الفتح المبين (صلح الحديبية)
تاريخه وأسبابه ومخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة
أولاً تاريخه وأسبابه:
في يوم الاثنين الأول من ذي القعدة سنة 6هـ([1]) خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة متوجها بأصحابه إلى مكة لأداء العمرة([2]), وسبب هذه الغزوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا في منامه وهو في المدينة، وتتلخص هذه الرؤيا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنه قد دخل مكة مع أصحابه المسلمين محرمًا مؤديًا للعمرة، وقد ساق الهدي معظمًا للبيت مقدسًا له، فبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ففرحوا بها([3]) فرحًا عظيمًا, فقد طال عهدهم بمكة والكعبة التي رضعوا بلبان حبها ودانوا بتعظيمها، وما زادهم الإسلام إلا ارتباطًا بها وشوقًا إليها، وقد تاقت نفوسهم إلى الطواف حولها، وتطلعت إليها تطلعًا شديدًا، وكان المهاجرون أشدهم حنينًا إلى مكة، فقد ولدوا ونشأوا فيها وأحبوها حبًّا شديدًا، وقد حيل بينهم وبينها، فلما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، تهيأوا لتلك الزيارة العظيمة([4]), واستنفر صلى الله عليه وسلم أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه؛ لأنه كان يخشى أن تصده قريش عن البيت الحرام، وكانت استخبارات المدينة قد علمت بأمر التحالف العسكري الذي عقد بين قريش في جنوب المدينة المنورة وخيبر في شمالها، وكان هدف هذا التحالف جعل الدولة الإسلامية بين طرفي الكماشة، ثم إطباق فكيها عليها وإنهاء الوجود الإسلامي فيها، فقد حان الوقت لكسر ذلك التحالف سياسيًّا، فقد كانت الكعبة في نظر العرب قاطبة ليست ملكًا لقريش، بل هي تراث أبيهم إسماعيل، ولهذا فليس من حق قريش أن تمنع من زيارتها من تشاء، وتجيز من تشاء, فإذن من حق محمد وأصحابه زيارة الكعبة([5]).
وانتشر خبر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قبائل العرب، وكان انتشار الخبر له أثر في الرأي العام، وخصوصًا بعدما أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يريد حربًا، وإنّما يريد أن يعتمر ويعظم شعائر الله، وحقق هذا الفعل الكريم مكاسب إعلامية رفيعة المستوى، وقد كان هدف النبي صلى الله عليه وسلم معلنًا ألا وهو زيارة بيت الله الحرام لأداء العمرة، فتجرد هو وأصحابه من المخيط، ولبسوا ثياب الإحرام، وأحرم بالعمرة من ذي الحليفة بعد أن قلد الهدي وأشعره([6]). وقد كان صلى الله عليه وسلم على جانب كبير من الحيطة والحذر، فقد أرسل بشر بن سفيان الخزاعي عينًا له([7]), وقدم بين يديه طليعة استكشافية مكونة من عشرين رجلاً, وفي ذلك يقول الواقدي: (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر فقدمه أمامه طليعة في خيل المسلمين من عشرين فارسًا، وكان فيها رجال من المهاجرين والأنصار)([8]) وكان هدفه صلى الله عليه وسلم من ذلك الاستعداد للطوارئ التي يمكن أن يفاجأ بها، وأيضا فقد كانت مهمة هذه الطليعة استكشاف خبر العدو([9]).
وأخذ صلى الله عليه وسلم بمشورة عمر في ذي الحليفة عندما قال له: يا رسول الله تدخل على قوم هم لك حرب بغير سلاح ولا كراع؟ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من يحمل له الكراع والسلاح([10])، وكان قصده صلى الله عليه وسلم من ذلك: الاستعداد لهؤلاء الأعداء، الذين يملكون السلاح والعتاد ما يستطيعون به إلحاق الأذى بالمسلمين والنيل منهم([11])، وهذا التعامل مع سنة الأخذ بالأسباب من هديه الكريم الذي جعله لأمته لتقتدي به من بعده صلى الله عليه وسلم, لما في ذلك من المصالح الكثيرة، ولما فيه من درء مكايد الأعداء الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر([12]).
ثانيًا: وصول النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان:
لما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي الخزاعي، فقال: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك ومعها العوذ المطافيل([13]), قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ويح ([14]) قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون ([15]) , وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش؟ والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهر الله له أو تنفرد هذه السالفة»([16]). وقد استشار صلى الله عليه وسلم أصحابه لما بلغه خبر استعداد قريش لصده عن دخول البيت الحرام، وعرض صلى الله عليه وسلم على الصحابة -رضي الله عنهم- المشورة في هذا الأمر على رأيين يحملان العزم والتصميم:
1- الميل إلى عيال وذراري الأحابيش الذين خرجوا لمعاونة قريش على مقاتلة المسلمين وصدهم عن البيت.
2- قصد البيت الحرام, فمن صده عنه قاتله حتى يتمكن من تحقيق هدفه([17]). ولما عرض صلى الله عليه وسلم المشورة في هذا الأمر على الصحابة تقدم أبو بكر الصديق برأيه الذي تدعمه الحجة الواضحة، حيث أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك قتالهم والاستمرار على ما خرج له من أداء العمرة حتى يكون بدء القتال منهم، فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرأي, وأخذ به وأمر الناس أن يمضوا في هذا السبيل([18]). وعندما اقتربت خيل المشركين من المسلمين صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف بعسفان.
ثالثًا: الرسول صلى الله عليه وسلم يغير الطريق وينزل بالحديبية:
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشًا قد خرجت تعترض طريقه وتنصب كمينًا له ولأصحابه بقيادة خالد بن الوليد، وهو لم يقرر المصادمة, رأى أن يغير طريق الجيش الإسلامي تفاديًا للصدام مع المشركين، فقال: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله، فسلك بهم طريقا وعرًا بين شعاب شق على المسلمين السير فيه حتى خرجوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، وعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: «قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه» فقالوا ذلك. فقال: «والله إنها الحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها»([19]).
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمش في طريق تخرجه إلى ثنية المرار، مهبط الحديبية من أسفل مكة، فسلك الجيش ذلك الطريق بخفة ودون أن يشعر به أحد، فما نظر خالد إلا وقترة([20]) جيش المسلمين قد ثارت، فعاد مسرعًا هو ومن معه إلى مكة يحذر أهلها, ويأمرهم بالاستعداد لهذا الحدث المفاجئ([21]), وقد أصاب الذعر المشركين وفوجئوا بنزول الجيش الإسلامي بالحديبية حيث تعرضت مكة للخطر، وأصبحت مهددة من المسلمين تهديدًا مباشرًا([22]).
يقول اللواء محمود شيت في هذا الدرس الرائع:
لم تكن حركة المسلمين على هذا الطريق خوفًا من قوات الجيش، فالذي يخاف من عدوه لا يقترب من قاعدته([23]) الأصلية، وهي مركز قواته، بل يحاول الابتعاد عن قاعدة العدو الأصلية حتى يطيل خط مواصلات العدو، وبذلك يزيد من صعوباته ومشاكله، ويجعل فرصة النصر أمامه أقل من حالة الاقتراب من قاعدته الأصلية([24]).
وقد جاء في كتاب (اقتباس النظام العسكري في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم) ما بيَّن الحكمة من تغيير الطرق ما نصه: ويؤخذ من اتخاذ الأدلة والتحول إلى الطرق الآمنة أن القيادة الواعية البصيرة، تسلك في سيرها بالجيش طرقًا بعيدة عن المخاطر والمهالك وتتجنب الدروب التي تجعل الجيش خاضعًا تحت تصرفات العدو وهجماته([25]).
رابعًا: ما خلأت القصواء, وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل:
وعندما اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية، بركت ناقته القصواء، فقال الصحابة رضي الله عنهم: خلأت القصواء([26]), فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل»، ثم قال: «والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها»([27]) ثم زجرها فوثبت ثم عدل عن دخول مكة، وسار حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد –بئر- قليل الماء، ما لبثوا أن نزحوه ثم اشتكوا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهمًا من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيها، فجاش لهم بالري فارتووا جميعا([28])، وفي رواية أنه جلس على شفة البئر فدعا بماء فمضمض ومج في البئر([29]). ويمكن الجمع بأن يكون الأمران معا وقعا، كما ذكر ابن حجر([30]), ويؤيده ما ذكره الواقدي([31]), وعروة([32]) من أن الرسول صلى الله عليه وسلم تمضمض في دلو وصبه في البئر، ونزع سهمًا من كنانته فألقاه فيها ودعا ففارت([33]).
وفي بروك ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه بعد ذلك دروس وعبرمنها:
1- كل شيء في هذا الكون يسير بأمر الله ومشيئته، ولا يخرج في سيره عن مشيئته وإرادته, فتأمل في ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أين بركت، وكيف كره الصحابة بروكها وحاولوا إنهاضها لتستمر في سيرها فيستمروا في سيرهم إلى البيت العتيق مهما كانت النتائج، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد غير ذلك([34]).
2- وقد استنبط ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- فائدة جليلة من قوله صلى الله عليه وسلم: «حبسها حابس الفيل»([35]) فقال: وفي هذه القصة جواز التشبيه من الجهة العامة وإن اختلفت الجهة الخاصة؛ لأن أصحاب الفيل كانوا على باطل محض، وأصحاب هذه الناقة كانوا على حق محض، لكن جاء التشبيه من جهة إرادة الله منع الحرم مطلقًا, أما من أهل الباطل فواضح، وأما من أهل الحق فللمعنى الذي تقدم ذكره([36]).
3- ومن الفوائد أن المشركين وأهل البدع والفجور، والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمرًا يعظمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى، أجيبوا إليه وأعطوه، وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيعانون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك, فكل من التمس المعاونة على محبوبٍ لله تعالى مُرْضٍ له، أجيب إلى ذلك كائنًا من كان، ما لا يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضيع وأصعبها، وأشقها على النفوس([37]).
4- إن الله سبحانه وتعالى، جلت قدرته، وعزت عظمته, قضى ألا يكون قتال بين المسلمين والمشركين من أهل مكة في هذه الغزوة بالذات؛ لحكم ظهرت فيما بعد منها:
أ- دخول المسلمين بالقوة يعني أن تحدث مذابح، وتزهق أرواح كثيرة، وتسفك دماء غزيرة من الطرفين، وهذا أمر لم يرده الباري سبحانه، وكان لمصلحة الفريقين المؤمنين والمشركين.
ب- إن من المحتمل أن ينال الأذى والقتل والتشريد على أيدي المؤمنين بعض المستضعفين من إخوانهم من المسلمين في مكة، وهذا فيه ما فيه من المعرة التي لا يليق بمسلم أن يقع فيها، قال سبحانه: ( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) [الفتح: 25].
ج- لقد سبق في علم الله عز وجل أن هؤلاء الذين يقفون اليوم صادين رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم عن المسجد الحرام، هم الذين سيفتح قلوبهم إلى الإسلام, ويستفتح الله على أيديهم بلادًا كثيرة، حين يحملون هذه الرسالة للناس، وينيرون ظلمة الطريق للمدلجين([38]).
خامسًا: السفارة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش:
بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وسعه لإفهام قريش أنه لا يريد حربًا معهم، وإنما يريد زيارة البيت الحرام وتعظيمه وهو حق للمسلمين، كما هو حق لغيرهم، وعندما تأكدت قريش من ذلك أرسلت إليه من يفاوضه, ويتعرف على قوة المسلمين ومدى عزمهم على القتال إذا أُلجئوا إليه، وطمعًا في صد المسلمين عن البيت بالطرق السلمية من جهة ثالثة([39]).
1- ركب من خزاعة بقيادة بُدَيل بن ورقاء:
جاء بُدَيل بن ورقاء في رجال من خزاعة، وكانت خزاعة عيبة([40]) نصح رسول
الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، وبينوا أن قريشًا تعتزم صد المسلمين عن دخول مكة، فأوضح لهم الرسول صلى الله عليه وسلم سبب مجيئه، وذكر لهم الضرر الذي وقع على قريش من استمرار الحرب، واقترح عليهم أن تكون بينهم هدنة إلى وقت معلوم حتى يتضح لهم الأمر، وإن أبوا فلا مناص من الحرب, ولو كان في ذلك هلاكه، فنقلوا ذلك إلى قريش([41]), وقالوا لهم: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد، إن محمدًا لم يأت لقتال، وإنما جاء زائرًا هذا البيت، فاتهموهم وخاطبوهم بما يكرهون، وقالوا: وإن كان إنما جاء لذلك فلا والله لا يدخلها علينا عنوة أبدًا ولا تتحدث بذلك العرب([42]). وقد ظهرت براعة النبي صلى الله عليه وسلم السياسية في عرضه على مشركي مكة الهدنة والصلاح؛ لأن في ذلك فوائد كثيرة منها:
أ- فبالهدنة يضمن حياد قريش ويعزلها عن أي صراع يحدث في الجزيرة العربية، سواء كان هذا الصراع مع القبائل العربية الأخرى, أم مع اليهود ذلك العدو اللئيم الغادر الذي يتربص بالمسلمين الدوائر.
ب- حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يبقى الاتصال مفتوحًا بينه وبين قريش، ليسمع منهم ويسمعوا منه بواسطة الرسل، والسفراء، وفي هذا تقريب للنفوس وتبريد لجو الحرب، وإضعاف لحماسهم نحو القتال.
ج- حرص صلى الله عليه وسلم على أن تدرك خزاعة بقيادة بديل والركب الذي معه أن حليفهم قوي, فتزداد ثقتهم به وحلفهم له ولبني هاشم من قبل الإسلام، فقد بقي ولم يُلْغَ، وتأكد في صلح الحديبية.
د- إن العقلاء الذين يفكرون بعقولهم حين يسمعون كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه جاء معظمًا للبيت، والمشركون يردونه، وهو يصر على تعظيمه، سيقف هؤلاء بجانبه ويتعاطفون معه فيقوى مركزه، ويضعُف مركز قريش الإعلامي والديني في نفوس الناس.
هـ- إن مشركي مكة لم يطمئنوا إلى كلام بديل الذي نقله إليهم؛ ذلك لأنهم يعلمون أن خزاعة كانت عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشعرون بودّ خزاعة للرسول والمسلمين([43]).
و- ويؤخذ من جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لبديل بن ورقاء حسن التلطف في الوصول إلى الطاعات, وإن كانت غير واجبة، ما لم يكن ذلك ممنوعًا شرعًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب المشركين لما طلبوا منه، ولم يظهر لهم ما في النفوس من البغض لهم والكراهية فيهم لطفًا منه عليه السلام فيما يؤمل من البلوغ إلى الطاعة التي خرج إليها([44]).
2- سفارة عروة بن مسعود الثقفي:
لم تقبل قريش ما نقله بديل بن ورقاء الخزاعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء زائرًا للبيت ولم يأت مقاتلاً، واتهمتهم، بل وأسمعتهم ما يكرهون, فاقترح عليهم عروة بن مسعود الثقفي أن يقابل الرسول صلى الله عليه وسلم ويسمع منه، ثم يأتيهم بالخبر اليقين([45]). وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه فقال:... فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى, قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ ([46])، فلما بلحوا ([47]) عليَّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آتيه، قالوا: ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوًا من قوله لبديل([48]), فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإنني والله لا أرى وجوهًا، وإني لأرى أشوابًا([49]) من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك، فقال أبو بكر: امصص بظر([50]) اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟([51]) فقال: من ذاك؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
لقد حاول عروة بن مسعود أن يشنَّ على المسلمين حربًا نفسية حتى يهزمهم معنويًّا، فاستخدم عنصر الإشاعة, ويظهر ذلك عندما لوح بقوة قريش العسكرية، معتمدًا على المبالغة في تصوير الموقف بأنه سيؤول لصالح قريش لا محالة، وذلك بأن يوقع الفتنة والإرباك في صفوف المسلمين, وذلك حينما حاول إضعاف الثقة بين القائد وجنوده عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لأرى أشوابًا من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك, حاول ذلك من أجل التأثير على نفسيات المسلمين ولخدمة أهداف قريش العسكرية والإعلامية، وحاول أيضا أن يفتعل أزمة عسكرية كبيرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وجنوده من أجل التأثير على معنوياتهم وتحطيم عزائمهم، وهذا من أقوى أساليب الحرب النفسية التي استخدمت ضد المسلمين، أثناء تلك المفاوضات. وحاول عروة أن يثير الرعب وذلك بتخويف المسلمين من قوة قريش التي لا تقهر، وتصوير المعركة بأنها في غير صالحهم، لقد مارس عروة بن مسعود في مفاوضته عناصر الحرب النفسية من إشاعة وافتعال الأزمات وإثارة الرعب([52]), إلا أن تلك العناصر تحطمت أمام الإيمان العميق والتكوين الدقيق والصف الإسلامي المرصوص. ومن المفارقات الرائعة التي حصلت أثناء المفاوضات مع عروة بن مسعود وهي من عجائب الأحداث التي يستشف منها الدليل القاطع على قوة الإيمان التي كان يتمتع بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى قدرة هذا الدين في تحويل الإنسان من شيطان مريد إلى إنسان فاضل نبيل، حيث كان أحد الذين يتولون حراسة النبي صلى الله عليه وسلم أثناء محادثاته مع عروة بن مسعود الثقفي في الحديبية هو المغيرة بن شعبة([53]) -ابن أخي عروة بن مسعود نفسه- وكان المغيرة هذا قبل أن يهديه الله للإسلام شابًّا فاتكًا سكيرًا، قاطعًا للطريق غير أن دخوله للإسلام حوله إلى إنسان آخر، وقد أصبح بفضل الله تعالى من الصفوة المؤمنة، وقد وقع عليه الاختيار ليقوم بمهامّ حراسة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الجو الملبد بغيوم الحرب، وكان من عادة الجاهلية في المفاوضات، أن يمسك المفاوض بلحية الذي يراه ندًّا له أثناء الحديث، وعلى هذه القاعدة كان عروة بن مسعود يمسك بلحية رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء المناقشة، الأمر الذي أغضب المغيرة بن شعبة الذي كان قائمًا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف يحرسه وعلى وجهه المغفر فانتهر عمه وقرع يده بقائم السيف قائلاً له: اكففْ يدك عن مس لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم للذي يجري بين عروة المشرك وبين ابن أخيه المؤمن، ولما كان المغيرة بن شعبة يقف بلباسه الحربي متوشحًا بسيفه ودرعه وعلى وجهه المغفر، فإن عمه عروة لم يكن باستطاعته معرفته، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في أشد الغضب، ليت شعري من أنت يا محمد؟ من هذا الذي أرى من بين أصحابك؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، فقال له عمه: وأنت بذلك يا غُدر؟ لقد أورثتنا العداوة من ثقيف أبد الدهر، والله ما غسلت غدرتك إلا بالأمس. كان المغيرة صحب قومًا في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء([54]).
لقد فشل عروة في مفاوضاته، ورجع محذرًا قريشًا من أن تدخل في صراع مسلح مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال لهم: يا قوم, والله لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على قيصر, وكسرى، والنجاشي، وإني والله ما رأيت ملكًا قط أطوع فيمن هو بين ظهرانيه من محمد وأصحابه، والله ما يشدون إليه النظر، وما يرفعون عنده الصوت، وما يكفيه إلا أن يشير إلى أمر فيُفعل، وما يتنخم وما يبصق إلا وقعت في يدي رجل منهم يمسح بها جلده، وما يتوضأ إلا ازدحموا عليه أيهم يظفر منه بشيء، وقد حزرت القوم، واعلموا إنكم إن أردتم السيف، بذلوه لكم، وقد رأيت قومًا ما يبالون ما يصنع بهم، إذا منعوا صاحبهم، والله لقد رأيت نسيات معه، وإن كن ليسلمنه أبدًا على حال، فروا رأيكم، وإياكم وإضجاع([55]) الرأي, فمادوه يا قوم، اقبلوا ما عرض فإني لكم ناصح مع أني أخاف ألا تنصروا عليه؛ رجل أتى هذا البيت معظمًا له، معه الهدي، ينحره وينصرف، فقالت قريش: لا تكلم بهذا يا أبا يعفور([56]), لو غيرك تكلم بها للمناه، ولكن نرده عن البيت في عامنا هذا ويرجع قابل([57]).
لقد انتقلت الحرب النفسية وتأثيرها في صفوف المسلمين لتعمل داخل جبهة قريش وفي نفوسهم، فقد كان تصوير عروة لما رآه صادقًا، حيث بيَّن لقريش وضع المسلمين في الحديبية، من طاعتهم لنبيهم الكريم وحبهم له وتفانيهم بالدفاع عنه، وبما يتمتعون به من معنويات عالية جدًّا، واستعداد عسكري ونفسي يفوق الوصف، فكان ذلك بمثابة التحذير الفعلي لقريش بعدم التعجيل والدخول في حرب مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مما قد تكون نتائج هذه المعركة لصالح المسلمين، الأمر الذي أسقط في أيدي زعمائها، ولم تكن قريش تتوقعه أبدًا في تقويمها للأمور، لقد كان وقع كل كلمة قالها سيد ثقيف كالصاعقة على مسامع نفوس زعماء قريش، لقد كان صلى الله عليه وسلم موفقًا من قبل الله تعالى، ولذلك نجد أثره على عروة بن مسعود, مما جعل الانشقاق يدب في معسكر قريش، وأخذت جبهة قريش تتداعى أمام قوة الحق الصامدة، وكذلك فقد انهارت حجة قريش في جمعها للعرب ضد النبي صلى الله عليه وسلم.
لقد نجح النبي صلى الله عليه وسلم بحكمته وذكائه نجاحًا عظيمًا، باستخدام الأساليب الإعلامية والدبلوماسية المتعددة للحصول على الغاية المنشودة، وهي تفتيت جبهة قريش الداخلية، وإيقاع الهزيمة في نفوسهم، وإبعاد حلفائهم عنهم وإن هذه النتيجة لتعد بحق نصرًا ساحقًا حققه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجبهات السياسية والإعلامية والعسكرية([58]).
3- سفارة الحُلس بن علقمة:
ثم بعثوا الحلس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون, فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه وأمر برفع الصوت في التلبية، فلما رأى الحلس الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، رجع إلى قريش قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك إعظاما لما رأى([59]) فقد كان الوادي مجدبًا لا ماء فيه ولا مرعى، وقد أكل الهدي أوباره من طول الحبس عن محله، ورأى المسلمين وقد استقبلوه رافعين أصواتهم بالتلبية وهم في زي الإحرام، وقد شعثوا من طول المكوث على إحرامهم.. ولذلك استنكر تصرف قريش بشدة، وانصرف سيد بني كنانة عائدًا من حيث أتى دون أن يفاتح النبي صلى الله عليه وسلم بشيء, أو أن يفاوضه كما كان مقررًا من قبل، واعتبر عمل قريش عدوانيًّا ضد زوار بيت الله الحرام، ولا يجوز لأحد أن يؤيدها أو أن يناصرها على ذلك([60])، فرجع محتجًّا على قريش التي أعلنت غضبها لصراحة الحلس، وحاولت أن تتلافى هذا الموقف الذي يهدد بانقسام خطير في جبهة قريش العسكرية، ونسف الحلف المعقود بين قريش والأحابيش، وقالوا لزعيم الأحابيش: إنما كل ما رأيت هو مكيدة من محمد وأصحابه، فاكفف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به([61]).
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عالمًا ومستوعبًا لشخصية الحلس ونفسيته، ويظهر ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: هذا من قوم يتألهون. فالواضح من هذه المعلومة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على معرفة تامة بهذا الرجل، وبحكم هذه المعرفة قد درس شخصيته دراسة موضوعية وذلك بما كان عنده من حب شديد من التعظيم للحرمات والمقدسات والعمل على الاستفادة الكاملة من هذا الجانب في كسب المعركة، وعلى هذا الأساس فقد قام صلى الله عليه وسلم بوضع خطة محكمة مناسبة تقضي بوضع الحقائق كاملة أمام هذا الرجل وإظهار موقف المسلمين أو على الأقل وقوفه على الحياد في هذا الصراع.
والجدير بالذكر أن الحلس كان يتمتع بسمعة طيبة بين العرب جميعًا؛ وذلك لما يتميز به من رجاحة العقل، ولما يتمتع به من مركز ممتاز بوصفه زعيمًا وقائدًا لقوات الأحابيش، كما كان يتمتع باحترام وتقدير من جانب النبي صلى الله عليه وسلم وقريش على حد سواء، لهذا فإنه إذا ما تبين له أن الحق والعدل في جانب المسلمين فإنه يستطيع أن يقوم بدور مهم في إحلال السلام بين الطرفين المتنازعين والعمل على كبح جماح قريش، وإقناعها بالعدول عن موقفها العدائي ضد المسلمين وصدهم عن المسجد الحرام، ومن هنا فقد كانت الدراسة النفسية التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لشخصية الحلس تتناسب كليًا مع المبادئ التي يؤمن بها, وعلى ذلك فقد كانت درجة التأثير والاستجابة الناتجة عن هذه العملية إيجابية تمامًا([62]) ومرضية, وهكذا استطاع صلى الله عليه وسلم أن يؤثر على عروة بن مسعود والحلس بن علقمة؛ مما جعل الانشقاق يدب في صفوف مشركي مكة.
يقول الأستاذ العقاد عن قدرة الرسول في توظيف الطاقات وإدارة الصراع: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم الخبير بتجنيد بعوث الحرب وبعوث الاستطلاع، وكان خبيرًا كذلك بتجنيد كل قوة في يده متى وجب القتال، إن كانت قوة رأي أو قوة لسان أو قوة نفوذ، فما نعرف أن أحدًا وجه قوة الدعوة توجيهًا أشد ولا أنفع في بلوغ الغاية من توجيهه عليه السلام. ثم يضيف الكاتب قائلا: والدعوة في الحرب, كما لا يخفى، لها غرضان أصيلان من بين أغراضها العديدة، أحدهما: إقناع خصمك والناس بحقك، وثانيهما: إضعافه عن قتالك بإضعاف عزمه وإيقاع الشتات بين صفوفه، ثم يقول: وربما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم برجل واحد في هذا الغرض ما لم تبلغه الدول بالفرق المنظمة([63]).
4- سفارة مكرز بن حفص:
وكان من سفراء قريش يوم الحديبية مكرز بن حفص، وقد روى البخاري ذلك فقال: فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا مكرز وهو رجل فاجر، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة، أنه لما جاء سهيل بن عمرو، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد سهل لكم من أمركم»([64]) ولنا حديث مع سهيل بإذن الله تعالى.
سادسًا: الوفود النبوية إلى قريش ووقوع بعض الأسرى في يد المسلمين:
رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن من الضرورة إرسال مبعوث خاص من جانبه إلى قريش يبلغهم نواياه السلمية بعدم الرغبة في القتال، واحترام المقدسات، ومن ثم أداء مناسك العمرة، والعودة إلى المدينة، فوقع الاختيار على أن يكون مبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريش (خراش بن أمية الخزاعي) وحمله على جمل يقال له (الثعلب), فلما دخل مكة عقرت به قريش وأرادوا قتل خراش فمنعهم الأحابيش، فعاد خراش بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما صنعت قريش, فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل سفيرًا آخر بتبليغ قريش رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووقع اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر على عمر بن الخطاب([65]), فاعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذهاب إليهم، وأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث عثمان مكانه([66])، وعرض عمر t رأيه هذا معززًا بالحجة الواضحة، وهي ضرورة توافر الحماية لمن يخالط هؤلاء الأعداء، وحيث إن هذا الأمر لم يكن متحققًا بالنسبة لعمر t, فقد أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بعثمان t، لأن له قبيلة تحميه من أذى المشركين حتى يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم([67]), وقال لرسول الله: إني أخاف قريشًا على نفسي، قد عرفت عداوتي لها، وليس بها من بني عدي من يمنعني، وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم([68]), فلم يقل رسول الله شيئًا، قال عمر: ولكن أدلك يا رسول الله على رجل أعز بمكة مني، وأكثر عشيرة وأمنع، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان t فقال: «اذهب إلى قريش فخبرهم أنا لم نأتِ لقتال أحد، وإنما جئنا زوارًا لهذا البيت، معظمين لحرمته، معنا الهدي، ننحره وننصرف» فخرج عثمان بن عفان t حتى أتى بلدح([69]), فوجد قريشًا هنالك فقالوا: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، تدخلون في الدين كافة، فإن الله مظهر دينه ومعز نبيه، وأخرى تكفون ويلي هذا منه غيركم, فإن ظفروا بمحمد فذلك ما أردتم، وإن ظفر محمد كنتم بالخيار أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون، إن الحرب قد نهكتكم، وأذهبت بالأماثل منكم.. فجعل عثمان يكلمهم فيأتيهم بما لا يريدون ويقولون: قد سمعنا ما تقول ولا كان هذا أبدًا، ولا دخلها علينا عنوة، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا.
فقام إليه أبان بن سعد بن العاص فرحب به وأجاره, وقال: لا تقصر عن حاجتك، ثم نزل عن فرس كان عليه، فحمل عثمان على السرج وردفه وراءه، فدخل عثمان مكة، فأتى أشرافهم رجلاً رجلاً، أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية وغيرهما, منهم من لقي ببلدح، ومنهم من لقي بمكة، فجعلوا يردون عليه: إن محمدًا لا يدخلها علينا أبدًا([70]).
وعرض المشركون على عثمان t أن يطوف بالبيت فأبى([71]), وقام عثمان بتبليغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المستضعفين بمكة، وبشرهم بقرب الفرج والمخرج([72])، وأخذ منهم رسالة شفهية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيها: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم منا السلام، إن الذي أنزله بالحديبية لقادر على أن يدخله بطن مكة([73]).
واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلاً من الفريق الآخر، وكانت معركة، وتراموا بالنبل والحجارة، وصاح الفريقان كلاهما, وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم([74]). وقد تحدث القرآن الكريم عن ذلك قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) [الفتح: 24].
وقد روى مسلم سبب نزول الآية السابقة: أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين، يريدون غرة([75]) النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سلمًا([76]) فاستحياهم([77]), فأنزل الله عز وجل الآية المذكورة([78]).
وهذا سلمة بن الأكوع يحدثنا عما حدث؛ قال: ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض، واصطلحنا قال: وكنت تبيعًا([79]) لطلحة بن عبيد الله، أسقي فرسه، وأحسه([80]) وأخدمه وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي، مهاجرًا إلى الله ورسوله، قال: فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحت شوكها([81]) فاضطجعت في أصلها، قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي: يا للمهاجرين قتل ابن زنيم, قال: فاخترطت سيفي([82]) ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم فجعلت ضغثًا([83]) في يدي قال: ثم قلت: والذي كرم وجه محمد ما يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه([84]), قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات([85]) يقال له مكرز يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس مجفف([86]) في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه» ([87]), فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله: ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) [الفتح: 24] ([88]).
قال ابن كثير: هذا امتنان من الله تعالى على عباده المؤمنين حيث كف أيدي المشركين عنهم, فلم يصل إليهم منهم سوء، وكف أيدي المؤمنين عن المشركين فلم يقاتلوهم عن المسجد الحرام، بل صان كلا من الفريقين وأوجد بينهم صلحًا فيه خير للمؤمنين وعافية في الدنيا والآخرة([89]).
سابعًا: بيعة الرضوان:
لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان t قُتل, دعا رسول الله أصحابه إلى مبايعته على قتال المشركين ومناجزتهم، فاستجاب الصحابة وبايعوه على الموت([90]), سوى الجد بن قيس، وذلك لنفاقه([91]). وفي رواية أن البيعة كانت على الصبر([92]), وفي رواية على عدم الفرار([93]), ولا تعارض في ذلك؛ لأن المبايعة على الموت تعني الصبر وعدم الفرار([94]).
وكان أول من بايعه على ذلك سنان عبد الله بن وهب الأسدي([95]) فخرج الناس بعده يبايعون على بيعته([96]), وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات، في أول الناس، وأوسطهم، وآخرهم([97]). وقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: «هذه يد عثمان» فضرب بها على يده([98]), وكان عدد الصحابة الذين أخذ منهم الرسول صلى الله عليه وسلم المبايعة تحت الشجرة ألفًا وأربعمائة صحابي([99]), وقد تحدث القرآن الكريم عن أهل بيعة الرضوان وورد فضلهم في نصوص كثيرة من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية منها:
قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) [الفتح: 10].
وهذه الآية فيها ثناء ومدح عظيم لأهل بيعة الرضوان فقد جعل الله مبايعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم مبايعة له, وفي هذا غاية التشريف والتكريم لهم رضي الله عنهم([100]).
وقد ورد الثناء عليهم في السنة المطهرة في أحاديث كثيرة ومن ذلك ما يلي:
أ- من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: «أنتم خير أهل الأرض». وكنا ألفًا وأربعمائة ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة([101]).
ب- وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أخبرتني أم مبشر: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: «لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها» قالت: بلى يا رسول الله, فانتهرها, فقالت حفصة: ( وَإِن مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد قال الله عز وجل: ( وَإِن مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ` ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ) [مريم: 71، 72].
قال النووي رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد, الذين بايعوا تحتها» قال العلماء: معناه لا يدخلها أحد منهم قطعًا، وإنما قال إن شاء الله للتبرك لا للشك، وأما قول حفصة بلى، وانتهار النبي صلى الله عليه وسلم لها فقالت: ( وَإِن مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقد قال: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) فيه دليل للمناظرة والجواب على وجه الاسترشاد وهو مقصود حفصة لا أنها أرادت رد مقالته صلى الله عليه وسلم.
والصحيح أن المراد بالورود في الآية المرور على الصراط وهو جسر منصوب على جهنم فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون([102]).
وحين نمعن النظر في هذا الجيل الفريد مقارنة مع أهل بدر نلاحظ ارتفاع عدد المهاجرين إلى النصف من الجيش، وهذا الارتفاع الهائل في عدد المهاجرين من ثلاثة وثمانين في بدر إلى ثمانمائة كان معظمه من القبائل العربية المجاورة, وهي قبائل صغيرة، إذا قيست بالقبائل الكبرى، لكن شبابها كانوا يفدون إلى المدينة ينضوون تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويتلقون التربية اليومية في المسجد، والتربية العملية في المعارك والغزوات، فيتدربون على الجندية الخالصة ويفقهون دينهم مباشرة من رسول رب العالمين، وينشؤون في ظلال القدوة العليا لهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ويتنافسون في الطاعة والامتثال لأمر الله ورسوله، فنالت قبائلهم بذلك شرفًا ربا على القبائل الكبرى التي تخاذلت في الانضمام للإسلام، فقبيلة أسلم وغفار كانت على رأس هذه القبائل، ويعود الفضل بعد الله في ذلك إلى الرعيل الأول منهم، واللبنات الأولى التي انضمت إلى الدعوة إلى أبي ذر الغفاري الذي كان من السابقين في إسلامه بمكة ومضى داعيًا في قومه حتى جاءه سبعون بيتًا من غفار يؤم بهم المدينة بعد أحد، وإلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، الذي تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل دخوله المدينة، فأسلم ومعه سبعون من قومه كذلك([103]).
أما القبائل الأخرى من مزينة وجهينة، وأشجع، وخزاعة، فقد بدأ شبابها يفدون إلى المدينة، لكن بأعداد ضئيلة, وبقي كيان القبيلة على الشرك، وبقي أعرابيًا بعيدًا عن محضن التربية العظيم داخل المدينة، فلم يتح له هذا الفضل، والاغتراف من رحيق النبوة؛ ولهذا كانت الآيات التي نزلت في المخلفين من الأعراب كالصواعق على رؤوسهم، لتخلفهم عن الانضمام إلى الجيش الإسلامي الماضي إلى الحديبية([104]).
* * *
صلح الحديبية وما ترتب عليه من أحداث
أولاً: مفاوضة سهيل بن عمرو لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
لما بلغ قريشًا أمر بيعة الرضوان، وأدرك زعماؤها تصميم الرسول صلى الله عليه وسلم على القتال أوفدوا سهيل بن عمرو في نفر من رجالهم لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم ([105]), ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلا قال: «لقد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل» ([106]).
كان سهيل بن عمرو أحد زعماء قريش البارزين الذين كانوا يعرفون بالحنكة السياسية والدهاء, فهو خطيب ماهر، ذو عقل راجح، ورزانة، وأصالة في الرأي.
شرع الفريقان المتفاوضان في بحث بنود الصلح، وذلك بعد رجوع عثمان بن
عفان t، وقد استعرض الفريقان النقاط التي يجب أن تتضمنها معاهدة الصلح، واستعرضا في مباحثاتهما مختلف القضايا التي كانت تشكل مثار الخلاف بينهما. هذا وقد اتفق الفريقان من حيث المبدأ على بعض النقاط، واختلفا على البعض الآخر، وقد طال البحث والجدل والأخذ والرد حول هذه البنود، وبعد المراجعات والمفاوضات تقاربت وجهات النظر بين الفريقين، وعند الشروع في وضع الصيغة النهائية للمعاهدة وكتابتها لتكون نافذة المفعول رسميًّا حدث خلاف بين الوفدين على بعض النقاط كاد أن يعثِّر سير هذه الاتفاقية, فعندما شرع النبي صلى الله عليه وسلم في إملاء صيغة المعاهدة المتفق عليها، أمر الكاتب وهو سيدنا علي بن أبي طالب، بأن يبدأ المعاهدة بكلمة: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وهنا اعترض رئيس الوفد القرشي سهيل بن عمرو قائلا: لا أعرف الرحمن، اكتب (باسمك اللهم)، فضج الصحابة على هذا الاعتراض، قائلين: هو الرحمن، ولا نكتب إلا الرحمن, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم تمشيًا مع سياسة الحكمة والمرونة والحِلْم، قال للكاتب: «اكتب باسمك اللهم»([107]) واستمر في إملاء صيغة المعاهدة هذه، فأمر الكاتب أن يكتب «هذا ما اصطلح عليه رسول الله»، وقبل أن يكمل الجملة اعترض رئيس الوفد القرشي على كلمة رسول الله قائلا: لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله؟ اكتب اسمك واسم أبيك([108]).
واعترض المسلمون على ذلك, ولكن رسول الله بحكمته وتسامحه وبُعد نظره حسم الخلاف وأمر الكاتب بأن يشطب كلمة رسول الله من الوثيقة فالتزم الصحابة الصمت والهدوء.
إن النبي صلى الله عليه وسلم وافق المشركين على ترك كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) وكتابة (باسمك اللهم) بدلا عنها، وكذا وافقهم في كتابة محمد بن عبد الله وترك كتابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا وافقهم في رد من جاء منهم إلى المسلمين دون من ذهب منهم إليهم، وإنما وافقهم في هذه الأمور للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور، أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد، وكذا قوله (محمد بن عبد الله) هو أيضا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وليس في ترك وصف الله سبحانه وتعالى في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك، ولا في ترك وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة ما ينفيها، فلا مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك.
وأما شرط رد من جاء منهم وعدم رد من ذهب إليهم، فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم تعليل ذلك والحكمة فيه في هذا الحديث بقوله: «من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا ثم كان كما قال صلى الله عليه وسلم»([109]).
وتم عقد هذه المعاهدة وكانت صياغتها من عشرة بنود جاءت على الشكل التالي:
1- باسمك اللهم.
2- هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو.
3- واصطلحا على وضع الحرب على الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض.
4- على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجًّا أو معتمرًا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازًا إلى مصر أو إلى الشام، يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله.
5- على أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه.
6- وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا أسلال ولا أغلال([110]).
7- وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه (فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتوثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم).
8- وأنت ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثًا معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تدخلها بغيرها.
9- وعلى أن هذا الهدي ما جئناه ومحله فلا تقدمه علينا.
10- أشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين.
فمن المسلمين: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف, وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن سلمة، وعلي بن أبي طالب كاتب المعاهدة رضي الله عنهم أجمعين.
ومن المشركين: مكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو([111]).
تعتبر هذه المعاهدة أساسًا للمعاهدات الإسلامية ونموذجًا فريدًا للمعاهدات الدولية، بما سبقها من مفاوضات، وما حوته من شروط، وما تمثل بها من خلق النبي صلى الله عليه وسلم في النزول عند رضا الطرف الآخر، وفي كيفية الصياغة والالتزام، هذه المعاهدة سبقها مفاوضات من قبل المشركين والمسلمين، وفشل بعض الممثلين في الوصول إلى اتفاق، ودارت مشاورات شتى من الجانبين قبل الوصول إليه، حتى توصل الفريقان إلى اتفاق عن طريق ممثل المشركين (سهيل بن عمرو) ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ملأ المسلمين.
عقدت هذه المعاهدة في الوقت الذي كان فيه المسلمون بمركز القوة لا الضعف، وكان باستطاعتهم ألا يقبلوا شروطها التي اغتاظ منها كثير من الصحابة، ولكن ما كان لهم أن يخرجوا عن طوع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، وقد تمادى رسول قريش على رسول الله في مفاوضته, وكان فردًا بين جيش المسلمين، فلم ينله أذى، ولم يتمادَ عليه المسلمون بالقتل (لأن السفراء لا تقتل) ولكن رسول الله يرضيه، ويسعه بالحلم واللين، حتى يصل إلى الغاية التي ينشدها الإسلام، وهي حقن الدماء، وإحلال السلام، ورجاء أن يعقل القوم الحق، وأن يراجعوا المواقف، ويسمعوا كلام الله([112]), وتدخل الدعوة الإسلامية طورًا جديدًا بصور أخرى في الانتشار والاتصال بالناس عندما نتأمل نصوص المعاهدة التي تمت في الحديبية فإننا نأخذ منها الآتي:
1- إن ديباجة المعاهدات الإسلامية كانت تبدأ باسم الله، أو باسمك اللهم، والقانون الدولي في صياغة المعاهدات يقول: (تبدأ كتابة المعاهدات بديباجة يتفق عليها طرفا التعاقد).
والذي يجب أن نلاحظه أن المعاهدات في الإسلام تستند إلى الله الذي تبدأ باسمه سبحانه، حيث هو الرقيب والحسيب على ما في النوايا والقلوب، واسم الله مقدس في كل قلب يؤمن به، حتى أولئك الذين فسدت عقائدهم، فإنهم لا ينكرون الله، ولكنهم أفسدوا تصورهم لذات الله، وقد جرت أعراف بعض الذين يستهوون قلوب العامة بالشعارات الجوفاء أن يقولوا بدل اسم الله: باسم الشعب، أو باسم الأمة، باعتبار قدسية ما يبدأون به كما يزعمون، ولكن الذي يؤمن بالله لا يعدل عن قدسية الله في اعتقاده، ولذلك كانت البداية (باسمك اللهم).
2- ذكر في المعاهدة طرفا التعاقد بعد (الديباجة) كما يسميها القانون الدولي، وهذا ما عليه القانون الدولي العام من أنه يذكر بعد الديباجة أسماء الممثلين أو الدول التي هي أطراف في عقد المعاهدة.
3- بواعث المعاهدة، فقد جاء في بداية هذه المعاهدة ذكر الصلح لأجل وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس, ويكف بعضهم عن بعض، وهذا ما عليه القانون الدولي العام كذلك.
4- الدخول في صلب المعاهدة وشروطها، حيث ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المعاهدة الشروط المتفق عليها بين الطرفين، وهذا ما عليه القانون الدولي العام.
5- في معاهدة صلح الحديبية جواز ابتداء الإمام (رئيس الدولة الإسلامية) بطلب صلح العدو إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه، ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم([113]).
6- إن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائز للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما([114]).
7- إن صلح الحديبية سماه الله فتحًا؛ لأن الفتح في اللغة هو فتح المغلق, والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودًا مغلقًا ففتحه الله، والصلح كذلك يفتح القلوب المغلقة نحو الطرف الآخر.
لقد كانت الصورة الظاهرة في شروط الحديبية فيها ضيم للمسلمين, وهي في باطنها عز وفتح ونصر، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى ما وراء المعاهدة من الفتح العظيم من وراء ستر رقيق، وكان يعطي المشركين كل ما سألوه من الشروط التي لم يحتملها أكثر أصحابه ورؤوسهم، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم ما في ضمن هذا المكروه
من محبوب([115]).
8- إن المعاهدة قد تكون مفتوحة لمن يحب أن يدخل فيها من الأطراف أو الدول الأخرى، وهذا ما عليه القانون الدولي، حيث أجاز أن تكون المعاهدة مفتوحة لمن يحب الدخول فيها من الأطراف الأخرى، فقد دخلت خزاعة وكنانة في الصلح الذي أنهى حالة الحرب القائمة بين هاتين القبيلتين والتي امتدت سنوات عديدة([116]).
9- إن المعاهدة لا بد لها من توقيع الأطراف والإشهاد عليها، وتوقيع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإشهاد أصحابه إنما هو بمثابة التوقيع على المعاهدة والتصديق عليها، كما هو في القانون الدولي العام.
10- إن المعاهدة يجوز أن يكون الوسيط فيها طرفًا محايدًا، أو طرفًا يقرب بين وجهات النظر كوساطة سيد الأحابيش (الحلس بن علقمة) حليف قريش الأكبر، وطلبت منه قريش أن يكون وسيطًا بينهم وبين المسلمين، وكان الحلس ذا عقل راجح وبصيرة نافذة، وكان سيدًا مطاعًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفه ويعرف فيه التأله الشديد والتعظيم للحرم.
وعندما اختارته قريش كانت تطمع في أن يكون لمركزه الممتاز بين العرب, ولما يتمتع به من تقدير لدى النبي صلى الله عليه وسلم, تأثير على الرسول وأصحابه([117]).
وهذا ما يقره القانون الدولي، حيث إن المعاهدة قد تعقد بوساطة دولة أخرى ليست طرفًا في النزاع، أو أحد المبعوثين الذي لا علاقة له أو لدولته في النزاع القائم بين طرفي التعاقد.
11- إن المعاهدة تعتبر نافذة المفعول بمجرد الاتفاق على المعاهدة وشروطها، حتى ولو لم تكتب ولم يوقع عليها الطرفان، وذلك كما حدث لأبي جندل بن سهيل بن عمرو الذي رده الرسول صلى الله عليه وسلم بموجب قبوله عليه السلام بالبند الخامس من المعاهدة، والذي يقول: (على أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم...) فمنذ أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم التزامه بهذا الشرط أجراه ولو لم تكن المعاهدة قد كتبت بعد، ولم يوقع عليها الطرفان.
12- إن المعاهدة تكتب من نسختين، ويأخذ كل طرف نسخة طبق الأصل من المعاهدة، حيث إنه بعد أن تمت إجراءات الصلح النهائية في الحديبية أخذ كل
من الفريقين نسخة من وثيقة الصلح التاريخية، وانصرف الوفد القرشي راجعًا
إلى مكة([118]).
ثانيًا: موقف أبي جندل والوفاء بالعهد:
إن من أبلغ دروس صلح الحديبية درس الوفاء بالعهد, والتقيد بما يفرضه شرف الكلمة من الوفاء بالالتزامات التي يقطعها المسلم على نفسه، وقد ضرب رسول
الله صلى الله عليه وسلم بنفسه أعلى مثل في التاريخ القديم والحديث، لاحترام كلمة لم تكتب, واحترام كلمة تكتب كذلك, وفي الجد في عهوده، وحبه للصراحة والواقعية، وبغضه التحايل والالتواء والكيد، وذلك حينما كان يفاوض (سهيل بن عمرو) في الحديبية، حيث جاءه ابن سهيل يرسف في الأغلال، وقد فر من مشركي مكة، وكان أبوه يتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الابن ممن آمنوا بالإسلام جاء مستصرخًا بالمسلمين، وقد انفلت من أيدي المشركين, فلما رأى سهيل ابنه قام إليه وأخذ بتلابيبه، وقال: يا محمد لقد لجت القضية بيني وبينك، أي فرغنا من المناقشة قبل أن يأتيك هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت، فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟! فلم يغن عنه ذلك شيئًا، ورده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لأبي جندل: إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهدًا، وإنا لا نغدر بهم، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم إزاء هذه المأساة التي حالت بنود معاهدة الصلح بينه وبين أن يجد مخرجًا منها لأبي جندل المسلم، طمأن أبا جندل وبشره بقرب الفرج له ولمن على شاكلته من المسلمين, وقال له وهو يواسيه: «يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا»([119]). وفي هذه الكلمات النبوية المشرقة العظيمة دلالة ليس فوقها دلالة على مقدار حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمسكه بفضيلة الوفاء بالعهد مهما كانت نتائجه وعواقبه فيما يبدو للناس([120]). لقد كان درس أبي جندل امتحانًا قاسيًا ورهيبًا لهذا الوفاء بالعهد أثبت فيه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون نجاحًا عظيمًا في كبت عواطفهم وحبس مشاعرهم، وقد صبروا لمنظر أخيهم أبي جندل وتأثروا من ذلك المشهد عندما كان أبوه يجتذبه من تلابيبه، والدماء تنزف منه, مما زاد في إيلامهم حتى أن الكثيرين منهم أخذوا يبكون بمرارة إشفاقًا منهم على أخيهم في العقيدة، وهم ينظرون إلى أبيه المشرك وهو يسحبه بفظاظة الوثني الجلف ليعود به مرة أخرى إلى سجنه الرهيب في مكة.
وقد صبر أبو جندل واحتسب لمصابه في سبيل دينه وعقيدته, وتحقق فيه قول الله تعالى: ( ... وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ` وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَّتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا )[الطلاق: 2، 3].
فلم تمر أقل من سنة حتى تمكن مع إخوانه المسلمين المستضعفين بمكة من الإفلات من سجون مكة، وأصبحوا قوة صار كفار مكة يخشونها, بعد أن انضموا إلى أبي بصير، وسيطروا على طرق قوافل المشركين الآتية من الشام([121]). وسيأتي تفصيل ذلك لاحقًا بإذن الله تعالى.
ثالثًا: احترام المعارضة النزيهة:
بعد الاتفاق على معاهدة الصلح وقبل تسجيل وثائقها ظهرت بين المسلمين معارضة شديدة وقوية لهذه الاتفاقية، وخاصة في البندين اللذين يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم بموجبهما برد من جاءه من المسلمين لاجئًا، ولا تلتزم قريش برد من جاءها من المسلمين مرتدًا، والبند الذي يقضي بأن يعود المسلمون من الحديبية إلى المدينة دون أن يدخلوا مكة ذلك العام، وقد كان أشد الناس معارضة لهذه الاتفاقية وانتقادًا لها، عمر بن الخطاب، وأسيد بن حضير سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج.
وقد ذكر المؤرخون أن عمر بن الخطاب أتى رسول الله معلنًا معارضته لهذه الاتفاقية، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست برسول الله؟ قال: «بلى» قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: «بلى» قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى» قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: «إني رسول الله ولست أعصيه»([122]). وفي رواية: «أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني»([123]), قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: «بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟» قلت: لا، قال: «فإنك آتيه ومطوف به». قال عمر: فأتيت أبا بكر فقلت له: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر ناصحًا الفاروق بأن يترك الاحتجاج والمعارضة: الزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن يخالف أمر الله ولن يضيعه الله([124]).
وبعد حادثة أبي جندل المؤلمة المؤثرة عاد الصحابة إلى تجديد المعارضة للصلح، وذهبت مجموعة منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم عمر بن الخطاب لمراجعته، وإعلان معارضتهم مجددًا للصلح إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم بما أعطاه الله من صبر وحكمة وحلم وقوة حجة استطاع أن يقنع المعارضين بوجاهة الصلح، وأنه في صالح المسلمين، وأنه نصر لهم([125]) وأن الله سيجعل للمستضعفين من أمثال أبي جندل فرجًا ومخرجًا، وقد تحقق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع قاعدة احترام المعارضة النزيهة، حيث قرر ذلك بقوله وفعله، وهو -والله أعلم- إنما أراد بهذا الفعل إرشاد القادة من بعده إلى احترام المعارضة النزيهة التي تصدر من أتباعهم، وذلك بتشجيع الأتباع على إبداء الآراء السليمة التي تخدم المصلحة العامة([126]).
وهذا الهدي النبوي الكريم بيًّن أن حرية الرأي مكفولة في المجتمع الإسلامي، وأن للفرد في المجتمع المسلم الحرية في التعبير عن رأيه، ولو كان هذا الرأي نقدًا لموقف حاكم من الحكام, أو خليفة من الخلفاء، فمن حق الفرد المسلم أن يبين وجهة نظره في جو من الأمن والأمان دون إرهاب أو تسلط يخنق حرية الكلمة والفكر.
ونفهم من معارضة عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن المعارضة لرئيس الدولة في رأي من الآراء, وموقف من المواقف ليست جريمة تستوجب العقاب، ويغيب صاحبها في غياهب السجون([127]).
رابعًا: التحلل من العمرة ومشورة أم سلمة رضي الله عنها:
لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية كتابة الصلح قال لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا» حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كان بعضهم يقتل بعضًا غمًّا([128]).
وقد حلق رجال يوم الحديبية, وقصر آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «والمقصرين»([129]).
وكان في هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية جَمَلٌ لأبي جهل في رأسه برة([130]) من فضة, يغيظ بذلك المشركين([131]).
وفي هذه الحادثة تستوقفنا أمور فيها دروس وعبر منها:
1- كان رأي أم سلمة سديدًا ومباركًا، حيث فهمت رضي الله عنها وعن الصحابة أنه وقع في أنفسهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل أخذًا بالرخصة في حقهم، وأنه يستمر على الإحرام أخذًا بالعزيمة، في حق نفسه، فأشارت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحلل لينتفي عنهم هذا الاحتمال، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به، فلم يبق بعد ذلك غاية تنتظر، فكان ذلك رأيًا سديدًا ومشورةً مباركةً، وفي ذلك دليل على استحسان مشاورة المرأة الفاضلة ما دامت ذات فكرة صائبة ورأي سديد([132]). كما أنه لا فرق في الإسلام بين أن تأتي المشورة من رجل أو امرأة طالما أنها مشورة صائبة، وهذا عين التكريم للمرأة التي يزعم أعداء الإسلام أنه غمطها حقها وتجاهل وجودها، وهل هناك اعتراف واحترام لرأي المرأة أكثر من أن تشير على نبي مرسل ويعمل النبي صلى الله عليه وسلم بمشورتها لحل مشكلة اصطدم بها وأغضبته([133]).
2- أهمية القدوة العملية، فقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمر وكرره ثلاث مرات, وفيهم كبار الصحابة وشيوخهم، ومع ذلك لم يستجب أحد لدعوته، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخطوة العملية التي أشارت بها أم سلمة تحقق المراد، فالقدوة العملية في مثل هذه المواقف أجدى وأنفع([134]).
3- حكم الإحصار في العمرة والحج: دلَّ عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من أمر الصلح، من التحلل والنحر والحلق، على أن المحصر يجوز له أن يتحلل، وذلك بأن يذبح شاة، حيث أحصر أو ما يقوم مقامها، ويحلق ثم ينوي التحلل مما كان قد أهل به، سواء كان حجًّا أو عمرة، كما دل على أن المتحلل لا يلزم بقضاء الحج أو العمرة إذا كان متطوعًا، وخالف الحنفية فرأوا أن القضاء بعد المباشرة واجب، بدليل أن جميع الذين خرجوا معه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية خرجوا معه في عمرة القضاء إلا من توفي أو استُشهد منهم في غزوة خيبر([135]).
خامسًا: العودة إلى المدينة ونزول سورة الفتح:
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية قاصدًا المدينة حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح قال تعالى: ( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) [الفتح: 11].
وقد عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عظيم فرحته بنزولها وقال: أنزلت عليَّ الليلة سورة لهي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس([136]) ثم قرأ: ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ) [الفتح: 1]، فقال أصحاب رسول الله: هنيئًا مريئًا, فما لنا؟ فأنزل الله: ( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) [الفتح: 5] ([137]).
وقد أسرع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بكراع الغميم فقرأ عليهم ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ). فقال رجل: يا رسول الله, أفتح هو؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتح([138]), فانقلبت كآبة المسلمين وحزنهم إلى فرح غامر، وأدركوا أنهم لا يمكن أن يحيطوا بالأسباب والنتائج، وأن التسليم لأمر الله ورسوله فيه كل الخير لهم ولدعوة الإسلام([139]).
كان حديث القرآن الكريم عن هذا الحدث العظيم في سورة الفتح، وكان القرآن الكريم له منهجه الخاص في عرضه لغزوة الحديبية, فنجد في حديثه عن هذه الغزوة أنه سمى الصلح الذي وقع بين الفريقين مع عدم وقوع القتال فتحًا مبينًا.
إننا بالتأمل في أسباب النزول نجد أن سورة الفتح نزلت بعد انتهاء النبي صلى الله عليه وسلم من الصلح وهو عائد إلى المدينة النبوية، وبعد أن خاض النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون تلك التجارب العظيمة من الأمل في العمرة، إلى مواجهة المشركين، إلى بيعة الرضوان, إلى الصلح الذي لم يكن بعض الصحابة راضين عنه ودارت في أنفسهم أشياء كثيرة حول هذه الأحداث الجسام.
ينزل القرآن الكريم ويبين للمسلمين بأن هذا الصلح هو فتح مبين، ويؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على صواب في قبول الصلح، بل لتزداد ثقة المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم حين يبشره الله على الملأ من الدنيا بأن الله تعالى فتح بالصلح ليغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كرامة منه سبحانه لرسوله؛ ليزداد المسلمون ثقة واطمئنانًا بأنهم على الصواب، وأن ما فعلوه هو الحق ومآله السعادة، ثم بين سبحانه أن توفيق الله كان مع المؤمنين فهو الذي وفقهم للصبر مع رسوله, وموافقتهم أخيرًا على ما جنح له من أمر الصلح، وأن ذلك كان بسبب إنزال السكينة على قلوبهم حتى على قلوب من أنكر بعض شروط الصلح، واستسلم للأمر على مضض, فلم يحصل رفض لهذا الصلح بل كلهم نزلوا على أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بفضل السكينة التي أنزلها عليهم, قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) [الفتح: 4].
فالقرآن الكريم يبين أن الله هو الذي أنزل السكينة عليهم ليتذكروا فضله، ويداوموا على شكره، وهذا الإعلام بإنزال السكينة مما يتميز به حديث القرآن الكريم عن هذه الغزوة، إذ السكينة أمر معنوي لا يعلم نزوله إلا الله، وأشار القرآن الكريم إلى بيعة الرضوان وهي مبايعة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم على الموت, فأثنى الله سبحانه وتعالى على هذه البيعة، وكتب لها الخلود في القرآن، وقرر أنها مبايعة لله عز وجل, فقال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) [الفتح: 10].
وبهذا نرى ما يتميز به القرآن الكريم في حديثه عن الغزوات فهو يبين الحقائق ويصحح العقائد، ويربي النفوس، ويفضح المنافقين، ويبشر المسلمين بغنائم قريبة تحققت في خيبر، وبين أصحاب الأعذار, فليس كل من تخلف عن الجهاد يعاتب وإنما هناك استثناء، وهذا من كمال رحمته الإلهية، ثم لما تم صلح الحديبية وعاد المسلمون إلى المدينة ولم يتحقق ما قصدوه من دخول مكة أشار سبحانه وتعالى إلى الرؤيا التي سبقت أن رآها النبي صلى الله عليه وسلم وبشر بها أصحابه وبين أنها رؤيا صدق، وأنها ستتحقق, قال تعالى: ( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) [الفتح: 27].
ثم اختتمت السورة الجليلة بصفات مدح للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الكرام.
قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا ` مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) [الفتح: 28، 29].
لقد أيقن الصحابة الكرام أن الدعوة قد دخلت في طور جديد وفتح أكيد، وآفاق أوسع، وامتداد أرحب، وأن من طبيعة هذا الدين أن ينمو ويعيش في أجواء السلم والأمن أكثر منه وقت الحرب, ولمسوا مع الأيام نتائج صلح الحديبية التي كان من أهمها:
1- اعترفت قريش في هذه المعاهدة بكيان الدولة المسلمة، فالمعاهدة دائمًا لا تكون إلا بين ندين، وكان لهذا الاعتراف أثره في نفوس القبائل المتأثرة بموقف قريش الجحودي، حيث كانوا يرون أنها الإمام والقدوة.
2- دخلت المهابة في قلوب المشركين والمنافقين، وتيقن الكثير منهم بغلبة الإسلام، وقد تجلت بعض مظاهر ذلك في مبادرة كثير من صناديد قريش إلى الإسلام, مثل: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، كما تجلت في مسارعة الأعراب المجاورين للمدينة إلى الاعتذار عن تخلفهم.
3- أعطت الهدنة فرصة لنشر الإسلام وتعريف الناس به؛ مما أدى إلى دخول كثير من القبائل فيه، يقول الإمام الزهري: (فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضًا, والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة, فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئًا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر)([140]).
وعقب عليه ابن هشام بقوله: والدليل على قول الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة في قول جابر بن عبد الله، ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف([141]).
4- أمن المسلمون جانب قريش فحولوا ثقلهم على اليهود, ومن كان يناوئهم من القبائل الأخرى، فكانت غزوة خيبر بعد صلح الحديبية.
5- مفاوضات الصلح جعلت حلفاء قريش يفقهون موقف المسلمين ويميلون إليه، فهذا الحلس بن علقمة عندما رأى المسلمين يلبون رجع إلى أصحابه, قال: لقد رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
6- مكن صلح الحديبية النبي صلى الله عليه وسلم من تجهيز غزوة مؤتة, فكانت خطوة جديدة لنقل الدعوة الإسلامية بأسلوب آخر خارج الجزيرة العربية.
7- ساعد صلح الحديبية النبي صلى الله عليه وسلم على إرسال رسائل إلى ملوك الفرس والروم والقبط يدعوهم إلى الإسلام.
8- كان صلح الحديبية سببًا ومقدمة لفتح مكة: يقول ابن القيم: كانت الهدنة مقدمة بين يدي الفتح الأعظم، الذي أعز الله به رسوله وجنده، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، فكانت هذه الهدنة بابًا له ومفتاحًا ومؤذنًا بين يديه، وهذه عادة الله في الأمور العظام التي يقضيها قدرًا وشرعًا أن يوطئ لها بين يديها بمقدمات وتوطئات تؤذن لها وتدل عليها([142]).
سادسًا: أبو بصير في المدينة وقيادته لحرب العصابات:
في أعقاب صلح الحديبية مباشرة استطاع أبو بصير عتبة بن أسيد أن يفر بدينه من سجون الشرك في مكة المكرمة، وأن يلتحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فبعثت قريش في إثره اثنين من رجالها إلى رسول الله، ليرجعا به، تنفيذًا لشرط المعاهدة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، فانطلق إلى قومك، فقال أبو بصير: يا رسول الله، أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ قال: يا أبا بصير، انطلق فإن الله سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا([143]). فانطلق معهما، وقد شق ذلك على المسلمين وهم ينظرون بحزن إلى أخيهم في العقيدة، وهو يعود إلى سجنه بمكة بعد أن استطاع أن يفلت من ظلم قريش، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهتم بالوفاء بالعهود والمواثيق، ولم يكن عنده مجرد نظرية مكتوبة على الورق، ولكنه كان سلوكًا عمليًّا في حياته وفي علاقته الدولية، فقد أوصى الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعهود، وحذر من نقض الأيمان بعد توكيدها في كثير من الآيات القرآنية, قال تعالى: ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) [النحل: 91].
وقال جل وعلا: ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ) [الإسراء: 34].
وبهذا يكون الوفاء بالعهد عند المسلمين قاعدة أصولية من قواعد الدين الإسلامي التي يجب على كل مسلم أن يلتزم بها([144]).
لقد التزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعهده مع قريش، وسلَّم أبا بصير إليهما (القرشيين) وانطلق معهما، فلما كانا بذي الحليفة، قال لأحد صاحبيه: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ فقال: نعم، قال: أنظر إليه؟ قال: انظر إن شئت، فاستله أبو بصير، ثم علاه به حتى قتله، ففر الآخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتل صاحبكم صاحبي، فما لبث أبو بصير أن حضر، متوشحًا السيف، وقال: يا رسول الله وفت ذمتك، وأدى الله عنك، أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه، أو يعبث بي([145]), فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد» ([146]), فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم فخرج حتى أتى سيف البحر([147])، وقد فهم المستضعفون بمكة من عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم أن أبا بصير بحاجة إلى الرجال، فأخذوا يفرون من مكة إلى أبي بصير في سيف البحر، فلحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو وغيره حتى اجتمع عند أبي بصير عصبة قوية، فما يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا طريقها وقتلوا من فيها، وأخذوا الأموال التي كانوا يتجرون بها، فأرسل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله والرحم لما أرسل إلى أبي بصير ومن معه، ومن أتاه منهم فهو آمن، وتخلوا في ذلك عن أقسى شروطهم التي صبوا فيها كؤوس كبريائهم، فذلت قريش من حيث طلبت العز([148]).
فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم([149]) وهم بناحية العيص، فقدموا عليه وكانوا قريبًا من الستين أو السبعين([150]), فآوى النبي صلى الله عليه وسلم تلك العصبة المؤمنة التي أقضت مضاجع قريش، وأرغمتها على إسقاط شرطها التعسفي، فزادت بهم قوة المسلمين وقويت بهم شوكتهم، واشتد بأسهم.
غير أن أبا بصير، رأس تلك العصابة ومؤسسها، لم يقدر له أن يكون معها، فقد وافاه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى المدينة، وهو على فراش الموت، فلفظ أنفاسه حيث كان في الثغر، وهواه في قلب المجتمع النبوي في المدينة([151]).
إن قصة أبي جندل وأبي بصير وما احتملاه في سبيل العقيدة، وما أبدياه من الثبات والإخلاص والعزيمة والجهاد حتى مرغوا رؤوس المشركين بالتراب, وجعلوهم يتوسلون بالمسلمين لترك ما اشترطوه عليهم في الحديبية، هذه القصة نموذج يقتدى به في الثبات على العقيدة وبذل الجهد في نصرتها، وفيها ما يشير إلى مبدأ (قد يسع الفرد ما لا يسع الجماعة) فقد ألحق أبو بصير وجماعته الضرر بالمشركين في وقت كانت فيه دولة الإسلام لا تستطيع ذلك وفاء بالصلح، لكن أبا بصير وأصحابه خارج سلطة الدولة، ولو في ظاهر الحال، ولم يكن ما قام به أبو بصير والمستضعفون بمكة مجرد اجتهاد فردي لم يحظ بإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر أبا بصير بالكف عن قوافل المشركين ابتداء أو بالعودة إلى مكة، لكن ذلك لم يحدث, فكان إقرارًا له، إذ كان موقف أبي بصير وأصحابه في غاية الحكمة حيث لم يستكينوا لطغاة مكة يفتنونهم عن دينهم ويمنعونهم من اللحاق بالمدينة، فاختاروا موقفًا فيه خلاصهم وإسناد دولتهم بأعمال تضعف اقتصاد مكة وتزعزع إحساسهم بالأمن في وقت الصلح، بل يمكن القول بأن اتخاذ هذا الموقف كان بإشارة وتشجيع من النبي صلى الله عليه وسلم حين وصف أبا بصير([152]) بأنه: «مسعر حرب لو كان معه أحد»([153]).
سابعًا: امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن رد المهاجرات:
صممت مجموعة من النساء المستضعفات في مكة على الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وفي مقدمة هؤلاء النساء أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فقد هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية, فأراد كفار مكة أن يردوهن فأنزل الله تعالى في حقهن: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إلى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنْفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنْكِحُوهُنَّ إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) [الممتحنة: 10].
قال الأستاذ محمد الغزالي: (وقد أبى المسلمون عقيب صلح الحديبية أن يردوا النسوة المهاجرات بدينهن إلى أوليائهن، إما لأنهم فهموا أن المعاهدة خاصة بالرجال فحسب، أو لأنهم خشوا على النساء اللاتي أسلمن، أن يضعفن أمام التعذيب والإهانة، وهن لا يستطعن ضربًا في الأرض، وردًا للكيد كما فعل أبو جندل وأبو بصير وأضرابهما، وأيا كان الأمر فإن احتجاز من أسلم من النساء تم بتعليم القرآن)([154]).
* * *
([53]) أسلم قبل عمرة الحديبية وشهدها، وشهد بيعة الرضوان، أصيبت عينه في اليرموك, وكان رسول سعد بن أبي وقاص إلى رستم، الإصابة (3/452)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق