وهي قمة التكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم
روى الإمام أحمد وغيره: فعن رجل من باهلة: أنه أتي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، أنا الرجل الذي جئتك عام الأول، فقال: فما غيَّرك وقد كنت حسن الهيئة؟ قال: ما أكلت طعامًا إلا بليل منذ فارقتك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لِمَ عذبْت نفسك؟" ثم قال: صم شهر الصبر، ويومًا من كل شهر. قال: زدني، فإن بي قوة. قال: صم يومين. قال. زدني. قال: صم من الحُرُم واترك. صم من الحُرُم واترك. صم من الحُرُم واترك، وقال بأصابعه الثلاثة فضمها، ثم أرسلها". رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي بسند جيد.
ومن هنا يظهر ما يعتقده بعض العامة من فضائل شهر رجب عن غيره حتى اتخذه بعضهم موسماً يقيمون فيه حفلات دينية للعبادة والذكرى، لا أساس لها، فالإسلام لا يعرف لشهر رجب سوى أنه ظرف لمعجزة الإسلام الكبرى الإسراء والمعراج التي كانت في السابع والعشرين من رجب، وأنه أحد الأشهر الأربعة الحُرم التي قرر الله حُرمتها في شرعه القديم واستمرت كذلك في الإسلام وفيه نزل قوله تعالى في سورة التوبة: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم﴾ التوبة: 36
كما نتناول بالتفصيل في هذه المناسبة قصة الإسراء والمعراج كما وردت في كتب الصحاح. مع بيان العبرة والدروس المستفادة من كل موقف فنقول بعون الله:
لقد كانت رحلة الإسراء والمعراج إعلاناً عالمياً بين أهل الأرض جميعاً وأهل السماء، بأن خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم نبي القبلتين وإمام المشرقين والمغربين ووارث الأنبياء قبله، وقدوة الأجيال بعده صلى الله عليه وسلم.
جاء في صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته، حتى أتيت بيت المقدس قال: فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء، قال ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت، فجائني جبريل عليه السلام: بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل – عليه السلام: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل، فقيل من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. فَفُتح لنا، فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، عليه السلام، فقيل من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن منعك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه فَفُتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا، صلوات الله عليهما – فرحبا ودعوا لي بخير، ثم عرج بي على السماء الثالثة، فاستفتح جبريل. عليه السلام فقيل من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. فَفُتح لنا فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم – إذا هو قد أعطى شَطر الحسن، فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بي على السماء الرابعة، فاستفتح جبريل – عليه السلام – فقيل من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه فَفُتح لنا، فإذا أنا بإدريس فرحب ودعا لي بخير، قال الله – عز وجل: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ مريم: 57 ثم عرج بي إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل – عليه السلام – فقيل من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم: قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. فَفُتح لنا، فإذا أنا بهارون صلى الله عليه وسلم فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل عليه السلام – فقيل من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. فَفُتح لنا، فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم – فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه فَفُتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال. قال فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها، من حسنها، فأوحى الله إليّ ما أوحى، ففرض عليّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى صلى الله عليه وسلم فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة قال: ارجع على ربك فأسأله التخفيف فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم قال: فرجعت ربي، فقلت يا رب خفف على أمتي، فحط عني خمسة، فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمسا قال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، فأرجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى – وبين موسى عليه السلام – حتى قال يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا فإن عملها كتبت سيئة واحدة قال، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى عليه السلام فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فأسأله التخفيف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحيت منه[1]
1- قراءة للحدث في ظل العلم الحديث:
وقد اشتملت هذه القصة من خوارق العادة على ما يدهش سامعه فضلاً عمن شاهده، فقد جرت العادة بأن من شق بطنه، وأخرج قلبه يموت لا محالة ومع ذلك فلم يؤثر فيه ذلك ضرراً ولا وجعاً فضلاً عن غير ذلك.
والعلم الحديث في تقدمه يجعل الكثير مما كان يستبعده السلف الصالح، رضوان الله عليهم ممكنا، لأنهم بحكم العادة وبقدر ما أوتوا من العلم كانوا يحكمون باستحالة الشيء.
فمثلاً شق الصدر، واستخراج القلب دون موت صاحبه مستحيل.
والسير من مكة إلى بيت المقدس في ساعة من ليل مستحيل..
ولكننا في عصرنا هذا، والذي أوتينا فيه حظاً من العلم لم يعد ذلك من المستحيلات، بل صار من الممكنات التي أصبحت في مقدور الإنسان في ظل المركبة الحديثة.. الطائرة والصاروخ والتي هي من صنع الإنسان، ألا يقدر من هو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير على أن يسري بنبيه في ساعة من ليل: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه﴾ الإسراء:1
حكمة الإسراء إلى المسجد الأقصى:
والحكمة في العروج من المسجد الأقصى دون أن يكون العروج مباشرة من المسجد الحرام، حتى يجمع النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة بين رؤية القبلتين، أو لأن بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء قبله، فحصل له الرحيل إليه في الجملة ليجمع بين أشتات الفضائل،، أو لأنه محل الحشر، وغالب ما اتفق له في تلك الليلة يناسب الأحوال الأخروية، فكان المعراج منه أليق بذلك، أو للتفاؤل بحصول أنواع التقديس له حسا ومعنى أو ليجتمع بالأنبياء جملة[2]
وقال ابن أبي جمرة: الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء أردة إظهار الحق لمعاندة من يريد إخماده، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء، لم يجد لمعاندة العداء سبيلا إلى البيان والإيضاح، فلما ذكر أنه أسرى به إلى بيت المقدس، سألوه عن تعريفات جزئيات من بيت المقدس كانوا رأوها، وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذا صح خبره في ذلك لزم تصديقه في بقية ما ذكره،، فكان ذلك زيادة في إيمان المؤمن، وزيادة في شقاء الجاحد والمعاند[3]
وقد حدث بالفعل، فحينما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهم عن رحلته، طلبوا منه أن يصف لهم المسجد الأقصى،، فعن جابر بن عبدالله – رضي الله عنه – أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لما كذبتني قريش قمت في الحجر، فجلي الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته – وأنا أنظر إليه"[4].
وفي رواية: "… فقال رجل من القوم: يا محمد، هل مررت بإبل لنا في مكان كذا وكذا؟ قال: "نعم، والله قد وجدتهم قد ضلوا بعير لهم فهم في طلبه" قال: هل مررت بإبل لبني فلان؟ قال: نعم" وجدتهم في مكان كذا وكذا، وقد انكسرت لهم ناقة حمراء، فوجدتهم وعندهم قصعة من ماء فشربت ما فيها" قالوا فأخبرنا عن عدتها وما فيها من الرعاء؟ قال: "قد كنت عن عدتها مشغولا" فقام وأتى بالإبل فعدها، وعلم ما فيها من الرعاء، ثم أتى قريشاً فقال لهم: ، وسألتموني عن إبل بني فلان، فهي كذا وكذا، وفيها من الرعاء فلان وفلان، وسألتموني عن إبل بني فلان، فهي كذا وكذا، وفيها من الرعاء ابن أبي قحافة، وفلان وفلان، وهي مصبحتكم الغداة الثنية"[5]
وللمسلم أن يقرأ هذه النصوص في ظل التطور العلمي الحديث الذي جعل من الكرة الأرضية كلها قرية صغيرة، تتناقل الحدث على أي جزء منها لحظة وقوعه، بالصوت والصورة، وكأن الرائي والمشاهد بينهم، هذا لم يتحقق للإنسان إلا في القرن الحالي..
فماذا يقول المسلم حين يعلم أن نبيه – صلى الله عليه وسلم – منذ أربعة عشر قرناً نقل إليه المكان، وأخذ ينظر إليه ويقدم وصفا تفصيليا له، ففي بعض الروايات: "فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به"[6]
وهذا أبلغ في المعجزة، ولا استحالة فيه، فقد أحضر عرش بلقيس في طرفة عين لسليمان…
ولعل هذا يجعلنا ندرك عجز العلم الحاضر رغم تقدمه وارتقائه، وصدق الحق تبارك وتعالى – في قوله: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا﴾ الإسراء: 85.
4- المسجد الأقصى حل وملك للمسلمين بلا منازع:
نضيف إلى ما سبق من الحكمة من الإسراء إلى بيت المقدس:
كأن الله يعلم أن الصراع حول هذه البقعة المباركة من الأرض سيدور رحاه في قابل الزمن، وأن كل أمة ستدعي أحقيتها بملكية هذه الأرض وأحقيتها في الاستيلاء والسيطرة عليها، لأن نبيهم وطأ تلك الأرض بقدميه ونزل فيها، وبذلك يكون جزء من عقيدتهم وبنص من كتبهم،، لا يتأتى لهم التخلي عن شر من تلك الأرض…
والتاريخ شاهد ناطق بصحة وصدق ما ذهبنا إليه…
ألا ترى إلى توالي الحروب الصليبية تترا للعودة إلى تلك الديار التي شهدت مولد المسيح…
ألا ترى تدفق شراذم اليهود من كل حدب وصوب ليقيموا دولتهم حول هيكل سليمان.
وهاتان هما الديانتان اللتان لهما بقية من كتاب محرف تستند إليه..
ووسط هذا الصراع يحسم الإسلام المعركة على تلك البقعة المباركة بسند من ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيد﴾ فصلت: 41-42.
فيقول الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير﴾ الإسراء:1.
وبسند آخر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم – والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة، ثم أليس المسلم الحق بتلك البقعة المباركة، التي أمر كل مسلم على ظهر الأرض بأن يشد إليها الرجال، ويحج إليها، كما يشد الرحال إلى المسجد الحرام والمسجد النبوي، فعن أبي هريرة رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم – ومسجد الأقصى"[7]
وفي رواية: "إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي ومسجد إيلياء"[8]
إن هذا يوجب على كل المسلمين أن تكون هذه المنطقة تحت يد المسلمين وفي حوزتهم حتى يكون طريق المسجد الأقصى آمنة، ومفتوحة أمامهم، يشدون الرحال إليه، ولا يصدهم عنه أحد…
وإذا كان لهؤلاء في تلك الديار مقدسات يعظمونها ويحجون إليها، فإن الإسلام يحترمها، ويحافظ عليها، فإن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تعيش في كنفه بقية الأديان دون إكراه لها على غير ما تعتقد، لأنه يقر بها، ويسمح لأصحابها بأداء شعائرهم.
أما غير الإسلام فإنه لا يرى إلا نفسه، ومن ثم يسحق كل من خالفه، وصدق ربنا حيث قال: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَاب﴾ البقرة:113.
وقال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِين﴾ البقرة: 145.
وفي إسرائه إلى المسجد الأقصى وإمامته للأنبياء إعلان لتسليم القيادة لهذه الأمة، وإذا كان أنبياؤهم قد اتبعوا نبياً وصلوا من خلفه، فعلى أتباعهم لو كانوا صادقين في إيمانهم بأنبيائهم، وإتباعهم لهم أن يتبعوا هذا النبي، ويأتموا به لاسيما وأن كتبهم التي بين أيديهم قد بشرت به: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد﴾ يوسف: 6.
كما أنهم يعرفون النبي حق المعرفة، كما يعرفون أبناءهم: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُون﴾ البقرة: 146.
4- استخلاصات للسلف من الحديث:
وفي ربط البراق الأخذ بالاحتياط في الأمور، وتعاطي الأسباب، وأن ذلك لا يقدح في التوكل، إذا كان الاعتماد على الله تعالى[9]
وفيه استحباب لقاء أهل الفضل بالبشر والترحيب والكلام الحسن والدعاء لهم وإن كانوا أفضل من الداعي.
وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه، إذا أمن عليه الإعجاب وغيره من أسباب الفتنة.
وفيه استدلال على جواز الاستناد إلى القبلة وتحويل الظهر إليها، حيث وصف النبي صلى الله عليه وسلم – إبراهيم عليه السلام بأنه كان مسنداً ظهره إلى البيت المعمور.
وفيه دليل على علو منزلة نبينا صلى الله عليه وسلم وارتفاع درجته وإبانة فضله، حيث ارتفع فوق ما منازل سائر الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم – وبلغ حيث بلغ من ملكوت السماوات[10]
5- حكمة شق الصدر:
وقال ابن أبي جمرة: الحكمة في شق قلبه – مع القدرة على أن يمتلئ قلبه إيماناً وحكمة بغير شق – الزيادة في قوة اليقين، لأنه أعطى برؤية شق بطنه، وعدم تأثره بذلك ما أمن معه من جميع المخاوف العادية، فلذلك كان أشجع الناس وأعلاهم حالاً ومقالاً: ولذلك وصف بقوله تعالى: ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ النجم: 17.
وكان شق الصدر في الطفولة وعند البعثة وعند الإسراء ولكل منها حكمة…
فالأول كما عند مسلم من حديث أنس: "فأخرج علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك.." وكان هذا في زمن الطفولية فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان…
ثم وقع شق الصدر عند البعث زيادة في إكرامه ليتلقى ما يوحي إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير.
ثم وقع شق الصدر عند البعث زيادة في إكرامه ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهر.
ثم وقع شق الصدر عند إرادة العروج إلى السماء ليتأهب للمناجاة، ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة كما تقرر في شرعه صلى الله عليه وسلم[11]
6- النيل والفرات:
وفي هذا الحديث أن أصل النيل والفرات من الجنة، وأنهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض، ثم، يسيران فيها، ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الخبر فليعتمد واستل به على فضيلة ماء النيل والفرات، لكونه منبعهما من الجنة.
وقيل: إنما أطلق على هذه الأنهار أنها من الجنة تشبيها لها بأنهار الجنة لما فيها من شدة العذوبة والحسن والبركة، والأول أولى، والله أعلم[12]
وفي الحديث أن للسماء أبواباً حقيقية، وحفظة موكلين بها.
وفيه إثبات الاستئذان، وأنه ينبغي لمن يستأذن أن يقول أنا فلان، ولا يقتصر على أنا، لأنه ينافي مطلوب الاستفهام، وأن المار يسلم على القاعد، وإن كان المار أفضل من القاعد.
وفيه استحباب تلقي أهل الفضل بالبشر والترحيب والثناء والدعاء، وجواز مدح الإنسان المأمون عليه الافتتان في وجهه.
وفي جواز الاستناد إلى القبلة بالظهر وغيره مأخوذاً من استناد إبراهيم على البيت المعمور، وهو كالكعبة في أنه قبلة من كل جهة.
وفيه فضل السير بالليل على السير بالنهار لما وقع من الإسراء بالليل، وذلك كانت أكثر عبادته – صلى الله عليه وسلم – بالليل، وكان أكثر سفره – صلى الله عليه وسلم بالليل، وقال، صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل"[13]
وفيه أن التجربة أقوى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة، يستفاد ذلك من قول موسى عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: أنه عالج الناس قبله وجربهم، ويستفاد منه تحكيم العادة، والتنبيه بالأعلى على الأدنى، لأن من سلف من الأمم كانوا أقوى أبداناً من هذه الأمة، وقد قال موسى في كلامه إنه عالجهم على أقل من ذلك فما وافقوه"[14]
قال الخطابي في تعليقه على قوله صلى الله عليه وسلم حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام – هو صوت ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى ووحيه وما ينسخونه من اللوح المحفوظ، أو ما شاء الله تعالى من ذلك أن يكتب ويرفع لما أراده من أمره وتدبيره.
قال القاضي: في هذا حجة لمذهب أهل السنة في الإيمان بصحة كتابة الوحي والمقادير في كتب الله تعالى من اللوح المحفوظ، وما شاء بالأقلام التي هو تعالى يعلم كيفيتها على ما جاءت به الآيات من كتاب الله تعالى والأحاديث الصحيحة، وأن ما جاء من ذلك على ظاهره، لكن كيفية ذلك وصورته وجنسه مما لا يعلمه إلا الله تعالى، أو من أطلعه على شيء من ذلك من ملائكته ورسله، وما يتأول هذا، ويحيله عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان، إذ جاءت به الشريعة المطهرة، ودلائل العقول لا تحيله، والله تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد حكمة من الله تعالى، وإظهاراً لما يشاء من غيبه لمن يشاء من ملائكته وسائر خلقه، وإلا فهو غني عن الكتب والاستذكار سبحانه وتعالى[15].
إن الأحداث تجري والأيام تتابع فهل تحقق شيء من أمالنا؟ ورغم الظلام الدامس والليل الطويل والافتراء والتأمر من جانب الصهاينة وغيرهم على الأمة فإن المتأمل يرى عن بعد لمعات في الظلام تنبئ قرب الفجر الصادق.
هناك إشارات صادقة ما تخيب أبداً بإذن الله وإرهاصات تتابع والأحداث وحدها تحول المسلمين إلى اليقظة بعد نوم طويل استمر أزماناً وقروناً، واليوم وضح الرؤية والوعي الصحيح لدى هذه الأمة في شتى بقاع الأرض بعد أن أيقظتها ضربات العدو واقتراب الخطر فتحركت أو بدأت الحركة في كل مكان وبدأ الإحساس بالضياع والالتفاف حول هذا الحق وكل عمل صالح لن يضيع بإذن الله ونصر الله لا يستطيع مخلوق أن يرده والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
[1] النووي على مسلم 2/209 [259(162)].
[2] فتح الباري 7/197.
[3] فتح الباري 7/201.
[4] فتح الباري 7/196/3886.
[5] الدر المنشور 4/274.
[6] النووي على مسلم 2/237 [278(178)].
[7] فتح الباري 3/63/1189. النووي على مسلم 9/[167[511(1397)],
[8] النووي على مسلم 9/[168[512(1397)],
[9] سابق ص 211.
[10] مرجع سبق 2/221.
[11] فتح الباري: 7/205.
[12] فتح الباري: 7/214.
[13] أبو داود 3/28/2571.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق