الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها...
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
يستهل ربنا( تبارك وتعالي) سورة الرعد بقوله( عز من قائل): المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لايؤمنون. الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوي علي العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون
[الرعد:1 و2]
وفي هاتين الآيتين الكريمتين يؤكد ربنا( تبارك وتعالي) أن الوحي بالقرآن الكريم إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) هو الحق المطلق, المنزل من الله( تعالي), والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وإن كان أكثر الناس لايؤمنون به.
والإيمان بالوحي من ركائز الإيمان بالله, ودعائم الإسلام( أي التسليم له تعالي بالطاعة في العبادة) لأن الذي يؤمن بأن الوحي هو كلام الله الخالق يسلم بمحتوي هذا الوحي من أمور الغيب وضوابط السلوك من مثل قواعد العقيدة, وتفاصيل العبادة, ودستور الأخلاق وفقه المعاملات, ومايصاحب ذلك من قصص الأمم السابقة( الذي جاء للعظة والاعتبار), وخطاب للنفس الإنسانية من خالقها وبارئها يهزها من الأعماق هزا, ويرقي بها إلي معارج الله العليا...!! وأول أسس العقيدة الصحيحة هو التوحيد الخالص لله تعالي بغير شريك ولاشبيه ولامنازع, والإيمان بما أنزل من غيب[ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله( بغير تفريق ولاتمييز), وبالقدر خيره وشره( بكل الرضي والتسليم), وبالبعث والحساب والجنة والنار, وبالخلود في حياة قادمة( بغير أدني شك أو ريبة].
وهذا الإيمان الصحيح يستتبع الخضوع الكامل لله( تعالي) بالعبادة والطاعة, وحسن القيام بواجب الاستخلاف في الأرض في غير استعلاء ولاتجبر, والسعي الحثيث لإقامة عدل الله( تعالي) فيها, وكل ذلك من صميم رسالة الإنسان في هذه الحياة, ومن ضرورات تحقيق النجاح فيها:
والقرآن الكريم الذي أوحاه ربنا( تبارك وتعالي) إلي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم), وتعهد بحفظه كلمة كلمة, وحرفا حرفا, فحفظ علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد, وإلي أن يرث الله( تعالي) الأرض ومن عليها يستدل علي صفائه الرباني, وعلي وحدانية الخالق العظيم, وطلاقة قدرته, وكمال علمه وحكمته بآياته الكريمة ذاتها, ومالها من جمال, وكمال, وصدق, كما يستدل علي ذلك أيضا بعدد من آيات الله الكونية الكبري وفي مقدمتها رفع السماوات بغير عمد يراها الناس...!!! وهو من الأمور الظاهرة للعيان, والشاهدة علي أن للكون إلها خالقا, قادرا, حكيما, عليما, أبدع هذا الكون بعلمه, وحكمته وقدرته, وهو قادر علي إفنائه, وعلي إعادة خلقه من جديد.
وعلي الرغم من ذلك فإن أكثر الناس غافلون عن كل هذه الحقائق, ومضيعون أعمارهم في شقاق, ونفاق, وعناد, من أجل الخروج علي منهج الله, واتباع الشهوات المحرمة, والمتع الخاطئة المدمرة, والاستعلاء الكاذب في الأرض, والولوغ في الظلم, وإفساد الحياة..!!!
وأغلب المنكرين لدين الله الحق الذي جاء به خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين) ينطلقون من غفلتهم هذه لينكروا البعث, والحساب, والجنة, والنار, والخلود في حياة قادمة انطلاقا من كفرهم بالله الخالق, وبملائكته, وكتبه, ورسله, ولايجدون في رفع السماء بغير عمد يرونها آية من الآيات المادية الملموسة التي نشهد له( تعالي) بطلاقة القدرة, وكمال الحكمة, ودقة التدبير..!!!
وتستمر الآيات القرآنية في نفس السورة باستعراض عدد غير قليل من آيات الله في الكون لعلها توقظ أصحاب العقول الغافلة, والضمائر الميتة إن كانت لديهم بقية من القدرة علي التفكير السليم, أو التعقل الراجح. فإن أصروا علي كفرهم بالله, وإنكارهم لرسالته الخاتمة, وماتضمنته من أمور غيبية, وفي مقدمتها قضية البعث, فليس من جزاء لهم أقل من الخلود في النار, والاغلال في أعناقهم, إمعانا في إذلالهم جزاء كفرهم وإنكارهم لآيات الله الخالق المقروءة في رسالته الخاتمة والمنظورة في كونه البديع..!!!
ورفع السماوات بغير عمد يراها الناس مع ضخامة أبعادها, وتعاظم أجرامها عددا وحجما وكتلة, هو من أوضح الأدلة علي أن هذا الكون الشاسع الاتساع, الدقيق البناء, المحكم الحركة والمنضبط في كل أمر من أموره لايمكن أن يكون نتاج المصادفة المحضة, أو أن يكون قد أوجد نفسه بنفسه, بل لابد له من موجد عظيم له من صفات الكمال والجمال والجلال والقدرة مايغاير صفات خلقه قاطبة:
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
[الشوري:11]
من أجل ذلك يؤكد القرآن الكريم حقيقة رفع السماوات بغير عمد يراها الناس, وإبقاءها سقفا مرفوعا, وحفظها من الوقوع علي الأرض ومن الزوال إلا بإذن الله, وذلك في عدد من آيات أخري من كتابه العزيز يقول فيها ربنا( تبارك وتعالي):
[1] خلق السماوات بغير عمد ترونها..
(لقمان:10)
[2] وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون.
(الأنبياء:32)
[3] ويمسك السماء أن تقع علي الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم
(الحج:65)
[4] ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره.
(الروم:25)
[5] إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا
(فاطر:41)
[6] والسقف المرفوع
(الطور:5)
[7] والسماء رفعها ووضع الميزان
( الرحمن:7)
[8] ءأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها
(النازعات:28,27)
[9] أفلا ينظرون إلي الابل كيف خلقت وإلي السماء كيف رفعت
( الغاشية:18,17)
[10] والسماء ومابناها
(الشمس:5)
فكيف رفعت السماوات بغير عمد يراها الناس؟ وهل معني الآية الكريمة ان السماء لها عمد غير مرئية أم ليس لها عمد علي الإطلاق؟ هذا ماسوف نفصله في السطور التالية بإذن الله( تعالي) وقبل الدخول في ذلك لابد لنا من شرح لفظ( عمد) في اللغة العربية وفي القرآن الكريم.
لفظة( العمد) في اللغة العربية
ثبات كواكب المجموعة الشمسية بالتعادل بين قوة الجاذبية والقوة الطاردة المركزية
يقال:( عمد) للشيء بمعني قصد له أي( تعمده), و(العمد) و(التعمد) هو قصد الشيء بالنية وهو ضد كل من السهو والخطأ, و(العمد) علي الشيء الاستناد إليه, ويقال:( عمد) الشيء( فانعمد) أي أقامه( بعماد)( يعتمد) عليه, و(عمدت) الشيء إذا أسندته, و(عمدت) الحائط مثله, و(العمود) ماتقام أو تعتمد عليه الخيمة من خشب أو نحوه ويعرف باسم( عمود البيت), وجمعه في القلة( أعمدة), وفي الكثرة( عمد) بفتحتين و(عمد) بضمتين, و(عمود) القوم و(عميدهم) السيد الذي( يعمده) الناس, و(العمدة) بالضم ما( يعتمد) عليه وجمعه( عمد), و(العماد) بالكسر ما( يعتمد) أو هو الأبنية الرفيعة( تذكر وتؤنت) والواحدة( عمادة) ويقال:( اعتمد) علي الشيء بمعني اتكأ عليه, و(اعتمد) عليه في كذا اتكل عليه, وفلان رفيع( العماد) أي هو رفيع عند الاعتماد عليه, ويقال: سطع( عمود) الصبح أي ابتدأ طلوع نوره تشبيها( للعمود) والقلب( العميد) الذي يعمده الحزن, والجسد( العميد) الذي يعمده السقم, وقد( عمد) توجع من حزن أو غضب أو سقم, و(عمد) البعير توجع من عقر ظهره.
لفظة( العمد) في القرآن الكريم
وردت لفظة( عمد) في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع علي النحو التالي:
[1] الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها
(الرعد:2)
[2] خلق السماوات بغير عمد ترونها..
(لقمان:10)
[3] نار الله الموقدة. التي تطلع علي الأفئدة. إنها عليهم مؤصدة. في عمد ممدة
(الهمزة:6 ــ9)
ووردت لفظة( عماد) في موضع واحد يقول فيه ربنا( تبارك وتعالي):
ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد.
(الفجر:6 ـ8)
وجاء الفعل( تعمد) ومشتقاتها في كتاب الله الكريم في ثلاثة مواضع علي النحو التالي:
[1] وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ماتعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما
(الأحزاب:5)
[2] ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما
(النساء:93)
[3] ومن قتله منكم متعمدا..
(المائدة:95)
آراء المفسرين
تعددت آراء المفسرين في شرح قوله( تعالي):
الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها..( الرعد:2)
وقوله( عز من قائل):
خلق السماوات بغير عمد ترونها..
(لقمان:10)
فقال ابن كثير( يرحمه الله): السماء علي الأرض مثل القبة, يعني بلا عمد, وهذا هو اللائق بالسياق, والظاهر من قوله تعالي( ويمسك السماء أن تقع علي الأرض إلا بإذنه) فعلي ذلك يكون قوله:( ترونها) تأكيدا لنفي ذلك, أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها, وهذا هو الأكمل في القدرة.
كذلك روي ابن كثير عن ابن عباس( رضي الله عنهما) وعن كل من مجاهد والحسن( عليهما رضوان الله) أنهم قالوا: لها عمد ولكن لاتري, فتكون( ترونها) صفة( عمد) أي بغير عمد مرئية( أبو بعمد غير مرئية), وأضاف أن هذا التأويل خلاف الظاهر المتبادر ولذلك ضعفه ابن كثير.
وذكر صاحبا تفسير الجلالين( يرحمهما الله): أن( العمد) جمع( عماد) وهو الاسطوانة[ أي أن العمد موجودة ولكنكم لاترونها], وهو صادق أن لا عمد أصلا.
وفي تعليقه علي هذا التفسير ذكر كنعان( أمد الله في عمره): قوله: وهو صادق بأن لاعمد لها أصلا هو إشارة إلي الوجه الثاني علي القول بأن( ترونها) صفة لــ( عمد), والضمير عائد إليها والمعني: رفعها خالية عن عمد مرئية, وانتفاء العمد المرئية يحتمل انتفاء الرؤية فقط أي: لها عمد ولكنها غير مرئية, ويحتمل انتفاء العمد والرؤية جميعا أي: لاعمد أصلا كما ذكر الجلال السيوطي( يرحمه الله), وفي قول آخر:( ترونها) مستأنفة, وضميرها يعود لــ( السماوات), والمعني: رفعها بلا عمد أصلا وأنتم ترونها كذلك..
وذكر محمد عبده( رحمه الله) في تفسير قوله( تعالي): والسماء ومابناها مانصه: السماء اسم لما علاك وارتفع فوق رأسك وأنت إنما تتصور عند سماعك لفظ السماء هذا الكون الذي فوقك فيه الشمس والقمر وسائر الكواكب تجري في مجاريها, وتتحرك في مداراتها, هذا هو السماء. وقد بناه الله أي رفعه وجعل كل كوكب من الكواكب منه بمنزلة لبنة من بناء سقف أو قبة أو جدران تحيط بك, وشد هذه الكواكب بعضها إلي بعض برباط الجاذبية العامة, كما تربط أجزاء البناء الواحد بما يوضع بينها مما تتماسك به.
وقال صاحب الظلال( يرحمه الله): والسماوات ــ أيا كان مدلولها, وأيا كان مايدركه الناس من لفظها في شتي العصور ــ معروضة علي أنظار, هائلة ــ ولاشك ــ حين يخلو الناس إلي تأملها لحظة, وهي هكذا لاتستند إلي شيء, مرفوعة( بغير عمد) مكشوفة( ترونها).. ما من أحد يقدر علي رفعها بلا عمد ــ أو حتي بعمد ــ إلا الله..
وذكر الغمراوي( يرحمه الله) واعجب معي من إعجاز الأسلوب والمعني معا في قوله تعالي:( بغير عمد ترونها) في كل من خلق السماء ورفعها. فلو قيل( بغير عمد) فحسب لكان ذلك نفيا مطلقا للعمد, مرئية وغير مرئية, والنفي المطلق يخالف الواقع الذي علم الله أنه سيهدي إليه عباده بعد نحو ألف وخمسين عاما من اختتام القرآن, فكأن من الإعجاز المزدوج أن يقيد الله نفي العمد في الخلق والرفع بقوله( ترونها), والضمير المنصوب في( ترونها) يرجع أولا إلي أقرب مذكور وهو( عمد) فيكون المعني: بغير عمد مرئية, أي بعمد من شأنها وفطرتها ألا تري, والفعل المضارع في اللغة يشمل الحال والاستقبال أو هو حال مستمر, لأن القرآن مخاطب به الناس في كل عصر.
وإذا أعيد الضمير إلي السماء كان المعني: أن السماء ترونها مخلوقة مرفوعة بغير عمد, وتكون العمد مايعهده الناس في أبنية الأرض, ونفيها بهذا المعني عن السماء المرفوعة أيضا أمر عجيب لايقدر عليه إلا الله وكلا الوجهين مفهوم من التعبير القرآني طبق اللغة, وإن كان الأولي في اللغة هو الوجه الأول الذي يحوي الإعجاز العلمي, وإذن فالوجهان كلاهما مرادان بالتعبير الكريم إذ لامانع من أحدهما والزمخشري فهم المعنيين علي التخيير, وإن أعطي الأولوية للمعني المستفاد من جعل( ترونها) صفة للعمد, أي بغير عمد مرئية, يعني أن عمدها لاتري, وهي إمساكها بقدرته.
أما الفخر الرازي فلم يرصد إلا هذا المعني الثاني إذ يقول: إنه رفع السماء بغير عمد ترونها, أي لاعمد في الحقيقة إلا أن تلك العمد هي قدرة الله تعالي وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الحيز الحالي, وإنهم( أي الناس) لايرون ذلك التدبير ولايعرفون كيفية ذلك الإمساك.
وأضاف الغمراوي( يرحمه الله) وقد عرف علماء الفلك الحديث كيفية ذلك عن طريق تلك السنة الكونية العجيبة المذهلة: سنة الجاذبية العامة, التي قامت وتقوم بها السماوات والأرض بأمر الله كما قال سبحانه: ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره
(الروم:25)
وقد بقي من صور التعبير صورة, وهي أن يقال:( بعمد لاترونها) بدلا من( بغير عمد ترونها) في الآيتين الكريمتين, وقد تجنبها القرآن لحكمة بالغة, فلو أنها جاءت فيه هكذا لاتجهت الافكار باديء ذي بدء إلي إثبات عمد في السماء أو للسماء, كالتي يعرفونها فيما يعلون من بنيان, ولأثبت العلم بطلان ذلك, وإن جاز علي أهل العصور قبل, وجل وعز وجه الله أن يلم خطأ مابكتابه من قريب أو بعيد.
وذكر الصابوني( أمد الله في عمره) في تفسير قوله تعالي:
الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها
مانصه: أي خلقها مرتفعة البناء, قائمة بقدرته لاتستند علي شيء حال كونكم تشاهدونها وتنظرونها بغير دعائم, وذلك دليل علي وجود الخالق المبدع الحكيم
العمد غير المرئية في العلوم الكونية
تشير الدراسات الكونية إلي وجود قوي مستترة, في اللبنات الأولية للمادة وفي كل من الذرات والجزيئات وفي كافة أجرام السماء, تحكم بناء الكون وتمسك بأطرافه إلي أن يشاء الله تعالي فيدمره ويعيد خلق غيره من جديد.
ومن القوي التي تعرف عليها العلماء في كل من الأرض والسماء أربع صور, يعتقد بأنها أوجه متعددة لقوة عظمي واحدة تسري في مختلف جنبات الكون لتربطه برباط وثيق وإلا لانفرط عقده وهذه القوي هي:
(1) القوة النووية الشديدة
وهي القوة التي تقوم بربط الجزيئات الأولية للمادة في داخل نواة الذرة برباط متين من مثل البروتونات, والنيوترونات ولبناتهما الأولية المسماة بالكواركات
(QUARKS)
بأنواعها المختلفة وأضدادها
((Anti-Quarks
كما تقوم بدمج والتحام نوي الذرات مع بعضها البعض في عمليات الاندماج النووي
(nuclearfusion)
التي تتم في داخل النجوم, كما تتم في العديد من التجارب المختبرية, وهي أشد أنواع القوي الطبيعية المعروفة لنا في الجزء المدرك من الكون ولذا تعرف باسم القوة الشديدة ولكن هذه الشدة البالغة في داخل نواة الذرة تتضاءل عبر المسافات الأكبر ولذلك يكاد دورها يكون محصورا في داخل نوي الذرات, وبين تلك النوي ومثيلاتها, وهذه القوي تحمل علي جسيمات غير مرئية تسمي باسم اللاحمة أو جليون
(gluon)
لم تكتشف إلا في أواخر السبعينيات من القرن العشرين, وفكرة القنبلة النووية قائمة علي اطلاق هذه القوة التي تربط بين لبنات نواة الذرة, وهذه القوة لازمة لبناء الكون لأنها لو انعدمت لعاد الكون إلي حالته الأولي لحظة الانفجار العظيم حين تحول الجرم الابتدائي الأولي الذي نشأ عن انفجاره كل الكون إلي سحابة من اللبنات الأولية للمادة التي لايربطها رابط, ومن ثم لايمكنها بناء أي من أجرام السماء.
(2) القوة النووية الضعيفة:
وهي قوة ضعيفة وذات مدي ضعيف للغاية لا يتعدي حدود الذرة وتساوي10 ــ13 من شدة القوة النووية الشديدة, وتقوم بتنظيم عملية تفكك وتحلل بعض الجسيمات الأولية للمادة في داخل الذرة كما يحدث في تحلل العناصر المشعة, وعلي ذلك فهي تتحكم في عملية فناء العناصر حيث إن لكل عنصر أجلا مسمي, وتحمل هذه القوة علي جسيمات إما سالبة أو عديمة الشحنة تسمي البوزونات
(bosons).
(3) القوة الكهربائية المغناطيسية( الكهرومغناطيسية):
وهي القوة التي تربط الذرات بعضها ببعض في داخل جزيئات المادة مما يعطي للمواد المختلفة صفاتها الطبيعية والكيميائية, ولولا هذه القوة لكان الكون مليئا بذرات العناصر فقط ولما كانت هناك جزيئات أو مركبات, ومن ثم ما كانت هناك حياة علي الاطلاق.
وهذه القوة هي التي تؤدي إلي حدوث الاشعاع الكهرومغناطيسي علي هيئة فوتونات الضوء أو مايعرف باسم الكم الضوئي.
(PhotonsorphotonQuantum)
وتنطلق الفوتونات بسرعة الضوء لتؤثر في جميع الجسيمات التي تحمل شحنات كهربية ومن ثم فهي تؤثر في جميع التفاعلات الكيميائية وفي العديد من العمليات الفيزيائية وتبلغ قوتها137/1 من القوة النووية الشديدة.
(4) قوة الجاذبية:
وهي علي المدي القصير تعتبر أضعف القوي المعروفة لنا, وتساوي10 ــ39 من القوة النووية الشديدة, ولكن علي المدي الطويل تصبح القوة العظمي في الكون, نظرا لطبيعتها التراكمية فتمسك بكافة أجرام السماء, وبمختلف تجمعاتها, ولولا هذا الرباط الحاكم الذي أودعه الله( تعالي) في الأرض وفي أجرام السماء ما كانت الأرض ولا كانت السماء ولو زال هذا الرباط لانفرط عقد الكون وانهارت مكوناته.
ولايزال أهل العلم يبحثون عن موجات الجاذبية المنتشرة في أرجاء الكون كله, منطلقة بسرعة الضوء دون أن تري, ويفترض وجود هذه القوة علي هيئة جسيمات خاصة في داخل الذرة لم تكتشف بعد يطلق عليها اسم الجسيم الجاذب أو( الجرافيتون)
(Graviton)
وعلي ذلك فإن الجاذبية هي أربطة الكون.
والجاذبية مرتبطة بكتل الأجرام وبمواقعها بالنسبة لبعضها البعض, فكلما تقاربت أجرام السماء, وزادت كتلها, زادت قوي الجذب بينها, والعكس صحيح, ولذلك يبدو أثر الجاذبية أوضح مايكون بين أجرام السماء التي يمسك الأكبر فيها بالأصغر بواسطة قوي الجاذبية, ومع دوران الأجرام حول نفسها تنشأ القوة الطاردة( النابذة) المركزية التي تدفع بالاجرام الصغيرة بعيدا عن الأجرام الأكبر التي تجذبها حتي تتساوي القوتان المتضادتان: قوة الجذب إلي الداخل, وقوة الطرد إلي الخارج فتتحدد بذلك مدارات كافة أجرام السماء التي يسبح فيها كل جرم سماوي دون أدني تعارض أو اصطدام.
هذه القوي الأربع هي الدعائم الخفية التي يقوم عليها بناء السماوات والأرض, وقد أدركها العلماء من خلال آثارها الظاهرة والخفية في كل أشياء الكون المدركة.
توحيد القوي المعروفة في الكون المدرك
كما تم توحيد قوتي الكهرباء والمغناطيسية في شكل قوة واحدة هي القوة الكهرومغناطيسية, يحاول العلماء جمع تلك القوة مع القوة النووية الضعيفة باسم القوة الكهربائية الضعيفة
(TheElectroweakForce)
حيث لا يمكن فصل هاتين القوتين في درجات الحرارة العليا التي بدأ بها الكون, كذلك يحاول العلماء جمع القوة الكهربائية الضعيفة والقوة النووية الشديدة في قوة واحدة وذلك في عدد من النظريات التي تعرف باسم نظريات المجال الواحد أو النظريات الموحدة الكبر
يTheGrandUnifiedTheorie))
ثم جمع كل ذلك مع قوة الجاذبية فيما يسمي باسم الجاذبية العظمي
(Supergravity)
التي يعتقد العلماء بأنها كانت القوة الوحيدة السائدة في درجات الحرارة العليا عند بدء خلق الكون, ثم تمايزت إلي القوي الأربع المعروفة لنا اليوم, والتي ينظر إليها علي أنها أوجه أربعة لتلك القوة الكونية الواحدة التي تشهد لله الخالق بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه, فالكون يبدو كنسيج شديد التلاحم والترابط, ورباطه هذه القوة العظمي الواحدة التي تنتشر في كافة أرجائه, وفي جميع مكوناته وأجزائه وجزيئاته, وهذه القوة الواحدة تظهر لنا في هيئة العديد من صور الطاقة, والطاقة هي الوحدة الأساسية في الكون, والمادة مظهر من مظاهرها, وهي من غير الطاقة لا وجود لها, فالكون عبارة عن المادة والطاقة ينتشران في كل من المكان والزمان بنسب وتركيزات متفاوتة فينتج عنها ذلك النسيج المحكم المحبوك في كل جزئية من جزئياته.
الجاذبية العامة
من الثوابت العلمية أن الجاذبية العامة هي سنة من سنن الله في الكون أودعها ربنا تبارك وتعالي كافة أجزاء الكون ليربط تلك الاجزاء بها, وينص قانون هذه السنة الكونية بأن قوة التجاذب بين أي كتلتين في الوجود تتناسب تناسبا طرديا مع حاصل ضرب كتلتيهما, وعكسيا مع مربع المسافة الفاصلة بينهما, ومعني ذلك أن قوة الجاذبية تزداد بازدياد كل من الكتلتين المتجاذبتين, وتنقص بنقصهما, بينما تزداد هذه القوة بنقص المسافة الفاصلة بين الكتلتين, وتتناقص بتزايدها, ولما كان لأغلب أجرام السماء كتل مذهلة في ضخامتها فإن الجاذبية العامة هي الرباط الحقيقي لتلك الكتل علي الرغم من ضخامة المسافات الفاصلة بينها, وهذه القوة الخفية( غير المرئية) تمثل النسيج الحقيقي الذي يربط كافة أجزاء الكون كما هو الحال بين الأرض والسماء وهي القوة الرافعة للسماوات باذن الله بغير عمد مرئية.
وهي نفس القوة التي تحكم تكور الأرض وتكور كافة أجرام السماء وتكور الكون كله, كما تحكم عملية تخلق النجوم بتكدس أجزاء من الدخان الكوني علي بعضها البعض, بكتلات محسوبة بدقة فائقة, وتخلق كافة أجرام السماء الأخري, كما تحكم دوران الأجرام السماوية كل حول محوره, وتحكم جرية في مداره, بل في أكثر من مدار واحد له, وهذه المدارات العديدة لاتصطدم فيها أجرام السماء رغم تداخلاتها وتعارضاتها الكثيرة, ويبقي الجرم السماوي في مداره المحدد بتعادل دقيق بين كل من قوي الجذب إلي الداخل بفعل الجاذبية وبين قوي الطرد إلي الخارج بفعل القوة الطاردة( النابذة) المركزية.
وقوة الجاذبية العامة تعمل علي تحدب الكون أي تكوره وتجبر كافة صور المادة والطاقة علي التحرك في السماء في خطوط منحنية( العروج), وتمسك بالأغلفة الغازية والمائية والحياتية للأرض, وتحدد سرعة الإفلات من سطحها, وبتحديد تلك السرعة يمكن إطلاق كل من الصواريخ والأقمار الصناعية.
والجاذبية الكمية
(QuantumGravity)
تجمع كافة القوانين المتعلقة بالجاذبية, مع الأخذ في الحسبان جميع التأثيرات الكمية علي اعتبار أن إحداثيات الكون تتبع نموذجا مشابها للاحداثيات الأرضية, وأن ابعاد الكون تتبع نموذجا مشابها للأرض بأبعادها الثلاثة بالاضافة إلي كل من الزمان والمكان كبعد رابع.وعلي الرغم من كونها القوة السائدة في الكون( بإذن الله) فإنها لاتزال سرا من أسرار الكون, وكل النظريات التي وضعت من أجل تفسيرها قد وقفت دون ذلك لعجزها عن تفسير كيفية نشأة هذه القوة, وكيفية عملها, وإن كانت هناك فروض تنادي بأن جاذبية الأرض ناتجة عن دورانها حول محورها, وأن مجالها المغناطيسي ناتج عن دوران لب الأرض السائل والذي يتكون أساسا من الحديد والنيكل المنصهرين حول لبها الصلب والذي له نفس التركيب الكيميائي تقريبا, وكذلك الحال بالنسبة لبقية أجرام السماء.
موجات الجاذبية
منذ العقدين الأولين من القرن العشرين تنادي العلماء بوجود موجات للجاذبية من الإشعاع التجاذبي تسري في كافة أجزاء الكون, وذلك علي أساس أنه بتحرك جسيمات مشحونة بالكهرباء مثل الإليكترونات والبروتونات الموجودة في ذرات العناصر والمركبات فإن هذه الجسيمات تكون مصحوبة في حركتها باشعاعات من الموجات الكهرومغناطيسية, وقياسا علي ذلك فإن الجسيمات غير المشحونة( مثل النيوترونات) تكون مصحوبة في حركتها بموجات الجاذبية, ويعكف علماء الفيزياء اليوم علي محاولة قياس تلك الأمواج, والبحث عن حاملها من جسيمات أولية في بناء المادة يحتمل وجوده في داخل ذرات العناصر والمركبات, واقترحوا له اسم الجاذب أو الجرافيتون وتوقعوا أنه يتحرك بسرعة الضوء, وانطلاقا من ذلك تصوروا أن موجات الجاذبية تسبح في الكون لتربط كافة أجزائه برباط وثيق من نواة الذرة إلي المجرة العظمي وتجمعاتها إلي كل الكون, وأن هذه الموجات التجاذبية هي من السنن الأولي التي أودعها الله تعالي مادة الكون وكل المكان والزمان!!
وهنا تجب التفرقة بين قوة الجاذبية
(TheGravitationalForce)
وموجات الجاذبية
(TheGravitationalWaves),
فبينما الأولي تمثل قوة الجذب للمادة الداخلة في تركيب جسم ماحين تتبادل الجذب مع جسم آخر, فإن الثانية هي أثر لقوة الجاذبية, وقد أشارت نظرية النسبية العامة إلي موجات الجاذبية الكونية علي أنها رابط بين المكان والزمان علي هيئة موجات تؤثر في حقول الجاذبية في الكون كما تؤثر علي الأجرام السماوية التي تقابلها وقد بذلت محاولات كثيرة لاستكشاف موجات الجاذبية القادمة إلينا من خارج مجموعتنا الشمسية ولكنها لم تكلل بعد بالنجاح.
والجاذبية وموجاتها التي قامت بها السماوات والأرض منذ بدء خلقهما, ستكون سببا في هدم هذا البناء عندما يأذن الله( تعالي) بتوقف عملية توسع الكون فتبدأ الجاذبية وموجاتها في العمل علي انكماش الكون وإعادة جمع كافة مكوناته علي هيئة جرم واحد شبيه بالجرم الابتدائي الذي بدأ به خلق الكون وسبحان القائل:
يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين
(الأنبياء:104)
نظرية الخيوط العظمي وتماسك الكون
في محاولة لجمع القوي الأربع المعروفة في الكون( القوة النووية الشديدة والقوة النووية الضعيفة, والقوة الكهرومغناطيسية, وقوة الجاذبية) في صورة واحدة للقوة اقترح علماء الفيزياء مايعرف باسم نظرية الخيوط العظمي
(TheTheoryOfSuperstrings)
والتي تفترض أن الوحدات البانية للبنات الأولية للمادة من مثل الكواركات والفوتونات, والإليكترونات وغيرها) تتكون من خيوط طولية في حدود10 ــ35 من المتر, تلتف حول ذواتها علي هيئة الزنبرك المتناهي في ضآلة الحجم, فتبدو كما لو كانت نقاطا أو جسيمات, وهي ليست كذلك, وتفيد النظرية في التغلب علي الصعوبات التي تواجهها الدراسات النظرية في التعامل مع مثل تلك الأبعاد شديدة التضاؤل حيث تتضح الحاجة إلي فيزياء كمية غير موجودة حاليا, ويمكن تمثيل حركة الجسيمات في هذه الحالة بموجات تتحرك بطول الخيط, كذلك يمكن تمثيل انشطار تلك الجسيمات واندماجها مع بعضها البعض بانقسام تلك الخيوط والتحامها.
وتقترح النظرية وجود مادة خفية
(ShadowMatter)
يمكنها أن تتعامل مع المادة العادية عبر الجاذبية لتجعل من كل شيء في الكون( من نواة الذرة إلي المجرة العظمي وتجمعاتها المختلفة إلي كل السماء) بناء شديد الإحكام, قوي الترابط, وقد تكون هذه المادة الخفية هي مايسمي باسم المادة الداكنة
(DarkMatter)
والتي يمكن أن تعوض الكتل الناقصة في حسابات الجزء المدرك من الكون, وقد تكون من القوي الرابطة له.
وتفسر النظرية جميع العلاقات المعروفة بين اللبنات الأولية للمادة, وبين كافة القوي المعروفة في الجزء المدرك من الكون.
وتفترض النظرية أن اللبنات الأولية للمادة ماهي إلا طرق مختلفة لتذبذب تلك الخيوط العظمي في كون ذي أحد عشربعدا, ومن ثم واذا كانت النظرية النسبية قد تحدثت عن كون منحن, منحنية فيه الابعاد المكانية الثلاثة( الطول, العرض, والارتفاع) في بعد رابع هو الزمن, فإن نظرية الخيوط العظمي تتعامل مع كون ذي أحد عشر بعدا منها سبعة أبعاد مطوية علي هيئة لفائف الخيوط العظمي التي لم يتمكن العلماء بعد من إدراكها وسبحان القائل: الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها
والله قد أنزل هذه الحقيقة الكونية علي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) من قبل أربعة عشر قرنا, ولا يمكن لعاقل أن ينسبها إلي مصدر غير الله الخالق.
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
يستهل ربنا( تبارك وتعالي) سورة الرعد بقوله( عز من قائل): المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لايؤمنون. الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوي علي العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون
[الرعد:1 و2]
وفي هاتين الآيتين الكريمتين يؤكد ربنا( تبارك وتعالي) أن الوحي بالقرآن الكريم إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) هو الحق المطلق, المنزل من الله( تعالي), والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وإن كان أكثر الناس لايؤمنون به.
والإيمان بالوحي من ركائز الإيمان بالله, ودعائم الإسلام( أي التسليم له تعالي بالطاعة في العبادة) لأن الذي يؤمن بأن الوحي هو كلام الله الخالق يسلم بمحتوي هذا الوحي من أمور الغيب وضوابط السلوك من مثل قواعد العقيدة, وتفاصيل العبادة, ودستور الأخلاق وفقه المعاملات, ومايصاحب ذلك من قصص الأمم السابقة( الذي جاء للعظة والاعتبار), وخطاب للنفس الإنسانية من خالقها وبارئها يهزها من الأعماق هزا, ويرقي بها إلي معارج الله العليا...!! وأول أسس العقيدة الصحيحة هو التوحيد الخالص لله تعالي بغير شريك ولاشبيه ولامنازع, والإيمان بما أنزل من غيب[ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله( بغير تفريق ولاتمييز), وبالقدر خيره وشره( بكل الرضي والتسليم), وبالبعث والحساب والجنة والنار, وبالخلود في حياة قادمة( بغير أدني شك أو ريبة].
وهذا الإيمان الصحيح يستتبع الخضوع الكامل لله( تعالي) بالعبادة والطاعة, وحسن القيام بواجب الاستخلاف في الأرض في غير استعلاء ولاتجبر, والسعي الحثيث لإقامة عدل الله( تعالي) فيها, وكل ذلك من صميم رسالة الإنسان في هذه الحياة, ومن ضرورات تحقيق النجاح فيها:
والقرآن الكريم الذي أوحاه ربنا( تبارك وتعالي) إلي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم), وتعهد بحفظه كلمة كلمة, وحرفا حرفا, فحفظ علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد, وإلي أن يرث الله( تعالي) الأرض ومن عليها يستدل علي صفائه الرباني, وعلي وحدانية الخالق العظيم, وطلاقة قدرته, وكمال علمه وحكمته بآياته الكريمة ذاتها, ومالها من جمال, وكمال, وصدق, كما يستدل علي ذلك أيضا بعدد من آيات الله الكونية الكبري وفي مقدمتها رفع السماوات بغير عمد يراها الناس...!!! وهو من الأمور الظاهرة للعيان, والشاهدة علي أن للكون إلها خالقا, قادرا, حكيما, عليما, أبدع هذا الكون بعلمه, وحكمته وقدرته, وهو قادر علي إفنائه, وعلي إعادة خلقه من جديد.
وعلي الرغم من ذلك فإن أكثر الناس غافلون عن كل هذه الحقائق, ومضيعون أعمارهم في شقاق, ونفاق, وعناد, من أجل الخروج علي منهج الله, واتباع الشهوات المحرمة, والمتع الخاطئة المدمرة, والاستعلاء الكاذب في الأرض, والولوغ في الظلم, وإفساد الحياة..!!!
وأغلب المنكرين لدين الله الحق الذي جاء به خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين) ينطلقون من غفلتهم هذه لينكروا البعث, والحساب, والجنة, والنار, والخلود في حياة قادمة انطلاقا من كفرهم بالله الخالق, وبملائكته, وكتبه, ورسله, ولايجدون في رفع السماء بغير عمد يرونها آية من الآيات المادية الملموسة التي نشهد له( تعالي) بطلاقة القدرة, وكمال الحكمة, ودقة التدبير..!!!
وتستمر الآيات القرآنية في نفس السورة باستعراض عدد غير قليل من آيات الله في الكون لعلها توقظ أصحاب العقول الغافلة, والضمائر الميتة إن كانت لديهم بقية من القدرة علي التفكير السليم, أو التعقل الراجح. فإن أصروا علي كفرهم بالله, وإنكارهم لرسالته الخاتمة, وماتضمنته من أمور غيبية, وفي مقدمتها قضية البعث, فليس من جزاء لهم أقل من الخلود في النار, والاغلال في أعناقهم, إمعانا في إذلالهم جزاء كفرهم وإنكارهم لآيات الله الخالق المقروءة في رسالته الخاتمة والمنظورة في كونه البديع..!!!
ورفع السماوات بغير عمد يراها الناس مع ضخامة أبعادها, وتعاظم أجرامها عددا وحجما وكتلة, هو من أوضح الأدلة علي أن هذا الكون الشاسع الاتساع, الدقيق البناء, المحكم الحركة والمنضبط في كل أمر من أموره لايمكن أن يكون نتاج المصادفة المحضة, أو أن يكون قد أوجد نفسه بنفسه, بل لابد له من موجد عظيم له من صفات الكمال والجمال والجلال والقدرة مايغاير صفات خلقه قاطبة:
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
[الشوري:11]
من أجل ذلك يؤكد القرآن الكريم حقيقة رفع السماوات بغير عمد يراها الناس, وإبقاءها سقفا مرفوعا, وحفظها من الوقوع علي الأرض ومن الزوال إلا بإذن الله, وذلك في عدد من آيات أخري من كتابه العزيز يقول فيها ربنا( تبارك وتعالي):
[1] خلق السماوات بغير عمد ترونها..
(لقمان:10)
[2] وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون.
(الأنبياء:32)
[3] ويمسك السماء أن تقع علي الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم
(الحج:65)
[4] ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره.
(الروم:25)
[5] إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا
(فاطر:41)
[6] والسقف المرفوع
(الطور:5)
[7] والسماء رفعها ووضع الميزان
( الرحمن:7)
[8] ءأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها
(النازعات:28,27)
[9] أفلا ينظرون إلي الابل كيف خلقت وإلي السماء كيف رفعت
( الغاشية:18,17)
[10] والسماء ومابناها
(الشمس:5)
فكيف رفعت السماوات بغير عمد يراها الناس؟ وهل معني الآية الكريمة ان السماء لها عمد غير مرئية أم ليس لها عمد علي الإطلاق؟ هذا ماسوف نفصله في السطور التالية بإذن الله( تعالي) وقبل الدخول في ذلك لابد لنا من شرح لفظ( عمد) في اللغة العربية وفي القرآن الكريم.
لفظة( العمد) في اللغة العربية
ثبات كواكب المجموعة الشمسية بالتعادل بين قوة الجاذبية والقوة الطاردة المركزية
يقال:( عمد) للشيء بمعني قصد له أي( تعمده), و(العمد) و(التعمد) هو قصد الشيء بالنية وهو ضد كل من السهو والخطأ, و(العمد) علي الشيء الاستناد إليه, ويقال:( عمد) الشيء( فانعمد) أي أقامه( بعماد)( يعتمد) عليه, و(عمدت) الشيء إذا أسندته, و(عمدت) الحائط مثله, و(العمود) ماتقام أو تعتمد عليه الخيمة من خشب أو نحوه ويعرف باسم( عمود البيت), وجمعه في القلة( أعمدة), وفي الكثرة( عمد) بفتحتين و(عمد) بضمتين, و(عمود) القوم و(عميدهم) السيد الذي( يعمده) الناس, و(العمدة) بالضم ما( يعتمد) عليه وجمعه( عمد), و(العماد) بالكسر ما( يعتمد) أو هو الأبنية الرفيعة( تذكر وتؤنت) والواحدة( عمادة) ويقال:( اعتمد) علي الشيء بمعني اتكأ عليه, و(اعتمد) عليه في كذا اتكل عليه, وفلان رفيع( العماد) أي هو رفيع عند الاعتماد عليه, ويقال: سطع( عمود) الصبح أي ابتدأ طلوع نوره تشبيها( للعمود) والقلب( العميد) الذي يعمده الحزن, والجسد( العميد) الذي يعمده السقم, وقد( عمد) توجع من حزن أو غضب أو سقم, و(عمد) البعير توجع من عقر ظهره.
لفظة( العمد) في القرآن الكريم
وردت لفظة( عمد) في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع علي النحو التالي:
[1] الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها
(الرعد:2)
[2] خلق السماوات بغير عمد ترونها..
(لقمان:10)
[3] نار الله الموقدة. التي تطلع علي الأفئدة. إنها عليهم مؤصدة. في عمد ممدة
(الهمزة:6 ــ9)
ووردت لفظة( عماد) في موضع واحد يقول فيه ربنا( تبارك وتعالي):
ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد.
(الفجر:6 ـ8)
وجاء الفعل( تعمد) ومشتقاتها في كتاب الله الكريم في ثلاثة مواضع علي النحو التالي:
[1] وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ماتعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما
(الأحزاب:5)
[2] ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما
(النساء:93)
[3] ومن قتله منكم متعمدا..
(المائدة:95)
آراء المفسرين
تعددت آراء المفسرين في شرح قوله( تعالي):
الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها..( الرعد:2)
وقوله( عز من قائل):
خلق السماوات بغير عمد ترونها..
(لقمان:10)
فقال ابن كثير( يرحمه الله): السماء علي الأرض مثل القبة, يعني بلا عمد, وهذا هو اللائق بالسياق, والظاهر من قوله تعالي( ويمسك السماء أن تقع علي الأرض إلا بإذنه) فعلي ذلك يكون قوله:( ترونها) تأكيدا لنفي ذلك, أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها, وهذا هو الأكمل في القدرة.
كذلك روي ابن كثير عن ابن عباس( رضي الله عنهما) وعن كل من مجاهد والحسن( عليهما رضوان الله) أنهم قالوا: لها عمد ولكن لاتري, فتكون( ترونها) صفة( عمد) أي بغير عمد مرئية( أبو بعمد غير مرئية), وأضاف أن هذا التأويل خلاف الظاهر المتبادر ولذلك ضعفه ابن كثير.
وذكر صاحبا تفسير الجلالين( يرحمهما الله): أن( العمد) جمع( عماد) وهو الاسطوانة[ أي أن العمد موجودة ولكنكم لاترونها], وهو صادق أن لا عمد أصلا.
وفي تعليقه علي هذا التفسير ذكر كنعان( أمد الله في عمره): قوله: وهو صادق بأن لاعمد لها أصلا هو إشارة إلي الوجه الثاني علي القول بأن( ترونها) صفة لــ( عمد), والضمير عائد إليها والمعني: رفعها خالية عن عمد مرئية, وانتفاء العمد المرئية يحتمل انتفاء الرؤية فقط أي: لها عمد ولكنها غير مرئية, ويحتمل انتفاء العمد والرؤية جميعا أي: لاعمد أصلا كما ذكر الجلال السيوطي( يرحمه الله), وفي قول آخر:( ترونها) مستأنفة, وضميرها يعود لــ( السماوات), والمعني: رفعها بلا عمد أصلا وأنتم ترونها كذلك..
وذكر محمد عبده( رحمه الله) في تفسير قوله( تعالي): والسماء ومابناها مانصه: السماء اسم لما علاك وارتفع فوق رأسك وأنت إنما تتصور عند سماعك لفظ السماء هذا الكون الذي فوقك فيه الشمس والقمر وسائر الكواكب تجري في مجاريها, وتتحرك في مداراتها, هذا هو السماء. وقد بناه الله أي رفعه وجعل كل كوكب من الكواكب منه بمنزلة لبنة من بناء سقف أو قبة أو جدران تحيط بك, وشد هذه الكواكب بعضها إلي بعض برباط الجاذبية العامة, كما تربط أجزاء البناء الواحد بما يوضع بينها مما تتماسك به.
وقال صاحب الظلال( يرحمه الله): والسماوات ــ أيا كان مدلولها, وأيا كان مايدركه الناس من لفظها في شتي العصور ــ معروضة علي أنظار, هائلة ــ ولاشك ــ حين يخلو الناس إلي تأملها لحظة, وهي هكذا لاتستند إلي شيء, مرفوعة( بغير عمد) مكشوفة( ترونها).. ما من أحد يقدر علي رفعها بلا عمد ــ أو حتي بعمد ــ إلا الله..
وذكر الغمراوي( يرحمه الله) واعجب معي من إعجاز الأسلوب والمعني معا في قوله تعالي:( بغير عمد ترونها) في كل من خلق السماء ورفعها. فلو قيل( بغير عمد) فحسب لكان ذلك نفيا مطلقا للعمد, مرئية وغير مرئية, والنفي المطلق يخالف الواقع الذي علم الله أنه سيهدي إليه عباده بعد نحو ألف وخمسين عاما من اختتام القرآن, فكأن من الإعجاز المزدوج أن يقيد الله نفي العمد في الخلق والرفع بقوله( ترونها), والضمير المنصوب في( ترونها) يرجع أولا إلي أقرب مذكور وهو( عمد) فيكون المعني: بغير عمد مرئية, أي بعمد من شأنها وفطرتها ألا تري, والفعل المضارع في اللغة يشمل الحال والاستقبال أو هو حال مستمر, لأن القرآن مخاطب به الناس في كل عصر.
وإذا أعيد الضمير إلي السماء كان المعني: أن السماء ترونها مخلوقة مرفوعة بغير عمد, وتكون العمد مايعهده الناس في أبنية الأرض, ونفيها بهذا المعني عن السماء المرفوعة أيضا أمر عجيب لايقدر عليه إلا الله وكلا الوجهين مفهوم من التعبير القرآني طبق اللغة, وإن كان الأولي في اللغة هو الوجه الأول الذي يحوي الإعجاز العلمي, وإذن فالوجهان كلاهما مرادان بالتعبير الكريم إذ لامانع من أحدهما والزمخشري فهم المعنيين علي التخيير, وإن أعطي الأولوية للمعني المستفاد من جعل( ترونها) صفة للعمد, أي بغير عمد مرئية, يعني أن عمدها لاتري, وهي إمساكها بقدرته.
أما الفخر الرازي فلم يرصد إلا هذا المعني الثاني إذ يقول: إنه رفع السماء بغير عمد ترونها, أي لاعمد في الحقيقة إلا أن تلك العمد هي قدرة الله تعالي وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الحيز الحالي, وإنهم( أي الناس) لايرون ذلك التدبير ولايعرفون كيفية ذلك الإمساك.
وأضاف الغمراوي( يرحمه الله) وقد عرف علماء الفلك الحديث كيفية ذلك عن طريق تلك السنة الكونية العجيبة المذهلة: سنة الجاذبية العامة, التي قامت وتقوم بها السماوات والأرض بأمر الله كما قال سبحانه: ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره
(الروم:25)
وقد بقي من صور التعبير صورة, وهي أن يقال:( بعمد لاترونها) بدلا من( بغير عمد ترونها) في الآيتين الكريمتين, وقد تجنبها القرآن لحكمة بالغة, فلو أنها جاءت فيه هكذا لاتجهت الافكار باديء ذي بدء إلي إثبات عمد في السماء أو للسماء, كالتي يعرفونها فيما يعلون من بنيان, ولأثبت العلم بطلان ذلك, وإن جاز علي أهل العصور قبل, وجل وعز وجه الله أن يلم خطأ مابكتابه من قريب أو بعيد.
وذكر الصابوني( أمد الله في عمره) في تفسير قوله تعالي:
الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها
مانصه: أي خلقها مرتفعة البناء, قائمة بقدرته لاتستند علي شيء حال كونكم تشاهدونها وتنظرونها بغير دعائم, وذلك دليل علي وجود الخالق المبدع الحكيم
العمد غير المرئية في العلوم الكونية
تشير الدراسات الكونية إلي وجود قوي مستترة, في اللبنات الأولية للمادة وفي كل من الذرات والجزيئات وفي كافة أجرام السماء, تحكم بناء الكون وتمسك بأطرافه إلي أن يشاء الله تعالي فيدمره ويعيد خلق غيره من جديد.
ومن القوي التي تعرف عليها العلماء في كل من الأرض والسماء أربع صور, يعتقد بأنها أوجه متعددة لقوة عظمي واحدة تسري في مختلف جنبات الكون لتربطه برباط وثيق وإلا لانفرط عقده وهذه القوي هي:
(1) القوة النووية الشديدة
وهي القوة التي تقوم بربط الجزيئات الأولية للمادة في داخل نواة الذرة برباط متين من مثل البروتونات, والنيوترونات ولبناتهما الأولية المسماة بالكواركات
(QUARKS)
بأنواعها المختلفة وأضدادها
((Anti-Quarks
كما تقوم بدمج والتحام نوي الذرات مع بعضها البعض في عمليات الاندماج النووي
(nuclearfusion)
التي تتم في داخل النجوم, كما تتم في العديد من التجارب المختبرية, وهي أشد أنواع القوي الطبيعية المعروفة لنا في الجزء المدرك من الكون ولذا تعرف باسم القوة الشديدة ولكن هذه الشدة البالغة في داخل نواة الذرة تتضاءل عبر المسافات الأكبر ولذلك يكاد دورها يكون محصورا في داخل نوي الذرات, وبين تلك النوي ومثيلاتها, وهذه القوي تحمل علي جسيمات غير مرئية تسمي باسم اللاحمة أو جليون
(gluon)
لم تكتشف إلا في أواخر السبعينيات من القرن العشرين, وفكرة القنبلة النووية قائمة علي اطلاق هذه القوة التي تربط بين لبنات نواة الذرة, وهذه القوة لازمة لبناء الكون لأنها لو انعدمت لعاد الكون إلي حالته الأولي لحظة الانفجار العظيم حين تحول الجرم الابتدائي الأولي الذي نشأ عن انفجاره كل الكون إلي سحابة من اللبنات الأولية للمادة التي لايربطها رابط, ومن ثم لايمكنها بناء أي من أجرام السماء.
(2) القوة النووية الضعيفة:
وهي قوة ضعيفة وذات مدي ضعيف للغاية لا يتعدي حدود الذرة وتساوي10 ــ13 من شدة القوة النووية الشديدة, وتقوم بتنظيم عملية تفكك وتحلل بعض الجسيمات الأولية للمادة في داخل الذرة كما يحدث في تحلل العناصر المشعة, وعلي ذلك فهي تتحكم في عملية فناء العناصر حيث إن لكل عنصر أجلا مسمي, وتحمل هذه القوة علي جسيمات إما سالبة أو عديمة الشحنة تسمي البوزونات
(bosons).
(3) القوة الكهربائية المغناطيسية( الكهرومغناطيسية):
وهي القوة التي تربط الذرات بعضها ببعض في داخل جزيئات المادة مما يعطي للمواد المختلفة صفاتها الطبيعية والكيميائية, ولولا هذه القوة لكان الكون مليئا بذرات العناصر فقط ولما كانت هناك جزيئات أو مركبات, ومن ثم ما كانت هناك حياة علي الاطلاق.
وهذه القوة هي التي تؤدي إلي حدوث الاشعاع الكهرومغناطيسي علي هيئة فوتونات الضوء أو مايعرف باسم الكم الضوئي.
(PhotonsorphotonQuantum)
وتنطلق الفوتونات بسرعة الضوء لتؤثر في جميع الجسيمات التي تحمل شحنات كهربية ومن ثم فهي تؤثر في جميع التفاعلات الكيميائية وفي العديد من العمليات الفيزيائية وتبلغ قوتها137/1 من القوة النووية الشديدة.
(4) قوة الجاذبية:
وهي علي المدي القصير تعتبر أضعف القوي المعروفة لنا, وتساوي10 ــ39 من القوة النووية الشديدة, ولكن علي المدي الطويل تصبح القوة العظمي في الكون, نظرا لطبيعتها التراكمية فتمسك بكافة أجرام السماء, وبمختلف تجمعاتها, ولولا هذا الرباط الحاكم الذي أودعه الله( تعالي) في الأرض وفي أجرام السماء ما كانت الأرض ولا كانت السماء ولو زال هذا الرباط لانفرط عقد الكون وانهارت مكوناته.
ولايزال أهل العلم يبحثون عن موجات الجاذبية المنتشرة في أرجاء الكون كله, منطلقة بسرعة الضوء دون أن تري, ويفترض وجود هذه القوة علي هيئة جسيمات خاصة في داخل الذرة لم تكتشف بعد يطلق عليها اسم الجسيم الجاذب أو( الجرافيتون)
(Graviton)
وعلي ذلك فإن الجاذبية هي أربطة الكون.
والجاذبية مرتبطة بكتل الأجرام وبمواقعها بالنسبة لبعضها البعض, فكلما تقاربت أجرام السماء, وزادت كتلها, زادت قوي الجذب بينها, والعكس صحيح, ولذلك يبدو أثر الجاذبية أوضح مايكون بين أجرام السماء التي يمسك الأكبر فيها بالأصغر بواسطة قوي الجاذبية, ومع دوران الأجرام حول نفسها تنشأ القوة الطاردة( النابذة) المركزية التي تدفع بالاجرام الصغيرة بعيدا عن الأجرام الأكبر التي تجذبها حتي تتساوي القوتان المتضادتان: قوة الجذب إلي الداخل, وقوة الطرد إلي الخارج فتتحدد بذلك مدارات كافة أجرام السماء التي يسبح فيها كل جرم سماوي دون أدني تعارض أو اصطدام.
هذه القوي الأربع هي الدعائم الخفية التي يقوم عليها بناء السماوات والأرض, وقد أدركها العلماء من خلال آثارها الظاهرة والخفية في كل أشياء الكون المدركة.
توحيد القوي المعروفة في الكون المدرك
كما تم توحيد قوتي الكهرباء والمغناطيسية في شكل قوة واحدة هي القوة الكهرومغناطيسية, يحاول العلماء جمع تلك القوة مع القوة النووية الضعيفة باسم القوة الكهربائية الضعيفة
(TheElectroweakForce)
حيث لا يمكن فصل هاتين القوتين في درجات الحرارة العليا التي بدأ بها الكون, كذلك يحاول العلماء جمع القوة الكهربائية الضعيفة والقوة النووية الشديدة في قوة واحدة وذلك في عدد من النظريات التي تعرف باسم نظريات المجال الواحد أو النظريات الموحدة الكبر
يTheGrandUnifiedTheorie))
ثم جمع كل ذلك مع قوة الجاذبية فيما يسمي باسم الجاذبية العظمي
(Supergravity)
التي يعتقد العلماء بأنها كانت القوة الوحيدة السائدة في درجات الحرارة العليا عند بدء خلق الكون, ثم تمايزت إلي القوي الأربع المعروفة لنا اليوم, والتي ينظر إليها علي أنها أوجه أربعة لتلك القوة الكونية الواحدة التي تشهد لله الخالق بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه, فالكون يبدو كنسيج شديد التلاحم والترابط, ورباطه هذه القوة العظمي الواحدة التي تنتشر في كافة أرجائه, وفي جميع مكوناته وأجزائه وجزيئاته, وهذه القوة الواحدة تظهر لنا في هيئة العديد من صور الطاقة, والطاقة هي الوحدة الأساسية في الكون, والمادة مظهر من مظاهرها, وهي من غير الطاقة لا وجود لها, فالكون عبارة عن المادة والطاقة ينتشران في كل من المكان والزمان بنسب وتركيزات متفاوتة فينتج عنها ذلك النسيج المحكم المحبوك في كل جزئية من جزئياته.
الجاذبية العامة
من الثوابت العلمية أن الجاذبية العامة هي سنة من سنن الله في الكون أودعها ربنا تبارك وتعالي كافة أجزاء الكون ليربط تلك الاجزاء بها, وينص قانون هذه السنة الكونية بأن قوة التجاذب بين أي كتلتين في الوجود تتناسب تناسبا طرديا مع حاصل ضرب كتلتيهما, وعكسيا مع مربع المسافة الفاصلة بينهما, ومعني ذلك أن قوة الجاذبية تزداد بازدياد كل من الكتلتين المتجاذبتين, وتنقص بنقصهما, بينما تزداد هذه القوة بنقص المسافة الفاصلة بين الكتلتين, وتتناقص بتزايدها, ولما كان لأغلب أجرام السماء كتل مذهلة في ضخامتها فإن الجاذبية العامة هي الرباط الحقيقي لتلك الكتل علي الرغم من ضخامة المسافات الفاصلة بينها, وهذه القوة الخفية( غير المرئية) تمثل النسيج الحقيقي الذي يربط كافة أجزاء الكون كما هو الحال بين الأرض والسماء وهي القوة الرافعة للسماوات باذن الله بغير عمد مرئية.
وهي نفس القوة التي تحكم تكور الأرض وتكور كافة أجرام السماء وتكور الكون كله, كما تحكم عملية تخلق النجوم بتكدس أجزاء من الدخان الكوني علي بعضها البعض, بكتلات محسوبة بدقة فائقة, وتخلق كافة أجرام السماء الأخري, كما تحكم دوران الأجرام السماوية كل حول محوره, وتحكم جرية في مداره, بل في أكثر من مدار واحد له, وهذه المدارات العديدة لاتصطدم فيها أجرام السماء رغم تداخلاتها وتعارضاتها الكثيرة, ويبقي الجرم السماوي في مداره المحدد بتعادل دقيق بين كل من قوي الجذب إلي الداخل بفعل الجاذبية وبين قوي الطرد إلي الخارج بفعل القوة الطاردة( النابذة) المركزية.
وقوة الجاذبية العامة تعمل علي تحدب الكون أي تكوره وتجبر كافة صور المادة والطاقة علي التحرك في السماء في خطوط منحنية( العروج), وتمسك بالأغلفة الغازية والمائية والحياتية للأرض, وتحدد سرعة الإفلات من سطحها, وبتحديد تلك السرعة يمكن إطلاق كل من الصواريخ والأقمار الصناعية.
والجاذبية الكمية
(QuantumGravity)
تجمع كافة القوانين المتعلقة بالجاذبية, مع الأخذ في الحسبان جميع التأثيرات الكمية علي اعتبار أن إحداثيات الكون تتبع نموذجا مشابها للاحداثيات الأرضية, وأن ابعاد الكون تتبع نموذجا مشابها للأرض بأبعادها الثلاثة بالاضافة إلي كل من الزمان والمكان كبعد رابع.وعلي الرغم من كونها القوة السائدة في الكون( بإذن الله) فإنها لاتزال سرا من أسرار الكون, وكل النظريات التي وضعت من أجل تفسيرها قد وقفت دون ذلك لعجزها عن تفسير كيفية نشأة هذه القوة, وكيفية عملها, وإن كانت هناك فروض تنادي بأن جاذبية الأرض ناتجة عن دورانها حول محورها, وأن مجالها المغناطيسي ناتج عن دوران لب الأرض السائل والذي يتكون أساسا من الحديد والنيكل المنصهرين حول لبها الصلب والذي له نفس التركيب الكيميائي تقريبا, وكذلك الحال بالنسبة لبقية أجرام السماء.
موجات الجاذبية
منذ العقدين الأولين من القرن العشرين تنادي العلماء بوجود موجات للجاذبية من الإشعاع التجاذبي تسري في كافة أجزاء الكون, وذلك علي أساس أنه بتحرك جسيمات مشحونة بالكهرباء مثل الإليكترونات والبروتونات الموجودة في ذرات العناصر والمركبات فإن هذه الجسيمات تكون مصحوبة في حركتها باشعاعات من الموجات الكهرومغناطيسية, وقياسا علي ذلك فإن الجسيمات غير المشحونة( مثل النيوترونات) تكون مصحوبة في حركتها بموجات الجاذبية, ويعكف علماء الفيزياء اليوم علي محاولة قياس تلك الأمواج, والبحث عن حاملها من جسيمات أولية في بناء المادة يحتمل وجوده في داخل ذرات العناصر والمركبات, واقترحوا له اسم الجاذب أو الجرافيتون وتوقعوا أنه يتحرك بسرعة الضوء, وانطلاقا من ذلك تصوروا أن موجات الجاذبية تسبح في الكون لتربط كافة أجزائه برباط وثيق من نواة الذرة إلي المجرة العظمي وتجمعاتها إلي كل الكون, وأن هذه الموجات التجاذبية هي من السنن الأولي التي أودعها الله تعالي مادة الكون وكل المكان والزمان!!
وهنا تجب التفرقة بين قوة الجاذبية
(TheGravitationalForce)
وموجات الجاذبية
(TheGravitationalWaves),
فبينما الأولي تمثل قوة الجذب للمادة الداخلة في تركيب جسم ماحين تتبادل الجذب مع جسم آخر, فإن الثانية هي أثر لقوة الجاذبية, وقد أشارت نظرية النسبية العامة إلي موجات الجاذبية الكونية علي أنها رابط بين المكان والزمان علي هيئة موجات تؤثر في حقول الجاذبية في الكون كما تؤثر علي الأجرام السماوية التي تقابلها وقد بذلت محاولات كثيرة لاستكشاف موجات الجاذبية القادمة إلينا من خارج مجموعتنا الشمسية ولكنها لم تكلل بعد بالنجاح.
والجاذبية وموجاتها التي قامت بها السماوات والأرض منذ بدء خلقهما, ستكون سببا في هدم هذا البناء عندما يأذن الله( تعالي) بتوقف عملية توسع الكون فتبدأ الجاذبية وموجاتها في العمل علي انكماش الكون وإعادة جمع كافة مكوناته علي هيئة جرم واحد شبيه بالجرم الابتدائي الذي بدأ به خلق الكون وسبحان القائل:
يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين
(الأنبياء:104)
نظرية الخيوط العظمي وتماسك الكون
في محاولة لجمع القوي الأربع المعروفة في الكون( القوة النووية الشديدة والقوة النووية الضعيفة, والقوة الكهرومغناطيسية, وقوة الجاذبية) في صورة واحدة للقوة اقترح علماء الفيزياء مايعرف باسم نظرية الخيوط العظمي
(TheTheoryOfSuperstrings)
والتي تفترض أن الوحدات البانية للبنات الأولية للمادة من مثل الكواركات والفوتونات, والإليكترونات وغيرها) تتكون من خيوط طولية في حدود10 ــ35 من المتر, تلتف حول ذواتها علي هيئة الزنبرك المتناهي في ضآلة الحجم, فتبدو كما لو كانت نقاطا أو جسيمات, وهي ليست كذلك, وتفيد النظرية في التغلب علي الصعوبات التي تواجهها الدراسات النظرية في التعامل مع مثل تلك الأبعاد شديدة التضاؤل حيث تتضح الحاجة إلي فيزياء كمية غير موجودة حاليا, ويمكن تمثيل حركة الجسيمات في هذه الحالة بموجات تتحرك بطول الخيط, كذلك يمكن تمثيل انشطار تلك الجسيمات واندماجها مع بعضها البعض بانقسام تلك الخيوط والتحامها.
وتقترح النظرية وجود مادة خفية
(ShadowMatter)
يمكنها أن تتعامل مع المادة العادية عبر الجاذبية لتجعل من كل شيء في الكون( من نواة الذرة إلي المجرة العظمي وتجمعاتها المختلفة إلي كل السماء) بناء شديد الإحكام, قوي الترابط, وقد تكون هذه المادة الخفية هي مايسمي باسم المادة الداكنة
(DarkMatter)
والتي يمكن أن تعوض الكتل الناقصة في حسابات الجزء المدرك من الكون, وقد تكون من القوي الرابطة له.
وتفسر النظرية جميع العلاقات المعروفة بين اللبنات الأولية للمادة, وبين كافة القوي المعروفة في الجزء المدرك من الكون.
وتفترض النظرية أن اللبنات الأولية للمادة ماهي إلا طرق مختلفة لتذبذب تلك الخيوط العظمي في كون ذي أحد عشربعدا, ومن ثم واذا كانت النظرية النسبية قد تحدثت عن كون منحن, منحنية فيه الابعاد المكانية الثلاثة( الطول, العرض, والارتفاع) في بعد رابع هو الزمن, فإن نظرية الخيوط العظمي تتعامل مع كون ذي أحد عشر بعدا منها سبعة أبعاد مطوية علي هيئة لفائف الخيوط العظمي التي لم يتمكن العلماء بعد من إدراكها وسبحان القائل: الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها
والله قد أنزل هذه الحقيقة الكونية علي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) من قبل أربعة عشر قرنا, ولا يمكن لعاقل أن ينسبها إلي مصدر غير الله الخالق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق