-بسم الله الرحمن الرحيم.
أما بعد حمد الله بجميع محامده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وآله وأصحابه، فإن غرضي في هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفسي (في نسخة فاس: التنبيه لنفسي بدل أن أثبت) (انظر ترجمة المؤلف آخر الكتاب) على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها، والتنبيه على نكت الخلاف فيها، ما يجري مجرى الأصول والقواعد لما عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع، وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشرع أو تتعلق بالمنطوق به تعلقا قريبا، وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها، أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد.
وقبل ذلك فلنذكر كم أصناف الطرق التي تتلقي منها الأحكام الشرعية، وكم أصناف الأحكام الشرعية، وكم أصناف الأسباب التي أوجبت الاختلاف بأوجز ما يمكننا في ذلك. فنقول:
إن الطرق التي منها تلقيت الأحكام عن النبي عليه الصلاة والسلام بالجنس ثلاثة: إما لفظ، وإما فعل، وإما إقرار. وأما ما سكت عنه الشارع من الأحكام فقال الجمهور: إن طريق الوقوف عليه هو القياس. وقال أهل الظاهر: القياس في الشرع باطل، وما سكت عنه الشارع فلا حكم له. ودليل العقل يشهد ثبوته [أي ثبوت القياس. دار الحديث]، وذلك أن الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى.
وأصناف الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام من السمع أربعة: ثلاثة متفق عليها، ورابع مختلف فيه. أما الثلاثة المتفق عليها فلفظ عام يحمل على عمومه، أو خاص يحمل على خصوصه، أو لفظ عام يراد به الخصوص، أو لفظ خاص يراد به العموم، وفي هذا يدخل التنبيه بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، وبالمساوي على المساوى؛ فمثال الأول قوله تعالى
وأما الإجماع فهو مستند إلى أحد هذه الطرق الأربعة، إلا أنه إذا وقع في واحد منها ولم يكن قطعيا نقل الحكم من غلبة الظن إلى القطع وليس الإجماع أصلا مستقلا بذاته من غير استناد إلى واحد من هذه الطرق، لأنه لو كان كذلك لكان يقتضي إثبات شرع زائد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان لا يرجع إلى أصل من الأصول المشروعة. وأما المعاني المتداولة المتأدية من هذه الطرق اللفظية للمكلفين، فهي بالجملة: إما أمر بشيء وإما نهي عنه، وإما تخيير فيه. والأمر إن فهم منه الجزم وتعلق العقاب بتركه سمي واجبا، وإن فهم منه الثواب على الفعل وانتفى العقاب مع الترك سمي ندبا. والنهي أيضا إن فهم منه الجزم وتعلق العقاب بالفعل سمي محرما ومحظورا،وإن فهم منه الحث على تركه من غير تعلق عقاب بفعله سمي مكروها، فتكون أصناف الأحكام الشرعية الملتقاة من هذه الطرق الخمس: واجب، ومندوب، ومحظور، ومكروه، ومخير فيه وهو المباح. وأما أسباب الاختلاف بالجنس فستة: أحدها تردد الألفاظ بين هذه الطرق الأربع: أعني بين أن يكون اللفظ عاما يراد به الخاص، أو خاصا يراد به العام، أو عاما يراد به العام، أو خاصا يراد به الخاص، أو يكون له دليل خطاب، أو لا يكون له. والثاني الاشتراك الذي في الألفاظ، وذلك إما في اللفظ المفرد كلفظ القرء الذي ينطلق على الأطهار وعلى الحيض، وكذلك لفظ الأمر هل يحمل على الوجوب أو الندب، ولفظ النهي هل يحمل على التحريم أو على الكراهية، وإما في اللفظ المركب مثل قوله تعالى
قال القاضي رضي الله عنه:
وإذ قد ذكرنا بالجملة هذه الأشياء، فلنشرع فيما قصدنا له، مستعينين بالله، ولنبدأ من ذلك بكتاب الطهارة على عاداتهم.
-فنقول: إنه اتفق المسلمون على أن الطهارة الشرعية طهارتان: طهارة من الحدث، وطهارة من الخبث، واتفقوا على أن الطهارة من الحدث ثلاثة أصناف: وضوء، وغسل، وبدل منهما وهو التيمم، وذلك لتضمن ذلك آية الوضوء الواردة في ذلك، فلنبدأ من ذلك بالقول في الوضوء، فنقول:
-إن القول المحيط بأصول هذه العبادة ينحصر في خمسة أبواب: الباب الأول في الدليل على وجوبها، وعلى من تجب ومتى تجب. الثاني في معرفة أفعالها. الثالث في معرفة ما به تفعل وهو الماء. الرابع في معرفة نواقضها. الخامس في معرفة الأشياء التي تفعل من أجلها.
-فأما الدليل على وجوبها فالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} الآية. فإنه اتفق المسلمون على أن امتثال هذا الخطاب واجب على كل من لزمته الصلاة إذا دخل وقتها. وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول" وقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ" وهذان الحديثان ثابتان عند أئمة النقل. وأما الإجماع، فإنه لم ينقل عن أحد من المسلمين في ذلك خلاف، ولو كان هناك خلاف لنقل، إذ العادات تقتضي ذلك. وأما من تجب عليه فهو البالغ العاقل، وذلك أيضا ثابت بالسنة والإجماع. أما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام "رفع القلم عن ثلاث، فذكر: الصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق" وأما الإجماع، فإنه لم ينقل في ذلك خلاف، واختلف الفقهاء هل من شرط وجوبها الإسلام أم لا؟ وهي مسألة قليلة الغناء في الفقه، لأنها راجعة إلى الحكم الأخروي. وأما متى تجب فإذا دخل وقت الصلاة، أو أراد الإنسان الفعل الذي الوضوء شرط فيه، وإن لم يكن ذلك متعلقا بوقت، أما وجوبه عند دخول وقت الصلاة على المحدث فلا خلاف فيه لقوله تعالى
-وأما معرفة فعل الوضوء فالأصل فيه ما ورد من صفته في قوله تعالى
اختلف علماء الأمصار هل النية شرط في صحة الوضوء أم لا بعد اتفاقهم على اشتراط النية في العبادات لقوله تعالى
اختلف الفقهاء في غسل اليد قبل إدخالها في إناء الوضوء، فذهب قوم إلى أنه من سنن الوضوء بإطلاق، وإن تيقن طهارة اليد، وهو مشهور مذهب مالك والشافعي. وقيل إنه مستحب للشاك في طهارة يده؛ وهو أيضا مروي عن مالك. وقيل إن غسل اليد واجب على المنتبه من النوم، وبه قال داود وأصحابه. وفرق قوم بين نوم الليل ونوم النهار، فأوجبوا ذلك في نوم الليل ولم يوجبوه في نوم النهار، وبه قال أحمد، فتحصل في ذلك أربعة أقوال: قول إنه سنة بإطلاق، وقوله إنه استحباب للشاك وقول إنه واجب على المنتبه من نوم وقول أنه واجب على المنتبه من نوم الليل دون نوم النهار، والسبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في مفهوم الثابت من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" وفي بعض رواياته "فليغسلها ثلاثا" فمن لم ير بين الزيادة الواردة في هذا الحديث على ما في آية الوضوء معارضة، وبين آية الوضوء حمل لفظ الأمر ههنا على ظاهره من الوجوب، وجعل ذلك فرضا من فروض الوضوء، ومن فهم من هؤلاء من لفظ البيات نوم الليل أوجب ذلك من نوم الليل فقط، ومن لم يفهم منه ذلك وإنما فهم منه النوم فقط أوجب ذلك على كل مستيقظ من النوم نهارا أو ليلا، ومن رأى أن بين هذه الزيادة والآية تعارضا إذ كان ظاهر الآية المقصود منه حصر فروض الوضوء كان وجه الجمع بينهما عنده أن يخرج لفظ الأمر عن ظاهره الذي هو الوجوب إلى الندب، ومن تأكد عنده هذا الندب لمثابرته عليه الصلاة والسلام على ذلك قال إنه من جنس السنن، ومن لم يتأكد عنده هذا الندب قال إن ذلك من جنس المندوب المستحب، وهؤلاء غسل اليد عندهم بهذه الحال إذا تيقنت طهارتها: أعني من يقول إن ذلك سنة، من يقول إنه ندب، ومن لم يفهم من هؤلاء من هذا الحديث علة توجب عنده أن يكون من باب الخاص أريد به العام كان ذلك عنده مندوبا للمستيقظ من النوم فقط، ومن فهم منه علة الشك وجعله من باب الخاص أريد به العام كان ذلك عنده للشاك، لأنه في معنى النائم، والظاهر من هذا الحديث أنه لم يقصد به حكم اليد في الوضوء، وإنما قصد به حكم الماء الذي يتوضأ به، إذا كان الماء مشترطا فيه الطهارة وأما من نقل من غسله صلى الله عليه وسلم يديه قبل إدخالهما في الإناء في أكثر أحيانه، فيحتمل أن يكون من حكم اليد على أن يكون غسلها في الابتداء من أفعال الوضوء، ويحتمل أن يكون من حكم الماء، أعني أن لا ينجس أو يقع فيه شك إن قلنا إن الشك مؤثر.
اختلفوا في المضمضة والاستنشاق في الوضوء على ثلاثة أقوال: قول إنهما سنتان في الوضوء، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة، وقول إنهما فرض فيه، وبه قال ابن أبي ليلى وجماعة من أصحاب داود، وقول إن الاستنشاق فرض والمضمضة سنة، وبه قال أبو ثور وأبو عبيدة وجماعة من أهل الظاهر، وسبب اختلافهم في كونها فرضا أو سنة اختلافهم في السنن الواردة في ذلك، هل هي زيادة تقتضي معارضة آية الوضوء أو لا تقتضي ذلك؛ فمن رأى أن هذه الزيادة إن حملت على الوجوب اقتضت معارضة الآية، إذ المقصود من الآية تأصيل هذا الحكم وتبيينه أخرجها من باب الوجوب إلى باب الندب، ومن لم ير أنها تقتضي معارضة حملها على الظاهر من الوجوب ومن استوت عنده هذه الأقوال والأفعال في حملها على الوجوب لم يفرق بين المضمضة والاستنشاق، ومن كان عنده القول محمولا على الوجوب والفعل محولا على الندب فرق بين المضمضة والاستنشاق، وذلك أن المضمضة نقلت من فعله عليه الصلاة والسلام ولم تنقل من أمره وأما الاستنشاق فمن أمره عليه الصلاة والسلام وفعله، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر" خرجه مالك في موطئه، والبخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة.
اتفق العلماء على أن غسل الوجه بالجملة من فرائض الوضوء لقوله تعالى
اتفق العلماء على أن غسل اليدين والذراعين من فروض الوضوء لقوله تعالى
اتفق العلماء على أن مسح الرأس من فروض الوضوء، واختلفوا في القدر المجزئ منه. فذهب مالك إلى أن الواجب مسحه كله، وذهب الشافعي وبعض أصحاب مالك وأبو حنيفة إلى أن مسح بعضه هو الفرض، ومن أصحاب مالك من حد هذا البعض بالثلث، ومنهم من حده بالثلثين، وأما أبو حنيفة فحده بالربع، وحد مع هذا القدر من اليد الذي يكون به المسح، فقال: إن مسحه بأقل من ثلاثة أصابع لم يجزه. وأما الشافعي فلم يحد في الماسح ولا في الممسوح حدا. وأصل هذا الاختلاف في الاشتراك الذي في الباء في كلام العرب، وذلك أنها مرة تكون زائدة مثل قوله تعالى
اتفق العلماء على أن الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة هو مرة مرة إذا أسبغ، وإن الاثنين والثلاث مندوب إليهما، لما صح "أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وتوضأ مرتين مرتين وتوضأ ثلاثا ثلاثا" ولأن الأمر ليس يقتضي إلا الفعل مرة مرة، أعني الأمر الوارد في الغسل في آية الوضوء، واختلفوا في تكرير مسح الرأس هل هو فضيلة أم ليس في تكريره فضيلة. فذهب الشافعي إلى أنه من توضأ ثلاثا ثلاثا يمسح رأسه أيضا ثلاثا، وأكثر الفقهاء يرون أن المسح لا فضيلة في تكريره؛ وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في قبول الزيادة الواردة في الحديث الواحد إذا أتت من طريق واحد ولم يرها الأكثر، وذلك أن أكثر الأحاديث التي روي فيها أنه توضأ ثلاثا ثلاثا من حديث عثمان وغيره لم ينقل فيها إلا أنه مسح واحدة فقط. في بعض الروايات عن عثمان في صفة وضوئه أنه عليه الصلاة والسلام مسح برأسه ثلاثا، وعضد الشافعي وجوب قبول هذه الزيادة بظاهر عموم ما روي أنه عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا، وذلك أن المفهوم من عموم هذا اللفظ وإن كان من لفظ الصحابي هو حمله على سائر أعضاء الوضوء، إلا أن هذه الزيادة ليست في الصحيحين، فإن صحت يجب المصير إليها، لأن من سكت عن شيء ليس هو بحجة على من ذكره. وأكثر العلماء أوجب تجديد الماء لمسح الرأس قياسا على سائر الأعضاء. وروى عن ابن الماجشون أنه قال: إذا نفذ الماء مسح رأسه ببلل لحيته، وهو اختيار ابن حبيب ومالك والشافعي.
ويستحب في صفة المسح أن يبدأ بمقدم رأسه فيمر يديه إلى قفاه ثم يردهما إلى حيث بدأ على ما في حديث عبد الله بن زيد الثابت. وبعض العلماء يختار أن يبدأ من مؤخر الرأس، وذلك أيضا مروي من صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام من حديث الربيع بنت معوذ، إلا أنه لم يثبت في الصحيحين.
اختلف العلماء في المسح على العمامة، فأجاز ذلك أحمد بن حنبل وأبو ثور والقاسم بن سلام وجماعة، ومنع من ذلك جماعة منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة، وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في وجوب العمل بالأثر الوارد في ذلك من حديث المغيرة وغيره "أنه عليه الصلاة والسلام مسح بناصيته وعلى العمامة" وقياسا على الخف، ولذلك اشترط أكثرهم لبسهما على طهارة، وهذا الحديث إنما رده من رده، إما لأنه لم يصح عنده، وإما لأن ظاهر الكتاب عارضه عنده، أعني الأمر فيه بمسح الرأس، وإما لأنه لم يشتهر العمل به عند من يشترط اشتهار العمل فيما نقل من طريق الآحاد وبخاصة في المدينة على المعلوم من مذهب مالك أنه يرى اشتهار العمل، وهو حديث خرجه مسلم، وقال فيه أبو عمر بن عبد البر إنه حديث معلول، وفي بعض طرقه أنه مسح على العمامة ولم يذكر الناصية، ولذلك لم يشترط بعض العلماء في المسح على العمامة المسح على الناصية، إذ لا يجتمع الأصل والبدل في فعل واحد.
اختلفوا في مسح الأذنين هل هو سنة أو فريضة، وهل يجدد لهما الماء أم لا؟ فذهب بعض الناس إلى أنه فريضة، وأنه يجدد لهما الماء وممن قال بهذا القول جماعة من أصحاب مالك ويتأولون مع هذا أنه مذهب مالك لقوله فيهما إنهما من الرأس. وقال أبو حنيفة وأصحابه مسحهما فرض كذلك (انظر هذا، فإن المقرر في مذهب أبي حنفية أن مسحهما سنة لا فرض) إلا أنهما يمسحان مع الرأس بماء واحد. وقال الشافعي مسحهما سنة ويجدد لهما الماء. وقال بهذا القوم جماعة أيضا من أصحاب مالك؛ ويتأولون أيضا أنه قوله لما روي عنه أنه قال حكم مسحهما حكم المضصمضة؛ وأصل اختلافهم في كون مسحهما سنة أو فرضا اختلافهم في الآثار الواردة بذلك، أعني مسحه عليه الصلاة والسلام أذنيه هل هي زيادة على ما في الكتاب من مسح الرأس فيكون حكمهما أن يحمل على الندب لمكان التعارض الذي يتخيل بينها وبين الآية إن حملت على الوجوب، أم هي مبينة لمجمل الذي في الكتاب فيكون حكمهما حكم الرأس في الوجوب، فمن أوجبهما جعلها مبينة لمجمل الكتاب، ومن لم يوجبهما جعلها زائدة كالمضمضة، والآثار الواردة بذلك كثيرة، وإن كانت لم تثبت في الصحيحين فهي قد اشتهر العمل بها. وأما اختلافهم في تجديد الماء لهما فسببه تردد الأذنين بين أن يكونا عضوا مفردا بذاته من أعضاء الوضوء، أو يكونا جزءا من الرأس. وقد شذ قوم فذهبوا إلى أنهما يغسلان مع الوجه، وذهب آخرون إلى أنه يمسح باطنهما مع الرأس ويغسل ظاهرهما مع الوجه، وذلك لتردد هذا العضو بين أن يكون جزءا من الوجه أو جزءا من الرأس، وهذا لا معنى له مع اشتهار الآثار في ذلك بالمسح واشتهار العمل به. والشافعي يستحب فيهما التكرار كما يستحبه في مسح الرأس.
اتفق العلماء على أن الرجلين من أعضاء الوضوء، واختلفوا في نوع طهارتهما، فقال قوم: طهارتهما الغسل، وهم الجمهور، وقال قوم: فرضهما المسح، وقال قوم: بل طهارتهما تجوز بالنوعين: الغسل والمسح، وإن ذلك راجع إلى اختيار المكلف، وسبب اختلافهم القراءتان المشهورتان في آية الوضوء: أعني قراءة من قرأ، وأرجلكم بالنصب عطفا على المغسول، وقراءة من قرأ وأرجلكم بالخفض عطفا على الممسوح، وذلك أن قراءة النصب ظاهرة في الغسل، وقراءة الخفض ظاهرة في المسح كظهور تلك في الغسل، فمن ذهب إلى أن فرضهما واحد من هاتين الطهارتين على التعيين إما الغسل وإما المسح ذهب إلى ترجيح ظاهر إحدى القراءتين على القراءة الثانية، وصرف بالتأويل ظاهر القراءة الثانية إلى معنى ظاهر القراءة التي ترجحت عنده؛ ومن اعتقد أن دلالة كل واحدة من القراءتين على ظاهرها على السواء، وأنه ليست إحداهما على ظاهرها أدل من الثانية على ظاهرها أيضا جعل ذلك من الواجب المخير ككفارة اليمين وغير ذلك، وبه قال الطبري وداود. وللجمهور تأويلات في قراءة الخفض، أجودها أن ذلك عطف على اللفظ لا على المعنى، إذ كان ذلك موجودا في كلام العرب مثل قول الشاعر:
لعب الزمان بها وغيرها * بعدي سوا في المحور والقطر.
بالخفض، ولو عطف على المعنى لرفع القطر.
وأما الفريق الثاني، وهم الذين أوجبوا المسح، فإنهم تأولوا قراءة النصب على أنها عطف على الموضع كما قال الشاعر: فلسنا بالجبال ولا الحديدا.
وقد رجح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه عليه الصلاة والسلام إذ قال في قوم لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء "ويل للأعقاب من النار" قال فهذا يدل على أن الغسل هو الفرض، لأن الواجب هو الذي يتعلق بتركه العقاب، وهذا ليس فيه حجة، لأنه إنما وقع الوعيد على أنهم تركوا أعقابهم دون غسل، ولا شك أن من شرع في الغسل ففرضه الغسل في جميع القدم كما أن من شرع في المسح ففرضه المسح عند من يخير بين الأمرين، وقد يدل هذا على ما جاء في أثر آخر خرجه أيضا مسلم أنه قال: فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى "ويل للأعقاب من النار" وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح، فهو أدل على جوازه منه على منعه، لأن الوعيد إنما تعلق فيه بترك التعميم لا بنوع الطهارة، بل سكت عن نوعها، وذلك دليل على جوازها، وجواز المسح هو أيضا مروي عن بعض الصحابة والتابعين، ولكن من طريق المعنى، فالغسل أشد مناسبة للقدمين من المسح كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من الغسل، إذ كانت القدمان لا ينقى دنسهما غالبا إلا بالغسل، وينقى دنس الرأس بالمسح وذلك أيضا غالب، والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابا للعبادات المفروضة حتى يكون الشرع لاحظ فيهما معنيين: معنى مصلحيا، ومعنى عباديا، وأعني بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة، وبالعبادي ما رجع "إلى" زكاة النفس. وكذلك اختلفوا في الكعبين هل يدخلان في المسح أو في الغسل عند من أجاز المسح؟ وأصل اختلافهم الاشتراك الذي في حرف إلى أعني في قوله تعالى
اختلفوا في وجود ترتيب أفعال الوضوء على نسق الآية. فقال قوم: هو سنة، وهو الذي حكاه المتأخرون من أصحاب مالك عن المذهب، وبه قال أبو حنيفة والثوري وداود. وقال قوم: هو فريضة، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد، وهذا كله في ترتيب المفروض مع المفروض، وأما ترتيب الأفعال المفروضة مع الأفعال المسنونة فهو عند مالك مستحب؛ وقال أبو حنيفة هو سنة؛ وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما الاشتراك الذي في واو العطف، وذلك أنه قد يعطف بها الأشياء المترتبة بعضها على بعض، وقد يعطف بها غير المرتبة، وذلك ظاهر من استقراء كلام العرب، ولذلك انقسم النحويون فيها قسمين، فقال نحاة البصرة: ليس تقتضي نسقا ولا ترتيبا، وإنما تقتضي الجمع فقط، وقال الكوفيون: بل تقتضي النسق والترتيب؛ فمن رأى أن الواو في آية الوضوء تقتضي الترتيب قال بإيجاب الترتيب، ومن رأى أنها لا تقتضي الترتيب لم يقل بإيجابه. والسبب الثاني اختلافهم في أفعاله عليه الصلاة والسلام، هل هي محمولة على الوجوب أو على الندب؟ فمن حملها على الوجوب قال بوجوب الترتيب، لأنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه توضأ قط إلا مرتبا، ومن حملها على الندب قال إن الترتيب سنة، ومن فرق بين المسنون والمفروض من الأفعال قال: إن الترتيب الواجب إنما ينبغي أن يكون في الأفعال الواجبة، ومن لم يفرق قال: إن الشروط الواجبة قد تكون في الأفعال التي ليست واجبة.
اختلفوا في الموالاة في أفعال الوضوء، فذهب مالك إلى أن الموالاة فرض مع الذكر ومع القدرة ساقطة مع النسيان ومع الذكر عند العذر ما لم يتفاحش التفاوت. وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن الموالاة ليست من واجبات الوضوء، والسبب في ذلك الاشتراك الذي في الواو أيضا، وذلك أنه قد يعطف بها الأشياء المتتابعة المتلاحقة بعضها على بعض، وقد يعطف بها الأشياء المتراخية بعضها عن بعض. وقد احتج قوم لسقوط الموالاة بما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يتوضأ في أول طهوره ويؤخر غسل رجليه إلى آخر الطهر، وقد يدخل الخلاف في هذه المسألة أيضا في الاختلاف في حمل الأفعال على الوجوب أو على الندب، وإنما فرق مالك بين العمد والنسيان، لأن الناسي الأصل فيه في الشرع أنه معفو عنه إلى أن يقوم الدليل على غير ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" وكذلك العذر يظهر من أمر الشرع أن له تأثيرا في التخفيف، وقد ذهب قوم إلى أن التسمية من فروض الوضوء واحتجوا لذلك بالحديث المرفوع، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "لا وضوء لمن لم يسم الله" وهذا الحديث لم يصح عند أهل النقل، وقد حمله بعضهم على أن المراد به النية، وبعضهم حمله على الندب فيما أحسب، فهذه مشهورات المسائل التي تجري من هذا الباب مجرى الأصول، وهي كما قلنا متعلقة إما بصفات أفعال هذه الطهارة، وإما بتحديد مواضعها، وإما بتعريف شروطها وأركانها وسائر ما ذكر، ومما يتعلق بهذا الباب مسح الخفين إذ كان من أفعال الوضوء.
(والكلام المحيط بأصوله يتعلق بالنظر في سبع مسائل) بالنظر في جوازه، وفي تحديد محله، وفي تعيين محله، وفي صفته: أعني صفة المحل، وفي توقيته، وفي شروطه، وفي نواقضه:
-(المسألة الأولى): فأما الجواز، ففيه ثلاثة أقوال: القول المشهور أنه جائز على الإطلاق، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار. والقول الثاني جوازه في السفر دون الحضر. والقول الثالث منع جوازه بإطلاق وهو أشدها. والأقاويل الثلاثة مروية عن الصدر الأول وعن مالك، والسبب في اختلافهم ما يظن من معارضة آية الوضوء الوارد فيها الأمر بغسل الأرجل للآثار التي وردت في المسح مع تأخير آية الوضوء، وهذا الخلاف كان بين الصحابة في الصدر الأول، فكان منهم من يرى أن آية الوضوء ناسخة لتلك الآثار، وهو مذهب ابن عباس، واحتج القائلون بجوازه بما رواه مسلم أنه كان يعجبهم حديث جرير، وذلك أنه روى "أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام يمسح على الخفين، فقيل له إنما كان ذلك قبل نزول المائدة، فقال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة" وقال المتأخرون القائلون بجوزاه: ليس بين الآية والآثار تعارض، لأن الأمر بالغسل إنما هو متوجه إلى من لا خف له، والرخصة إنما هي للابس الخف، وقيل إن تأويل قراءة الأرجل بالخفض هو المسح على الخفين، وأما من فرق بين السفر والحضر فلأن أكثر الآثار الصحاح الواردة في مسحه عليه الصلاة والسلام إنما كانت في السفر، مع أن السفر مشعر بالرخصة والتخفيف، والمسح على الخفين هو من باب التخفيف، فإن نزعه مما يشق على المسافر.
-(المسألة الثانية): وأما تحديد المحل فاختلف فيه أيضا فقهاء الأمصار، فقال قوم: إن الواجب من ذلك مسح أعلى الخف، وإن مسح الباطن أعني أسفل الخف مستحب، ومالك أحد من رأى هذا والشافعي، ومنهم من أوجب مسح ظهورهما وبطونهما، وهو مذهب ابن نافع من أصحاب مالك، ومنهم من أوجب مسح الظهور فقط ولم يستحب مسح البطون، وهو مذهب أبي حنيفة وداود وسفيان وجماعة، وشذ أشهب فقال: إن الواجب مسح الباطن، أو الأعلى أيهما مسح (نسخة فاس: والأعلى مستحب)؛ وسبب اختلافهم تعارض الآثار الواردة في ذلك وتشبيه المسح بالغسل، وذلك أن في ذلك أثرين متعارضين: أحدهما حديث المغيرة بن شعبة وفيه "أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخف وباطنه" والآخر حديث علي "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه" وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه، فمن ذهب مذهب الجمع بين الحديثين حمل حديث المغيرة على الاستحباب، وحديث علي على الوجوب، وهي طريقة حسنة. ومن ذهب مذهب الترجيح أخذ إما بحديث علي، وإما بحديث المغيرة، فمن رجح حديث المغيرة على حديث علي رجحه من قبل القياس، أعني قياس المسح على الغسل، ومن رجح حديث علي رجحه من قبل مخالفته للقياس أو من جهة السند، والأسعد في هذه المسألة هو مالك. وأما من أجاز الاقتصار على مسح الباطن فقط فلا أعلم له حجة، لأنه لا هذا الأثر اتبع، ولا هذا القياس استعمل، أعني قياس المسح على الغسل.
-(المسألة الثالثة): وأما نوع محل المسح فإن الفقهاء القائلين بالمسح اتفقوا على جواز المسح على الخفين، واختلفوا في المسح على الجوربين، فأجاز ذلك قوم ومنعه قوم، وممن منع ذلك مالك والشافعي وأبو حنيفة، وممن أجاز ذلك أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وسفيان الثوري. وسبب اختلافهم اختلافهم في صحة الآثار الواردة عنه عليه الصلاة والسلام أنه مسح على الجوربين والنعلين. واختلافهم أيضا في هل يقاس على الخف غيره أم هي عبادة لا يقاس عليها ولا يتعدى بها محلها، فمن لم يصح عنده الحديث أو لم يبلغه، ولم ير القياس على الخف قصر المسح عليه، ومن صح عنده الأثر، أو جوز القياس على الخف أجاز المسح على الجوربين، وهذا الأثر لم يخرجه الشيخان أعني البخاري ومسلما وصححه الترمذي، ولتردد الجوربين المجلدين بين الخف والجورب غير المجلد عن مالك في المسح عليهما روايتان: إحداهما بالمنع والأخرى بالجواز.
-(المسألة الرابعة): وأما صفة الخف، فإنهم اتفقوا على جواز المسح على الخف الصحيح، واختلفوا في المخرق، فقال مالك وأصحابه: يمسح عليه إذا كان الخرق يسيرا، وحدد أبو حنيفة بما يكون الظاهر منه أقل من ثلاثة أصابع. وقال قوم بجواز المسح على الخف المنخرق ما دام يسمى خفا وإن تفاحش خرقه، وممن روى عنه ذلك الثوري، ومنع الشافعي أن يكون في مقدم الخف خرق يظهر منه القدم ولو كان يسيرا في أحد القولين عنه وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في انتقال الفرض من الغسل إلى المسح هل هو لموضع الستر أعني ستر خف القدمين، أم هو لموضع المشقة في نوع الخفين؟ فمن رآه لموضع الستر لم يجز المسح على الخف المنخرق، لأنه إذا انكشف من القدم شيء انتقل فرضهما من المسح إلى الغسل، ومن رأى أن العلة في ذلك المشقة لم يعتبر الخرق ما دام يسمى خفا. وأما التفريق بين الخرق الكثير واليسير فاستحسان ورفع للحرج. وقال الثوري: كانت خفاف المهاجرين والأنصار لا تسلم من الخروق كخفاف الناس، فلو كان في ذلك حظر لورد ونقل عنهم. قلت: هذه المسألة هي مسكوت عنها، فلو كان فيها حكم مع عموم الابتلاء به لبينه صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى
-(المسألة الخامسة): وأما التوقيت فإن الفقهاء أيضا اختلفوا فيه، فرأى مالك أن ذلك غير مؤقت، وأن لابس الخفين يمسح عليهما ما لم ينزعهما أو تصيبه جنابة؛ وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن ذلك مؤقت. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد في ذلك ثلاثة أحاديث: أحدها حديث علي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم" خرجه مسلم. والثاني حديث أبي بن عمارة "أنه قال يارسول الله أأمسح على الخف؟ قال: نعم، قال: يوما؟ قال: نعم، ويومين؟ قال: نعم، قال: وثلاثة؟ قال نعم حتى بلغ سبعا، ثم قال: امسح ما بدا لك" خرجه أبو داود والطحاوي. والثالث حديث صفوان بن عسال قال: كنا في سفر فأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من بول أو نوم أو غائط (هكذا رواية الترمذي ورواية النسائي "ثلاثة أيام بلياليهن" من غائط وبول ونوم إلا من جنابة). قلت: أما حديث علي فصحيح خرجه مسلم. وأما حديث أبي بن عمارة فقال فيه أبو عمر بن عبد البر إنه حديث لا يثبت وليس له إسناد قائم، ولذلك ليس ينبغي أن يعارض به حديث علي. وأما حديث صفوان بن عسال فهو وإن كان لم يخرجه البخاري ولا مسلم فإنه قد صححه قوم من أهل العلم بحديث الترمذي وأبو محمد بن حزم، وهو بظاهره معارض بدليل الخطاب لحديث أبي كحديث علي، وقد يحتمل أن يجمع بينهما بأن يقال: إن حديث صفوان وحديث علي خرجا مخرجا السؤال عن التوقيت، وحديث أبي بن عمارة نص في ترك التوقيت، لكن حديث أبي لم يثبت بعد، فعلى هذا يجب العمل بحديثي علي وصفوان، وهو الأظهر إلا أن دليل الخطاب فيهما يعارضه القياس، وهو كون التوقيت غير مؤثر في نقض الطهارة، لأن النواقض هي الأحداث.
-(المسألة السادسة): وأما شرط المسح على الخفين، فهو أن تكون الرجلان طاهرتين بطهر الوضوء، وذلك شيء مجمع عليه إلا خلافا شاذا. وقد روي عن ابن القاسم عن مالك ذكره ابن لبابة في المنتخب، وإنما قال به الأكثر لثبوته في حديث المغيرة وغيره إذا أراد أن ينزع الخف عنه، فقال عليه الصلاة والسلام "دعهما فإني أدخلتهما وهما طاهرتان" والمخالف حمل هذه الطهارة على الطهارة اللغوية، واختلف الفقهاء من هذا الباب فيمن غسل رجليه ولبس خفيه ثم أتم وضوءه هل يمسح عليهما؟ فمن لم ير أن الترتيب واجب ورأى أن الطهارة تصح لكل عضو قبل أن تكمل الطهارة لجميع الأعضاء قال بجواز ذلك، ومن رأى أن الترتيب واجب وأنه لا تصح طهارة العضو إلا بعد طهارة جميع أعضاء الطهارة لم يجز ذلك، وبالقول الأول قال أبو حنيفة، وبالقول الثاني قال الشافعي ومالك، إلا أن مالكا لم يمنع ذلك من جهة الترتيب، وإنما منعه من جهة أنه يرى أن الطهارة لا توجد للعضو إلا بعد كمال جميع الطهارة، وقد قال عليه الصلاة والسلام "وهما طاهرتان" فأخبر عن الطهارة الشرعية. وفي بعض روايات المغيرة "إذا أدخلت رجليك في الخف وهما طاهرتان فامسح عليهما" وعلى هذه الأصول يتفرع الجواب فيمن لبس أحد خفيه بعد أن غسل إحدى رجليه وقبل أن يغسل الأخرى؛ فقال مالك: لا يمسح على الخفين لأنه لابس للخف قبل تمام الطهارة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة والثوري والمزي والطبري وداود: يجوز له المسح، وبه قال جماعة من أصحاب مالك منهم مطرف وغيره، وكلهم أجمعوا أنه لو نزع الخف الأول بعد غسل الرجل الثانية ثم لبسها جاز له المسح، وهل من شرط المسح على الخف أن لا يكون على خف آخر عن مالك فيه قولان. وسبب الخلاف هل كما تنتقل طهارة القدم إلى الخف إذا ستره الخف، كذلك تنتقل طهارة الخف الأسفل الواجبة إلى الخف الأعلى؟ فمن شبه النقلة الثانية بالأولى أجاز المسح على الخف الأعلى، ومن لم يشبهها بها وظهر له الفرق لم يجز ذلك.
-(المسألة السابعة): فأما نواقض هذه الطهارة، فإنهم أجمعوا على أنها نواقض الوضوء بعينها، واختلفوا هل نزع الخف ناقض لهذه الطهارة أم لا؟ فقال قوم: إن نزعه وغسل قدميه فطهارته باقية، وإن لم يغسلهما وصلى أعاد الصلاة بعد غسل قدميه، وممن قال بذلك مالك وأصحابه والشافعي وأبو حنيفة، إلا أن مالكا رأى أنه إن أخر ذلك استأنف الوضوء على رأيه في وجوب المولاة على الشرط الذي تقدم. وقال قوم: طهارته باقية حتى يحدث حدثا ينقض الوضوء وليس عليه غسل، وممن قال بهذا القول داود وابن أبي ليلى. وقال الحسن بن حي: إذا نزع خفيه فقد بطلت طهارته، وبكل واحد من هذه الأقوال الثلاثة قالت طائفة من فقهاء التابعين، وهذه المسألة هي مسكوت عنها. وسبب اختلافهم هل المسح على الخفين هو أصل بذاته في الطهارة أو بدل من غسل القدمين عند غيبوبتهما في الخفين؟ فإن قلنا هو أصل بذاته فالطهارة باقية وإن نزع الخفين كمن قطعت رجلاه بعد غسلهما، وإن قلنا إنه بدل، فيحتمل أن يقال إذا نزع الخف بطلت الطهارة وإن كنا نشترط الفور، ويحتمل أن يقال إن غسلهما أجزأت الطهارة إذا لم يشترط الفور. وأما اشتراط الفور من حين نزع الخف فضعيف، وإنما هو شيء يتخيل فهذا ما رأينا أن نثبته في هذا الباب.
-والأصل في وجوب الطهارة بالمياه قوله تعالى
وكذلك ما ورد من النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم. وأما حديث أنس الثابت "أن أعرابيا قام إلى ناحية من المسجد فبال فيها، فصاح به الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوه، فلما فرغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب ماء فصب على بوله" فظاهره أن قليل النجاسة لا يفسد قليل الماء، إذ معلوم أن ذلك الموضع قد طهر من ذلك الذنوب. وحديث أبي سعيد الخدري كذلك أيضا خرجه أبو داود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له "إنه يتسقى من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب والمحائض وعذرة الناس، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الماء لا ينسجه شيء" فرام العلماء الجمع بين هذه الأحاديث واختلفوا في طريق الجمع فاختلفت لذلك مذاهبهم؛ فمن ذهب إلى القول بظاهر حديث الأعرابي وحديث أبي سعيد قال: إن حديثي أبي هريرة غير معقولي المعنى، وامتثال ما تضمناه عبادة لا لأن ذلك الماء ينجس، حتى إن الظاهرية أفرطت في ذلك فقالت: لو صب البول إنسان في ذلك الماء من قدح لما كره الغسل به والوضوء، فجمع بينهما على هذا الوجه من قال هذا القول، ومن كره الماء القليل تحله النجاسة اليسيرة جمع بين الأحاديث، فإنه حمل حديثي أبي هريرة على الكراهية، وحمل حديث الأعرابي وحديث أبي سعيد على ظاهرهما، أعني على الإجزاء. وأما الشافعي وأبو حنيفة، فجمعا بين حديثي أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري، بأن حملا حديثي أبي هريرة على الماء القليل، وحديث أبي سعيد على الماء الكثير. وذهب الشافعي إلى أن الحد في ذلك الذي يجمع الأحاديث هو ما ورد في حديث عبد الله بن عمر عن أبيه، خرجه أبو داود والترمذي، وصححه أبو محمد بن حزم قال "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب؟ فقال: إن كان الماء قلتين لم يحمل خبثا" وأما أبو حنيفة فذهب إلى أن الحد في ذلك من جهة القياس، وذلك أنه اعتبر سريان النجاسة في جميع الماء بسريان الحركة، فإذا كان الماء بحيث يظن أن النجاسة لا يمكن فيها أن تسري في جميعه فالماء طاهر، لكن من ذهب هذين المذهبين فحديث الأعرابي المشهور معارض له ولا بد، فلذلك لجأت الشافعية إلى أن فرقت بين ورود الماء على النجاسة وورودها على الماء، فقالوا إن ورد عليها الماء كما في حديث الأعرابي لم ينجس، وإن وردت النجاسة على الماء كما في حديث أبي هريرة نجس.
وقال جمهور الفقهاء: هذا تحكم، وله إذا تؤمل وجه من النظر، وذلك أنهم إنما صاروا إلى الإجماع على أن النجاسة اليسيرة لا تؤثر في الماء الكثير إذا كان الماء الكثير بحيث يتوهم أن النجاسة لا تسري في جميع أجزائه، وأنه يستحيل عينها عن الماء الكثير، وإذا كان ذلك كذلك، فلا يبعد أن قدرا ما من الماء لو حله قدر ما من النجاسة لسرت فيه ولكان نجسا، فإذا ورد ذلك الماء على النجاسة جزءا فجزءا فمعلوم أنه تفنى عين تلك النجاسة وتذهب قبل فناء ذلك الماء، وعلى هذا فيكون آخر جزء ورد من ذلك الماء قد طهر المحل لأن نسبته إلى ما ورد عليه مما بقي من النجاسة نسبة الماء الكثير إلى القليل من النجاسة، ولذلك كان العلم يقع في هذه الحال بذهاب عين النجاسة، أعني في وقوع الجزء الأخير الطاهر على آخر جزء يبقى من عين النجاسة، ولهذا أجمعوا على أن مقدار ما يتوضأ به يطهر قطرة البول الواقعة في الثوب أو البدن.
واختلفوا إذا وقعت القطرة من البول في ذلك القدر من الماء. وأولى المذاهب عندي وأحسنها طريقة في الجمع، هو أن يحمل حديث أبي هريرة وما في معناه على الكراهية، وحديث أبي سعيد وأنس على الجواز، لأن هذا التأويل يبقى مفهوم الأحاديث على ظاهرها، أعني حديثي أبي هريرة من أن المقصود بها تأثير النجاسة في الماء؛ وحد الكراهية عندي هو ما تعافه النفس وترى أنه ماء خبيث، وذلك أن ما يعاف الإنسان شربه يجب أن يجتنب استعماله في القربة إلى الله تعالى، وأن يعاف وروده على ظاهر بدنه كما يعاف وروده على داخله، وأما من احتج بأنه لو كان قليل النجاسة ينجس قليل الماء لما كان الماء يطهر أحدا أبدا، إذ كان يجب على هذا أن يكون المنفصل من الماء عن الشيء النجس المقصود تطهيره أبدا نجسا، فقول لا معنى له، لما بيناه من أن نسبة آخر جزء يرد من الماء على آخر جزء يبقى من النجاسة في المحل نسبة الماء الكثير إلى النجاسة القليلة، وإن كان يعجب به كثير من المتأخرين، فإنا نعلم قطعا أن الماء الكثير يحيل النجاسة ويقلب عينها إلى الطهارة، ولذلك أجمع العلماء على أن الماء اللكثير لا تفسده النجاسة القليلة، فإذا تابع الغاسل صب الماء على المكان النجس أو العضو النجس، فيحيل الماء ضرورة عين النجاسة بكثرته، ولا فرق بين الماء الكثير أن يرد على النجاسة الواحدة بعينها دفعة، أو يرد عليها جزءا بعد جزء، فإذا هؤلاء إنما احتجوا بموضع الإجماع على موضع الخلاف من حيث لم يشعروا بذلك، والموضعان في غاية التباين، فهذا ما ظهر لنا في هذه المسألة من سبب اختلاف الناس فيها وترجيح أقوالهم فيها، ولوددنا لو أن سلكنا في كل مسألة هذا المسلك، لكن رأينا أن هذا يقتضي طولا وربما عاق الزمان عنه، وأن الأحوط هو أن نؤم الغرض الأول الذي قصدناه، فإن يسر الله تعالى فيه وكان لنا انفساح من العمر فسيتم هذا الغرض.
وأما الآثار فإنها عارضت هذا القياس في الكلب والهر والسباع. أما الكلب فحديث أبي هريرة المتفق على صحته، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبع مرات" وفي بعض طرقه "أولاهن بالتراب" وفي بعضها "وعفروه الثامنة بالتراب" وأما الهر فما رواه قرة عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين" وقرة ثقة عند أهل الحديث. وأما السباع فحديث ابن عمر المتقدم عن أبيه قال "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب فقال: إن كان الماء قلتين لم يحمل خبثا". وأما تعارض الآثار في هذا الباب، فمنها أنه روي عنه "أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها الكلاب والسباع، فقال "لها ما حملت في بطونها ولكم ما غبر شرابا وطهورا" ونحو هذا حديث عمر الذي رواه مالك في موطئه وهو قوله "يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا" وحديث أبي قتادة أيضا الذي خرجه مالك "أن كبشة سكبت له وضوء فجاءت هرة لتشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت، ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات"
فاختلف العلماء في تأويل هذه الآثار ووجه جمعها مع القياس المذكور؛ فذهب مالك في الأمر بإراقة سؤر الكلب وغسل الإناء منه، إلى أن ذلك عبادة غير معللة، وأن الماء الذي يلغ فيه ليس بنجس، ولم ير إراقة ما عدا الماء من الأشياء التي يلغ فيها الكلب في المشهور عنه، وذلك كما قلنا لمعارضة ذلك القياس له، ولأنه ظن أيضا أنه إن فهم منه أن الكلب نجس العين عارضه ظاهر الكتاب وهو قوله تعالى
وأما أبو حنيفة فقال كما قلنا بنجاسة سؤر الكلب، ولم ير العدد في غسله شرطا في طهارة الإناء الذي ولغ فيه لأنه عارض ذلك عنده القياس في غسل النجاسات، أعني أن المعتبر فيها إنما هو إزالة العين فقط، وهذا على عادته في رد أخبار الآحاد لمكان معارضة الأصول لها. قال القاضي: فاستعمل من هذا الحديث بعضا ولم يستعمل بعضا، أعني أنه استعمل منه ما لم تعارضه عنده الأصول، ولم يستعمل ما عارضته منه الأصول، وعضد ذلك بأنه مذهب أبي هريرة الذي روى الحديث، فهذه هي الأشياء التي حركت الفقهاء إلى هذا الاختلاف الكثير في هذه المسألة وقادتهم إلى الافتراق فيها، والمسألة اجتهادية محضة يعسر أن يوجد فيها ترجيح ، ولعل الأرجح أن يستثنى من طهارة أسآر الحيوان الكلب والخنزير والمشرك لصحة الآثار الواردة في الكلب ولأن ظاهر الكتاب أولى أن يتبع في القول بنجاسة عين الخنزير والمشرك من القياس، وكذلك ظاهر الحديث، وعليه أكثر الفقهاء، أعني على القول بنجاسة سؤر الكلب، فإن الأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب مخيل ومناسب في الشرع لنجاسة الماء الذي ولغ فيه، أعني أن المفهوم بالعادة في الشرع من الأمر بإراقة الشيء وغسل الإناء منه هو لنجاسة الشيء، وما اعترضوا به من أنه لو كان ذلك لنجاسة الإناء لما اشترط فيه العدد، فغير نكير أن يكون الشرع يخص نجاسة دون نجاسة بحكم دون حكم تغليظا لها. قال القاضي: وقد ذهب جدي رحمة الله عليه في كتاب المقدمات إلى أن هذا الحديث معلل معقول المعنى ليس من سبب النجاسة. بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الإناء كلبا، فيخاف من ذلك السم. قال: ولذلك جاء هذا العدد الذي هو السبع في غسله، فإن هذا العدد قد استعمل في الشرع في مواضع كثيرة في العلاج والمداواة من الأمراض، وهذا الذي قال رحمه الله هو وجه حسن على طريقة المالكية، فإنه إذا قلنا إن ذلك الماء غير نجس، فالأولى أن يعطى علة في غسله من أن يقول إنه غير معلل، وهذا طاهر بنفسه، وقد اعترض عليه فيما بلغني بعض الناس بأن قال: إن الكلب الكلب لا يقرب الماء في حين كلبه، وهذا الذي قالوه هو عند استحكام هذه العلة بالكلاب، لا في مباديها وفي أول حدوثها، فلا معنى لاعتراضهم. وأيضا فإنه ليس في الحديث ذكر الماء، وإنما فيه ذكر الإناء، ولعل في سؤره خاصية من هذا الوجه ضارة، أعني قبل أن يستحكم به الكلب، ولا يستنكر ورود مثل هذا في الشرع، فيكون هذا من باب ما ورد في الذباب إذا وقع في الطعام أن يغمس، وتعليل ذلك بأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء. وأما ما قيل في المذهب من أن هذا الكلب هو الكلب المنهي عن اتخاذه أو الكلب الخضري فضعيف وبعيد من هذا التعليل، إلا أن يقول قائل: إن ذلك أعني النهي من باب التحريج في اتخاذه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق