الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين : سيدنا وحبيبنا محمد خاتم النبيين.
ثم أما بعد .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .موضوع درسنا اليوم ان شاء الله تعالى من حديث رواه الامام الترمذي من طريق أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه وعن علمه فيم فعل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه".
وفي سند الحديث نقول أبو برزة الأسلمي اسمه نضلة بن عبيد.صحابي مشهور بكنيته.أسلم قبل الفتح .وغزا سبع غزوات.ثم نزل البصرة.وغزا خراسان.ومات بها سنة خمس وستين على الصحيح.فتعالوا أيها الاخوة الكرام ننظر في مناسبة الحديث وفي مفاصله.فهو يأتي في سياق الاخبار عن مشهد من مشاهد الآخرة.هو الوقوف للحساب بين يدي الله رب العالمين .قال جل وعلا :"ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لايغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها ووجدوا ماعملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا" الكهف 48 .
وقال عز من قال :"وما قدروا الله حق قدره و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون 64 ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض الا من شاء الله. ثم نفخ أخرى فاءذا هم قيام ينظرون .65 وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيئن والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لايظلمون .66 ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون.67" الزمر
وروي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما منكم من أحد الا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان .فينظر أيمن منه فلا يرى الا ما قدم. وينظر أشأم منه فلا يرى الا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى الا النار تلقاء وجهه. فاتقوا النار ولوبشق تمرة"متفق عليه.
ولو تأملنا الحديث في مدلوله اللغوي لوجدنا أنه ورد في تركيب حصري "لا.......................حتى".ومركز الثقل في المعنى هو "قدما عبد" :أي لن يسلم العبد من عرض الأعمال وميزانها ومن العبور على الصراط ومن أهوال القيامة عامة فيفوز بنعيم الجنة حتى يسأل عن :
1-"عن عمره فيم أفناه" : والمقصود بهذا أن الله رب العالمين سيسأل العبد عن حياته التي قضاها في الدنيا :ماذا فعل فيها؟ وليس القصد السؤال عن جانب التكليف الشرعي فقط.وانما هل نزل ضوابط هذا التكليف في حياته العملية والمهنية وغنم زمانه.وهل تحلى في خلقه وفي معاملاته بروح الاسلام؟فوفق في ذلك بأن وظف زمان العمر الذي عاشه توظيفا يلائم رسالته في الحياة.ولعلنا أيها المشاهد الكريم نقف عند رحلة العمر هذه بنص الآيات الكريمة والأحاديث النبوية .
قال جل وعلا : "يا أيها الناس ان كنتم في ريب من البعث فاءنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم .ونقر في الأرحام ما نشاء الى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم . ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد الى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا .وترى الأرض هامدة فاءذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج."الحج 5
فالمولى عز وجل يفصل مراحل عمر الانسان حتى اذا انكب القارئ يقرأ كتاب الله ويتدبر معانيه انتبه الى أصل المادة التي خلق منها الانسان وهي"التراب".وانتبه الى هذه المراحل العمرية التي تبدأ بعناصر التكوين الى أن يأتي الانسان الى هذه الحياة فيكون رضيعا ثم طفلا ثم كهلا فشيخا.والغاية تنبيه الانسان الى انقطاع الحياة الدنيا لأن الله تعالى قد قدر الموت على كل مخلوق.قال جل وعلا : "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير1 الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور 2 "الملك.فهو في الدنيا في ابتلاء وامتحان.وتفصيل ذلك ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال :حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق :"ان أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك .ثم يرسل الملك .فينفخ فيه الروح و يؤمر بأربع كلمات :بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد .فو الذي لا اله الا هو ان أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها .وان أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بنيه وبينها الاذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" متفق عليه. فاءذا علم العبد أن الله تعالى قد سخر له هذا الكون .وجعل له أسبابا اذا أخذ بها وفق في اغتنام زمن عمره وحياته.فالانسان لامحالة يعمل داخل هذه الأسباب. يتوكل على خالقه مجتهدا وجاعلا من حركة وجدانه وعقله أمرا مناسبا لنظام الكون المسخر.فيغالب عند ذلك شغفه بالدنيا .ويقاوم النفس التي تركن الى الأماني. روى الامام البخاري من طريق ابن عباس رضي الله عنهما/كتاب الرقاق/باب الصحة والفراغ ولا عيش الاعيش الآخرة/قال صلى الله عليه وسلم :"نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ". وروى الامام البخاري من طريق ابن عباس رضي الله عنها قال : "خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا .وخط خطا في الوسط خارجا منه .وخط خطوطا صغارا الى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط .وقال :"هذا الانسان.وهذا أجله محيط به-أو قد أحاط به-وهذا الذي خارج أمله.وهذاه الخطوط الصغار الأعراض.فان أخطأه هذا نهشه هذا وان أخطأه هذا نهشه هذا".وهذا التمثيل أو المشابهة بين الخطوط وبين عمر الانسان الغاية منه بيان أن حياة الانسان محدودة.وعمره محاط به.والأماني تستحثه.والأجل يأتي على حين غرة.ولذلك على الانسان أن يغنم عمره فيما يقربه من ربه حتى يسلم من السؤال وينجو منه.قال جل وعلا :"ووصينا الانسان بوالديه حسنا .حملته أمه كرها ووضعته كرها.وحمله وفصاله ثلاثون شهرا .حتى اذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صلاحا ترضاه. وأصلح لي في ذريتي . اني تبت اليك واني من المسلمين.14 أولائك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة.وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.15" الأحقاف.
2-"وعن علمه فيم فعل فيه" : كذلك لن يسلم أيضا العبد الا اذا سلم من العلم الذي تعلمه.سواء أكان علما شرعيا أوعلما دنيويا وضعيا يقوم به على شأنه.فلقد رفع الله تعالى من منزلة العلم والعلماء.فقال جل وعلا :" ...يرفع الله الذين ءامنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات .والله بما تعملون خبير"11 المجادلة. وقال عز من قال :" وقل ربي زدني علما"111 طه. وقال تعالى : ...قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون .انما يتذكر أولو ألباب."10 الزمر.وقال عز وجل : "انما يخشى الله من عباده العلماء.ان الله عزيز غفور"28 فاطر.فالعلماء جميعا كلما تعمقوا في علومهم على اختلاف مشاربها الا وزادوا قربا من الله تعالى لأن اختصاصهم في مجال علومهم يقربهم من حقيقة كونية يستدلون عليها من خلال ما يجدونه من نظم وأحكام وظوابط وقواعد تخص الكون وتخص البشر وتخص كل مخلوق.هذه الحقيقة هي وحدانية الله تعالى الخالق الأوحد الصمد.ولذلك فالناس يخافون الله تعالى.بينما العلماء يخشونه .والخشية هي شدة الخوف.بل هي الخوف بعلم.مصداق قول رسول الله صلى الالله عليه وسلم : "والله اني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية" لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل من عرف رب العالمين فخشيه حق خشيته.روى الامام مسلم من طريق أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من سلك طريق يلتمس فيه علما سهل الله به طريقا الى الجنة ".فتعلم العلم كله خير.وروى الامام مسلم من طريق أبي هريرة أنه قال :"اذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث : الامن صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له".ومع ذلك فالأحرى بالانسان أنه اذا تعلم علما نافعا في دنياه وآخرته أن يلتزمه هو قبل أن يحدث به .ثم يكون أمينا على نقله.فقد يعرض للا نسان أن يكتم علما .فاءذا علم أنه محاسب على كتمانه أدلى به .ونفع به غيره.قال جل وعلا :"ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولائك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون158 الاالذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولائك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم."159البقرة.وقال جل وعلا :"ان الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولائك ما يأكلون في بطونهم الا النار و لا يكلمهم الله يوم القيامة و لايزكيهم . ولهم عذاب أليم".173 البقرة.و روى أبو داود باسناد صحيح قال :قال النبي صلى الله عليه وسلم :" من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه الا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة". بل قد لا يلتزم زاعم العلم أحيانا ماعلم وما عرفه وتحقق من صدقه .فتكون العقبة شديدة اذا لم يتب عن ذلك .ولقد نبه الصادق المصدوق الى ذلك في الحديث الذي أخرجه الامامان في صحيحيهما من طريق أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يجاء بالعالم السوء يوم القيامة .فيقذف في جهنم .فيدور بقصبه كما يدور الحمار بالرحى.فيقال :بم لقيت هذا وانما اهتدينا بك؟ فيقول : كنت أخالفكم الى ما أنهاكم عنه".ولذلك فطلب العلم شديد .وحفظه أشد من طلبه.والعمل به أشد من حفظه.والسلامة منه أشد من العمل به.(هلال بن العلاء).
3-"وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه" أيها الاخوة الأفاضل المال نعمة.وهبها الله للعبد.قال عز وجل" المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عندربك ثوابا وخير أملا"45 الكهف.ولقد أمرنا الله تعالى أن يكون رزقنا حلالا طيبا سمحا سالما من الشبهات في كسبه وفي تصريفه التصريف الشرعي
وذلك بتحصينه بالزكاة والتفضل بالصدقات على المساكين واليتامى والفقراء والمحتاجين عامة دون تضييعه .قال جل وعلا :"يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان انه لكم عدو مبين"167 البقرة. وقال عز من قال :" يا أيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله ان كنتم اياه تعبدون ."171 البقرة.وقال تعالى :"يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض .ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بئاخذيه الاأن تغمضوا فيه.واعلموا أن الله غني حميد."266 البقرة.فالله جل وعلا يأمر عباده المؤمنين بالانفاق .والمراد به هنا الصدقة.قاله ابن عباس".أي من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها .أمرهم بالانفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه .ونهاهم عن التصدق برديء المال ودنيئه وخبيثه فان الله طيب لا يقبل الا طيبا".
ومعناه أيضا أن لاتعدلوا عن المال الحلال وتقصدوا الى الحرام فتجعلوا نفقتكم منه.روى الاما م أحمدمن طريق عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ان الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم .وان الله يعطي الدنيا من يحب ومن لايحب .ولايعطي الدين الا لمن أحب.فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه.والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه.قالوا وما بوائقه يا نبي الله؟ قال :غشه وظلمه. ولايكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه.ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره الا كان زاده الى النار .ان الله لا يمحو السيء بالسيء.ولكن يمحو السيء بالحسن.ان الخبيث لا يمحو الخبيث.".
ولذلك على العبد أن يتحرى في كسبه وفي مجال انفاقه.فينفقه على من هم مأموربهم فينفقه على أهله زوجته وأبنائه ووالديه اذا احتاجوااليه. وكل من يسعه الانفاق عليهم.
4-"عن جسمه فيم أبلاه" أيها الأخ الكريم انظر الى هذه اللطائف في المعنى.كأنه من بلي الثوب.فالثوب هو الذي يبلى عادة أي يصبح قديما.كذا الانسان يتميز في فترة شبابه بالقوة والاندفاع والعمل والعطاء ثم يفتر لما تتقدم به السنون.فالشباب في قوته كالثوب الجديد.وقد يعجب الانسان بالقوة الجسمانية التي وهبها الله تعالى للعبد . وهو في ذلك واقع تحت حب الدنيا وطول الأمل روى البخاري من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين : في حب الدنيا و طول الأمل".ومع ذلك فعلى الانسان اذا أحب أن يسلم من السؤال أن يوظف هذه الطاقة توظيفا سليما .فيصبر على الطاعات وذلك بأن يقوم بها دونما استحسار.ويصبر على المعاصى والآثام باجتنابها ويصبر على المقدور فيرضى به .روى أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل الا ظله : امام عادل وشاب نشأ في عبادة الله تعالى ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلاتن تحابا في الله اجتمعا عليه و تفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال اني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه". متفق عليه.
اللهم انا نعوذ بك من علم لاينفع وعمل لايرفع وقلب لايخشع وعين لاتدمع.ودعوة لايستجاب لها.
اللهم احفظ بلادنا تونس وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم اجعل بلدنا تونس أمنا أمانا رخاء سخاء وسائر بلاد المسلمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق