فصل الحلف بالطلاق من الأيمان التي تدخلها الكفارة
المخرج الثاني عشر اخذه بقول من يقول الحلف بالطلاق من الايمان الشرعية التي تدخلها الكفارة وهذا أحد الأقوال في المسألة حكاه أبو محمد ابن حزم في كتاب مراتب الاجماع له فقال واختلفوا فيمن حلف بشئ غير أسماء الله أوبنحر ولده أوهديه أواجنبي أوبالمصحف أو بالقران أوبنذر اخرجه مخرج اليمين أوبأنه مخالف لدين المسلمين أوبطلاق أوبظهار أوتحريم شئ من ماله ثم ذكر صورا أخرى ثم قال فاختلفوا في جميع هذه الامور أفيها كفارة ام لا ثم قال واختلفوا في اليمين بالطلاق اهو طلاق فيلزم أوهو يمين فلا يلزم حكى في كونه طلاقا فيلزم أويمينا لا يلزم قولين وحكى قبل ذلك هل فيه كفارة ام لا على قولين واختار هو الا يلزم ولا كفارة فيه وهذا اختيار شيخنا ابى محمد بن تيمية اخى شيخ الاسلام
قال شيخ الاسلام والقول بأنه يمين مكفرة هو مقتضى المنقول عن الصحابة في الحلف بالعتق بل بطريق الأولى فإنهم اذا افتوا من قال إن لم افعل كذا فكل مملوك لى حر بأنه يمين تكفر فالحالف بالطلاق اولى قال وقد علق القول به ابو ثور فقال إن لم تجمع الامة على لزومه فهو يمين تكفر وقد تبين أن الامة لم تجمع على لزومه وحكاه شيخ الاسلام عن جماعة من العلماء الذين سمت هممهم وشرفت نفوسهم فارتفعت عن حضيض التقليد المحض الى أوج النظر والاستدلال ولم يكن مع خصومه ما يردون به عليه اقوى من الشكاية الى السلطان فلم يكن له برد هذه الحجة قبل وأما ما سواها فبين فساد جميع حججهم ونقضها أبلغ نقض وصنف في المسألة ما بين مطول ومتوسط ومختصر ما يقارب الفى ورقة وبلغت الوجوه التي
استدل بها عليها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس وقواعد إمامه خاصة وغيره من الائمة زهاء أربعين دليلا وصار الى ربه وهو مقيم عليها داع اليها مباهل لمنازعيه باذل نفسه وعرضه وأوقاته لمستفتيه فكان يفتى في الساعة الواحدة فيها بقلمه ولسانه أكثر من أربعين فتيا فعطلت لفتاواه مصانع التحليل وهدمت صوامه وبيعه وكسدت سوقه وتقشعت سحائب اللعنه عن المحللين والمحلل لهم من المطلقين وقامت سوق الاستدلال بالكتاب والسنة والاثار السلفية وانتشرت مذاهب الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة الاسلام للطالبين وخرج من حبس تقليد المذهب المعين به من كرمت عليه نفسه من المستبصرين فقامت قيامه اعدائه وحساده ومن لا يتجاوز ذكر اكثرهم باب داره أومحلته وهجنوا ما ذهب اليه بحسب المستجيبين لهم غاية التهجين فمن استخفوه من الطغام واشباه الانعام قالوا هذا قد رفع الطلاق بين المسلمين وكثر أولاد الزنا في العالمين ومن صادفوا عنده مسكة عقل ولب قالوا هذا قد أبطل الطلاق المعلق بالشرط وقالوا لمن تعلقوا به من الملوك والولاة هذا قد حل بيعة السلطان من اعناق الحالفين ونسوا انهم هم الذين حلوها بخلع اليمين وأما هو فصرح في كتبه ان ايمان الحالفين لا تغير شرائع الدين فلا يحل لمسلم حل بيعه السلطان بفتوى احد من المفتين ومن أفتى بذلك كان من الكاذبين المفترين على شريعة احكم الحاكمين ولعمر الله لقد منى من هذا بما منى به من سلف من الائمة المرضيين فما اشبه الليلة بالبارحة للناظرين فهذا مالك بن أنس توصل أعداؤه الى ضربه بأن قالوا للسلطان إنه يحل عليك أيمان البيعة بفتواه ان يمين المكره لا تنعقد وهم يحلفون مكرهين غير طائعين فمنعه السلطان فلم يمتنع لما اخذه الله من الميثاق على من آتاه الله علما ان يبينه للمسترشدين ثم تلاه على اثره محمد بن ادريس الشافعي فوشى به اعداؤه الى الرشيد انه يحل
ايمان البيعة بفتواه ان اليمين بالطلاق قبل النكاح لا تنعقد ولا تطلق إن تزوجها الحالف وكانوا يحلفونهم في جملة الايمان وان كل امرأة اتزوجها فهي طالق وتلاهما على اثارهما شيخ الاسلام فقال حساده هذا ينقض عليكم ايمان البيعة فما فت ذلك في عضدا ائمة الاسلام ولا ثنى عزمانهم في الله وهممهم ولا صدهم ذلك عما اوجب الله عليهم اعتقاده والعمل به من الحق الذي اداهم اليه اجتهادهم بل مضوا لسبيلهم وصارت اقوالهم اعلاما يهتدي بها المهدون تحقيقا لقوله تعالى وجعلناهم ائمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون
الصحابة والتابعون ومن بعدهم افتوا بمثل ما قلنا
ومن له اطلاع وخبرة وعناية بأقوال العلماء يعلم انه لم يزل في الاسلام من عصر الصحابة من يفتي في هذه المسألة بعدم اللزوم والى الآن
فأما الصحابة فقد ذكرنا فتاواهم في الحلف بالعتق بعدم اللزوم وان الطلاق اولى منه وذكرنا فتوى علي بن ابي طالب كرم الله وجهه بعدم لزوم اليمين بالطلاق وانه لا مخالف له من الصحابة
واما التابعون فذكرنا فتوى طاوس بأصح اسناد عنه وهو من اجل التابعين وافتى عكرمة وهو من اغزر اصحاب ابن عباس علما على ما افتى به طاوس سواء قال سنيد بن داود في تفسيره المشهور في قوله تعالى يا ايها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر حدثنا اسماعيل بن ابراهيم عن سليمان التيمي عن ابي مجلز في قوله تعالى يا ايها الذين امنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر قال النذور في المعاصي حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن عاصم الاحول عن عكرمة في رجل قال لغلامه ان لم
اجلدك مائة سوط فامرأته طالق قال لا يجلد غلامه ولا تطلق امراته هذا من خطوات الشيطان
واما من بعد التابعين فقد حكى المعتنون بمذاهب العلماء كأبي محمد بن حزم وغيره ثلاثة اقوال في ذلك للعلماء واهل الظاهر لم يزالوا متوافرين على عدم لزوم الطلاق للحالف به ولم يزل منهم الائمة والفقهاء والمصنفون والمقلدون لهم وعندنا بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها عن جماعة من اهل العلم الذين هم اهله في عصرنا وقبله انهم كانوا يفتون بها احيانا فأخبرني صاحبنا الصادق محمد بن شهوان قال اخبرني شيخنا الذي قرات عليه القران وكان اصدق الناس الشيخ محمد بن المحلى قال اخبرني شيخنا الامام خطيب جامع دمشق عز الدين الفاروقي قال كان والدي يرى هذه المسأله ويفتي بها ببغداد
واما اهل المغرب فتواتر عمن يعتني بالحديث ومذاهب السلف منهم انه كان يفتي بها واوذي بعضهم على ذلك وضرب وقد ذكرنا فتوى القفال في قوله الطلاق يلزمني انه لا يقع به طلاق وان نواه وذكرنا فتاوى اصحاب ابي حنيفة في ذلك وحكايتهم اياه عن الامام نصا وذكرنا فتوى اشهب من المالكيةفيمن قال لا مراته ان خرجت من داري أوكلمت فلانا ونحو ذلك فأنت طالق ففعلت لم تطلق ولا يختلف عالمان متحليان بالانصاف ان اختيارات شيخ الاسلام لا تتقاصرعن اختيارات ابن عقيل وابي الخطاب بل وشيخهما ابي يعلى فإذا كانت اختيارات هؤلاء وامثالهم وجوها يفتي بها في الاسلام ويحكم بها الحكام فلا اختيارات شيخ الاسلام اسوة بها ان لم ترجح عليها والله المستعان وعليه التكلان
فصل
في جواز الفتوى بالاثار السلفية والفتاوي الصحابية وإنها اولى بالاخذبها من آراء المتأخرين وفتاويهم وأن قربها الى الصواب بحسب قرب اهلها من عصر الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأن فتاوي الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوي التابعين وفتاوي التابعين أولى من فتاوي تابعي التابعين وهلم جرا وكما كان العهد بالرسول اقرب كان الصواب اغلب وهذا حكم بحسب الجنس لا بحسب كل فرد فرد من المسائل كما ان عصر التابعين وإن كان افضل من عصر تابعيهم فإنما هو بحسب الجنس لا بحسب كل شخص شخص ولكن المفضلون في العصر المتقدم اكثر من المفضلين في العصر المتأخر وهكذا الصواب في أقوالهم اكثر من الصواب في أقوال من بعدهم فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين ولعله لا يسع المفتى والحاكم عند الله ان يفتى ويحكم بقول فلان وفلان من المتأخرين من مقلدي الائمة ويأخذ برأيه وترجيحه ويترك الفتوى والحكم بقول البخاري واسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمد بن نصر المروزي وأمثالهم بل يترك قول ابن المبارك والاوزاعي وسفيان بن عيينة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهم بل لا يلتفت الى قول ابن أبي ذئب والزهري والليث بن سعد وأمثالهم بل لا يعد قول سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وسالم وعطاء وطاوس وجابر بن زيد وشريح وأبي وائل وجعفر بن محمد واضرابهم مما يسوغ الاخذ به بل يرى تقديم قول المتأخرين من أتباع من قلده على فتوى ابي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلى وابن مسعود وأبي بن كعب وابي الدرداء وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبادة بن الصامت وابي موسى الاشعري وأضرابهم فلا يدري ما عذره غدا عند الله إذا سوى بين أقوال
أولئك وفتاويهم واقوال هؤلاء وفتاويهم فكيف إذا رجحها عليها فكيف اذا عين الاخذ بها حكما وإفتاء ومنع الاخذ بقول الصابة واستجاز عقوبة من خالف المتاحرين لها وشهد عليه بالبدعة والضلالة ومخالفة اهل العلم وانه يكيد الاسلام تالله لقد أخذ بالمثل المشهور رمتنى بدائها وانسلت وسمى ورثة الرسول باسمه هو وكساهم اثوابه ورماهم بدائه وكثير من هؤلاء يصرخ ويصيح ويقول ويعلن انه يجب على الامة كلهم الاخذ بقول من قلدناه ديننا ولا يجوز الاخذ بقول ابي بكر وعمر وعثمان وعلى وغيرهم من الصحابة وهذا كلام من أخذ به وتقلده ولاه الله ما تولى ويجزيه عليه يوم القيامة الجزاء الأوفى والذي ندين الله به ضد هذا القول والرد عليه فنقول
اختلاف الصحابيين
إذا قال الصحابي قولا فإما أن يخالفه صحابي آخر أولا يخالفه فإن خالفه مثله لم يكن قول احدهما حجة على الاخر وإن خالفه أعلم منه كما اذا خالف الخلفاء الراشدون أوبعضهم غيرهم من الصحابة في حكم فهل يكون الشق الذي فيه الخلفاء الراشدون أوبعضهم حجة على الاخرين فيه قولان للعلماء وهما روايتان عن الامام احمد والصحيح ان الشق الذي فيه الخلفاء أوبعضهم أرجح وأولى ان يؤخذ به من الشق الاخر فإن كان الاربعة في شق فلا شك انه الصواب وإن كان أكثرهم في شق فالصواب فيه أغلب وإن كانوا اثنين واثنين فشق ابي بكر وعمر أقرب الى الصواب فإن اختلف ابو بكر وعمر فالصواب مع ابي بكر وهذه جملة لا يعرف تفصيلها إلا من له خبرة واطلاع على ما اختلف فيه الصحابة وعلى الراجح من أقوالهم ويكفى في ذلك معرفة رجحان قول الصديق في الجد والاخوة وكون الطلاق الثلاث بفم واحد مرة واحدة وإن تلفظ فيه بالثلاث وجواز بيع أمهات الاولاد وإذا نظر العالم المنصف في أدلة هذه المسائل من الجانبين تبين له ان جانب الصديق ارجح وقد
تقدم بعض ذلك في مسالة الجد والطلاق الثلاث بفم واحد ولا يحفظ للصديق خلاف نص واحد ابدا ولا يحفظ له فتوى ولا حكم مأخذها ضعيف ابدا وهو تحقيق لكون خلافته خلافة نبوه
فصل اتفاق الصحابيين
وإن لم يخالف الصحابي صحابيا آخر فإما أن يشتهر قوله في الصحابة أولا يشتهر فإن اشتهر فالذي عليه جماهير الطوائف من الفقهاء انه إجماع وحجة وقالت طائفة منهم هو حجة وليس بإجماع وقالت شرذمة من المتكلمين وبعض الفقهاء المتأخرين لا يكون إجماعا ولا حجة وإن لم يشتهر قوله أولم يعلم هل اشتهر ام لا فاختلف الناس هل يكون حجة ام لا فالذي عليه جمهور الامة انه حجة هذا قول جمهور الحنفية صرح به محمد بن الحسن وذكر عن ابي حنيفة نصا وهو مذهب مالك وأصحابه وتصرفه في موطئه دليل عليه وهو قول إسحاق ابن راهويه وأبي عبيد وهو منصوص الامام احمد في غير موضع عنه واختيار جمهور اصحابه وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد أما القديم فأصحابه مقرون به واما الجديد فكثير منهم يحكى عنه فيه انه ليس بحجة وفي هذه الحكاية عنه نظر ظاهر جدا فإنه لا يحفظ له في الجديد حرف واحد أن قول الصحابي ليس بحجة وغاية ما يتعلق به من نقل ذلك انه يحكى أقوالا للصحابة في الجديد ثم يخالفها ولو كانت عنده حجة لم يخالفها وهذا تعلق ضعيف جدا فإن مخالفة المجتهد الدليل المعين لما هو أقوى في نظره منه لا يدل على أنه لا يراه دليلا من حيث الجملة بل خالف دليلا لدليل أرجح عنده منه وقد تعلق بعضهم بأنه يراه في الجديد إذا ذكر اقوال الصحابة موافقا لها لا يعتمد عليها وحدها كما يفعل بالنصوص بل يعضدها بضروب من الاقيسة فهو تارة يذكرها ويصرح بخلافها وتارة يوافقها ولا يعتمد عليها بل يعضدها بدليل آخر وهذا
ايضا تعلق اضعف من الذي قبله فإن تظاهر الادلة وتعاضدها وتناصرها من عادة اهل العلم قديما وحديثا ولا يدل ذكرهم دليلا ثانيا وثالثا على ان ما ذكروه قبله ليس بدليل
وقد صرح الشافعي في الجديد من رواية الربيع عنه بأن قول الصحابة حجة يجب المصير إليه فقال المحدثات من الامور ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أوسنة أوإجماعا أوأثرا فهذه البدعة الضلالة والربيع إنما أخذ عنه بمصر وقد جعل مخالفة الأثر الذي ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ضلالة وهذا فوق كونه حجة وقال البيهقي في كتاب مدخل السنن له باب ذكر أقاويل الصحابة إذا تفرقوا قال الشافعي أقاويل الصحابة إذا تفرقوا فيها نصير إلى ما وافق الكتاب والسنة أوالإجماع إذا كان أصح في القياس وإذا قال الواحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم فيه له موافقة ولا خلاف صرت إلى اتباع قوله إذا لم أجد كتابا ولا سنة ولا إجماعا ولا شيئا في معناه يحكم له بحكمه أووجد معه قياس قال البيقهي وقال في كتاب اختلافه مع مالك ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر على من سمعه مقطوع إلا بإتيانه فإن لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل الصحابة أوواحد منهم ثم كان قول الائمة ابي بكر وعمر وعثمان اذا صرنا الى التقليد احب الينا وذلك اذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على اقرب الاختلاف من الكتاب والسنة فنتبع القول الذي معه الدلالة لان قول الامام مشهور بانه يلزم الناس ومن لزم قوله الناس كان اشهر ممن يفتي الرجل أوالنفر وقد يأخذ بفتياه ويدعها واكثر المفتين يفتون الخاصة في بيوتهم ومجالسهم ولا يعتني العامة بما قالوا عنايتهم بما قال الامام وقد وجدنا الأئمة ينتدبون فيسألون عن العلم من الكتاب والسنة فيما ارادوا ان يقولوا فيخبرون بخلاف قولهم فيقبلون من المخبر ولا يستنكفون عن ان يرجعوا لتقواهم الله وفضلهم فإذا لم يوجد عن الائمة فأصحاب رسول الله ص - في الدين في موضع الامانة اخذنا بقولهم وكان اتباعهم اولى بنا من اتباع من بعدهم
قال الشافعي رضي الله عنه والعلم طبقات الاولى الكتاب والسنة
الثانية الاجماع فيما ليس كتابا ولا سنة الثالثة ان يقول صحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة الرابعة اختلاف الصحابة الخامسة القياس هذا كله كلامه في الجديد
قال البيهقي بعد ان ذكر هذا وفي الرسالة القديمة للشافعي بعد ذكر الصحابة وتعظيمهم قال وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل امر استدرك به علم وآراؤهم لنا احمد واولى بنا من راينا ومن ادركنا ممن نرضى أوحكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا فيه سنة الى قولهم إن اجتمعوا أوقول بعضهم إن تفرقوا وكذا نقول ولم نخرج من أقوالهم كلهم
قال وإذا قال الرجلان منهم في شئ قولين نظرت فإن كان قول احدهما اشبه بالكتاب والسنة أخذت به لان معه شيئا قويا فإن لم يكن على واحد من القولين دلالة بما وصفت كان قول الائمة ابي بكر وعمر وعثمان أرجح عندنا من واحد لو خالفهم غير إمام
قال البيهقى وقال في موضع آخر فإن لم يكن على القول دلالة من كتاب ولا سنة كان قول ابي بكر وعمر وعثمان احب الى من قول غيرهم فإن اختلفوا صرنا الى القول الذي عليه دلالة وقلما يخلو اختلافهم من ذلك وإن اختلفوا بلا دلالة نظرنا الى الاكثر فإن تكافئوا نظرنا احسن أقاويلهم مخرجا عندنا وإن وجد للمفتين في زماننا أو قبله إجماعا في شيء تبعناه فإذا نزلت نازله لم نجد فيها واحدة من هذه الامور فليس إلا اجتهاد الرأي
فهذا كلام الشافعي رحمه الله ورضى عنه بنصه ونحن نشهد بالله أنه لم يرجع عنه بل كلامه في الجديد مطابق لهذا موافق له كما تقدم ذكر لفظه وقد قال في الجديد في قتل الراهب إنه القياس عنده ولكن أتركه لقول ابي بكر الصديق رضى الله عنه فقد أخبرنا انه ترك القياس الذي هو دليل عنده لقول الصاحب فكيف يترك موجب الدليل لغير دليل وقال في الضلع بعير قلته تقليدا لعمر وقال في موضع آخر قلته تقليدا لعثمان وقال في الفرائض هذا مذهب تلقيناه
عن زيد ولا تستوحش من لفظة التقليد في كلامه وتظن انها تنفي كون قوله حجة بناء على ما تلقيته من اصطلاح المتأخرين أن التقليد قبول قول الغير بغير حجة فهذا اصطلاح حادث وقد صرح الشافعي في موضع من كلامه بتقليد خبر الواحد فقال قلت هذا تقليدا للخبر وأئمة الاسلام كلهم على قبول قول الصحابي قال نعيم بن حماد ثنا ابن المبارك قال سمعت أبا حنيفة يقول إذا جاء عن النبي ص - فعلى الرأس والعين وإذا جاء عن الصحابة نختار من قولهم وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم وذهب بعض المتأخرين من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة وأكثر المتكلمين الى انه ليس بحجة وذهب بعض الفقهاء الى أنه إن خالف القياس فهو حجة وإلا فلا قالوا لأنه إذا خالف القياس لم يكن إلا عن توقيف وعلى هذا فهو حجة وإن خالفه صحابي آخر والذين قالوا ليس بحجة قالو لان الصحابي مجتهد من المجتهدين يجوز عليه الخطأ فلا يجب تقليده ولا يكون حجة كسائر المجتهدين ولان الادلة الدالة على بطلان التقليلد تعم تقليد الصحابة ومن دونهم ولأن التابعي إذا ادرك عصر الصحابة اعتد بخلافه عند أكثر الناس فكيف يكون قول الواحد حجة عليه ولان الادلة قد انحصرت في الكتاب والسنة والاجماع والقياس والاستصحاب وقول الصحابي ليس واحدا منها ولان امتيازه بكونه افضل واعلم وأتقى لا يوجب وجوب اتباعه على مجتهد آخر من علماء التابعين بالنسبة الى من بعدهم
فنقول الكلام في مقامين أحدهما في الادلة الدالة على وجوب اتباع الصحابة الثاني في الجواب عن شبه النفاة
الادلة على ان اتباع الصحابة واجب
فاما الاول فمن وجوه احدها ما احتج به مالك وهو قوله تعالى والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه واعد لهم جنات تجري تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم فوجه الدلالة ان الله أثنى على من اتبعهم فإذا قالوا قولا
فاتبعهم متبع عليه قبل ان يعرف صحته فهو متبع لهم فيجب ان يكون محمودا على ذلك وان يستحق الرضوان ولو كان اتباعهم تقليدا محضا كتقليد بعض المفتين لم يستحق من اتبعهم الرضوان إلا ان يكون عاميا فأما العلماء المجتهدون فلا يجوز لهم اتباعهم حينئذ
فإن قيل اتباعهم هو ان يقول ما قالوا بالدليل وهو سلوك سبيل الاجتهاد لانهم إنما قالوا بالاجتهاد والدليل عليه قوله بإحسان ومن قلدهم لم يتبعهم بإحسان لأنه لو كان مطلق الاتباع محمودا لم يفرق بين الاتباع بإحسان أوبغير إحسان وايضا فيجوز أن يراد به اتباعه في اصول الدين وقوله بإحسان أي بالتزام الفرائض واجتناب المحارم ويكون المقصود ان السابقين قد وجب لهم الرضوان وإن أساءوا لقوله ص -
وما يدريك ان الله قد اطلع على اهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأيضا فالثناء على من اتبعهم كلهم وذلك اتباعهم فيما اجمعوا عليه وايضا فالثناء على من اتبعهم لا يقتضي وجوبه وإنما يدل على جواز تقليدهم وذلك دليل على جواز تقليد العالم كما هو مذهب طائفة من العلماء أوتقليد الاعلم كقول طائفة اخرى اما الدليل على وجوب اتباعهم فليس في الاية ما يقتضيه
فالجواب من وجوه
أحدها أن الاتباع لا يستلزم الاجتهاد لوجوده احدها ان الاتباع المأمور به في القران كقوله فاتبعوني يحببكم الله واتبعوه لعلكم تهتدون ويتبع غير سبيل المؤمنين ونحوه لا يتوقف على الاستدلال على صحة القول مع الاستغناء عن القائل الثاني انه لو كان المراد اتباعهم في الاستدلال والجهاد لم يكن فرق بين السابقين وبين جميع الخلائق لان اتباع موجب الدليل يجب ان يتبع فيه كل احد فمن قال قولا بدليل صحيح وجب موافقته فيه الثالث أنه إما ان تجوز مخالفتهم في قولهم بعد الاستدلال أولا تجوز فإن لم تجز فهو المطلوب وإن جازت مخالفتهم فقد خولفوا في خصوص الحكم واتبعوا في
احسن الاستدلال فليس جعل من فعل ذلك متبعا لموافقتهم في الاستدلال بأولى من جعله مخالفا لمخالفته في عين الحكم الرابع ان من خالفهم في الحكم الذي أفتوا به لا يكون متبعا لهم أصلا بدليل ان من خالف مجتهدا من المجتهدين في مسألة بعد اجتهاد لا يصح ان يقال اتبعه وان اطلق ذلك فلا بد من تقييده بأن يقال اتبعه في الاستدلال أوالاجتهاد الخامس ان الاتباع افتعال من اتبع وكون الانسان تابعا لغيره نوع افتقار اليه ومشى خلفه وكل واحد من المجتهدين المستدلين ليس تبعا للآخر ولا مفتقرا اليه بمجرد ذلك حتى يستشعر موافقته والانقياد له ولهذا لا يصح ان يقال لمن وافق رجلا في اجتهاده أوفتواه اتفاقا انه متبع له السادس ان الاية قصد بها مدح السابقين والثناء عليهم وبيان استحقاقهم ان يكونوا ائمة متبوعين وبتقدير الا يكون قولهم موجبا للموافقة ولا مانعا من المخالفة بل انما يتبع القياس مثلا لا يكون لهم هذا المنصب ولا يستحقون هذا المدح والثناء السابع ان من خالفهم في خصوص الحكم فلم يتبعهم في ذلك الحكم ولا فيما استدلوا به على ذلك الحكم فلا يكون متبعا لهم بمجرد مشاركتهم في صفة عامة وهي مطلق الاستدلال والاجتهاد ولا سيما وتلك الصفة العامة لا اختصاص لها به لان ما ينفى الاتباع اخص مما يثبته واذا وجد الفارق الاخص والجامع الاعم وكلاهما مؤثر كان التفريق رعاية للفارق أولى من الجمع رعاية للجامع وأما قوله بإحسان فليس المراد به ان يجتهد وافق أوخالف لانه اذا خالف لم يتبعهم فضلا عن ان يكون بإحسان ولان مطلق الاجتهاد ليس فيه اتباع لهم لكن الاتباع لهم اسم يدخل فيه كل من وافقهم في الاعتقاد والقول فلا بدمع ذلك ان يكون المتبع محسنا بأداء الفرائض واجتناب المحارم لئلا يقع الاغترار بمجرد الموافقة قولا وايضا فلا د ان يحسن المتبع لهم القول فيهم ولا يقدح فيهم اشتراط الله ذلك لعلمه بأن سيكون اقوام ينالون منهم وهذا مثل قوله تعالى بعد ان ذكر المهاجرين والانصار والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين
سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا وأما تخصيص اتباعهم بأصول الدين دون فروعه فلا يصح لان الاتباع عام ولان من اتبعهم في اصول الدين فقط لو كان متبعا لهم على الإطلاق لكنا متبعين للمؤمنين من أهل الكتاب ولم يكن فرق بين اتباع السابقين من هذه الامة وغيرها وايضا فإنه اذا قيل فلان يتبع فلانا واتبع فلانا وانا متبع فلانا ولم يقيد ذلك بقرينة لفظية ولا حالية فإنه يقتضى اتباعه في كل الامور التي يتأتى فيها الاتباع لان من اتبعه في حال وخالفه في أخرى لم يكن وصفه بأنه متبع أولى من وصفه بأنه مخالف ولأن الرضوان حكم تعلق باتباعهم فيكون الاتباع سببا له لان الحكم المعلق بما هو مشتق يقتضى ان ما منه الاشتقاق سبب وإذا كان اتباعهم سببا للرضوان اقتضى الحكم في جميع موارده ولا اختصاص للاتباع بحال دون حال ولأن الاتباع يؤذن بكون الانسان تبعا لغيره وفرعا عليه وأصول الدين ليست كذلك ولأن الاية تضمت الثناء عليهم وجعلهم ائمة لمن بعدهم فلو لم يتناول إلا اتباعهم في اصول الدين دون الشرائع لم يكونوا ائمة في ذلك لان ذلك معلوم مع قطع النظر عن اتباعهم
فصل اتباع الصحابة مجتمعين ومنفردين
وأما قولهم إن الثناء على من اتبعهم كلهم فنقول الاية اقتضت الثناء على من اتبع كل واحد منهم كما أن قوله والسابقون الاولون والذين اتبعوهم يقتضى حصول الرضوان لكل واحد من السابقين والذين اتبعوهم في قوله رضى الله عنهم ورضوا عنه واعد لهم جنات تجري وكذلك في قوله اتبعوهم لأنه حكم علق عليهم في هذه الآية فقد تناولهم مجتمعين ومنفردين وأيضا فإن الاصل في الاحكام المعلقة باسماء عامة ثبوتها لكل فرد فرد من تلك المسميات كقوله اقيموا الصلاة وقوله لقد رضى الله عن المؤمنين
وقوله تعالى اتقوا الله وكونوا مع الصادقين وايضا فان الاحكام المعلقة على المجموع يؤتى فيها باسم يتناول المجموع دون الافراد كقوله وكذلك جعنلكم امة وسطا وقوله كنتم خير أمة اخرجت للناس وقوله ويتبع غير سبيل المؤمنين فإن لفظ الامة ولفظ سبيل المؤمنين لا يمكن توزيعه على افراد الامة وافراد المؤمنين بخلاف لفظ السابقين فإنه يتناول كل فرد من السابقين وايضا فالآية تعم اتباعهم مجتمعين ومنفردين في كل ممكن فمن اتبع جماعتهم إذا اجتمعوا واتبع آحادهم فيما وجد عنهم مما لم يخالفه فيه غيره منهم فقد صدق عليه انه اتبع السابقين أما من خالف بعض السابقين فلا يصح ان يقال اتبع السابقين لوجود مخالفته لبعضهم لا سيما إذا خالف هذا مرة وهذا مرة وبهذا يظهر الجواب عن اتباعهم اذا اختلفوا فإن اتباعهم هناك قول بعض تلك الاقوال باجتهاد واستدلال إذ هم مجتمعون على تسوية كل واحد من تلك الاقوال لمن ادى اجتهاده اليه فقد قصد اتباعهم ايضا أما اذا قال الرجل قولا ولم يخالفه غيره فلا يعلم ان السابقين سوغوا خلاف ذلك القول وأيضا فالاية تقتضي اتباعهم مطلقا فلو فرضنا ان الطالب وقف على نص يخالف قول الواحد منهم فقد علمنا انه لو ظفر بذلك النص لم يعدل عنه اما اذا رأينا رأيا فقد يجوز ان يخالف ذلك الرأي وايضا فلو لم يكن اتباعهم إلا فيما اجمعوا عليه كلهم لم يحصل اتباعهم الا فيما قد علم انه من دين الاسلام بالاضطرار لان السابقين الاولين خلق عظيم ولم يعلم انهم اجمعوا الا على ذلك فيكون هذا الوجه هو الذي قبله وقد تقدم بطلانه اذ الاتباع في ذلك غير مؤثر وايضا فجميع السابقين قد مات منهم اناس في حياة رسول الله ص - وحينئذ فلا يحتاج في ذلك الوقت الى اتباعهم للاستغناء عنه بقول رسول الله ص - ثم لو فرضنا احدا يتبعهم إذ ذاك لكان من السابقين
فحاصله ان التابعين لا يمكنهم اتباع جميع السابقين وايضا فإن معرفة قول جميع السابقين كالمتعذر فكيف يتبعون كلهم في شئ لا يكاد يعلم وايضا فإنهم
إنما استحقوا منصب الامامة والاقتداء بهم بكونهم هم السابقين وهذه صفة موجودة في كل واحد منهم فوجب ان يكون كل منهم اماما للمتقين كما استوجب الرضوان والجنة
فصل اتباع اقوال الصحابة
وأما قوله ليس فيها ما يوجب اتباعهم فنقول الاية تقتضى الرضوان عمن اتبعهم بإحسان وقد قام الدليل على أن القول في الدين بغير علم حرام فلا يكون اتباعهم قولا بغير علم بل قولا بعلم وهذا هو المقصود وحينئذ فسواء يسمى تقليدا أواجتهادا وايضا فان كان تقليد العالم للعالم حراما كما هو قول الشافعية والحنابلة فاتباعهم بتقليد لانه مرضى وإن كان تقليدهم جائزا أوكان تقليدهم مستنثى من التقليد المحرم فلم يقل احد إن تقليد العلماء من موجبات الرضوان فعلم ان تقليدهم خارج عن هذا لان تقليد العالم إن كان جائزا فتركه الى قول غيره أوالى اجتهاد جائز ايضا بالاتفاق والشئ المباح لا يستحق به الرضوان وايضا فإن رضوان الله غاية المطالب التي تنال الا بافضل الاعمال ومعلوم ان التقليد الذي يجوز خلافه بافضل الاعمال بل الاجتهاد افضل منه فعلم ان اتباعهم هو افضل ما يكون في مسالة اختلفوا فيها هم ومن بعدهم وان اتباعهم دون من بعدهم هو الموجب لرضوان الله فلا ريب ان رجحان احد القولين يوجب اتباعه وقولهم أرجح بلا شك ومسائل الاجتهاد لا يتخير الرجل فيها بين القولين وايضا فان الله اثنى على الذين اتبعوهم بإحسان والتقليد وظيفة العامة فأما العلماء فإما ان يكون مباحا لهم أومحرما اذ الاجتهاد افضل منه لهم بغير خلاف وهو واجب عليهم فلو اريد باتباعهم التقليد الذي يجوز خلافه لكان للعامة ذلك النصيب الاوفى وكان حظ علماء الامة من هذه الاية ابخس الحظوظ ومعلوم ان هذا فاسد وايضا فالرضوان عمن اتبعهم دليل على ان اتباعهم
صواب ليس بخطأ فإنه لو كان خطأ لكان غاية صاحبه أن يعفى له عنه فإن المخطئ إلى أن يعفى عنه اقرب منه إلى أن يرضى عنه وإذا كان صوابا وجب إتباعه لان خلاف الصواب خطأ والخطأ يحرم إتباعه إذا علم انه خطأ وقد علم انه خطأ يكون الصواب خلافه وأيضا فإذا كان إتباعهم موجب الرضوان لم يكن ترك إتباعهم موجب الرضوان لان الجزاء لا يقتضيه وجود الشيء وضده ولا وجوده وعدمه لأنه يبقى عديم الأثر في ذلك الجزاء وإذا كان في المسألة قولان أحدهما يوجب الرضوان والآخر لا يوجبه كان الحق ما يوجبه وهذا هو المطلوب وأيضا فإن طلب رضوان الله واجب لأنه إذا لم يوجب رضوانه فإما سخطه أوعفوه والعفو إنما يكون مع انعقاد سبب الخطيئة وذلك لا تباح مباشرته إلا بالنص وإذا كان رضوانه إنما هو في إتباعهم وإتباع رضوانه واجب كان إتباعهم واجبا وأيضا فإنه إنما أثنى على المتبع بالرضوان ولم يصرح بالوجوب لان إيجاب الإتباع يدخل فيه الإتباع في الأفعال ويقتضى تحريم مخالفتهم مطلقا فيقتضى ذم المخطئ وليس كذلك أما الأقوال فلا وجه لمخالفتهم فيها بعدما ثبت أن فيها رضا الله تعالى وأيضا فإن القول إذا ثبت أن فيه رضا الله لم يكن رضا الله في ضده بخلاف الأفعال فقد يكون رضا الله في الأفعال المختلفة وفي الفعل والترك بحسب قصدين وحالين أما الاعتقادات والأقوال فليست كذلك فإذا ثبت أن في قولهم رضوان الله تعالى لم يكن الحق والصواب إلا هو فوجب إتباعه
فإن قيل السابقون هم الذين صلوا إلى القبلتين أوهم أهل بيعة الرضوان ومن قبلهم فما الدليل على إتباع من أسلم بعد ذلك
قيل إذا ثبت وجوب إتباع أهل بيعة الرضوان فهو أكبر المقصود على انه لا قائل بالفرق وكل الصحابة سابق بالنسبة إلى من بعدهم
فصل أدلة أخرى على وجوب إتباع أقوال الصحابة
الوجه الثاني قوله تعالى اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون هذا قصه الله سبحانه وتعالى عن صاحب ياسين على سبيل الرضاء بهذه المقالة والثناء على قائلها والإقرار له عليها وكل واحد من الصحابة لم يسألنا أجرا وهم مهتدون بدليل قوله تعالى خطابا لهم وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولعل من الله واجب وقوله تعالى ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم وقوله تعالى والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم وقوله تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وكل منهم قاتل في سبيل الله وجاهد إما بيده أوبلسانه فيكون الله قد هداهم وكل من هداه فهو مهتد فيجب إتباعه الآية
الوجه الثالث قوله تعالى واتبع سبيل من أناب إلي وكل من الصحابة منيب إلى الله فيجب إتباع سبيله وأقواله واعتقاداته من أكبر سبيله والدليل على انهم منيبون إلى الله تعالى أن الله تعالى قد هداهم وقد قال ويهدي إليه من ينيب
الوجه الرابع قوله تعالى قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني فأخبر تعالى أن من اتبع الرسول يدعو إلى الله ومن دعا إلى الله على بصيرة وجب إتباعه لقوله تعالى فيما حكاه عن الجن ورضيه ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ولان من دعا إلى الله على بصيرة فقد دعا إلى الحق عالما به
والدعاء إلى أحكام الله دعاء إلى الله لأنه دعاء إلى طاعته فيما أمر ونهى وإذا فالصحابة رضوان الله عليهم قد اتبعوا الرسول ص - فيجب إتباعهم إذا دعوا إلى الله
الوجه الخامس قوله تعالى قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى قال ابن عباس في رواية أبى مالك هم أصحاب محمد ص - والدليل عليه قوله تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا وحقيقة الاصطفاء افتعال من التصفية فيكون قد صفاهم من الأكدار والخطأ من ألا كدار فيكونون مصفين منه ولا ينتقض هذا بما إذا اختلفوا لان الحق لم يعدهم فلا يكون قول بعضهم كدرا لان مخالفته الكدر وبيانه يزيل كونه كدرا بخلاف ما إذا قال بعضهم قولا ولم يخالف فيه فلوا كان باطلا ولم يرده راد لكان حقيقة الكدر وهذا لان خلاف بعضهم لبعض بمنزلة متابعة النبي ص - في بعض أموره فإنها لا تخرجه عن حقيقة الاصطفاء
الوجه السادس أن الله تعالى شهد لهم بأنهم أوتوا العلم بقوله ويرى الذين أوتوا العلم الذين انزل إليك من ربك هو الحق وقوله حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا وقوله يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات واللام في العلم ليست للاستغراق وإنما هي للعهد أي العلم الذي بعث الله به نبيه ص - وإذا كانوا قد أوتوا هذا العلم كان إتباعهم واجبا
الوجه السابع قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله شهد لهم الله تعالى بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر فلو كانت الحادثة في زمانهم لم يفت فيها إلا من
أخطأ منهم لم يكن أحد منهم قد أمر فيها بمعروف ولا نهى فيها عن منكر إذ الصواب معروف بلا شك والخطأ منكر من بعض الوجوه ولولا ذلك لما صح التمسك بهذه الآية على كون الإجماع حجة وإذا كان هذا باطلا علم أن خطأ من يعلم منهم في العلم إذا لم يخالفه غيره ممتنع وذلك يقتضى أن قوله حجة
الوجه الثامن قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال غير واحد من السلف هم أصحاب محمد ص - ولا ريب انهم أئمة الصادقين وكل صادق بعدهم فيهم يأتم في صدقه بل حقيقة صدقه أتباعه لهم وكونه معهم ومعلوم أن من خالفهم في شئ وإن وافقهم في غيره لم يكن معهم فيما خالفهم فيه وحينئذ فيصدق عليه انه ليس معهم فتنتفى عنه ألمعية المطلقة وإن ثبت له قسط من ألمعية فيما وافقهم فيه فلا يصدق عليه أنه معهم بهذا القسط وهذا كما نفى الله ورسوله الإيمان المطلق عن الزاني والشارب والسارق والمنتهب بحيث لا يستحق اسم المؤمن وإن لم ينتف عنه مطلق الاسم الذي يستحق لاجله أن يقال معه شئ من الإيمان وهذا كما أن اسم الفقيه والعالم عند الإطلاق لا يقال لمن معه مسألة أومسألتان من فقه وعلم وإن قيل معه شئ من العلم ففرق بين ألمعية المطلقة ومطلق ألمعية ومعلوم أن المأمور به الأول لا الثاني فإن الله تعالى لم يرد منا أن نكون معهم في شئ من الأشياء وان نحصل من ألمعية ما يطلق عليه الاسم وهذا غلط عظيم في فهم مراد الرب تعالى من أوامره فإذا أمرنا بالتقوى والبر والصدق والعفة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد ونحو ذلك لم يرد منا أن نأتي من ذلك بأقل ما يطلق عليه الاسم وهو مطلق الماهية المأمور بها بحيث نكون ممتثلين لأمره إذا أتينا بذلك وتمام تقرير هذا الوجه بما تقدم في تقرير الامر بمتابعتهم سواء
الوجه التاسع قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على
الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ووجه الاستدلال بالآية انه تعالى اخبر انه جعلهم أمة خيارا عدولا هذا حقيقة الوسط فهم خير الأمم وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونياتهم وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم فهم شهداؤه ولهذا نوه بهم ورفع ذكرهم و أثنى عليهم لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء أعلم خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء وأمر ملائكته أن تصلى عليهم وتدعو لهم وتستغفر لهم والشاهد المقبول عند الله هو الذي يشهد بعلم وصدق فيخبر بالحق مستندا إلى علمه به كما قال تعالى إلا من شهد بالحق وهم يعلمون فقد يخبر الإنسان بالحق اتفاقا من غير علمه به وقد يعلمه ولا يخبر به فالشاهد المقبول عند الله هو الذي يخبر به عن علم فلو كان علمهم أن يفتى أحدهم بفتوى وتكون خطأ مخالفه لحكم الله ورسوله ولا يفتى غيره بالحق الذي هو حكم الله ورسوله إما مع اشتهار فتوى الأول أوبدون اشتهارها كانت هذه الأمة العدل الخيار قد أطبقت على خلاف الحق بل انقسموا قسمين قسما أفتى بالباطل وقسما سكت عن الحق وهذا من المستحيل فإن الحق لا يعدوهم ويخرج عنهم إلى من بعدهم قطعا ونحن نقول لمن خالف أقولهم لو كان خيرا ما سبقونا إليه
الوجه العاشر أن قوله تعالى وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأخبر تعالى أنه اجتباهم والاجتباء كالاصطفاء وهو افتعال من اجتبى الشيء يجتبيه إذا ضمه إليه وحازه إلى نفسه فهم المجتبون الذين اجتباهم الله إليه وجعلهم أهله وخاصته وصفوته من خلقه بعد النبيين والمرسلين ولهذا أمرهم تعالى أن يجاهدوا فيه حق جهاده فيبذلوا له أنفسهم ويفردوه بالمحبة والعبودية ويختاروه وحده إلها محبوبا على كل ما سواه كما اختارهم على من سواهم فيتخذونه وحده إليهم ومعبودهم الذي يتقربون إليه بألسنتهم وجوارحهم
وقلوبهم ومحبتهم وإرادتهم فيؤثرونه في كل حال على من سواه كما اتخذهم عبيده وأولياءه وأحباءه وآثرهم بذلك على من سواهم ثم أخبرهم تعالى انه يسر عليهم دينه غاية التيسير ولم يجعل عليهم فيه من حرج البتة لكمال محبته لهم ورأفته ورحمته وحنانه بهم ثم أمرهم بلزوم مله إمام الحنفاء أبيهم إبراهيم وهي إفراده تعالى وحده بالعبودية والتعظيم والحب والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والتفويض والاستسلام فيكون تعلق ذلك من قلوبهم به وحده لا بغيره ثم أخبر تعالى انه نوه بهم وأثنى عليهم قبل وجودهم وسماهم عباده المسلمين قبل أن يظهرهم ثم نوه بهم وسماهم كذلك بعد أن أوجدهم اعتناء بهم ورفعة لشأنهم واعلاء لقدرهم ثم أخبر تعالى انه فعل ذلك ليشهد عليهم رسوله ويشهدوا هم على الناس فيكونون مشهودا لهم بشهادة الرسول شاهدين على الأمم بقيام حجة الله عليهم فكان هذا التنويه وإشارة الذكر لهذين الأمرين الجليلين ولهاتين الحكمتين العظيمتين والمقصود انهم إذا كانوا بهذه المنزلة عنده تعالى فمن المحال أن يحرمهم كلهم الصواب في مسألة فيفتى فيها بعضهم بالخطأ ولا يفتى فيها غيره بالصواب ويظفر فيها بالهدى من بعدهم والله المستعان
الوجه الحادي عشر قوله تعالى ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم ووجه الاستدلال بالآية انه تعالى اخبر عن المعتصمين به بأنهم قد هدوا إلى الحق فنقول الصحابة رضوان الله عليهم معتصمون بالله فهم مهتدون فإتباعهم واجب أما المقدمة الأولى فتقريرها من وجوه أحدها قوله تعالى واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ومعلوم كمال تولى الله تعالى ونصره إياهم أتم نصره وهذا يدل على انهم اعتصموا به أتم اعتصام فهم مهديون بشهادة الرب لهم بلا شك واتباع المهدى واجب شرعا وعقلا وفطرة
بلا شك وما يرد على هذا الوجه من أن المتابعة لا تستلزم المتابعة في جميع أمورهم فقد تقدم جوابه
الوجه الثاني عشر قوله تعالى عن أصحاب موسى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون فأخبر تعالى انه جعلهم أئمة يأتم بهم من بعدهم لصبرهم ويقينهم إذ بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين فإن الداعي إلى الله تعالى لا يتم له أمره إلا بيقينه للحق الذي يدعو إليه وبصيرته به وصبره على تنفيذ الدعوة إلى الله باحتمال مشاق الدعوة وكف النفس عما يوهن عزمه ويضعف إرادته فمن كان بهذه المثابة كان من الأئمة الذين يهدون بأمره تعالى
ومن المعلوم أن أصحاب محمد ص - أحق وأولى بهذا الوصف من أصحاب موسى فهم أكمل يقينا وأعظم صبرا من جميع الأمم فهم أولى بمنصب هذه الامامه وهذا أمر ثابت بلا شك بشهادة الله لهم وثنائه عليهم وشهادة الرسول لهم بأنهم خير القرون وأنهم خيرة الله وصفوته ومن المحال على من هذا شأنهم أن يخطئوا كلهم الحق ويظفر به المتأخرون ولو كان هذا ممكنا لا نقلبت الحقائق وكان المتأخرون أئمة لهم يجب عليهم الرجوع إلى فتاويهم وأقوالهم وهذا كما انه محال حسا وعقلا فهو محال شرعا وبالله التوفيق
الوجه الثالث عشر قوله تعالى والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما وإمام بمعنى قدوة وهو يصلح للواحد والجمع كالأمة والأسوة وقد قيل هو جمع آمم كصاحب وصحاب وراجل ورجال وتاجر وتجار وقيل هو مصدر كقتال وضراب أي ذوي إمام والصواب الوجه الأول فكل من كان من المتقين وجب عليه أن يأتم بهم والتقوى واجبة والائتمام بهم واجب ومخالفتهم فيما افتوا به مخالف للائتمام بهم وإن قيل نحن نأتم بهم في الاستدلال وأصول الدين فقد تقدم من جواب هذا ما فيه كفاية
الوجه الرابع عشر ما ثبت عن النبي ص - في الصحيح من وجوه متعددة انه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فأخبر النبي ص - إن خير القرون قرنه مطلقا وذلك يقتضى تقديمهم في كل باب من أبواب الخير وإلا لو كانوا خيرا من بعض الوجوه فلا يكونون خير القرون مطلقا فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم وسائرهم لم يفتوا بالصواب وإنما ظفر بالصواب من بعدهم وأخطأواهم لزم أن يكون ذلك القرن خيرا منهم من ذلك الوجه لان القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن ثم هذا يتعدد في مسائل عديدة لان من يقول قول الصحابي ليس بحجة يجوز عنده أن يكون من بعدهم أصاب في كل مسألة قال فيها الصحابي قولا ولم يخالفه صحابي آخر وفات هذا الصواب الصحابة ومعلوم أن هذا يأتى في مسائل كثيرة تفوق العد والإحصاء فكيف يكونون خيرا ممن بعدهم وقد امتاز القرن الذي بعدهم بالصواب فيما يفوق العد والإحصاء مما اخطأوا فيه ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها فيا سبحان الله أي وصمة أعظم من أن يكون الصديق أوالفاروق أوعثمان أوعلي أوابن مسعود أوسلمان الفارسي أوعبادة بن الصامت وأضرابهم رضى الله عنهم قد أخبر عن حكم الله انه كيت وكيت في مسائل كثيرة واخطأ في ذلك ولم يشتمل قرنهم على ناطق بالصواب في تلك المسائل حتى تبع من بعدهم فعرفوا حكم الله الذي جهله أولئك السادة وأصابوا الحق الذي اخطأه أولئك الأئمة سبحانك هذا بهتان عظيم
الوجه الخامس عشر ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الاشعري قال صلينا المغرب مع رسول الله ص - فقلنا لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء فجلسنا فخرج علينا فقال ما زلتم ههنا فقلنا يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء قال
أحسنتم وأصبتم ورفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء فقال النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنه لاصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ووجه الاستدلال بالحديث انه جعل نسبة أصحابه إلى من بعدهم كنسبته إلى أصحابه وكنسبة النجوم إلى السماء ومن المعلوم أن هذا التشبيه يعطى من وجوب اهتداء الأمة بهم ما هو نظير اهتدائهم بنبيهم ص - ونظير اهتداء أهل الأرض بالنجوم وأيضا فإنه جعل بقاءهم بين الأمة أمنة لهم وحرزا من الشر وأسبابه فلو جاز أن يخطئوا فيما أفتوا به ويظفر به من بعدهم لكان الظافرون بالحق أمنة للصحابة وحرزا لهم وهذا من المحال
الوجه السادس عشر ما رواه أبو عبد الله بن بطة من حديث الحسن عن أنس انه قال قال رسول الله ص -
إن مثل أصحابي في أمتي كمثل الملح في الطعام لا يصلح الطعام إلا بالملح قال الحسن قد ذهب ملحنا فكيف نصلح وروى ابن بطة أيضا بإسنادين إلى عبد الرزاق اخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول قال رسول الله ص -
مثل أصحابي في الناس كمثل الملح في الطعام ثم يقول الحسن هيهات ذهب ملح القوم وقال الإمام احمد حدثنا حسين بن علي الجعفي عن أبى موسى يعنى إسرائيل عن الحسن قال قال رسول الله ص -
مثل أصحابي كمثل الملح في الطعام قال يقول الحسن هل يطيب الطعام إلا بالملح يقول الحسن فكيف بقوم ذهب ملحهم ووجه الاستدلال انه شبه أصحابه في صلاح دين الأمة بهم بالملح الذي صلاح الطعام به فلو جاز أن يفتوا بالخطأ ولا يكون في عصرهم من يفتى بالصواب ويظفر به من بعدهم لكان من بعدهم ملحا لهم وهذا محال
يوضحه أن الملح كما أن به صلاح الطعام فالصواب به صلاح الأنام فلو أخطئوا فيما أفتوا به لاحتاج ذلك إلى ملح يصلحه فإذا أفتى من بعدهم بالحق كان قد أصلح خطأهم فكان ملحا لهم
الوجه السابع عشر ما روى البخاري في صحيحه من حديث الأعمش قال سمعت أبا صالح يحدث عن أبي سعيد قال قال رسول الله ص -
لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم انفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وفي لفظ فوالذي نفسي بيده وهذا خطاب منه لخالد بن الوليد ولأقرانه من مسلمة الحديبية والفتح فإذا كان مد أحد أصحابه أونصيفه افضل عند لله من مثل أحد ذهبا من مثل خالد وأضرابه من أصحابه فكيف يجوز أن يحرمهم الله الصواب في الفتاوي ويظفر به من بعدهم هذا من أبين المحال
الوجه الثامن عشر ما روى الحميدي ثنا محمد بن طلحة قال حدثني عبد الرحمن بن سالم بن عبد الرحمن بن عويلم بن ساعده عن أبيه عن جده أن النبي ص - قال
إن الله اختارني واختار لي أصحابا فجعل لي منهم وزراء وانصارا وأصهارا الحديث ومن المحال أن يحرم الله الصواب من اختارهم لرسوله وجعلهم وزراءه وأنصاره وأصهاره ويعطيه من بعدهم في شئ من الأشياء
الوجه التاسع عشر ما روى أبو داود الطيالسي ثنا المسعودي عن عاصم عن أبى وائل عن ابن مسعود رضى الله عنه قال إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فبعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبة نبيه ونصرة دينه فما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح ومن المحال أن يخطئ الحق في حكم الله خير قلوب العباد بعد رسول الله ص - ويظفر به من بعدهم وأيضا فإن ما أفتى به أحدهم وسكت عنه الباقون كلهم فإما أن يكونوا قد رأوه حسنا أويكونوا قد رأوه قبيحا فإن كانوا قد رأوه حسنا
فهو حسن عند الله وإن كانوا قد رأوه قبيحا ولم ينكروه لم تكن قلوبهم من خير قلوب العباد وكان من أنكره بعدهم خيرا منهم وأعلم وهذا من أبين المحال
الوجه العشرون ما رواه الإمام احمد وغيره عن ابن مسعود رضى الله عنه قال من كان متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله ص - فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها حالا قوم اختارهم الله لصحبه نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوا آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ومن المحال أن يحرم الله أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا الصواب في أحكامه ويوفق له من بعدهم
الوجه الحادي والعشرون ما رواه الطبراني وأبو نعيم وغيرهما عن حذيفة بن اليمان انه قال يا معشر القراء خذوا طريق من كان قبلكم فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن تركتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا ومن المحال أن يكون الصواب في غير طريق من سبق إلى كل خير على الإطلاق
الوجه الثاني والعشرون ما قاله جندب بن عبد الله لفرقه دخلت عليه من الحوارج فقالوا ندعوك إلى كتاب الله فقال أنتم قالوا نحن قال أنتم قالوا نحن فقال يا أخابيث خلق الله في أتباعنا تختارون الضلالة أم في غير سنتنا تلتمسون الهدى اخرجوا عنى ومن المعلوم أن من جوز أن تكون الصحابة أخطأوا في فتاويهم فمن بعدهم وخالفهم فيها فقد اتبع الحق في غير سنتهم وقد دعاهم إلى كتاب الله فإن كتاب الله إنما يدعو إلى الحق وكفى ذلك إزراء على نفوسهم وعلى الصحابة
الوجه الثالث والعشرون ما رواه الترمذى من حديث العرباض بن سارية
قال وعظنا رسول الله ص - موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل يا رسول الله كأنها موعظة مودع فماذا تعهد إلينا فقال
عليكم بالسمع والطاعة وإن تامر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وهذا حديث حسن إسناده لا بأس به فقرن سنة خلفائه بسنته وأمر بإتباعها كما أمر بإتباع سنته وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن يعض عليها بالنواجذ وهذا يتناول ما أفتوا به وسنوه للامة وإن لم يتقدم من نبيهم فيه شئ وإلا كان ذلك سنته ويتناول ما أفتى به جميعهم أوأكثرهم أوبعضهم لأنه علق ذلك بما سنه الخلفاء الراشدون ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد فعلم أن ما سنه كل واحد منهم في وقته فهو من سنة الخلفاء الراشدين رواه الإمام احمد في مسنده من حديث عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي سمع العرباض بن سارية فذكر نحوه
الوجه الرابع والعشرون ما رواه الترمذي من حديث الثوري عن عبد الملك ابن عمير عن هلال مولى ربعي بن حراش عن ربعي عن حذيفة قال قال رسول الله ص -
اقتدوا باللذين من بعدي أبى بكر وعمر واهتدوا بهدى عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد قال الترمذي هذا حديث حسن ووجه الاستدلال به ما تقدم في تقرير المتابعة
الوجه الخامس والعشرون ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله ابن رباح عن أبى قتادة أن النبي ص - قال
إن يطلع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا وهو في حديث الميضأة الطويل فجعل الرشد
معلقا بطاعتهما فلو أفتوا بالخطأ في حكم وأصابه من بعدهم لكان الرشد في خلافهما
الوجه السادس والعشرين أن النبي ص - قال لأبي بكر وعمر في شأن تأمير القعقاع بن حكيم والأقرع بن
حابس لو اتفقتما على شئ لم أخالفكما فهذا رسول الله ص - يخبر انه لا يخالفهما لو اتفقا ومن يقول قولهما ليس بحجة يجوز مخالفتهما وبعض غلاتهم يقول لا يجوز الأخذ بقولهما ويجب الأخذ بقول أمامنا الذي قلدناه وذلك موجود في كتبهم
الوجه السابع والعشرون أن النبي ص - نظر إلى أبى بكر وعمر فقال
هذا السمع والبصر أي هما منى منزلة السمع والبصر أوهما من الدين بمنزلة السمع والبصر ومن المحال أن يحرم سمع الدين وبصره الصواب ويظفر به من بعدهما
الوجه الثامن والعشرون ما رواه أبو داود وابن ماجة من حديث ابن إسحاق عن مكحول عن غضيف بن الحارث عن أبى ذر قال مرفتي على عمر رضى الله عنه فقال عمر نعم الفتى قال فتبعه أبو ذر فقال يا فتى استغفر لي فقال يا أبا ذر استغفر لك وأنت صاحب رسول الله ص - قال استغفر لي قال لا أوتخبرني قال إنك مررت على عمر فقال نعم الفتى وإني سمعت النبي ص - يقول
إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه ومن المحال أن يكون الخطأ في مسألة أفتى بها من جعل الله الحق على لسانه وقلبه حظه ولا ينكره عليه أحد من الصحابة ويكون الصواب فيها حظ من بعده هذا من أبين المحال
الوجه التاسع والعشرون ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضى الله عنها قالت قال رسول الله ص -
قد كان فيمن خلا من الأمم أناس محدثون فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر وهو في المسند والترمذي
وغيرها من حديث أبى هريرة والمحدث هو المتكلم الذي يلقى الله في روعه الصواب يحدثه به الملك عن الله ومن المحال أن يختلف هذا ومن بعده في مسألة ويكون الصواب فيها مع المتأخر دونه فإن ذلك يستلزم أن يكون ذلك الغير هو المحدث بالنسبة إلى هذا الحكم دون أمير المؤمنين رضى الله عنه وهذا وإن أمكن في أقرانه من الصحابة فإنه لا يخلو عصرهم من الحق إما على لسان عمر وإما على لسان غيره منهم وإنما المحال أن يفتى أمير المؤمنين المحدث يفتوى أويحكم بحكم ولا يقول أحد من الصحابة غيره ويكون خطأ ثم يوفق له من بعدهم فيصيب الحق ويخطئه الصحابة
الوجه الثلاثون ما رواه الترمذي من حديث بكر بن عمرو عن مشرح ابن عاهان عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله ص - يقول لو كان بعدي نبي لكان عمر وفي لفظ لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر قال الترمذي حديث حسن ومن المحال أن يختلف من هذا شأنه ومن بعده من المتأخرين في حكم من أحكام الدين ويكون حظ عمر منه الخطأ وحظ ذلك المتأخر منه الصواب
الوجه الحادي والثلاثون ما روى إسماعيل بن أبى خالد عن الشعبي أن عليا كرم الله وجهه قال ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر ومن المحال أن يكون من بعده من المتأخرين أسعد بالصواب منه في أحكام الله تعالى ورواه عمرو بن ميمون عن زر عن علي
الوجه الثاني والثلاثون ما رواه واصل الأحدب عن أبى وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال ما رأيت عمر إلا وكأن بين عينيه ملكا يسدده ومعلوم قطعا أن هذا أولى بالصواب من ليس بهذه المثابة
الوجه الثالث والثلاثون ما رواه الأعمش عن شقيق قال قال عبد الله
والله لو أن علم عمر وضع في كفه ميزان وجعل علم أهل الأرض في كفة لرجع علم عمر فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال قال عبد الله والله إني لاحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم ومن ابعد الأمور أن يكون المخالف لعمر بعد انقراض عصر الصحابة أولى بالصواب منه في شئ من الأشياء
الوجه الرابع والثلاثون ما رواه ابن عيينة عن عبد الله بن أبى يزيد قال كان ابن عباس إذا سئل عن شئ وكان في القرآن أوالسنة قال به وإلا قال بما قال به أبو بكر وعمر فإن لم يكن قال برأيه فهذا ابن عباس وأتباعه للدليل وتحكيمه للحجة معروف حتى إنه يخالف لما قام عنده من الدليل أكابر الصحابة يجعل قول أبي بكر وعمر حجة يؤخذ بها بعد قول الله ورسوله ولم يخالفه في ذلك أحد من الصحابة
الوجه الخامس والثلاثون ما رواه منصور عن زيد بن وهب عن عبد الله قال قال رسول الله ص -
رضيت لأمتي ما رضى لها ابن أم عبد كذا رواه يحيى بن يعلى المحاربي عن زيد عن منصور والصواب ما رواه إسرائيل وسفيان عن منصور عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي ص - مرسلا ولكن قد روى جعفر بن عوف عن المسعودي عن جعفر بن عمرو ابن حريش عن أبيه قال قال النبي ص - لعبد الله بن مسعود اقرأ على قال أقرأ وعليك انزل قال إني احب أن اسمعه من غيري فافتتح سورة النساء حتى إذا بلغ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا فاضت عينا رسول الله ص - وكف عبد الله بن مسعود فقام رسول الله ص - وتكلم فحمد الله وأثنى عليه في أول كلامه وأثنى على الله وصلى على نبيه
ص - وشهد شهادة الحق وقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا ورضيت لكم ما رضى لكم ابن أم عبد ومن قال ليس قوله بحجة وإذا خالفه غيره ممن بعده يجوز أن يكون الصواب في قول المخالف له لم يرض للامة ما رضيه لهم ابن أم عبد ولا ما رضيه رسول الله ص -
الوجه السادس والثلاثون ما رواه أبو إسحاق عن حارثة بن مضرب قال كتب عمر رضى الله عنه إلى أهل الكوفة قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرا وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا وهما من النجباء من أصحاب محمد ص - من أهل بدر فاقتدوا بهما واسمعوا قولهما وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي فهذا عمر قد أمر أهل الكوفة أن يقتدوا بعمار وابن مسعود ويسمعوا قولهما ومن لم يجعل قولهما حجة يقول لا يجب الإقتداء بهما ولا سماع أقوالهما إلا فيما أجمعت عليه الأمة ومعلوم أن ذلك لا اختصاص لهما به بل لا فرق فيه بينهما وبين غيرها من سائر الأمة
الوجه السابع والثلاثون ما قاله عبادة بن الصامت وغيره بايعنا رسول الله ص - على أن نقول بالحق حيث كنا ولا نخاف في الله لومة لائم ونحن نشهد بالله انهم وفوا بهذه البيعة وقالوا بالحق وصدعوا به ولم تأخذهم في الله لومة لائم ولم يكتموا شيئا منه مخافة سوط ولا عصا ولا أمير ولا وال كما هو معلوم لمن تأمله من هديهم وسيرتهم فقد أنكر أبو سعيد على مروان وهو أمير على المدينة وأنكر عبادة بن الصامت على معاوية وهو خليفة وأنكر ابن عمر على الحجاج مع سطوته وبأسه وأنكر على عمرو بن سعيد وهو أمير على المدينة وهذا كثير جدا من إنكارهم على الأمراء والولاة إذا خرجوا عن العدل لم يخافوا سوطهم ولا عقوبتهم ومن بعدهم لم تكن لهم هذه المنزلة بل كانوا يتركون كثيرا من الحق خوفا من ولاة الظلم وأمراء الجور فمن المحال أن يوفق هؤلاء للصواب ويحرمه أصحاب رسول الله ص
الوجه الثامن والثلاثون ما ثبت في الصحيح من حديث أبى سعيد الخدري أن رسول الله ص - رقي المنبر فقال إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله فبكى أبو بكر وقال بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا فعجبنا لبكائه أن يخبر النبي ص - عن رجل خير فكان المخير رسول الله ص - وكان أبو بكر أعلمنا به وقال النبي ص - إن أمن الناس لينا في صحبته وذات يده أبو بكر ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن اخوة الإسلام ومودته لا يبقى في المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر ومن المعلوم أن فوت الصواب في الفتوى لأعلم الأمة برسول الله ص - ولجميع الصحابة معه وظفر فلان وفلان من المتأخرين بهذا من أمحل المحال ومن لم يجعل قوله حجة يجوز ذلك بل يحكم بوقوعه والله المستعان
الوجه التاسع والثلاثون ما رواه زائدة عن عاصم عن زر عن عبد الله قال ما قبض رسول الله ص - قال الأنصار منا أمير ومنكم أمير فأتاهم عمر قال ألستم تعلمون أن رسول الله ص - أمر أبا بكر أن يؤم الناس قالوا بلى فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر فقالوا نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر ونحن نقول لجميع المفتين أيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر إذا أفتى بفتوى وأفتى من قلدتموه بغيرها ولا سيما من قال من زعمائكم إنه يجب تقليد من قلدناه ديننا ولا يجوز تقليد أبي بكر الصديق رضى الله عنه اللهم إنا نشهدك أن أنفسنا لا تطيب بذلك ونعوذ بك أن نطيب به نفسا
الوجه الأربعون ما ثبت في الصحيح من حديث الزهري عن حمزة بن عبد الله عن أبيه عن رسول الله ص - قال
بينما أنا نائم إذ أتيت بقدح لبن فقيل لي اشرب فشربت منه حتى إني لأرى الرى يجري في أظفاري ثم
أعطيت فضلتى عمر قالوا فما أولت ذلك قال العلم ومن أبعد الأشياء أن يكون الصواب مع من خالفه في فتيا أوحكم لا يعلم أن أحدا من الصحابة خالفه فيه وقد شهد له رسول الله ص - بهذه الشهادة
الوجه الحادي والأربعون ما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن ابي يزيد عن ابن عباس رضى الله عنهما انه وضع للنبي ص - وضوءا فقال من وضع هذا قالوا ابن عباس فقال اللهم فقهه في الدين وقال عكرمة ضمني اليه رسول الله ص - فقال
اللهم علمه الحكمة ومن المستبعد جدا بل المتنع ان يفتى حبر الامة وترجمان القرآن الذي دعا له رسول الله ص - بدعوة مستجابة قطعا ان يفقهه في الدين ويعلمه الحكمة ولا يخالفه فيها احد من الصحابة ويكون فيها على خطأ ويفتى واحد من المتأخرين بعده بخلاف فتواه ويكون الصواب معه فيظفر به هو مقلدوه ويحرمه ابن عباس والصحابة
الوجه الثاني والاربعون ان صورة المسألة ما اذا لم يكن في الواقعة حديث عن النبي ص - ولا اختلاف بين الصحابة رضى الله عنهم وانما قال بعضهم فيها قولا وأفتى بفتيا ولم يعلم ان قوله وفتياه اشهر في الباقين ولا انهم خالفوه وحينئذ فنقول من تأمل المسائل الفقهية والحوادث الفرعية وتدرب بمسالكها وتصرف في مداركها وسلك سبلها ذللا وارتوى من مواردها عللا ونهلا علم قطعا ان كثيرا منها قد تشتبه فيها وجوه الرأي بحيث لا يوثق فيها بظاهر مراد أوقياس صحيح ينشرح له الصدر ويثلج له الفؤاد بل تتعارض فيها الظواهر والاقيسة على وجة يقف المجتهد في اكثر المواضع حتى لا يبقى للظن رجحان بين لا سيما اذا اختلف الفقهاء فإن عقولهم من اكمل العقول واوفرها فإذا تلددوا وتوقفوا ولم يتقدموا ولم يتأخروا لم يكن ذلك في المسألة طريقة واضحة ولا حجة لائحة فإذا وجد فيها قول لأصحاب رسول الله ص
ورضى الله عنهم الذين هم سادات الامة وقدوة الائمة واعلم الناس بكتاب ربهم تعالى وسنة نبيهم ص - وقد شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل ونسبة من بعدهم في العلم اليهم كنسبتهم اليهم في الفضل والدين كان الظن والحالة هذه بان الصواب في جهتهم والحق في جانبهم من اقوى الظنون وهو اقوى من الظن المستفاد من كثير من الاقيسة هذا مالا يمترى فيه عاقل منصف وكان الرأي الذي يوافق رأيهم هو الرأي السداد الذي لا رأى سواه وإذا كان المطلوب في الحادثة إنما هو ظن راجح ولو استند الى استصحاب أوقياس علة أودلالة أوشبه أوعموم مخصوص أومحفوظ مطلق أووارد على سبب فلا شك أن الظن الذي يحصل لنا بقول الصحابي الذي لم يخالف ارجح من كثير من الظنون المستندة إلى هذه الأمور أوأكثرها وحصول الظن الغالب في القلب ضروري كحصول الأمور الوجدانية ولا يخفى على العالم أمثلة ذلك
الوجه الثالث والأربعون أن الصحابي إذا قال قولا أوحكم بحكم أوأفتى بفتيا فله مدارك ينفرد بها عنه ومدارك نشاركه فيها فأما ما يختص به فيجوز أن يكون سمعه من النبي ص - شفاها أومن صحابي آخر عن رسول الله ص - فإن ما انفردوا به من العلم عنه أكثر من أن يحاط به فلم يرو كل منهم كل ما سمع وأين ما سمعه الصديق رضى الله عنه والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة رضى الله عنهم إلى ما رووه فلم يرو عنه صديق الأمة مائة حديث وهو لم يغب عن النبي ص - في شئ من مشاهده بل صحبه من حين بعث بل قبل البعث إلى أن توفي وكان أعلم الأمة به ص - بقوله وفعله وهديه وسيرته وكذلك اجله الصحابة روايتهم قليلة جدا بالنسبة الى ما سموه من نبيهم وشاهدوه ولو رووا كل ما سمعوه وشاهدوه لزاد على رواية أبي هريرة أضعافا مضاعفة فإنه إنما صحبه نحو أربع سنين وقد روى عنه الكثير فقول القائل لو كان عند الصحابي في هذه الواقعة
شئ عن النبي ص - لذكره قول من لم يعرف سيرة القوم وأحوالهم فإنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله ص - ويعظمونها ويقللونها خوف الزيادة والنقص ويحدثون بالشيء الذي سمعوه من النبي ص - مرارا ولا يصرحون بالسماع ولا يقولون قال رسول الله ص -
فتلك الفتوى التي يفتى بها أحدهم لا تخرج عن ستة أوجه أحدها أن يكون سمعها من النبي ص - الثاني أن يكون سمعها ممن سمعها منه الثالث أن يكون فهمها من آية من كتاب الله فهما خفى علينا الرابع أن يكون قد اتفق عليها ملؤهم ولم ينقل إلينا قول المفتى بها وحده الخامس أن يكون لكمال علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنا أولقرائن عالية اقترنت بالخطاب أولمجموع أمور فهموها على طول الزمان من رؤية النبي ص - ومشاهدة أفعاله وأحواله وسيرته وسماع كلامه والعلم بمقاصده وشهود تنزيل الوحي ومشاهدة تأويله الفعل فيكون فهم مالا نفهمه نحن وعلى هذه التقادير الخمسة تكون فتواه حجة بجب أتباعها السادس أن يكون فهم ما لم يرده الرسول ص - وأخطأ في فهمه والمراد غير ما فهمه وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجة ومعلوم قطعا أن وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد معين هذا مالا يشك فيه عاقل وذلك يفيد ظنا غالبا قويا على أن الصواب في قوله دون ما خالفه من أقوال من بعده وليس المطلوب إلا الظن الغالب والعمل به متعين ويكفى العارف هذا الوجه
فصل ما امتاز به المتقدمون على المتأخرين
هذا فيما انفردوا به عنا أما المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ والاقيسة فلا ريب انهم كانوا ابر قلوبا واعمق علما واقل تكلفا واقرب
إلى أن يوفقوا فيها لما لم نوفق له نحن لما خصهم الله تعالى به من توقد الأذهان وفصاحة اللسان وسعة العلم وسهولة الأخذ وحسن الإدراك وسرعته وقلة المعارض أوعدمه وحسن القصد وتقوى الرب تعالى فالعربية طبيعتهم وسليقتهم والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح والتعديل ولا الى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين بل قد غنوا عن ذلك كله فليس في حقهم إلا أمران أحدهما قال الله تعالى كذا وقال رسوله كذا والثاني معناه كذا وكذا وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين وأحظى الأمة بهما فقواهم متوفرة مجتمعة عليهما
وأما المتأخرون فقواهم متفرقة وهممهم متشعبة فالعربية وتوابعها قد خذت من قوى أذهانهم شعبة والأصول وقواعدها قد أخذت منها شبعة وعلم الإسناد وأحوال الرواة قد اخذ منها شعبة وفكرهم في كلام مصنفيهم وشيوخهم على اختلافهم وما أرادوا به قد اخذ منها شعبة الى غير ذلك من الامور فإذا وصلوا الى النصوص النبوية إن كان لهم همم تسافر اليها وصلوا اليها بقلوب وأذهان قد كلت من السير في غيرها وأوهن قواهم مواصلة السرى في سواها فأدركوا من النصوص ومعانيها بحسب القوة وهذا أمر يحسن به الناظر في مسألة إذا استعمل قوى ذهنه في غيرها ثم صار اليها وافاها يذهن كال وقوة ضعيفة وهذا شأن من استفرغ قواه في الأعمال غير المشروعة نضعف قوته عند العمل المشروع كمن استفرغ قوته في السماع الشيطاني فإذا جاءه قيام الليل قام الى ورده بقوة كالة وعزيمة باردة وكذلك من صرف قوى حبه وإرادته الى الصور أوالمال أوالجاه فإذا طالب قلبه بمحبة الله فإن انجذب معه انجذب بقوة ضعيفة قد استفرغها في محبة غيره فمن استفرغ قوى فكره في كلام الناس فإذا جاء الى كلام الله ورسوله جاء بفكرة كالة فأعطى بحسب ذلك
والمقصود ان الصحابة اغناهم الله تعالى عن ذلك كله فاجتمعت قواهم على تينك المقدمتين فقط هذا الى ما خصوا به من قوى الاذهان وصفائها وصحتها
وقوة إدراكها وكماله وكثرة المعاون وقلة الصارف وقرب العهد بنور النبوة والتلقي من تلك المشكاة النبوية فإذا كان هذا حالنا وحالهم فيما تميزوا به علينا وما شاركناهم فيه فكيف نكون نحن أوشيوخنا أوشيوخهم أومن قلدناه اسعد بالصواب منهم في مسألة من المسائل ومن حدث نفسه بهذا فليعزلها من الدين والعلم والله المستعان
الوجه الرابع والاربعون ان النبي ص - قال
لا تزال طائفة من امتي ظاهرين على الحق وقال علي كرم الله وجهه ورضى عنه لن تخلو الارض من قائم لله بحجة لكيلا تبطل حجج الله وبيناته فلو جاز ان يخطئ الصحابي في حكم ولا يكون في ذلك العصر ناطق بالصواب في ذلك الحكم لم يكن في الامة قائم بالحق في ذلك الحكم لأنهم بين ساكت ومخطئ ولم يكن في الارض قائم لله بحجة في ذلك الامر ولا من يأمر فيه بمعروف أوينهى فيه عن منكر حتى نبغت نابغة فقامت بالحجة وامرت بالمعروف ونهت عن المنكر وهذا خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع
الوجه الخامس والأربعون انهم إذا قالوا قولا أوبعضهم ثم خالفهم مخالف من غيرهم كان مبتديا لذلك القول ومبتدعا له وقد قال النبي ص -
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة وقول من جاء بعدهم يخالفهم من محدثات الأمور فلا يجوز أتباعهم
وقال عبد الله بن مسعود اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وقال أيضا إنا نقتدى ولا نبتدي ونتبع ولا نبتدع ولن نضل ما تمسكنا بالأثر وقال أيضا إياكم والتبدع وإياكم والتنطع وإياكم والتعمق وعليكم بالدين العتيق وقال أيضا أنا لغير الدجال أخوف عليكم من الدجال أمور تكون من كبرائكم فأيما مرية أورجيل أدرك ذلك الزمان
فالسمت الأول فالسمت الأول فأنا اليوم على السنة وقال أيضا وإياكم والمحدثان فإن شر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلاله وقال أيضا اتبع ولا تبتدع فإنك لن تضل ما أخذت بالأثر
وقال ابن عباس كان يقال عليكم بالاستقامة والأثر وإياكم والتبدع
وقال شريح إنما أقتفى الأثر فما وجدت قد سبقنا إليه غيركم حدثتكم به
وقال إبراهيم النخعي بلغنى عنهم يعنى الصحابة انهم لم يجاوزوا بالوضوء ظفرا ما جاوزته به وكفى على قوم وزرا أن تخالف أعمالهم أعمال أصحاب نبيهم ص -
وقال عمر بن عبد العزيز إنه لم يبتدع الناس بدعة إلا وقد مضى ما هو دليل وعبرة منها والسنة ما أسنتها إلا من علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق فارض لنفسك ما رضى القوم وقال أيضا قف حيث وقف القوم وقل كما قالوا واسكت كما سكتوا فإنهم عن علم وقفوا وببصر ناقد كفوا وهم على كشفها كانوا أقوى وبالفضل لو كان فيها أحرى أي فلئن كان الهدى ما أنتم عليه فلقد سبقتموهم إليه ولئن قلتم حدث بعدهم فما أحدثه إلا من سلك غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم وانهم لهم السابقون ولقد تكلموا منه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفى فما دونهم مقصر ولا فوقهم مجسر ولقد قصر عنهم قوم فجفوا وطمح آخرون عنهم فغلوا وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم وقال أيضا كلاما كان مالك بن انس وغيره من الأئمة يستحسنونه ويحدثون به دائما قال سن رسول الله ص - لولاة الأمر بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعته وقوة على دينه ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في رأي من خالفهم فمن اقتدى بما سنوا فقد اهتدى ومن استنصر بها منصور ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى
وأصلاه جهنم وساءت مصيرا ومن هنا اخذ الشافعي الاحتجاج بهذه الآية على أن الإجماع حجة
وقال الشعبي عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول وقال أيضا ما حدثوك به عن أصحاب محمد ص - فخذه وما حدثوك به عن رأيهم فانبذه في الحش
قال الاوزاعي اصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم وقل بما قالوا وكف عما كفوا ولو كان هذا خيرا ما خصصتم به دون أسلافكم فإنهم لم يدخر عنهم خير خبئ لكم دونهم لفضل عندكم وهم أصحاب رسول الله ص - الذين اختارهم له وبعثه فيهم ووصفهم فقال محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم الاية
الوجه السادس والاربعون انه لم يزل اهل العلم في كل عصر ومصر يحتجون بما هذا سبيله في فتاوي الصحابة وأقوالهم ولا ينكره منكر منهم وتصانيف العلماء شاهدة بذلك ومناظرتهم ناطقة به
قال بعض علماء المالكية أهل الاعصار مجمعون على الاحتجاج بما هذا سبيله وذلك مشهور في رواياتهم وكتبهم ومناظراتهم واستدلالاتهم ويمتنع والحالة هذه إطباق هؤلاء كلهم على الاحتجاج بما لم يشرع الله ورسوله الاحتجاج به ولا نصبه دليلا للأمة فأي كتاب شئت من كتب السلف والخلف المتضمنة للحكم والدليل وجدت فيه الاستدلال بأقوال الصحابة ووجدت ذلك طرازها وزينتها ولم تجد فيها قط ليس قول ابي بكر وعمر حجة ولا يحتج بأقوال أصحاب رسول الله ص - وفتاويهم ولا ما يدل على ذلك وكيف يطيب قلب عالم يقدم على أقوال من وافق ربه تعالى في غير حكم فقال وأفتى بحضرة الرسول ص - ونزل القرآن بموافقة ما قال لفظا ومعنى
قول متأخر بعده ليس له هذه الرتبة ولا يدانيها وكيف يظن احد ان الظن المستفاد من فتاوي السابقين الاولين الذين شاهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التأويل وكان الوحي ينزل خلال بيوتهم وينزل على رسول الله ص - وهو بين أظهرهم
قال جابر والقرآن ينزل على رسول الله ص - وهو يعرف تأويله فما عمل به من شئ عملنا به في حديث حجة الوداع فمستندهم في معرفة مراد الرب تعالى من كلامه ما يشاهدونه من فعل رسوله وهديه الذى هو يفصل القرآن ويفسره فكيف يكون أحد من الامة بعدهم اولى بالصواب منهم في شئ من الاشياء هذا عين المحال
تفسير الصحابي للقرآن كفتواه
فإن قيل فإذا كان هذا حكم أقوالهم في أحكام الحوادث فما تقولون في أقوالهم في تفسير القران هل هي حجة يجب المصير اليها
قيل لا ريب ان اقوالهم في التفسير اصوب من اقوال من بعدهم وقد ذهب بعض اهل العلم الى ان تفسيرهم في حكم المرفوع قال ابو عبد الله الحاكم في مستدركه وتفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع ومراده أنه في حكمه في الاستدلال به والاحتجاج لا أنه إذا قال الصحابي في الآية قولا فلنا أن نقول هذا القول قول رسول الله ص - أوقال رسول الله ص - وله وجه آخر وهو أن يكون في حكم المرفوع بمعنى أن رسول الله ص - بين لهم معاني القرآن وفسره لهم كما وصفه تعالى بقوله لتبين للناس ما نزل إليهم فبين لهم القرآن بيانا شافيا كافيا وكان إذا أشكل على أحد منهم معنى سأله عنه فأوضحه له كما سأله الصديق عن قوله تعالى من يعمل سوءا يجز به فبين له المراد وكما ساله الصحابي عن قوله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم فبين لهم معناها وكما سألته ام سلمة عن قوله تعالى
فسوف يحاسب حسابا يسيرا فبين لها انه العرض وكما سأله عمر عن الكلالة فأحاله على آية الصيف التي في آخر السورة وهذا كثير جدا فإذا نقلوا لنا تفسير القرآن فتارة ينقلونه عنه بلفظه وتارة يمعناه فيكون ما فسروا بالفاظهم من باب الرواية بالمعنى كما يروون عنه السنة تارة بلفظها وتارة بمعناها وهذا أحسن الوجهين والله اعلم
فإن قيل فنحن نجد لبعضهم أقوالا في التفسير تخالف الاحاديث المرفوعة الصحاح وهذا كثير كما فسر ابن مسعود الدخان بأنه الاثر الذي حصل عن الجوع الشديد والقحط وقد صح عن النبي ص - أنه دخان يأتى قبل يوم القيامة يكون من أشراط الساعة مع الدابة والدجال وطلوع الشمس من مغربها وفسر عمر بن الخطاب قوله تعالى اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم بانها للبائنة والرجعية حتى قال لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة مع أن السنة الصحيحة في البائن تخالف هذا التفسير وفسر علي بن ابي طالب كرم الله وجهه قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بانفسهن اربعة اشهر وعشرا انها عامة في الحامل والحائل فقال تعتد ابعد الاجلين والسنة الصحيحة بخلافه وفسر ابن مسعود قوله تعالى وامهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن بان الصفة لنسائكم الاولى والثانية فلا تحرم ام المراة حتى يدخل بها والصحيح خلاف قوله وان ام المرأة تحرم بمجرد العقد على العقد على ابنتها والصفة راجعة الى قوله وربائبكم اللاتى في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن وهو قول جمهور الصحابة وفسر ابن عباس السجل بأنه كاتب للنبي ص - يسمى السجل وذلك وهم وإنما السجل الصحيفة المكتوبة واللام مثلها في قوله تعالى وتلة للجبين وفي قول الشاعر ... فخر صريعا لليدين وللفم
أي يطوى السماء كما يطوى السجل على ما فيه من الكتاب وهذا كثير جدا فكيف يكون تفسير الصحابي حجة في حكم المرفوع
قيل الكلام في تفسيره كالكلام في فتواه سواء وصورة المسألة هنا كصورتها هناك سواء بسواء وصورتها ان لا يكون في المسألة نص يخالفه ويقول في الاية قولا لا يخالفه فيه أحد من الصحابة سواء علم لا شتهاره أولم يعلم وما ذكر من هذه الامثلة فقد فيه الامران وهو نظير ما روى عن بعضهم من الفتاوي التي تخالف النص وهم مختلفون فيها سواء
فإن قيل لو كان قوله حجة بنفسه لما اخطأ ولكان معصوما لتقوم الحجة بقوله فإذا كان يفتى بالصواب تارة وبغيره اخرى وكذلك تفسيره فمن أين لكم ان هذه الفتوى المعينة والتفيسر المعين من قسم الصواب إذ صوره المسألة انه لم يقم على المسألة دليل غير قوله وقوله ينقسم فما الدليل على ان هذا القول المعين من أحد القسمين ولا بد
قيل الادلة المتقدمة تدل على انحصار الصواب في قوله في الصورة المفروضة الواقعة وهو ان من المتنع ان يقولوا في كتاب الله الخطأ المحض ويمسك الباقون عن الصواب فلا يتكلمون به وهذه الصورة المذكورة وامثالها قد تكلم فيها غيرهم بالصواب والمحظور إنما هو خلو عصرهم عن ناطق بالصواب واشتماله على ناطق بغيره فقط فهذا هو المحال وبهذا خرج الجواب عن قولكم لو كان قول الواحد منهم حجة لما جاز عليه الخطأ فإن قوله لم يكن بمجرده حجة بل بما انضاف اليه مما تقدم ذكره من القرائن
الفرق بين الصحابي والتابعي في الاخذ بقولهم وتفسيرهم
فإن قيل فبعض ما ذكرتم من الادلة يقتضى ان التابعي اذا قال قولا ولم يخالفه صحابي ولا تابعي ان يكون قوله حجة
فالجواب ان التابعين انتشروا انتشارا لا ينضبط لكثرتهم وانتشرت
المسائل في عصرهم فلا يكاد يغلب على الظن عدم المخالف لما أفتى به الواحد منهم فإن فرض ذلك فقد اختلف السلف في ذلك فمنهم من يقول يجب اتباع التابعي فيما أفتى به ولم يخالفه فيه صحابي ولا تابعى وهذا قول بعض الحنابلة والشافعية وقد صرح الشافعي في موضع بأنه قاله تقليدا لعطاء وهذا من كمال علمه وفقهه رضى الله عنه فإنه لم يجد في المسألة غير قول عطاء فكان قوله عنده أقوى ما وجد في المسألة وقال في موضع آخر وهذا يخرج على معنى قول عطاء والاكثرون يفرقون بين الصحابي والتابعي ولا يخفى ما بينهما من الفروق على ان في الاحتجاج بتفسير التابعي عن الامام احمد روايتين ومن تأمل كتب الائمة ومن بعدهم وجدها مشحونة بالاحتجاج بتفسير التابعي
فإن قيل فما تقولون في قوله اذا خالف القياس
قيل من يقول بأن قوله ليس بحجة فلهم قولان فيما اذا خالف القياس احدهما انه اولى ان لا يكون حجة لانه قد خالف حجة شرعية وهو ليس بحجة في نفسة والثاني انه حجة في هذه الحال ويحمل على انه قاله توفيقا ويكون بمنزلة المرسل الذي عمل به مرسله
وأما من يقول إنه حجة فلهم أيضا قولان احدهما انه حجة وإن خالف القياس بل هو مقدم على القياس والنص مقدم عليه فنرتب الادلة عندهم القرآن ثم السنة ثم قول الصحابة ثم القياس والثاني ليس بحجة لانه قد خالفه دليل شرعي وهو القياس فإنه لا يكون حجة إلا عند عدم المعارض والاولون يقولون قول الصحابي اقوى من المعارض الذي خالفه من القياس لوجوه عديدة والاخذ بأقوى الدليلين متعين وبالله التوفيق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق