته([3]).
إلى أن قال: وأخيرًا فلقد كانت بدر فرقانًا بين الحق والباطل بمدلول آخر، ذلك المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى: ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُّحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ` لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ). لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة، فأراد الله لهم غير ما أرادوا، أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان (غير ذات الشوكة)، وأن يلاقوا نفير أبي جهل (ذات الشوكة), وأن تكون معركة وقتالاً وقتلاً وأسرًا، ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة، وقد قال الله سبحانه: إنه صنع هذا ( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ) وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة، إن الحق لا يحق وإن الباطل لا يبطل -في المجتمع الإنساني- بمجرد البيان النظري للحق والباطل، ولا بمجرد الاعتقاد النظري بأن هذا حقٌّ وهذا باطلٌ، إن الحق لا يحق, وإن الباطل لا يبطل, ولا يذهب من دنيا الناس، إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا ويهزم جند الباطل ويندحروا، فهذا الدين منهج حركي واقعي، لا مجرد نظرية للمعرفة والجدل، أي لمجرد الاعتقاد السلبي.
ولقد حق الحق وبطل الباطل بالموقعة، وكان هذا النصر العملي فرقانًا واقعيًا بين الحق والباطل بهذا الاعتبار الذي أشار إليه قول الله تعالى في معرض بيان إرادته سبحانه من وراء المعركة، ومن وراء إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته بالحق، ومن وراء إفلات القافلة (غير ذات الشوكة) ولقاء الفئة ذات الشوكة. ولقد كان هذا كله فرقانًا بين منهج هذا الدين ذاته، تتضح به طبيعة هذا المنهج وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم.. وإنه لفرقان ندرك به اليوم ضرورته، حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدين من تميع في نفوس من يسمون أنفسهم مسلمين، حتى ليصل هذا التميع إلى مفهومات بعض من يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين، وهكذا كان يوم بدر: ( يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) [الأنفال: 41]. بهذه المدلولات المنوعة الشاملة العميقة، والله على كل شيء قدير، وفي هذا اليوم مثل من قدرته على كل شيء، مثل لا يجادل فيه مجادل، ولا يماري فيه ممارٍ.. مثل من الواقع المشهود، الذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة الله. وأن الله على كل شيء قدير([4]).
ثالثًا: الولاء والبراء من فقه الإيمان:
رسمت غزوة بدر لأجيال الأمة صورًا مشرقة في الولاء والبراء, وجعلت خطًا فاصلاً بين الحق والباطل، فكانت الفرقان النفسي والمادي والمفاصلة التامة بين الإسلام والكفر، وفيها تجسدت هذه المعاني, فعاشها الصحابة واقعًا ماديًّا وحقيقة نفسية، وفيها تهاوت القيم الجاهلية، فالتقى الابن بأبيه والأخ بأخيه:
1- كان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة في صف المسلمين، وكان أبوه عتبة وأخوه الوليد وعمه شيبة في صف المشركين، وقد قتلوا جميعًا في المبارزة الأولى.
2- كان أبو بكر الصديق في صف المسلمين.. وكان ابنه عبد الرحمن في صف المشركين.
3- كان مصعب بن عمير حامل لواء المسلمين، وكان أخوه أبو عزيز بن عمير في صف المشركين، ثم وقع أسيرًا في يد أحد الأنصار، فقال مصعب للأنصاري: شد يدك به فإن أمه ذات متاع، فقال أبو عزيز: يا أخي هذه وصيتك بي؟ فقال مصعب: إنه أخي دونك، تلك كانت حقائق وليس مجرد كلمات: إنه أخي دونك([5]), إنها القيم المطروحة لتقوم الإنسانية على أساسها, فإذا العقيدة هي آصرة النسب والقرابة وهي الرباط الاجتماعي([6]).
4- كان شعار المسلمين في بدر (أَحَدٌ، أَحَدٌ) وهذا يعني أن القتال في سبيل عقيدة تتمثل بالعبودية للإله الواحد، فلا العصبية ولا القبلية, ولا الأحقاد والضغائن, ولا الثأر هو الباعث والمحرك، ولكنه الإيمان بالله وحده.
ومن هذا المنطلق كانت صور الإيمان مختلفة المظاهر واحدة في مضمونها([7]), وللإيمان فقه عظيم, ومن هذا الفقه حينما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هاجر إليها كل من استطاع ذلك من المسلمين في مكة، وحبس من كان مضطهدًا ولم يستطع ذلك, فلما كان يوم بدر كان بعض هؤلاء في صف المشركين منهم: عبد الله بن سهيل بن عمرو، والحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه.
فأما عبد الله بن سهيل بن عمرو فقد انحاز من صف المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد المعركة، وكان أحد الصحابة الذين نالوا هذا الشرف العظيم([8]).
وأما الآخرون فلم يفعلوا ذلك، وشهدوا المعركة في صف المشركين وقد أصيبوا جميعًا([9]) فقتلوا تحت راية الكفر، فنزل في حقهم قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) [النساء: 97].
قال ابن عباس: كان قوم من المسلمين أقاموا بمكة، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم, فأصيب بعضهم, فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا على الخروج، فنزلت: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ) إنهم لم يعذروا إذ كانت إمكانات الانتقال إلى صف المؤمنين متوافرة، ولم يكن الفاصل كبيرًا بين الصفين، ولن يعدموا لو أرادوا الفرصة في الانتقال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل عبد الله بن سهيل([10]).
إن للإيمان مستلزمات تعبر عن صدقه وقوته، ومن مستلزماته استعلاؤه على كل القيم مما سواه, فإذا كان كذلك كان لأصحابه الأثر الفعال، والقوة الفاعلة في بناء الحق والخير الذي أراده الله، إن الإيمان يصبغ السلوك، فإذا به يشع من خلال الحركة والجهد، ومن خلال الكلمة والابتسامة، ومن خلال السمت والانفعال؛ ولذا لم يعذر الذين كانوا في صف المشركين؛ لأن الإيمان الذي ادعوه لم توجد له مستلزمات فلم يؤت ثماره([11]).
ولهذا الفهم العميق لفقه الإيمان ضرب الصحابة الكرام في بدر مُثلاً عليا لصدق الإيمان، التي تدل على أنهم آثروا رضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على حب الوالد والولد والأهل والعشيرة، فلا يعجب المسلم من ثناء الله تعالى على هذه المواقف الصادقة في قوله تعالى: ( لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [المجادلة: 22].
رابعًا: المعجزات التي ظهرت في بدر وما حولها:
من المعجزات التي ظهرت على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر إخباره عن بعض المغيَّبات، ومن المعلوم أن علم الغيب مختص بالله تعالى وحده، وقد أضافه الله تعالى إلى نفسه الكريمة في غير آية من كتابه العزيز، قال تعالى: ( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) [النمل: 65]. وقال تعالى: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) [الأنعام: 59].
ومن المعلوم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يعلمون الغيب ولا اطلاع لهم على شيء منه، فقد قال تعالى: ( قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ) [الأنعام: 50]، وكما جاءت الأدلة تدل على أن الله تبارك وتعالى قد اختص بمعرفة علم الغيب، وأنه استأثر به دون خلقه، جاءت أدلة تفيد أن الله تعالى استثنى من خلقه من ارتضاه من الرسل فأودعهم، ما شاء الله من غيبه بطريق الوحي إليهم, وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم، قال تعالى: ( مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيم ) [آل عمران: 179]. وقال تعالى: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ` إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) [الجن: 26، 27]. فنخلص من ذلك أن ما وقع على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار بالمغيبات فبوحي من الله تعالى, وهو إعلام الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم للدلالة على ثبوت نبوته وصحة رسالته, وقد اشتهر وانتشر أمره صلى الله عليه وسلم باطلاع الله له على المغيبات([12]). وكان لأحداث غزوة بدر نصيب من تلك المعجزات الغيبية منها:
1- مقتل أمية بن خلف:
فعن عبد الله بن مسعود t قال: انطلق سعد بن معاذ معتمرًا، قال: فنزل على أمية بن خلف أبي صفوان، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد، فقال أمية لسعد: ألا تنظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت؟ فبينما سعد يطوف إذا أبو جهل، فقال: من هذا الذي يطوف بالكعبة، فقال سعد: أنا سعد، فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة آمنا وقد آويتم محمدًا وأصحابه؟ فقال: نعم, فتلاحيا([13]) بينهما, فقال أمية لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي. ثم قال سعد: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام، قال: فجعل أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك، وجعل يمسكه فغضب سعد فقال: دعنا عنك. فإني سمعت محمدًا صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك، قال: إياي؟ قال: نعم. قال: والله ما يكذب محمد إذا حدث، فرجع إلى امرأته فقال: أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي؟ قالت: وما قال؟ قال: زعم أنه سمع محمدًا يزعم أنه قاتلي، قالت: فوالله ما يكذب محمد، قال: فلما خرجوا إلى بدر جاء الصريخ, قالت له امرأته: أما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: فأراد ألا يخرج، فقال له أبو جهل: إنك من أشراف الوادي، فسر يومًا أو يومين، فسار معهم يومين فقتله الله([14]).
2- مصارع الطغاة:
فعن أنس بن مالك t قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال، وكنت رجلا حديد البصر([15]) فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري، قال فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟ فجعل يقول لا يراه، قال: يقول عمر: سأراه وأنا مستلقٍ على فراشي، ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول: «هذا مصرع فلان غدًا، إن شاء الله» قال: فقال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم([16]).
3- إخبار العباس بن عبد المطلب بالمال الذي دفنه, وإعلام عمير بن وهب بالحديث الذي حدث بينه وبين صفوان:
ومن ذلك لما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمه دفع الفداء، وأجابه العباس: ما ذاك عندي يا رسول الله، فقال له: «أين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقلتَ لها: إن أصبت في سفري هذا، فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبد الله وقثم»، قال: والله يا رسول الله، إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا الأمر ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل. وما حدَّث به عمير بن وهب لما جاء متظاهرًا بفداء ابنه، وهو يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق مع صفوان بن أمية، فقد أنبأه نبأ المؤامرة، فكانت سببًا في إسلامه وصدق إيمانه([17]).
وذكر ابن القيم في زاد المعاد: أن سيف عُكَّاشة بن محصن انقطع يومئذ، فأعطاه
النبي صلى الله عليه وسلم جذلا من حطب، فقال: «دونك هذا» فلما أخذه عكاشة وهزه، عاد في يده سيفًا طويلاً شديدًا أبيض، فلم يزل عنده يقاتل به حتى قتل في الردة أيام أبي بكر([18]). وقال رفاعة بن رافع: رميت بسهم يوم بدر، ففقئت عيني، فبصق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لي، فما آذاني منها شيء([19]).
قال الدكتور أبو شهبة: وما ينبغي لأحد أن يزعم أن المعجزات الحسية لا ضرورة إليها بعد القرآن، فها هي قد بدت آثارها واضحة جلية في إسلام البعض، وتقوية يقين البعض الآخر، وإثبات أنه نبي يوحى إليه، فقد أخبر بمغيبات انتفى في العلم بها كل احتمال إلا أنه خبر السماء، وغير خفي ما يحدثه من انقلاب عود أو عرجون في يد صاحبه سيفا بَتَّارًا في إيمانه وتقوية يقينه، وجهاده به جهادًا لا يعرف التردد أو الخور، وحرصه البالغ على أن يخوض المعارك بسيف خرقت به العادة وصار مثلاً وذكرى في الأولين والآخرين([20]).
خامسًا: حكم الاستعانة بالمشرك:
في غزوة بدر -في الأحداث التي سبقتها- أراد مشرك أن يلحق بجيش المسلمين, وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الموافقة على قبوله معهم، والاشتراك فيما هم ذاهبون إليه فقال صلى الله عليه وسلم: «ارجع فلن أستعين بمشرك»([21]) فالحديث يبين أن القاعدة والأصل عدم الاستعانة بغير المسلم في الأمور العامة، ولهذه القاعدة استثناء، وهو جواز الاستعانة بغير المسلم بشروط معينة وهي: تحقق المصلحة، أو رجحانها بهذه الاستعانة، وألا يكون ذلك على حساب الدعوة ومعانيها، وأن يتحقق الوثوق الكافي بمن يستعان به، وأن يكون تابعًا للقيادة الإسلامية، لا متبوعًا، ومقودًا فيها لا قائدًا لها، وألا تكون هذه الاستعانة. مثار شبهة لأفراد المسلمين، وأن تكون هناك حاجة حقيقية لهذه الاستعانة وبمن يستعان به، فإذا تحققت هذه الشروط جازت الاستعانة على وجه الاستثناء، وإذا لم تتحقق لم تجز الاستعانة. وفي ضوء هذا الأصل رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتراك المشرك مع المسلمين في مسيرهم إلى عير قريش إذ لا حاجة به أصلاً, وفي ضوء الاستثناء وتحقق شروطه استعان النبي صلى الله عليه وسلم بالمشرك عبد الله بن أريقط الذي استأجره النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في هجرتهما إلى المدينة؛ ليدلهما على الطريق إليها.. وهكذا على هذا الاستثناء وتحقق شروطه قبل صلى الله عليه وسلم حماية عمه أبي طالب له، كما قبل جوار أو إجارة المطعم بن عدي له عند رجوعه عليه الصلاة والسلام من الطائف، وكذلك قبول الصحابة الكرام جوار من أجارهم من المشركين ليدفع هؤلاء الأذى عمن أجاروهم([22]). وضبط هذه القاعدة مع فهم شروط الاستثناء في واقع الحياة يحتاج إلى فقه دقيق وإيمان عميق.
سادسًا: حذيفة بن اليمان، وأسيد بن الحضير رضي الله عنهما:
1- حذيفة بن اليمان ووالده: قال حذيفة: ما منعنا أن نشهد بدرًا إلا أني وأبي أقبلنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأخذنا كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده إنما نريد المدينة، فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لتصيرن إلى المدينة ولا تقاتلوا مع محمد صلى الله عليه وسلم، لما جاوزناهم أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ما قالوا وما قلنا لهم فيما ترى؟ قال: نستعين الله عليهم ونفي بعهدهم، فانطلقنا إلى المدينة، فذاك الذي منعنا أن نشهد بدرًا([23]).
هذه صورة مشرقة في حرص النبي صلى الله عليه وسلم لحفظ العهود، وتربية أصحابه على تطبيق مكارم الأخلاق الرفيعة، وإن كان في ذلك إجحاف بالمسلمين ومفوت لهم جهد بعض أفراد المجاهدين.
2- أسيد بن الحضير: عندما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قادمًا من بدر لقي بالروحاء رؤوس الناس يهنئونه بما فتح الله عليه، فقال أسيد بن الحضير: يا رسول الله، الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك، والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوًا، ولكن ظننت أنها عير، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدقت»([24]).
سابعا: الحرب الإعلامية في بدر:
قال حسان t:
وإن كثُروا وأجمعت الزحوف | | فما نخشى بحول الله قومًا |
كفانا حدَّهم ربٌّ رؤوف | | إذا ما ألَّبُوا جمعًا علينا |
سِراعًا ما تضعفنا الحتوف([25]) | | سمونا يوم بدر بالعوالي |
لمن عادوا إذا لقحت كشوف | | فلم تر عصبة في الناس أنكى |
مآثرنا ومعقلنا السيوف | | ولكنا توكلنا وقلنا |
ونحن عصبة وهم ألوف([26]) | | لقيناهم بها لما سمونا |
وقال كعب بن مالك t:
ولا صبروا به عند اللقاء | | لما حامت فوارسكم ببدر |
دُجى الظلماء عنا والغطاء | | وردناه بنور الله يجلو |
من أمر الله أُحكم بالقضاء | | رسول الله يقدمنا بأمر |
وما رجعوا إليكم بالسواء | | فما ظفرت فوارسكم ببدر |
جياد الخيل تطلع من كداء | | فلا تعجل أبا سفيان وارقب |
| بنصر الله روحُ القدس فيها |
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث شعراء المسلمين على القيام بواجبهم في الدفاع عن المسلمين وإخافة الأعداء بشعرهم، فقد كان الشعر يمثل الحملات الإعلامية المؤثرة في دنيا العرب, فيرفع أقوامًا ويخفض آخرين, ويشعل الحروب ويطفئها([29]). كانت بوادر الحرب الإعلامية قد اندلعت منذ الهجرة، غير أن ظهورها أكثر بدأ مع حركة السرايا قبيل بدر، لكنها انفجرت انفجارًا ضخمًا بعد بدر؛ لأن الجانب الإعلامي للقبائل المجاورة كان هدفًا مهمًّا من أهداف الفريقين، ويظهر أن القصائد سرعان ما تطير بها الركبان بين يثرب ومكة، فيأتي الرد من الطرف الآخر، فعند النصر تكثر أشعار الفريق المنتصر، بينما تكثر المراثي عند الفريق الثاني، وكان الصف الإسلامي يضم شعراء متخصصين، كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وكان أشدهم على الكفار حسان([30]).
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق