حظي الدرس البلاغي عند العرب بكثير من الاهتمام، وذلك لأن (البلاغة) كانت تحمل منذ نشأتها بذور العبقرية العربية في جلالها وقدرتها على استكشاف مواطن النفس الإنسانية حين تقول فتجيد، وحين تتلقى فتحسن التلقي، وحين تكتب فتبدع فتحسن الإبداع، وقد أدرك العرب قيمة الدرس البلاغي من حيث كشفه عن أسرار بنية الخطاب وأثره في المتلقي، وقدرة الكلمة على التأثير والتعبير باعتبار أن البلاغة هي إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ على حد وصف الرماني في رسائله في إعجاز القرآن.
والأسلوب من أمهات القضايا البلاغية العربية التي تجسدت من خلال درسها مدى قدرة البلاغي العربي القديم على التفطن لسرّ جمالية الخطاب سواء أكان شعراً أم نثراً، فربط الدرس البلاغي في نظرته إلى الأسلوب بين النحو من حيث هو درس لآليات ومكونات الجملة العربية وبين توليده للدلالة داخل النص، وبذلك تجاوز الكثير من الأطروحات البلاغية التي سبقته، من مثل إشكالية اللفظ والمعنى، وأيهما الأساس في تشكيل جمالية الفضاء في الخطاب؟..
الأسلوب في التراث البلاغي العربي:
احتفى الدرس العربي منذ القرن الثاني الهجري بدراسة الأسلوب في مباحث الإعجاز القرآني التي استدعت ـ بالضرورة ـ ممن تعرضوا للتفسير أن يتفهموا مدلول لفظة "أسلوب" عند البحث الموازن بين أسلوب القرآن الكريم وغيره من أساليب الكلام العربي، متخذين ذلك وسيلة لإثبات ظاهرة الإعجاز للقرآن الكريم.
لقد كان لعلماء متقدمين كأبي عبيدة (ـ 210هـ) والأخفش سعيد بن مسعدة (ـ207هـ) والفراء (ـ 208 هـ) الجهد الكبير في إثراء مفهوم الأسلوب في الشعر وجلاء أشكاله، رغم تباين الأهداف التي سعوا إليها، بين بلاغة الخطاب القرآني وإعجازه أو دفع طعون الملحدين في القرآن وعربيته.
وإذا التفتنا إلى المعجميين فإننا نجدهم يعرّفون الأسلوب بالطريقة والفن، فالزبيدي يعرف الأسلوب بـ((السطر من النخيل و"الطريق" يأخذ فيه، وكل طريق ممتد فهو أسلوب، والأسلوب: الوجه والمذهب، يقال هم في أسلوب سوء، ويجمع على أساليب، وقد سلك أسلوبه: طريقته وكلامه على أساليب حسنة، والأسلوب بالضم "الفن"، يقال أخذ فلان في أساليب من القول أي أفانين منه))(1)، ويذهب الفيروز أبادي نفس المذهب إلى أن ((الأسلوب الطريق))(2)، وينعته الرازي بـ ((الفن))(3).
أما إذا بحثنا في مفهوم الأسلوب عند البلاغيين فإننا نجد ابن طباطبا العلوي (ـ 322هـ) من الأوائل الذين التمسوا للأسلوب مفهوماً رغم عدم تسميته لفظاً بالأسلوب؛ حيث نجده يشير إلى ذلك عند حديثه عن طريقة الشاعر إذا رغب النظم، فمخاض ((المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه فكره نثراً، وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه والقوافي التي توافقه، والوزن الذي يسلس له القول عليه. فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته، وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه بل يتعلق كل بيت يتفق نظمه، على تفاوت مابينه وبين ما قبله. فإذا كملت له المعاني، وكثرت الأبيات وفق بينها بأبيات تكون نظماً لها وسلكاً جامعاً لما تشتت منها))(4)، ومن ثم نجد أن الأسلوب هو أساس صناعة الشعر، يجمع بين الرؤية التي يمتلكها الشاعر والاحتراف اللغوي والإيقاعي والجمالي، يتأمل المبدع من خلاله ((ما أداه إليه طبعه ونتجه إليه فكره، يستقصي انتقاده، ويروم ما وهى منه))(5)، وبذلك يؤدي رسالته مراعياً رؤيته وأفق انتظار المتلقي.
إن مفهوم الأسلوب الجيد القائم على أصول فنية كالمطابقة بين اللفظ والمعنى ابتداءً والتوفيق بين القوافي والأبيات انتهاء قائم من اهتمام ابن طباطبا بخصائص نظم الشعر، لأن شأن الشاعر ـ في اعتقاد ابن طباطبا ـ كشأن ((النساج الحاذق الذي يوفق وشيه بأحسن التوفيق ويسديه وينيره))(6) حتى يجلي نظمه في أحسن حلة، ولا يتأتى له ذلك إلا بالحذق في صناعة الأسلوب والتحكم في آلياته.
وإلى جانب اهتمام ابن طباطبا بخاصية التلاؤم بين مواد الشعر يؤكد كذلك خاصية الصدق في التجربة الشعرية، ولا يكون ذلك على مستوى المبدع بل تتعداها إلى المتلقي الذي يتأثر لما يتلقاه مما قد عهده طبعه وقبلته مداركه، فيثار بذلك ماكان دفيناً، ويتجلى ماكان مكنوناً.
وليس هذا فحسب، بل الصدق يتجسد ـ كذلك ـ على مستوى ثالث يشترط فيه موافقة تجربة السامعين، إذ يوظف الشاعر تجاربهم في أشكال صور استعارية، وقد لخص ابن طباطبا هذه الخاصية الأسلوبية في جملة تدعو الشاعر لأن يعتمد الصدق والإصابة في تركيب الصور ونسجها ولا يتأتى له ذلك إلا بالحذق في تنويع نسوج أساليبه.
لا يقف ابن طباطبا عند الصدق في ضبطه لخصائص الأسلوب، بل يؤكد ضرورة المراجعة والانتقاد لما نسجه الشاعر، فيغير كلمة نابية بأخرى مألوفة، ويغير بكل لفظة مستهجنة لفظة مألوفة نقية، ساعياً لغاية الوضوح؛ لأن منتهى الشاعر أن يستوعب السامع فكرته، وتالياً يجد ما يصبو إليه من تأثير في المتلقي استدراجاً له.
إن المتأمل في نظرة ابن طباطبا إلى الأسلوب يجد أنها لا تقوم على أصل واحد متفرد كاللفظ و المعنى، بل يرى ((أن الأسلوب ليس المعنى وحده واللفظ وحده، وإنما هو مركب فني من عناصر مختلفة يستمدها الفنان من ذهنه ومن نفسه ومن ذوقه. تلك العناصر هي الأفكار، والصور والعواطف، ثم الألفاظ المركبة والمحسنات المختلفة))، ومن ثم فالأسلوب في النص هو الأساس في نسج بنيته عبر جميع مستوياتها.
تتعمق النظرة إلى الأسلوب في التراث البلاغي مع أطروحات عبد القاهر الجرجاني (ـ 471هـ)؛ إذ نجده يساوي بين الأسلوب والنظم، لأن الأسلوب عنده لا ينفصل عن رؤيته للنظم، بل نجده يماثل بينهما من حيث أنهما يشكلان تنوعاً لغوياً خاصاً بكل مبدع يصدر عن وعي واختيار، ومن ثم يذهب عبد القاهر إلى أن الأسلوب ضرب من النظم وطريقة فيه.
إذا كان الأسلوب ـ كذلك ـ يجب أن يتوخى فيه المبدع اللفظ لمقتضى التفرد الذاتيّ في انتقاء اللغة عن وعي وذلك بمراعاة حال المخاطب، فإن الجرجاني قد أضاف أصلاً أصيلاً إلى نظرية الأسلوب في البلاغة العربية القديمة، إذ جعل الأسلوب يقوم على الأصول العربية وقواعدها، فالنظم يمتنع معنى إذا لم ينضبط بالنحو، وذلك ما أسس له الجرجاني في دلائل الإعجاز بقوله: ((واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ منها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تخل بشيء منها))(7)، وبذلك جعل عبد القاهر الجرجاني من النحو قاعدة لكل نظم، لا باعتباره أداة أسلوب ينتظم بها التركيب في نسقه الإعرابي العام، وإنما جعل منه ـ كذلك ـ مستفتحاً لما استغلق من المعنى؛ إذ الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب مفتاحاً لها، و((أن الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها، وأنه المعيار الذي لا يتبين نقصان كلام ورجحانه حتى يعرض عليه؛ والمقياس الذي لا يعرف صحيحاً من سقيم حتى يرجع إليه ولا ينكر ذلك إلا من ينكر حسه))(8)، فإذا أدرك المبدع ذلك استقام له الأسلوب وأتاه أنى شاء.
وإذا كان عبد القاهر الجرجاني قد أكد ضرورة التزام النحو في مفهوم النظم، فإنه قد تشدد في ضرورة النسج على طريقة مخصوصة تميز شاعراً عن شاعر آخر، وبذلك نجد أن عبد القاهر الجرجاني يميز الأسلوب بتميز صاحبه في نظمه عن غيره من أهل النظم والأدب، ومن ثم نلاحظ أن هذه النظرة لا تخرج عن نظريته في النظم التي يؤكد فيها التزام معاني النحو في التأليف، وذلك من خلال تأكيد توفر محاسن الكلام في ترتيب المعاني في النفس بطريقة خاصة؛ وحسب مقتضى الحال حتى يحصل التجانس.
إن مفهوم الإعراب عند الجرجاني لا ينتهي فيه إلى مفهوم الموقع من الجملة أو نسبته من الجملة من سابقه أو لا حقه رفعاً أو نصباً أو جراً، وإنما يتعداه إلى المفهوم الدلالي الذي تقتضيه فصاحة المخاطب ونباهة البليغ، ومن ثم نجده لا يقف في نظرته إلى الإعراب عند المظاهر الشكلية التي أسس لها الإعراب لاحقاً في الاهتمام بالقواعد الإعرابية، بل ينظر إلى الإعراب لا على أنه علم يحذق فيه صاحبه علم الحركات، بل على أنه علم يقصد فيه التأسيس لفهم يساعد على إدراك معنى المعنى.
لا شك في أن قيام النظم عند الجرجاني بتوخي معاني النحو يوجب حضوراً عقلياً واستعمالاً منطقياً للغة؛ ولهذا يقوم الإبداع عنده على جملة من المراحل الواعية، ينتظمها الأسلوب الفني بدءاً من الذهن وتصوراته في المعنى والمبنى، إلى مرحلة مخاطبة المتلقي، وهنا يلزم أن يراعي الشاعر حالة المخاطب لأن النظم يقوم على الروية والتفكير، وهذا انطلاقاً من الرؤية المؤسسة على أن النظم يقوم أولاً على استحضار الفكرة أولاً، ثم التمثل والنطق ثانياً، والاعتبار يكون بحال واضع للكلام.
فالترتيب الذهني والإخراج الفني المراعي لمقتضى الحال من دواعي قوة الأسلوب، ورصانته وبلاغته وجزالته، وليس الشأن في اللفظ حَسُنَ أو قَبُحَ، بل مفاضلة بين الألفاظ خارج سياق الكلام، وهذا ما جنح إليه الجرجاني، ولعله ـ هنا ـ خالف سابقيه المعتقدين بفصاحة اللفظة المفردة وجمالها، وسبقَ لاحقيه وبخاصة الطرح الألسني البُنوي المعاصر، الذي يذهب إلى الاعتقاد بأن جمال اللفظة لا يكون إلا في نظامها، وبذلك يتجلى لنا طرح الجرجاني وهو يناقش مسألة النظم في أن الأسلوب يقوم على توخي معاني النحو، لأننا في طلبها نطلب الجمال في الأسلوب والتفرد في الصياغة والقوة في الصناعة.
إن إخضاع مفهوم الأسلوب لمعاني النحو فهمٌ شاع في التراث البلاغي العربي بعد الجرجاني، لكننا نجد أن عبد الرحمن بن خلدون (ـ 808 هـ) لم يؤصل الأسلوب على معاني النحو فقط، وإنما جعل النحو والبلاغة والعروض علوم آلات تغذي سلوك الأسلوب كما يسميه، وهو طرح لا يجانب كثيراً طرح الجرجاني ولكنه يمتح من معين التقعيد الذي وقعت فيه العلوم اللغوية على زمانه. لقد تبيّن لابن خلدون أن الأسلوب عند أهل الصناعة ((عبارة عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب أو القوالب التي يفرغ فيها، ولا يرجع على الكلام باعتبار إفادته كمال المعنى الذي هو وظيفة البلاغة والبيان؛ ولا باعتباره الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية))(9)، التي تتعدى معرفة العلوم المذكورة؛ ولا تقوم الشاعرية عند الشاعر بإدراك هذه العلوم، فكم من شاعر لا يحيط بها إحاطة كاملة، وكم من محيط بهذه الأدوات وليس بشاعر، فالفرق بين عالم البلاغة والشاعر المبدع بيّن؛ ولكنها ـ بالرغم من ذلك كله ـ تؤسس لمشروع شاعر امتلك الملكة التي تطبع ذوقه من خلال التعمق في معارفها والتمرن على أساليب هذه العلوم قراءة وحفظاً.
إن هذا الطرح الذي يعالج من خلاله ابن خلدون مسألة الأسلوب يجعلنا نطرح التساؤل التالي: إذا كانت الصناعة الشعرية خارجة عن العلوم الثلاثة فما وظيفتها؟ وبخاصة إذا علمنا أنها الأساس في صناعة الأسلوب، بل ما الأسلوب ـ أصلاً ـ عند ابن خلدون؟.
يؤكد ابن خلدون في مقدمته أن الوظيفة الشعرية أو الصناعة الشعرية ـ كما يقول ـ ((ترجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة باعتبار انطباقها على تركيب خاص، وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبناء، فيرصها فيه رصاً كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام))(10)، وبذلك ندرك أن ابن خلدون يذهب إلى أن وظيفة الأساليب الشعرية هي استيعاب العلوم إدراكاً، ثم انتقاء منها ما يناسب التركيب الخاص بالشاعر والصور الذهنية التي يحملها وهل هي متسعة لوظائف القدرات اللغوية والإبداعية.
إن الأسلوب حسب تصور ابن خلدون صورة ذهنية تغمر النفس وتطبع الذوق الأساس فيها الدربة النابعة عن قراءة النصوص الإبداعية المتفردة ذات البعد الجمالي الأصيل، وبمثل ذلك تتكون وتتألف التراكيب التي تعودنا على نعتها بالأسلوب؛ وإذا كانت التراكيب التي يكون الأساس الأول فيها اللغة هي الأداة المثلى للتشكيل الصورة الذهنية "الأسلوب" فإن الوظيفة الشعرية للأسلوب تجمل في تحقيق التجانس بين مختلف التراكيب المنتظمة في بنية أساسها اللغة، ولا يتحقق ذلك إلا بالتوفيق بين التراكيب النحوية والبلاغية من ناحية والذوق من ناحية أخرى، وبذلك نلاحظ قرب مذهب ابن خلدون في مناقشة مسألة الأسلوب من الأسلوبيين المعاصرين الذين يعرفون الأسلوب على أنه ((إسقاط محور الاختيار على محور التوزيع))(11)، لتجسيد مبدأ التركيب والانزياح.
إن الملاحظ من خلال هذا الرصد المركز لمفهوم الأسلوب في التراث البلاغي العربي القديم أن هناك تبايناً بين الأطروحات التي تبناها كل علم من هؤلاء الأعلام الثلاثة، فابن طباطبا ربط مفهوم الأسلوب بصفة مناسبة الكلام بعضه لبعض، باعتبار أن الأسلوب داخل النص الشعري يتحقق إذا كملت له المعاني، وانسجمت الأبيات ووفق بينها بأبيات تكون نظاماً لها وسلكاً لما تشتت منها، أما الجرجاني فقد أخضع الكلام لعلم النحو، حتى يحقق صفة النظم لأن النظم هو أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، بينما نجد أن ابن خلدون جعل الأسلوب صورة ذهنية مهمتها مطابقة التراكيب المنتظمة على التركيب الخاص، لأن الصناعة الشعرية التي هي بمعنى الأسلوب ترجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص. لكن رغم هذا التباين في الأطروحات التي تبناها كل علم في مقاربته لمفهوم الأسلوب فإننا نجد أنهم قد أجمعوا على أن الأسلوب توفيق بين أطراف الكلام، سواء أكان ذلك بالملاءمة في الأسلوب أم بتوخي معاني النحو.
الأسلوب عند الحداثيين:
يذهب جلّ الباحثين والمهتمين بحقلي النقد والدراسات الأدبية، إلى القول إن للسانيات (دي سوسير) الأثر الكبير في نشأة المناهج النقدية النسقية، وانتهاجها الوصف والتحليل في مقاربة النصوص الأدبية، وتركها المعيارية واستصدار الأحكام النابعة ـ في الغالب ـ من تأثير السياقات الخارجية على النقاد، سواء أكانت هذه السياقات تاريخية أم اجتماعية أم نفسية أم أنتروبولوجية.
هذه النقلة النوعية في التعامل مع النصوص الأدبية والتي جاءت والنقد النسقي، تجلت بوضوح مع مطلع القرن العشرين في شتى المناهج النقدية المعاصرة.
الأسلوب STYLE سابق عن الأسلوبية stylistique في الظهور إذ ارتبط بالبلاغة منذ القديم في حين انبثقت الأسلوبية إثر الثورة التي أحدثتها لسانيات دي سوسير مطلعَ القرن العشرين، في مجال الدرس اللغوي ومدى تأثيره فيما بعد في الدراسات النقدية والأدبية إذ يعد مفهوم الأسلوبية ـ كما هو معروف ـ وليد القرن العشرين وقد التصق بالدراسات اللغوية وهو بذلك قد انتقل عن مفهوم "الأسلوب" السابق في النشأة منذ قرون، والذي كان لصيقاً بالدراسات البلاغية، ومن الممكن القول إن الأسلوب مهاد طبيعي للأسلوبية، فهو يقوم على مبدأ الانتقاء والاختيار للمادة الأدائية التي تقوم ـ في الخطوة التالية ـ الدراسات الأسلوبية بمهمة تحليلها من الناحية الأسلوبية المحضة؛ وتصنيفها حسب جماليتها الفنية؛ باتخاذها لغة الخطاب حقلاً للدراسة والاستقراء منها وبها تلج إلى عوالم النص لاستنطاقه وسبر أغواره.
تبحث الأسلوبية عن الخصائص الفنية الجمالية التي تميز النص عن آخر، أو الكاتب عن كاتب آخر، من خلال اللغة التي يحملَّها خلجات نفسه، وخواطر وجدانه، قياساً على هذه الأمور مجتمعة، تظهر الميزات الفنية للإبداع، إذ منها نستطيع تمييز إبداع عن إبداع انطلاقاً من لغته الحاملة له بكل بساطة؛ ومن ثم فالأسلوبية تحاول الإجابة عن السؤال: كيف يكتب الكاتب نصاً من خلال اللغة؟ إذ بها ومنها يتأتى للقارئ استحسان النص أو استهجانه، كما يتأتى له أيضاً الوقوف على مافي النص من جاذبية فنية تسمو بالنص إلى مصاف الأعمال الفنية الخالدة.والأسلوبية من المناهج التي تبنت الطرح النسقي انطلاقاً من مؤسسها شارل بالي، ((فمنذ سنة 1902 كدنا نجزم مع شارل بالي أن علم الأسلوب قد تأسست قواعده النهائية مثلما أرسى أستاذه ف.دي.سوسير أصول اللسانيات الحديثة))(12)، ووضع قواعدها المبدئية، حينها غيرت الدراسات النقدية نمط تعاملها مع الآثار الأدبية، باعتمادها النسق المغلق المتمثل في النص، واستقرائه من خلال لغته الحاملة له، وإبعادها كل ماله صلة بالسياقات وإصدار الأحكام المعيارية.
إن الأسلوبية بشكل عام منهج يدرس النص ويقرؤه من خلال لغته وما تعرضه من خيارات أسلوبية على شتى مستوياتها: نحوياً، ولفظياً، وصوتياً، وشكلياً، وما تفرده من وظائف ومضامين ومدلولات وقراءات أسلوبية لا يمت المؤلف بصلبه مباشرة لها على أقل تقدير(13) إذا نحن وضعنا في الحسبان أن المناهج النسقية تزيح السياقات في مقاربتها لنصوص الإبداعية.
تترصد الأسلوبية مكامن الجمال والفنية في الآثار الأدبية وما تحدثه من تأثيرات شتى في نفس القارئ، لما تسمو هذه الآثار عن اللغة النفعية المباشرة، إلى لغة إبداعية غير مباشرة، فنية وأكثر إيحاء وتلميحاً، هذا يحدد مجال الدراسة الأسلوبية، بينما يبقى ((الأسلوب الوسيلة بيانية للكتابة تتحقق على المستوى الفردي، كما تتحقق على المستوى الجماعي بل وتتمايز المراحل التاريخية للفرد أو العصر))(14) من منطقة إلى منطقة أخرى حسب تركيبتها الثقافية والاجتماعية والفكرية.
وتسعى الأسلوبية كمنهج نسَقي دوماً إلى محاولة مدارسة أساليب الكتاب اللغوي، ومدى تمايزها من خلال قدرة كل كاتب على التمايز في توظيف معجمه الفني من جهة، ومن جهة ثانية مدى استطاعته التأثير في المتلقي عبر اللغة، حينها تكون هاته اللغة تحقق انزياحات بشتى أنواعها سواء أكانت معجمية، أو دلالية، أو نحوية، أو عرفية، أو صوتية.
قد لا نعدو الحقيقة، إذا قلنا إن الأسلوبية مجال درسها الأسلوب، كظاهرة لغوية فنية، تسعى جاهدة إلى الوقوف على نسبية اختلافها من كاتب إلى كاتب، "وبصورة مجملة فإن البحث الأسلوبي إنما يعني بتلك الملامح أو السمات المتميزة في تكوينات العمل الأدبي وبواسطتها يكتسب تميزه الفردي أو قيمه الفنية، بصفته نتاجاً إبداعياً لفرد بعينه، أو ما يتجاوزه إلى تحديد سمات معينة لجنس أدبي بعينه"(15) دون سواه من الأجناس الأدبية الأخرى.
انطلاقاً من الجدل القائم بين مصطلحي الأسلوبية والذي أعرضنا عن الخوض فيه، سعياً إلى مباشرة للأسلوبية كمنهج نسقي يقارب النصوص الأدبية من خلال اللغة الحاملة لها، يمكننا أن نخلص إلى أن الأسلوبية كمنهج نقدي غايته مقاربة النصوص في سياقها اللغوي المتمثل في النص، ومدى تأثيره في القراء، فيجعل من الأسلوب مادة لدراسته، حينها نجد أن هذا الأخير يكون حقلاً خصباً تجد فيه الأسلوبية ضالتها درساً وتطبيقاً.
الأسلوبية واللغة:
تعرف اللغة بأنها مؤسسة اجتماعية تدرس تزامنياً، كما نادى بذلك دي سوسير في محاضراته، وهي مؤسسة اجتماعية لأنها تبحث في لغة جماعة ما، لها خصائصها المختلفة عن جماعة أخرى، في الزمان والمكان.
يقف البحث اللغوي الحديث عند اللغة في شموليّتها، أي في تداولها بين فئة اجتماعية معينة، ليضع لها قواعد صارمة لا يجب الخروج عنها أو تجاوزها، دون تطرقه للغة الفرد من خلال هذه الجماعة، فهذا الأخير في إبداعاته يقوم بتشويه اللغة، بحملها من المألوف إلى المألوف، ولن يكون له ذلك إلا بخرقه لهذه القواعد خرقاً فنياً جمالياً نابعاً من اللغة ذاتها،وهذا ما دأبت على مدارسته الأسلوبية بشتى اتجاهاتها، حيث تبقى أقل شمولية من البحث اللغوية الصرفة، مادامت تجنح إلى الانتهاكات الفردية للغة ومحاولة تعليل ذلك من مستويات ثلاثة: الكاتب، النص والقارئ، كل حسب دوره في عملية التلقي ووظيفته التواصلية. رصداً للقيم التزينية والفنية. وبذلك يتخذ ((الدرس اللغوي مساره تجاه الأصوات ـ المفردات ـ التركيبات وما يتصل بذلك، محدداً هدفه نحو دراسة تلك العناصر، وما يتميز به من خواص معينة، بينما تجعل "الأسلوبية" وجهتها دراسة العلاقات بين تلك العناصر السابقة، ودرجة تمازجها ومدى علاقاتها ومسافة توزعها، ثم يكون ذلك لهدف تال، وهو استشفاف القيم الفنية والجمالية من خلال ذلك التوجه الخاص للظاهرة اللغوية))(16)، وتفردها عن ظواهر لغوية أخرى في إبداعات فنية لكتاب آخرين.
مما سلف ذكره، يمكننا أن نبقى على مجال البحوث اللغوية في مدارستها للألفاظ والتراكيب، صوتياً، معجمياً، نحوياً، صرفياً، لتأتي البحوث الأسلوبية لرصد العلاقات الكامنة وراء النسيج اللغوي، والعلل الباعثة له من خلال اختلافه عن نسيج لغوي آخر، سعياً وراء كشف الفنية والجمالية في الظاهرة اللغوية، ذات النمط الخاص ضمن الإبداعات الفنية المختلفة شعرية كانت أو سردية.
الأسلوبية واللسانيات:
بدأت الدراسات اللغوية تأخذ الصبغة العلمية الوصفية بعيداً عن المعيارية الحكمية، ومع مجيء لسانيات دي سوسير في مطلع القرن العشرين، ومناداتها بدراسة اللغة تزامنياً، دراسة علمية وصفية، تقصي من غاياتها الاحتكام إلى المعايير واستصدار الأحكام القطعية، ينضاف إلى ذلك إقصاء الدراسة التعاقبية التاريخية للغة، وعلى هذا النهج، ومن هذا الرحم اللساني المحض نهلت الدراسة طريقة تعاملها مع اللغة من خلال النصوص، ((فإذا كانت لسانيات دي سوسير قد أنجبت أسلوبية بالي، فإن هذه اللسانيات نفسها قد ولدت البنيوية التي احتكت بالنقد الأدبي فأخصبا معاً "شعرية" جاكبسون، و"إنشائية" تودوروف، و"أسلوبية" ريفاتير. ولئن اعتمدت كل هذه المدارس على رصيد لساني من المعارف، فإن الإسلوبية معها قد تبوأت منزلة المعرفة المختصة بذاتها أصولاً ومناهج))(17)، ما دامت ـ في رأينا ـ أخصب المناهج وأقربها إلى الدراسات اللغوية الحديثة المعتمدة الوصف العلمي منهجاً.
أخذت الأسلوبية من اللسانيات الصفة العلمية الوصفية في الدراسة اللغة، غير أنها درست الخطاب ككل، وما يتركه هذا الخطاب من أثر في نفس المتلقي، في حين نجد أن اللسانيات قد اتجهت إلى دراسة الجملة بالتنظير واستنباط القواعد التي تستقيم بها، والقوانين التي من خلالها تكتسب طابع العلمية.
زودت اللسانيات المنهج الأسلوبي بطابع العلمية الوصفية في دراسة النصوص من خلال لغتها، وبذلك جعلت منه منهجاً علمياً وصفياً ينأى عن الدراسة المعيارية الحكمية، التي وقعت فيها البلاغة القديمة مما ولد عقمها وجمودها.
البلاغة والأسلوبية:
اهتمت البلاغة بدراسة الخطاب دراسة جزئية تقوم على المعيارية واستصدار الأحكام التقييمية، متبعة في ذلك مبدأي التخطئة والتصويب، بناء على تفضيلها للشكل على المضمون مما جعلها في النهاية تصاب بالعقم، في استنطاق النصوص إلى حد ما.
ومع ظهور لسانيات دي سوسير في مطلع القرن العشرين، ودعوته إلى الدراسة العلمية الوصفية التزامنية للغة، ظهرت على أنقاضها الأسلوبية كمنهج بديل، مادامت هذه الأخيرة ((كعلم جديد نسبياً، حاولت تجنب المزالق التي وقعت فيها البلاغة القديمة من حيث إغراقها في الشكلية، ومن حيث اقتصارها على الدراسة الجزئية بتناول اللفظة المنفردة، ثم الصعود إلى الجملة الواحدة أو ماهو في حكم الجملة الواحدة، وهذه الدراسة البلاغية كانت يوماً ما أداة النقد في تقييم الأعمال الأدبية))(18)، حين كانت الدراسة المعيارية المعتمدة استصدار الأحكام، والحرص على التقيد بالتوصيات المسطرة سلفاً، منهجاً يعول عليه كثيراً في تركيب الآثار الأدبية.
تستمد الأسلوبية علاقتها بالدرس اللساني الحديث بوصفها منهجاً وصفياً علمياً، تنفي عن نفسها المعيارية، وإرسال الأحكام التقييمية، بالقبول، أو بالرفض، ينضاف إلى ذلك، أنها لا تسعى إلى غاية تعليمية البتة، ناهيك عن حرصها الشديد على تعليل الظواهر الإبداعية وبعد أن تقرّر وجودها ههنا جاز لنا أن نقر بأحقية الدراسات الأسلوبية في مقاربتها النصوص الإبداعية، بشيء من العلمية الوصفية، على النقيض مما تعاملت به البلاغة.
الأسلوبية والنقد الأدبي:
مع ظهور البنيوية في القرن العشرين، بتأثير من لسانيات دي سوسير، ودعوتها إلى دراسة النص من الداخل وإقصائها لجميع السياقات الخارجة عن النص، راحت جل المناهج النقدية المعاصرة تحذو حذوها في قراءتها النصوص الأدبية.
نجد الأسلوبية من المقاربات التي اقتصرت في درسها للنص الأدبي على جانبه اللغوي، ((ومن هنا فإن الجانب اللغوي هو مجال الباحث الأسلوبي، أما ما يتصل بالأثر الجمالي، أو تحليل عمل الشاعر، أو الروائي، أو المسرحي وجدانياً، وجمالياً وموقفاً أو سواه فكل ذلك يكون مهمة الناقد الأدبي بعد ذلك))(19) بصفة أكثر شمولية، وذلك ما يطلع به النقد بشتى اتجاهاته.
تعد الأسلوبية اتجاهاً من اتجاهات النقد الأدبي، إن لم نقل جزءاً منه، وإن كنا نجد أن كل من الباحث الأسلوبي، والناقد الأدبي يقوم بالممارسة لفعل القراءة كل حسب ما توفرت له من رؤية وأدوات إجرائي، حينها لا نجد فرقاً أو احتواء أحدهما للآخر، مادام كل منها يحاول أن يقارب النص الإبداعي بأدواته الإجرائية، غير أن الناقد الأدبي يصبح أكثر منهجية عندما يستوعب ويلتزم بأحد المناهج، يستقي منه أدواته، ليقارب النصوص الأدبية.
فالنقد الأدبي لن يوفق في عمله مالم يستعن بمنهج نقدي من المناهج النقدية المعروفة سواء أكانت سياقية منها أم نَسقيّة، كل بحسب أدواته الإجرائية، وطرائقه ومقولاته في استنطاق النصوص الأدبية، وفهم العملية الإبداعية من ناص ونص ومتلقٍّ.
الأسلوبية والنص الأدبي:
تركز الأسلوبية ـ بوصفها منهجاً نسقياً يقصي من طريقه كل السياقات الخارجة عن النص ـ على مقاربة لغة النص، وأسلوب الكاتب فيه انطلاقاً من إمكاناته اللغوية المتاحة، ومن ثم فهي ترتكز قراءتها للنص على مفهوم الأسلوب كمجموعة من الخيارات يقوم بها الكاتب في نصه على مستويات اللغة المختلفة، اللفظية منها والنحوية بشكل رئيسي ثم الصوتية، وما تفرزه هذه الخيارات الأسلوبية من وظائف ومعانٍ ومدلولات أسلوبية ناشئة عن علاقات متشابهة، ومترابطة أو متنافرة، وأحياناً معقدة بين مستويات اللغة المذكورة، بحسب الموقف الذي ساهم في إنتاج النص.
يعتمد المنهج الأسلوبي اللغة الحاملة للنص قصد سبر أغوارها، وكشف مكنوناتها، من خلال الألفاظ، والتراكيب سواء من جانبها النحوي، أو الصوتي، أو الدلالي، سعياً إلى الوقوف عند اللغة الأدبية المميزة للنص عن سواه من النصوص الأخرى، لأن ((التناول الأسلوبي إنما ينصب على اللغة الأدبية لأنها تمثل التنوع الفردي المتميز في الأداء بما فيه من وعي واختيار، وبما فيه من انحراف عن المستوى العادي المألوف، بخلاف اللغة العادية التي تتميز بالتلقائية والتي يتبادلها الأفراد بشكل دائم وغير متميز))(20)، وذلك ما يميز بين الأسلوب في خصوصيته الإبداعية والأسلوب كأداة يومية تستعمل للتواصل؛ والأسلوبية باعتبارها منهجاً نقديّاً ينصب اهتمامها على اللغة الأدبية من خلال انحرافاتها الإبداعيةعن النمطية ضمن اللغة الإبداعية العادية.
تبقى القراءة الأسلوبية ذلك المنهج النسقي الذي يجعل لغة النص وسيلة وغاية لفهم الإبداع والوقوف على درجة الأدبية فيه، من خلال الهوامش التي تحققها اللغة الإبداعية إذ تسمو بالنص إلى مصاف الأعمال الفنية الجذابة، انطلاقاً من مدى اختيار الألفاظ وتراصها وعلاقة بعضها ببعض، ضمن تركيب نحوي وصوتي ودلالي؛ ولذلك نجد أن ((الأسلوبية تعود بالضرورة إلى خواص النسيج اللغوي، وتنبثق منه، فإن البحث عن بعض هذه الخواص ينبغي أن يتركز في الوحدات المكونة للنص وكيفية بروزها وعلائقها))(21) بعضها ببعض.
وتبقى الأسلوبية منهجاً نقدياً عمل من أجل الكشف عن أسرار اللغة الأدبية في النص الإبداعي، من خلال وحداته المكونة لـه وانطلاقاً من اللغة كوسيلة وغاية، كوسيلة للوصول إلى استنطاق النص، وكغاية سعياً وراء الوقوف عند درجة الأدبية في النص الأدبي.
محددات الأسلوب في الأسلوبية:
لقد دأب النقاد الأسلوبيون المعاصرون على رصد أساليب الكتاب وتفردهم واختلافهم، الواحد عن الآخر، من خلال المقولات الثلاث: الاختيار ـ التركيب ـ الانزياح.
1 ـ الاختيار:
يعمد الكاتب إلى اللغة بوصفها خزّاناً جماعياً رحباً، منه ينتقي مفرداتٍ، يتخيرها كي يصب فيها ما تجيش به نفسه من مشاعر وأحاسيس وانطباعات، وهنا يبدأ بحث النقاد الأسلوبيين من حيث العمل على كشف العلل والأسباب الكامنة وراء هذا الاختيار أو ذاك مادام ((مبدأ "الاختيار" أو "الانتقاء" يمثل خاصية من خصائص البحث الأسلوبي، وإذا كانت اللغة تحوي مفردات متعددة، تتركب منها أعداد لا تحصى من العبارات والجمل، فإن القضية المثارة هي البحث عن الدلالات المتعلقة بأسباب اختيار جملة بدلاً من جملة أخرى، وتفضيل تركيب عن تركيب سواه))(22)، ورصد العلل المضمرة وراء هذا الاختبار أو ذلك.
إن عملية الاختيار يحكمها جانبان: شعور فردي وجداني تمليه الدفقة الشعورية للإبداع، وآخر خارجي اجتماعي لغوي فني تفرضه القواعد والأعراف، والطقوس المتداولة عند الكتاب والمتلقين، حتى يكون هناك إدراك واضح لما تحمله النصوص الإبداعية، بفهم لغتها وما ترمي إليه، وجعلها أكثر قابلية عندهم، ومن نجد أن ((الوضوح يتحقق باختيار الكلمات المعينة غير المشتركة بين معان، والتي تدل على الفكرة كاملة، والاستعانة بالعناصر الشارحة، أو المقيدة، أو المخيلة، واستعمال الكلمات المتقابلة المتضادة إذا كان ذلك يخدم المعنى والفكرة، والبعد عن الغريب الوحشي، والعمد إلى لغة الناس وما يستطيعون إدراكه))(23)، بسهولة وبصورة واضحة لا تشوبها شائبة.
يبقى الاختيار من العمليات المساعدة على كشف تفرد كاتب عن كاتب آخر، من خلال أسلوبه المتمثل في اللغة المعجمية، التي انتقاها ورصها مفرداتياً بعضها إلى بعض لتصير في النهاية لغة إبداعية فنية جمالية تستهوي القارئ، وترقع النص إلى مصاف الآثار الأدبية الخالدة.
2 ـ التركيب:
إن سلامة التركيب في جميع نواحيه، معجمياً، ونحوياً، وصوتياً، وصرفياً، ودلالياً، تستدعي انطلاقه من عملية سابقة عليه، وهي الاختيار، فكلما كان الاختيار دقيقاً يخدم الكاتب والنص القارئ، حينها يأتي التركيب كذلك؛ إذ ((ترى الأسلوبية أن الكاتب لا يتسنى له الإفصاح عن حسه ولا عن تصوره للوجود إلا انطلاقاً من تركيب الأدوات اللغوية تركيباً يفضي إلى إفراز الصورة المنشورة والانفعال المقصود)) (24)، والانطباع النابع من الذات عبر النص من خلال اللغة، ليحتضنه القارئ بحرارة.
وتقاس عملية التركيب بالرجوع إلى المزاج النفسي للكاتب وثقافته الخاصة، بالإضافة إلى السمات الثقافية لكل عصر، وهي الرقيب الذي يسير الكاتب تحت إمرته حتى يفهم عند المتلقين، ((فكل كاتب له مزاجه النفسي وثقافته المتميزة، كما أن لكل عصر سماته الثقافية، ومزاجه الفكري، ومن ثم يختلف أسلوب كاتب عن كاتب، كما يختلف أسلوب عصر عن عصر، إن الموقف وطبيعة القول وموضوعه، كل ذلك سوف يفرض بالضرورة أداء يختلف عن أداء، بل إن ذلك قد يكون لدى كاتب واحد))(25)، لأنه عايش فترتين زمنيتين مختلفتين.
أن ظاهرة التركيب التي لها علاقة تامة بالأسلوب تتحدد ضمن الأداء، من عدّة منطلقاتٍ ذاتيةٍ خاصةٍ بالكاتب ومزاجه النفسي، وثقافته المتميزة، والموضوع المتناول، وهي التي تفرض عليه لا محالة توظيف مفردات وتراكيب خاصة به، انطلاقاً مما سلف ذكره، وهذا لن يكون ذا فائدة تواصلية لغوية فنية جمالية، مالم يبق في إطار العصر وخصائصه الثقافية والفكرية واللغوية.
3 ـ الانزياح:
لقد ذهب جل النقاد الأسلوبيين، وعلى رأسهم الناقد الفرنسي "جون كوهن" إلى كشف ملامح الاختلاف بين الأساليب بدءاً بمدى انحراف الكتّاب عن النمط المألوف، والطقوس المتداولة في الكتابة في سياق نصوصهم الإبداعية؛ إذ ((الأسلوب هو كل ما ليس شائعاً ولا عادياً ولا مطابقاً للمعيار المألوف... إنه انزياح بالنسبة لمعيار، أي إنه خطأ ولكنه خطأ مقصود))(26)، ومحمود تنزع النفس إليه مادام يحمل جمالاً فنياً.
فالانزياح في المفهوم الأسلوبي هو قدرة المبدع على انتهاك واختراق المتناول المألوف، سواء أكان هذا الاختراق صوتياً أم صرفياً أم نحوياً أم معجمياً أم دلالياً؛ ومن ثم يحقق النص انزياحاً بالنسبة إلى معيار متواضَعٍ عليه، لذا تبقى اللغة الإبداعية هي التي تسمح بهذه الخلخلات اللغوية ضمن النصوص بحملها من النفعية البلاغية إلى الفنية الجمالية؛ وهذا كله وفقاً لأفكار وتداعيات خاصة، في إطار أمنية ومواقف محددة تمليها طبيعة المواضيع المتناولة في ضمن النصوص، حيث ((أنه من غير المجدي حصر الكلام في تكرار جمل جاهزة، كل واحد يستعمل اللغة لأجل التعبير عن فكرة خاصة في لحظة معينة، يستلزم ذلك حرية الكلام))(27) واستقلالية الخوض فيه وبه بارتياح، في رحاب لغة فنية أدبية تجعل الجمالية والتأثير غايتَيْها.
إن جمالية الانزياح عندما تخلق اللغة الإبداعية هوامش رحبة، على حساب اللغة المعجمية وانطلاقاً منها، ففيها يتأتى للقارئ الإقبال على العمل الفني، وتذوقه ومدارسته ومحاورته، بشقف ونهمٍ كبيرين، إلى درجة الاستمتاع والإثارة والاقتناع به فنياً وجمالياً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق