" سفرُ أيّوبَ " لبدر شاكر السيّاب :
لكَ الحمْدُ مهْما استطالَ البلاءْ ومهما استبدَّ الألمْ،
لكَ الحمدُ، إنَّ الرزايا عطاءْ
وإنَّ المصيباتِ بعضُ الكَرمْ.
ألَمْ تُعْطِني أنْتَ هذا الظَّلامْ
وأعطيْتني أنتَ هذا السَّحَرْ ؟
فهلْ تشكُرُ الأرضُ قطْرَ المطَرْ
وتغضبُ إنْ لمْ يجُدْها الغَمامْ ؟
شهورٌ طِوالٌ وهذي الجِراحْ
تُمزِّقُ جنبيَّ مثلَ المُدى
ولا يهْدأُ الدَّاءُ عندَ الصباحْ
ولا يمسحُ الليْلُ أوْجاعَهُ بالرّدى
ولكنَّ أيوبَ إنْ صاحَ صاحْ:
"لكَ الحمْدُ، إنَّ الرزايا ندى،
وإنَّ الجراحَ هدايا الحبيبْ
أضمُّ إلى الصَّدْرِ باقاتِها،
هداياكَ في خافقي لا تغيبْ،
هداياكَ مقبولةٌ . هاتِها!"
أشُدُّ جراحي وأهتفُ بالعائدينْ:
"ألا فانظروا واحسدوني ، فهذي هدايا حبيبي"
وإنْ مسَّتِ النارُ حُرَّ الجبينْ
توهَّمتُها قُبلةً منكَ مجبولةً من لهيبِ
جميلٌ هو السُّهْدُ أرعى سماكَ
بعيْنيَّ حتَّى تغيبَ النجومْ
ويلمسَ شباكَ داري سناكْ.
جميلٌ هو الليلُ: أصْداءُ بومْ
وأبواقُ سيّارةٍ منْ بعيدْ
وآهاتُ مرْضى، وأُمٌّ تُعيدْ
أساطيرَ آبائها للوليدْ
وغاباتُ ليْلِ السُّهادِ، الغيومْ
تُحجِّبُ وجهَ السماءْ
وتجلوهُ تحتَ القمرْ.
وإنْ صاح أيوبُ كان النداءْ:
"لكَ الحمدُ يا رامياً بالقدرْ
ويا كاتباً ـ بعدَ ذاكَ ـ الشفاء!".
فعلاً لا شيءَ من نعيم ِ الدّنيا يُعادلُ نعمة َ الأنس ِ باللهِ ، والتواصل ِ بذكرهِ والانطراح ِ بينَ يديهِ ، في لحظاتِ الفقر ِ والحاجةِ إليه سُبحانهُ ، وأكملُ ما يكونُ العبدُ من مقام ٍ وطريقةٍ في سيرهِ إلى اللهِ هو مقامُ التذلل ِ والانكسار ِ وإظهار ِ الحاجةِ المُلحّةِ إليهِ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق