مفكرة الإسلام: زخرت وسائل الإعلام "الإسرائيلية" بكثير من التقارير والدراسات التي تناولت تحليل الثورة التونسية ضد نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، مسلطة الضوء علي انعكاساتها المرتقبة على الأوضاع المستقبلية في ساحة الشرق الأوسط، باعتبارها أول ثورة تؤدي إلى إسقاط أحد أعتق الأنظمة العربية الحاكمة. لكن الاهتمام الصهيوني بالساحة التونسية والقلق من تداعياتها السياسية لا ينبع من الخوف على مستقبل العلاقات السرية التي كانت تربط النظام المخلوع بتل أبيب، أو لوجود عدد من اليهود في تونس، يتجاوزون الثلاثة آلاف شخص، بل لأن قادة دولة الاحتلال يرون في تونس نموذجاً مصغراً للفوضى السياسية، التي يمكن تكرارها في أي قطر آخر من الأقطار العربية، لاسيما الكبرى منها، والتي لها علاقات وطيدة بها، على رأسها مصر والأردن.
ومن خلال استعراض معظم الكتابات والتقارير الصهيونية حول الأحداث التونسية خلال الأيام الماضية، يمكننا رصد المحاور والأبعاد الرئيسية للقراءة "الإسرائيلية" لها، والتي يمكن إجمالها على النحو التالي:
المحور الداخلي: حرصت وسائل الإعلام "الإسرائيلية" على متابعة كافة الأحداث في تونس بكل تفاصيلها الدقيقة، وبخاصة في الفترة التي سبقت عملية السقوط المفاجئ لنظام بن علي، وذلك من خلال مراسلين للصحف العبرية في قلب الساحة التونسية، أو من خلال التواصل مع بعض أفراد الجالية اليهودية في تونس، أو ترجمة التقارير الأجنبية عن الأوضاع بها، وذلك لكي يتسنى للإعلام الصهيوني رسم صورة كاملة عن الأوضاع الحقيقية داخل البلاد. ولم يكتف بذلك بل حرص على رصد ردود أفعال التونسيين في خارج البلاد، وبخاصة في فرنسا، وأجرى عدد من اللقاءات مع بعضهم، والذين أجمعوا على ارتياحهم إزاء سقوط نظام زين العابدين بن علي، ووصفه بالنظام بالظالم والتعسفي.
المحور الإقليمي: أبدت غالبية التقارير العبرية، وتصريحات المسئولين الصهاينة اهتماماً ملحوظاً بالبُعد الإقليمي للثورة التونسية، انعكست في الأساس من خلال تصريحات رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، والتي أعقب إعلان سقوط نظام بن علي، مؤكداً فيها علي مخاوفه من تأثيرها على استقرار منطقة الشرق الأوسط، وانتقال عدوى تونس، لباقي الدول العربية، على الرغم من يقينه التام، بأن تلك الثورة ضد أقدم الأنظمة العربية الحاكمة، لن تتجاوز حدود الدولة التونسية. لكن وكعادة "إسرائيل" التي تسعي إلى إثارة القلاقل والفتن داخل الدول العربية، تعمدت التخويف من انتشار الثورة التونسية وانتقالها لباقي الدول العربية. غير أن بعض التقارير العبرية اعتبرت الثورة التونسية نموذجاً للشعب الإيراني تكون محفزة له للانقلاب على نظام الآيات الحاكم في طهران منذ أواخر سبعينات القرن الماضي.
المحور الدولي: أعطت وسائل الإعلام العبرية بُعداً دولياً لثورة تونس، مؤكدة بأنها ستغير من النهج الدولي، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا مع الأنظمة العربية القائمة حالياً، واعتبرت أن تغيير النظام التونسي برئاسة بن علي هو جزء من أجندة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لإحلال الديمقراطية في الدول العربية، والتواصل مع شعوبها، من أجل ضمانة انسحاب آمن لقواته العسكرية من العراق.
مكاسب صهيونية:
على ضوء المحاور سالفة الذكر يمكننا استخلاص نتيجة بالغة الأهمية، مفادها أن الكيان الصهيوني يترقب وبشغف لأية تحركات داخل الدول العربية من المحيط للخليج، وانتفاضة شعوبها ضد أنظمتها الحاكمة، ليس لأنها تخشى من سقوط الأنظمة التي وافقت على إقامة علاقات تطبيعية معها، أو لمخاوفها من صعود الإسلاميين لسدة الحكم وقطع العلاقات العلنية والسرية معها، بل لأنها ترى أن إشعال الفتن والقلاقل في الدول العربية، يحقق لها المكاسب السياسية المأمولة، أكثر من إقامة علاقات تجارية واقتصادية معها. فعلى الرغم من توقيعها لاتفاقيات سلام مع مصر والأردن، وأنها تقيم علاقات اقتصادية متشعبة مع دول عربية ليس لها علاقات دبلوماسية مثل تونس، لكن حكومات إسرائيل المتعاقبة لا تتوقف عن الشكوى بأن الأنظمة العربية تقف في وجه التطبيع بين شعوبهم والصهاينة. لذا فهي لا تشعر حالياً بأنها في حاجه لهذه العلاقات حالياً بقدر سعيها لتكريس احتلالها للأراضي العربية المحتلة، لذا فإن إثارة الفتن والقلاقل داخل الدول العربية تحت أي مسمى: فتنة دينية في مصر ولبنان، تقسيم عرقي وحركات انفصالية في السودان واليمن، احتقان اجتماعي في تونس والجزائر، يحقق لها أكبر مكاسب بانشغال العرب بمشاكلهم وخلافاتهم الداخلية، ويخلو لهم الطريق للاستفراد بالفلسطينيين، على اعتبار أنه لن يكون هناك أحد مكترث بالفلسطينيين، وتواصل ممارساتها الوحشية وعدوانها ضدهم.
امتداد العدوى التونسية:
ومن أخطر القراءات "الإسرائيلية" للثورة التونسية هي الورقة البحثية التي أعدها الخبير الصهيوني شلومو بروم ونشرها بمجلة "نظرة عليا" المتخصصة في الشؤون الإستراتيجية، وهى إحدى إصدارات معهد أبحاث الأمن القومي الصهيوني، أكد فيها على أنه من السابق لأوانه التوقع بانتشار الثورة التونسية في باقي الدول العربية، مشيراً إلى أن انعكاسات تلك الثورة سوف تظهر في الدول العربية من خلال مدايين منفصلين، أولهما المدى القصير، وفيه تنتقل العدوى التونسية من خلال مظاهرات مشابهة تشهدها عدد من الدول العربية ضد أنظمتها الحاكمة، والتي تشبه نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. لكنه زعم أن الأنظمة العربية لديها الخبرة اللازمة لقمع أية أحداث تمرد أو شغب على غرار ما حدث في تونس، وأنها ستنجح في نهاية المطاف في تهدئة شعوبها وفرض سيطرتها. ثانياً المدى البعيد، وأشار فيه الخبير الصهيوني إلى أن السؤال الأصعب في الثورة التونسية يكمن في انعكاس تأثيرها على الدول العربية على المدى البعيد، فإذا نجحت مسيرة التغيير مستقبلاً، ونجح التونسيين في إجراء انتخابات حرة وديمقراطية على غرار النهج الأمريكي، فسيكون تأثيرها قوى بدون شك على باقي الشعوب العربية، وسيدعم من موقف التيارات المعارضة في الوطن العربي للتمرد والثورة على الأنظمة الحاكمة.
سيناريوهات بديلة:
إلى جانب ذلك وضع الخبير الصهيوني سيناريوهان بديلان لذلك قد يواجهان تونس مستقبلاً هما: انتشار الفوضى والشغب في ظل عجز المعارضة عن تشكيل حكومة ديمقراطية، بينما السيناريو الآخر في إطاره تصعد قوة إسلامية لسدة الحكم بطريقة ديمقراطية، وهو ما سيعد بمثابة تشجيع وحافز للحركات الإسلامية الأقوى في باقي الدول العربي، كالإخوان المسلمين، وهو ما سيزيد من الصراعات الداخلية في الدول العربية. ولعل ذلك هو ما تصبو إليه "إسرائيل" وتتمناه عقب سقوط نظام بن علي في تونس.
وفى ختام ورقته البحثية أكد الخبير الصهيوني شلومو بروم بأن تل أبيب لا يعنيها ما تشهده تونس حالياً من أحداث بقدر مخاوفها على مستقبل الأوضاع داخل جارتيها الكبيرتين، مصر والأردن، مشير إلى أن مكمن القلق الصهيوني يتمحور حول انتقال عدوى تونس إليهما، سواء على المدى القصير أم البعيد.
اختبار أوباما:
فيما اعتبر الخبير الصهيوني بنحاس عنباري في تقرير له نشره المركز الأورشليمي للدراسات العامة والسياسية، الثورة التونسية أول اختبار حقيقي لنظرية الرئيس الأمريكي باراك أوباما، والتي تدعو إلى الاقتراب من الإسلام؛ حيث إنه من غير المستبعد مشاركة حزب أو حركة إسلامية للمرة الأولى في حكومة دولة عربية مقربة للغرب، وأنها ستكون مبرراً قوياً له لمطالبة الأنظمة العربية بمزيد من الإصلاحات الديمقراطية، والسماح بقدر أكبر من الحرية السياسية، وهو بالفعل ما طالبت به وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون مع اليوم الأول لسقوط الرئيس التونسي المخلوع. ويرى عنباري بأن أحداث تونس فرصة جيدة لإسرائيل لعدم مطالبتها بمزيد من الاستحقاقات للفلسطينيين، التي باتت قضيتهم على هامش الأولويات العربية عقب أحداث تونس الأخيرة، والأحداث المرتقب أن تشهدها لبنان خلال الساعات القادمة، مع إعلان نتائج التحقيقات في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
دور الموساد:
على أية حال فمن غير المستبعد أن ينشط عملاء الموساد الصهيوني على الأراضي التونسية خلال الفترة القادمة بهدف السعي للحفاظ على التواجد اليهودي في تونس الذي يعد الأكبر في دولة عربية على الإطلاق من جانب، والعمل من جانب آخر على التأكد من وجود عملاء له في النظام الحاكم الجديد المقرر أن يحكم تونس الفترة القادمة، لضمان استمرار العلاقات التطبيعية التي كانت قائمة بين تل أبيب ونظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، والتي شملت كافة المجالات.
إجمالاً يمكن أن نستخلص مما سبق نتيجة مفادها أن القراءة "الإسرائيلية" للثورة التونسية تختلف في أبعادها ودلالاتها عن أية قراءات إقليمية أخرى، وأن الكيان الصهيوني سيسعى بدون شك، إلى ترقب هذا التغيير غير المعهود في الدول العربية عن كثب لمتابعة تطوراته، التي بلا ريب سينعكس أثرها الأكبر على القضية الفلسطينية، التي تم تمر حالياً بأحرج فتراتها على الإطلاق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق